البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
بين الدين والفلسفة...أولا: خلفيات الإشكال...    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
  • يفترض العنوان ـ بين الدين والفلسفة ـ وجود شكل من العلاقة بين منظومتين: يفترض في الأولى أن يكون مصدرها الأول إلهي. وينظر إلى الثانية على أنها نتاج للتفكير الإنساني. هاتان المنظومتان تحيلان بالضرورة إلى نمطين من التفكير، وأسلوبين في الحياة، ونموذجين ثقافيين، وطريقتين في التعبير...ورؤيتين للعالم. ويبدو لي أن الوقوف على هذه التمايزات التي يفرضها التاريخ ـ تاريخ التفكير الفلسفي والتفكير الديني ـ تتطلب العودة إلى الأصول والعوامل التي فرضت هذا النمط أو ذاك...لابد من قراءة الفلسفة والدين في سياقهما التاريخي...فمثلما أن الفلسفة لا تعبر عن عبقرية يونانية خارج التاريخ، فإن الدين يحيل هو نفسه عن أسباب النزول في أصله، وتعدد النوازل في تطور أشكال فهمه...
  • وفي تقديري لابد من العودة إلى تاريخية الفلسفة أولا...
*وحيد
3 - يوليو - 2008
علاقة شديدة التداخل تاريخياً    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
عندما بدأت بكتابة مقدمة هذا الموضوع ، كانت صورته واضحة تمام الوضوح في ذهني ، وكنت أرغب باتباع المنهج التاريخي الذي ذكرته لأنه الأمثل كما لاحظت أنت أيضاً ، بل كنت قد قررت البدء بالكتابة حول نشأة الأسطورة وعلاقتها بالدين والتركيز على أساطير الشرق العربي ـ المتوسطي على اعتبار أنها الخلية الأولى ( فيما يخصنا ) التي اتخذت طابع المنظومة الفكرية المتكاملة وتشكلت حولها النشاطات الإنسانية التي لا ترتبط مباشرة بالمادي ـ المعاش ، بل تتعداه إلى مجالات الروح : كالشعر والسحر والموسيقى والرسم والرقص ... لتتداخل كلها وتتمحور حول فكرة الديني والمقدس . هناك دراسات غنية جداً في هذا المجال للباحث السوري الرائد في مجاله والمتخصص في الأسطورة الأستاذ فراس السواح أعدت قراءة معظمعها بالإضافة إلى كتابات أخرى بالعربية مفيدة لكنها لا تتصف بذات التماسك المنهجي . وكنت أرغب الاستفادة من دراسات أخرى بالفرنسية رائدة في هذا المجال ككتابات ميرسيا إيلياد ومؤلفات فرويد ويونغ ، لأنهي به القسم الأول وليكون مقدمة للانتقال إلى القسم الثاني والذي تخيلت بأنه يجب أن يكون : " الفلسفات الشرقية " ، كل هذا قبل اليونان وقبل أرسطو وأفلاطون وقبل الإسلام والفلسفات الإسلامية وقبل الوصول إلى الصوفية التي هي بنظري النقطة التي اكتملت بها هذه الدائرة . .. لكنني وجدت نفسي أبدأ من مكان آخر قريب جداً زمنياً ، وربما كان هذا بسبب إلحاح الواقع ، أو بسبب أن طموحي اكبر من حجمي بكثير . المهم أننا هنا ، وها أنا قد عرضت وجهة نظري موجزة وهي تقول أشياء كثيرة لأن هذه النقطة التي نقف عليها اليوم هي نقطة تماس بين دائرتين ، وتقع على الخط الزمني الذي يجمع بينهما ، ويمكن ان تتحرك بنا ذهاباً وإياباً ، إلى الخلف وإلى الأمام ، لكننا لا يمكن ان ننتمي إلى المجموعتين إلا إذا بقينا عند هذه النقطة وهذا قاتل ! فكيف العمل ؟

*ضياء
3 - يوليو - 2008
العودة إلى الأصول...التفكير في منطق الكون    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
عندما طرحتٌ أهمية البدء من وضع منظومتي الفلسفة والدين داخل سياق التشكل والتطور التاريخي كان هدفي من ذلك إبراز الدور التاريخي في رسم معالم التميز والخصوصية التي تسم التفكير الفلسفي والتفكير الديني كلا على حدة. أعتبر أن الفلسفة ليست مجرد معارف وتصورات ومفاهيم، بل هي طريقة في التفكير تشكلت من داخل الإنتاج الفلسفي...كما أن الدين ليس نصوصا وفتاوى بل هو رؤية عقلية تشكلت عبر الاحتكاك بتلك النصوص.
