موقف مع التاريخ :
إن التاريخ هو منطق للزمن ، ينتقل من الآباء إلى الأبناء ، ليكون منطلقا للأجيال ورافدا للرعيل الوافد ، ليعرف من أين وإلى أين؟ ...
وللمدية زمن لا يستهان به ، فهي وليدة ألف عام أو يزيد ، وهذا الزمن يصعب على الباحث أن يسلسل منطقه ، فهو زمن لدنيا بادت ، ثم عاشت ، إلا أن حقائق التاريخ إذا اهملها الزمن وقتا فلا بد أن تنشرها الأيام المتولدة من غابر الأزمان، فهذه البلدة التي تربعت على عرش الطبيعة لتتحدى الطبيعة ،وتخلق من أحفادها من يسخرون الطبيعة ، وقد كان أن هذه البلدة التي بلغت من العمر ألف عام ، قد يقول منطق الأجناس أنها هرمت وشاخت ، ولكنها وارفة الظل شابة الطبيعة ، وكلما امتدت الأيام بها زادتها جمالا على جمالها .
إن هذه البلدة التي صادقت التاريخ فكانت تاريخا، ونسجت من طبيعتها وحدة متجانسة في الأشكال والطباع أبت الضيم وحطمت الأغلال ورفضت الذل والهوان، يتجلى ذلك في مقاومتها المستمرة طوال أيام ممتدة ، لكل معتد أثيم ، وإذا كانت الأيام لم تنصفها والكتب التاريخية أهملتها إلا في مصادر قليلة متفرقة، وبصفة وجيزة فقد فرضت نفسها على التاريخ ، وكانت تل من وقت لآخر في مواقف شريفة، ومعارك عنيفة تخوضها وتنتصر، ولعل التاريخ أجمل الكلام عنها لتركتها الطويلة ، المثقلة بالحوادث والأحداث التي تتغلب على عقل المؤرخ وقلم الكاتب .
إن هذه البلدة التي كانت منطق إعجاب التاريخ فعزاها إلى عصر الرومان تحت حكم ((سبتم سفار)) 210 بعد الميلاد ، وكانت تسمى ((مدياس)) كلمة لاتينية ، أو كلمة ((أمدياس)) وهذا مع اختلاف الروايات في ذلك العهد ،أو من كلمة عربية ((لمدية))، وتقول روايات أخرى أنها سميت باسم ملكة رومانية تدعة لمبدية أو لمدية ولعل ما يؤكد هذه النظرية ما هو موجود في كتاب لمؤلف فرنسي "أندري جوليان" في كتابه "تاريخ إفريقيا الشمالية" .
وينسب للطبيب "مارشان" فيذكر المدية في مواضع مختلفة ، ويذكرها كذلك في نفس المصدر على لسان طبيب آخر "مفير" سنة 1359 ، حيث يقول : يوجد نفق للماء في مسافة ألفي متر تحت المدينة ، وهو موجود لحد الآن يقال له "الماجن" ، قال : والذي يثبت هذا هو مادة البناء التي كانت تستعمل خاصة في عهد الرومان وهو خلط الحجر الرقيق بالجبس ، وقال أيضا : حينما كانوا يحفرون الأساس للمستشفى العسكري ، عثروا على رفات بالية وتحف وزهرية مصورة عليها صورة امرأة وفخار ونقود من البرونز وفانوس ، لونها رمادي ....الخ
وما نستنتجه من خلال هذه البحوث أن البلدة قديمة موجودة منذ عهد الرومان ، ولعل الصورة في الزهرية هي رمز الملكة التي تسمى البلدة باسمها أو تنسب إليها ، وإذا كانت ملكة الرومان قد خلعت اسمها تاجا على هذه البلدة ، فهذا ولاء العارف بجمالها الطبيعي الجذاب ، ونطوي التاريخ من عهد الرومان الطويل وغيرهم من النوميديين ، ولعل الاسم تحرف عبر عصور التاريخ من المدية إلى نومدية ، أو قبيلة أو بطن من بطونها المتعاقبة ، كما حملت اسما بربريا من بطون صنهاجة ، تسمى "لمدية" وإليها ينسب، من ينتسب إليها "لَمْدي" أو "لَمْدَاني" .