      ما الذي يميز الرؤيتين؟ مثل هذا السؤال لا يمكن مقاربته في اعتباري الشخصي إلا من خلال العودة إلى التاريخ. وبالدرجة الأولى تاريخ الفلسفة. ولكن لا تاريخ الأفكار الفلسفية الخالصة، بل تاريخ الطريقة التي امتزج فيها الإبداع الفلسفي مع طريقة التفكير، أي تاريخ الكيفية التي توحد فيها العقل واللغة، المضمون والأسلوب، الفلسفة والتفلسف.
 
العودة إلى الأصول
 
شكل التفكير النظري الفلسفي مع اليونان لحظة انعطاف في تاريخ العقل الإنساني الذي كان, إلى حدود تلك اللحظة, خاضعا لهيمنة التفكير الأسطوري في علاقته النظرية والوجودية بالكون والطبيعة؛ لذلك بدأ أفق التفكير في البحث عن منطق للكون قبل التفكير في منطق العقل الإنساني.
مع بداية القرن السادس قبل الميلاد، دشن فلاسفة ملطية (طاليس وأناكسيمندر وأناكسيمانس) طريقة جديدة في التفكير في الطبيعة تقوم على تفسير الطبيعة بالطبيعة، حيث تشكل كل الموجودات، الآلهة والعالم والإنسان، كونا موحدا ومتجانسا كمظاهر للطبيعة نفسها، كما أن الطرق والكيفيات التي تشكلت وانتظمت بواسطتها هذه الطبيعة يمكن الوصول إليها العقل الإنساني، والتعبير عنها باللغة. لقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة أن الأشياء والظواهر يجب أن تخضع لمبدأ واحد أو محدد يبرر وجودها ويمكن الإنسان من فهمها وتفسيرها وقياسها والتعبير عنها في خطاب فلسفي واضح ومفهوم من طرف الجميع.
إذا كان فلاسفة ملطية قد أرجعوا أشياء الوجود إلى عناصر طبيعية، فإن المدرسة الفيثاغورية ستُدخل عنصرا جديدا في التفكير في الكون، هو عنصر الرياضيات، حيث اعتبر  فيثاغور أن الأشياء كلها أعداد. فمن أجل  فهم الكون  والعالم لابد من معرفة وتبين العدد في الأشياء. وهذه المعرفة هي التي تحقق السيطرة على العالم. وقد أصبحت هذه الفكرة من السمات الرئيسية في النظرة الحديثة إلى العلم. والإعجاب بالرياضيات ـ عند فيثاغور ـ يجد تفسيره في مبدأين:
 أولهما وجودي؛ فإذا كان الانسجام أو التناغم بين الأشياء يقتضي وجود نسب محددة فيما بينها، فذلك يدل على أن الأشياء تحاكي الأعداد باعتبارها ماهيات مستقلة ومنطقية في ذاتها وأعم من الموجودات، وبالتالي لها خصائص جوهرية (أعداد كاملة ومتحابة...).
وثانيهما معرفي؛ فإذا كانت خصائص الأعداد القابلة للقياس هي التي تثير إعجاب الذكاء الإنساني، وتحفزه لتعقلها وتأملها، فذلك يقتضي التوسل بالبرهان باعتباره روح الرياضيات، من حيث أنه استدلال استنباطي دقيق قائم على البديهيات؛ ولعل ذلك هو السبب الذي جعل فيثاغور، وتلامذته، ينزعجون من غرابة بعض الأعداد التي لا تقبل القياس المضبوط والصياغة المنطقية، معتبرين ذلك فضيحة عقلية، لأن العقل يجب أن يكون حدسيا في معرفته، منطقيا في تصوراته واستدلالاته، وواضحا في لغته.
وينتج عن المبدأين السابقين أن العدد عقلاني في الواقع، منطقي في ذاته؛ وهو بذلك يشكل مجالا يندرج ضمنه كل شيء في اللوغوس. وبالتالي ستكون الرياضيات هي نموذج الانسجام الأنطلوجي، ومثال اليقين العقلي؛ فإذا كانت الأشياء المادية ناقصة ومتغيرة وزائلة، فإن الأعداد الرياضية هي المعقول الحقيقي الكامل والخالد؛ وتلك فكرة استأنفها أفلاطون، ومازالت سائدة لحد الآن.
إذا كان فيثاغور قد انزعج من التناقض، وعانق فكرة الانسجام، فإن هيرقليطس سيعتبر أن أساس العالم هو التآلف والتوازن بين الأضداد؛ إذ خلف صراع الأضداد الخاضع لحساب مضبوط، يوجد تناغم يشكل جوهر العالم؛ ذلك هو قانون العالم الذي أطلق عليه هيراقبيطس اسم اللوغوس Logos  كقوة ناظمة لصيرورة الظواهر، أو كعقل كلي كوني محايث للطبيعة. وعلى العقل الإنساني، الذي هو جزء منه البحث عنه والاحتذاء، وتجسيده في خطاب واضح وصادق. لذلك فالخطاب الصادق هو الذي يدرك اللوغوس ويتطابق معه. ومن لا يدركه لا يعرف ما يقول، ولا يفهم ما يقال؛ ومن هنا تكون الخطابات الكاذبة في مواجهة دائمة مع الخطاب الصادق. أما الذي يتكلم بالعقل فهو الذي يعمل من أجل فهم الأشياء أو برازها كما هي.
مع هيرقليطس تحققت وحدة اللوغوس، وحدة الواقع والخطاب في عقلهما (يشير العقل هنا إلى خاصية الفاعلية، أي كون الفاعل يقوم بفعل العقل والتنظيم والتنسيق أو إدراكهما) ومعقوليتهما (تشير المعقولية إلى خاصية المفعولية، أي كون الفاعل قابلا لأن يدرِِك ويفهم ويفسر نظامه وخطابه). ومع هيرقليطس ارتفع الصراع والتباين  بين تصور موضوعي للعقل يكون العالم  بموجبه معقولا وقابلا للتعبير عنه في خطاب منطقي، وتصور ذاتي يكون العقل بموجبه خطابا بشريا كاشفا وصريحا.
على خلاف هيرقليطس سيؤكد  بارمنيديس، بشكل قوي، على الوحدة العضوية بين الفكر والوجود الثابت والواحد، فاليقين العقلي هو المتعلق فقط بإدراك ذلك الوجود، لأن مبادئ العقل مطابقة تماما لوحدة وتجانس الوجود؛ أي أن خطاب العقل ليس مجرد حديث منطوق، بل هو تجل وجودي لحقيقة الوجود؛ أما الخطاب الذي يتحدث عن الكثرة والتغير والتعدد فهو مجرد وهم وظن. إن تصور بارمنيدس يقصي كل نشاط عقلي لا يخضع لمبادئ المنطق الضامنة لليقين والقائمة في الوجود. ويدل ذلك على أن وحدة وتجانس وثبات الوجود خصائص مؤسسة لوحدة وثبات مبادئ العقل، ( وهي المبادئ التي سيبلورها أرسطو فيما بعد ).