اختلاف المؤرخين في تسميتها والانتساب إليها:
وهذا ابن خلدون يصرح في كتابه "العبر" (المجلد السابع صفحة 192) : ((نهض عثمان بن يغمراسن إلى المدية وبها أولاد عزيز من بني توجين ، وقام بدعوته فيها قبائل من صنهاجة ، يعرفون بـلَمْدِيَّة وهي تنسب إليهم ))، والذي يدعم أصل ما نكتب أو نقول أن ابن خلدون يصرح في موضع آخر :(( أن المدية بطن من بطون صنهاجة المسمى بأهله ، ونطق بعضهم بـلَمْدُونة والنسبة إليهم لَمْداني أو لَمْدي)) كما قلنا من قبل ...ومما يقال أن أهل المدية كانوا يصنعون فيها المدى وهي السكاكين ، فنسبت إلى الصنعة التي تصنع فيها ،.... ونطق الكلمة باللغة الفرنسية ((مِدِيا Médéa )) يوحي بأن النسبة أخذت من الصنعة !!!؟
مولد المدية:
أراد بعض المؤرخين أن يجعل مولد المدية في عهد حماد بن زيري سنة 350هـ ، ولكن صدق التاريخ يعطي ان المدية كانت ضاربة في القدم ، وأن تاريخها بألف عام يعتبر منطلقا لتاريخ حديث تناولته الأقلام كثيرا ، ونطقت به الألسنة ، وذلك يعتبر تدعيما لمجد هذا البلد وتقوية لأصالتها كما قال "ابن عبيد البكري" حيث قال :(( المدية بلد جليل قديم)) ودعم هذا رأي الوزاني الفاسي حيث قال :(( ان الأفارقة القدماء هم الذين خططوا المدية بما يعرف بنو "مْديّة" )) ويقف مع هذه الآراء المؤرخ "مرمور" عندما قال : (( إن المدية عتيقة قديمة وإن المدية سبقت بني زيري وأنها أقدم من "أَشِير" ))
*و"أشير" هي مدينة بالجنوب الشرقي من البرواقية ، قرب ثلاثاء الدوائر ، أنشأها زيري بن مناد رئيس صنهاجة وأميرها سنة 324هـ ، وجعلها مركزا حربيا لمحاربة قبائل زناتة الخارجة عن طاعة العبيدين ، وجلب لها الصناع والعمال من "مسيلة" و "طبنة " فأحكموا وضعها وأشادوا بناءها ، فكثر عمراها وشيدت فيها القصور والمنازل والحمامات وقصدها التجار والعلماء والأدباء من كل مكان، وكانت بها سوق تباع فيه كل لطيفة وظريفة ، وضرب بها "العبديون" عملتهم ، وكانت حرما آمنا حتى سنة 440 هـ حيث خربها " يوسف بن حماد الصنهاجي" حينما أنشئت العاصمة الجديدة "لَمْدية" ،وكانت أشير في سهل قرب الجبل الأخضر هدفا للعدوان وعارية من التحصينات الطبيعية مما جعلها بمعزل عن الأمن وعرضة للطامعين ، ولذلك فكر الأقدمون أن يلوذوا بتحصين طبيعي فكان هذا المكان هو المدية ، وفي ذلك العهد انطلق بنوا زيري من صنهاجة ومن اعوان الفاطميين على الخارجين ، وتطاولت دولتهم في القرن الرابع الهجري ، من تيارت غربا إلى الزاب شرقا ، ونظر الفاطميون إليهم بإعجاب فأنزلوهم أحسن المنازل ، لأنهم أقدر الناس على محاربة بدو زناتة .
ولما تسلم زيري بن مناد سنة 349هـ ، 960م حكم تيارت من الفاطميين ، أذن لابنه "بولوكين" بتأسيس ثلاث مدن : المدية 355هـ ، مليانة 360هـ والجزائر 362هـ ، وفي هذا الصدد يذكرنا ابن خلدون في حديثه عن المدية بما نصه : ((وكان المختط لها بوبوكين بن زيري )) كتاب العبر ، ج 7 ، وذكر البكري في كتابه : المسالك والممالك (( قام بتخطيطها )) وذكر مصدر آخر كلمة التشييد ، وانطلاقا من هذه النصوص نفهم بأن المدية كانت أنقاضا وخرابا بعد بنائها من عهد الرومان ، وذلك لطول العصور التي مرت عليها ، إذن فالتأسيس والتخطيط والتشييد يكون من العدم أو شبه العدم ، وإما اختيار الموضع الاستراتيجي الهام ، هو الذي تنبه له هذا العبقري في ذلك الزمان الغابر.
وكان لنا به فضل الاحتفال بمرور ألف سنة على تأسيس هذه البلدة الطيبة ، وكان اللقاء بالفاطميين على هذه الأرض يجعل منا ربطا بين المشرق والمغرب ، حيث أن الفاطميين كان لهم تأثير كبير أثناء وجوهم في هذه الديار ، فكان التأثير والتأثر بينهما واضحا في كثير من الأوجه ، وبعد انتقالهم إلى المشرق وفتحهم لمصر وتأسيسهم للأزهر الشريف لعنايتهم بالعلم وحفاظهم على الإسلام ، وإذا كانت المدية قد حضيت بالفاطميين قبلا ممثلا في مدينة أشير فإنهم قد اخذوا عنهم هذه الظاهرة ن وقد تربوا على حبهم للعلم ، واحترام العلماء وتقديس المبادئ الإسلامية ، فكلما تطاول بها الزمن زادتها الأيام تمسكا بالدين ، فينبغي أن ننمي هذه المملكة ونرعاها لنعيد مجد الإسلام ، فالقرآن فيها محفوظ والدين في أهلها ملحوظ.