مجمل القول، أنه مع هؤلاء الفلاسفة الثلاث، فيثاغور وهيرقليطس وبارمنيدس، تأسس نموذج في التفكير يجعل من الرياضيات واللغة و"المنطق"، الأدوات الأساسية التي يتوسل بها العقل الإنساني في إدراكه لنظام العالم:  ففيثاغور جعل من انسجام العدد الطريقة المثالية في التفكير في العالم،  وهيرقليطس جعل من صدق الخطاب الوسيلة المثلى للتعبير عن جوهر العالم، وبارمنيدس طابق بين ثبات منطق العقل وثبات نظام الوجود. فكانوا بذلك مؤسسين لتصور فلسفي يجعل من الرياضيات واللغة و"المنطق" أطرا مؤسسة للنشاط العقلي الإنساني. لكن الأفق الذي دشنه هؤلاء، مع أسلافهم الملطيين، كان يسير من الإنسان إلى الكون والطبيعة، دون أن يكون العقل أو الخطاب الإنساني موضوعا للتفكير. ولذلك لما غالا هؤلاء في هذه النزعة المبجلة والتقديسية للطبيعة تمردت الروح اليونانية من خلال ظهور السوفسطائية، التي حولت الشراع والانتباه نحو الطبيعة الداخلية. وهو الاهتمام الذي تمثل بشكل واضح مع  سقراط.
      
 
 
*وحيد
6 - يوليو - 2008
الأصول... 2 ـ من منطق الكون إلى منطق العقل    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
في سعينا رصد الطريقة التي تمفصل بها تطور الفلسفة كإنتاج مع ظهور نمط جديد للتفكير كرؤية، نتابع الانتقال الكيفي الذي دشنه السوفسطائيون بالمقارنة مع أسلافهم الفلاسفة الذين أتينا على ذكرهم في الحلقة السابقة...
    وفي هذا الإطار يمكن القول بأن السوفسطائيين قلبوا المعادلة الفلسفية التي وجهت تفكير فلاسفة ما قبل سقراط :(الطبيعة مقياس الإنسان) إلى صيغة مناقضة مفادها أن (الإنسان مقياس كل شيء)، حسب عبارة السوفسطائي بروتاغوراس. وقد جسد  السوفسطائيون هذه النظرة الفلسفية للإنسان في ممارستهم الاحترافية للتعليم ووضعهم طريقة في الحوار والخطابة تربط المعرفة، تحصيلا وتوصيلا, بالمصلحة الذاتية. لذلك كان عليهم ـ داخل شرطهم التاريخي ـ أن يؤسسوا العقل في تصورهم وممارستهم ,على ذرائعية (برغماتية) الخطاب: فبين رفض العنف وإرادة القوة كان فن الكلمة حلا وسطا للتحكم في الخصم وتوجيهه. وجعلوا من هذا الفن حرفة كباقي الحرف الأخرى القابلة للتعلم. ولن  يعود إلهاما غيبيا خارقا من طرف الآلهة. ومن خلال هذا الفن تتجسد قدرة الخطيب على إقناع الخاصة والعامة، وعلى توجيههم وإخضاعهم كالعبيد؛ وبالتالي فالخطيب قادر على مواجهة الجميع ومناقشة كل موضوع بكيفية يقنع بها الجمهور أكثر من أي شخص آخر.
 وهكذا, فاعتبارا للحاجة التي كانت تقتضيها الديموقراطية اليونانية، أصبحت القدرة على الخطابة والجدل اللغوي "السوفسطائي" معيارا للتفوق الفكري؛ فتم اعتبار البلاغة والفصاحة والحجاج عناصر لغوية مؤسِّسة لنوع من المهارة العقلية تشد الانتباه والإعجاب في التواصل اليومي وفي الخطاب النظري؛ كما اعتُبر الجدل "رياضة عقلية" تعكس قوة الملكات العقلية, وموهبة للتحكم في قواعد اللغة بهدف محاصرة الخصم واختزاله في الصمت.
 سادت هذه النظرة إلى الخطابة من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن التاسع عشر بعد الميلاد، الشيء الذي جعل منها ـ حسب رولان بارت ـ امبراطورية حقيقية فاقت أية امبراطورية سياسية، من خلال حجمها واستمرارها وهيمنتها في الغرب طوال ألفين وخمسمائة عام، من جورجياس السوفسطائي إلى لحظة نابليون الثالث (ت 1873 ). ولعل من بين أهم المجالات التي احتلتها امبراطورية الخطابة مجال التعليم، حيث أصبحت لها قيمة بيداغوجية سيوظفها التعليم خلال ما يقرب من خمسة وعشرين قرنا( Olivier Reboul, Introduction à La rhétorique : Théorie et pratique, PUF, Paris, 1991, p.44. ).
 لقد تفوق السوفسطائيون في إقناع التاريخ, بواسطة جدل الخطابة, كي تكون خطابة الجدل فوق التاريخ, بالرغم من أنهم مارسوها خارج سؤال الحقيقة؛ الشيء الذي رفضه سقراط, وبعده أفلاطون, اللذان جعلا الجدل في خدمة الحقيقة, أي وسيلة لمعرفة ماهية المثل.  
لقد اقتنع سقراط بالشعار الذي قرأه في معبد دلـف: "اعرف نفسك بنفسك"، والذي يدل على قدرة الإنسان على الوصول إلى المعرفة بذاته، ليس بنقلها وتلقيها كما هو الشأن بالنسبة للسوفسطائيين، بل بإيقاظها من منطقة النسيان فينا واستخراجها إلى التحقق. لذلك انتهج سقراط منهج التوليد (Maïeutique) الذي يقوم على استخراج الحقيقة من النفس بطرح الأسئلة على الغير وإيقاعه في الحيرة ودفعه للاعتراف بجهله ثم الوصول إلى الحل الصحيح.
ومن خلال ممارسة هذه الطريقة ينبعث مبدأ سقراطي عميق: "من الحيرة يتولد التفكير والمعرفة". وليست المعرفة عند سقراط إلا إمكانية لتذكر معرفة سابقة زمنيا على وجود الفرد. فـ "أن تعرف" لا تعني سوى أن تحتفظ بالمعارف التي اكتسبتها ذات مرة وألا تفقدها. أليس ما ندعوه بالنسيان ـ ياسيمياس ـ مجرد فقدان للمعرفة؟»( Platon , Phedon,  trad. Emile )Chambry,  Flammarion, Paris,
 1965, p. 127. والدليل أن مينون، العبد الصغير، تمكن بعقله الفطري، من الوصول إلى حقيقة هندسية بتوجيه الأسئلة إليه. إن انتباه سقراط إلى قدرة الذات على توظيف عقلها ـ ذاكرتها  في الإمساك بالحقيقة، جعل اتجاه النظر الفلسفي يتحول من اللوغوس الكوني إلى اللوغوس الإنساني، أي من منطق الكون إلى منطق العقل. وإذا كان سقراط قد أسس هذا المنطق على قدرة الذاكرة "الميتافيزيقية" على معرفة الذات واكتشاف الحقيقة، فإن أفلاطون وأرسطو سيضيفان شروطا أخرى لهذه القدرة المعرفية.  
 
*وحيد
8 - يوليو - 2008
3 ـ أفلاطون ...بين الأمس واليوم    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
إذا كان سقراط قد تمكن ـ إلى حد كبير ـ  من تحقيق تلك النقلة المتميزة  للوغوس من بعده الكوني إلى بعده الإنساني، مؤسسا إياها على ميتافيزيقية الذاكرة فإن أفلاطون يؤسس تصوره ضمن نظرياته حول النفس والمعرفة والمجتمع, وتنطوي هذه  التصورات على عناصر ميتافيزيقة وسيكولوجية وإبيستمولوجية استمرت لمدة طويلة من الزمن.
في تصوره السيكولوجي يميز أفلاطون بين ثلاث  قوى نفسية: الشهوية القائمة على لذة الإشباع الجسمي, والغضبية الرامية إلى تحقيق دوافع الشجاعة والإرادة والصبر, ثم العاقلة التي تمكن الإنسان من التفكير وبلوغ الحقيقة. ولكل قوة نفسية وظيفتها المحدد سلفا. ويكون الفرد عادلا حين يؤدي وظيفته الحقة حسب طبيعته. لكن الناس غير متماثلين في تحقيق شرط العدالة النفسية هذا: فهناك البعض من يسيطر عليه الجزء العاقل وهم الفلاسفة، وهناك من يخضع للجزء الشهوي وهم محبو الربح، أما الذين يسيطر عليهم الغضب فهم الطموحون. وداخل هذا التصنيف يرى أفلاطون أن الفيلسوف هو أقدر الفئات الثلاث على التفكير السليم اعتبارا للشروط الثلاثة التي يتوفر عليها, وهي الخبرة والذكاء والاستدلال: والاستدلال لا يتم إلا بالتفكير الرياضي, الذي سيعتبر شرطا لدخول الأكاديمية. إذا كان أفلاطون يعتبر الذكاء مظهرا من مظاهر القوة العاقلة, فإن تصنيفه يعكس تراتبية لا تعترف بأي قسط لدور الجسد والانفعال في فعالية العقل وعملية التفكير.
أما البعد الإبيستمولوجي (= المعرفي) فيتأسس على المبدأ الأفلاطوني أن"المعرفة تذكر والجهل نسيان". بمعنى أن العقل الإنساني لا ينتج معارف جديدة, وإنما يسترجع ويبرز معارف قبلية وجدت بدءا في الزمن الميتافيزيقي. لذلك يُعتبر التذكر عند أفلاطون سيرورة معرفية تقتضي, من أجل الإمساك بالحقيقة, تجاوز مستوى المعرفة الحسية التي لا تعتبر سوى فرصة عابرة  لتنبيه وإيقاظ الذهن, نحو التعقل الخالص الذي لا يتم إلا بعبور درجتين من مستوى المعرفة العقلية: درجة الاستدلال الرياضي كتفكير عقلي مجرد حول العدد, ثم درجة الجدل العقلي الصاعد (الدياليكتيك) الذي يمكن من تعقل المثل مباشرة, وهو مستوى لا يصله إلا الفلاسفة. وبذلك يكون المنهج الديالكتيكي وحده الكفيل بتخليص النفس من وهدة الجهل والارتقاء إلى أعلى حيث المبدأ الأول. وإذا كان الجدل يعتبر تاج وقمة كل العلوم, فإن تحصيله وبلوغه يقتضيان التوفر على "مواهب طبيعية", تتمثل في الرجولة والذكاء وقوة الذاكرة والجلد على المشقة . وهكذا فالهدف من هذا "العقل المجرد" المحاصر بالعوامل الوراثية والشروط المعرفية والرياضية لا يرتبط باليومي الإنساني المباشر, أي لا يتحدد في تحقيق تكيف إيجابي وجيد مع الوسط الإنساني, كما لا يتحدد في حل مشكلات معينة، بل هو هدف ميتافيزيقي أساسا، أي تعقل المثل.
لكن بالإضافة إلى هذه الأبعاد التي تؤسس التصور الأفلاطوني، هناك بعد جوهري يتمثل في الرؤية التراتبية.  يتصور أفلاطون أن في النفس الإنسانية نفس الأجزاء التي توجد في الدولة وبنفس العدد. وبالرغم من كون جميع الناس يحملون نفس القوى النفسية الثلاث, فنحن لسنا جميعا سواء, وإنما تتباين طبائعنا وتوجد بيننا فروق هي التي تحدد أهليتنا لعمل معين. أي أن اختلاف الوظائف داخل المجتمع حتمية بيولوجية تقتضيها الطبيعة الفطرية للأفراد: فحاملو القوة الشهوية لا يناسبهم إلا أن يكونوا أصحاب أعمال وصنائع، والحاملون للقوة الغضبية يلائمهم فقط عمل الجندية وحراسة الدولة، في حين أن أصحاب القوة العاقلة هم الحكام الذين يتم انتقاؤهم من بين حراس الدولة بعد أصناف من التربية والتدريب والتكوين الفلسفي, لأنهم  بحكم ذكاءهم الفطري يقبلون على تعلم الفلسفة, وبحكم ذاكرتهم القوية يميلون إلى عدم نسيانها. وفي انتظار إعداد هذه الطبقة الحاكمة لابد أن يصبح الفلاسفة حكاما في دولهم.
ويلجأ أفلاطون في ترسيخه لهذه الحتمية البيولوجية التي يجعلها مؤسسة لتفاوت الطبقات إلى تشبيه أسطوري يعتبر أن الله الذي خلق الجميع من بطن الأرض مزج تركيب الحكام بمعدن الذهب, وتركيب الحراس بالفضة, وتركيب الفلاحين والصناع بالحديد والنحاس, «لهذا عهد الله إلى الحكام أولا وقبل كل شيء برعاية الأطفال, وبالعناية الكبرى بالمعدن الذي يدخل في تركيب نفوسهم. فإن دخل في تركيب أبنائهم عنصر من النحاس أو الحديد, فينبغي ألا تأخذهم بهم رحمة...إذ أن هناك نبوءة تقول إن الدولة تفنى لو حرسها الحديد والنحاس».
عندما أنهى سقراط  ـ لسان أفلاطون في المحاورة ـ سرد تلك الأسطورة سأل محاوره جلوكون «والآن فهل تعرف وسيلة لبث الإيمان بهذه الأسطورة في النفوس؟», ثم أجابه جلوكون «لست أعرف أية وسيلة تصلح للجيل الحالي, غير أن في وسع المرء أن يدفع أبناءه إلى تصديقها, ومن بعدهم ذريتهم ورجال المستقبل». ويبدو أن تخمين جلوكون كان صادقا, وكأن التاريخ يعيد نفسه بصيغ مختلفة: إن تبرير تصنيف الطبقات والجماعات حسب جدارتها ومؤهلاتها الفطرية اتخذ صيغا مختلفة حسب سياق واتجاهات تاريخ الغرب؛ فإذا كان أفلاطون قد أسس تبريره على حتمية بيولوجية, فإن الكنيسة أسسته على اعتقاد ديني, ومنذ قرنين لعبت الأطروحات العلمية الدور الرئيسي في إحياء أسطورة أفلاطون التي تتلخص في اعتبار الحتمية البيولوجية مبدأ لتفسير الاختلاف والتفاوت في مستويات التفكير والذكاء.
*وحيد
11 - يوليو - 2008
4-أفلاطون وشرط الرياضيات    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
لقد رفض أفلاطون الجدل السوفسطائي لأنه يوجد خارج سؤال الحقيقة. ولكي يكون الجدل في عمق هذا السؤال، أي وسيلة لتعقل المثل، ينبغي تأسيسه على الرياضيات التي جعلها أفلاطون شرطا لدخول الأكاديمية. وهو بذلك يبعث من جديد إرث فيثاغور الذي أعجب بسحر العدد.
ويمكن رصد التفسير الأفلاطوني لهذا الشرف أو الامتياز الذي يحظى به العقل الرياضي من خلال مجموعة من الاعتبارات:
 أولها بيداغوجي، ذلك أن الرياضيات وسيلة لتنمية تفكير الذين يعانون بطأً في الفهم وصعوبة في التعلم، فهي ـ في هذا المستوى ـ رياضة عقلية تنمي الذهن وتنشط قدراته من أجل استيعاب المعارف الأخرى، 
 أما الاعتبار الثاني فسياسي، يتعلق بتوظيف الجانب التطبيقي للرياضيات في حماية وتدبير الجمهورية الفاضلة. إن الرياضيات ضرورية ـ حسب أفلاطون ـ للذين سيوجدون في أعلى مناصب الدولة، وهم حراسها ثم الحاكم عليها. إن الرياضيات ضرورية لسياسة المدينة.
أما ثالث الاعتبارات فله بعد فلسفي يتعلق بقدرة الرياضيات كرياضة عقلية، بالنسبة للفيلسوف الحاكم، على خلق الروح الفلسفية، أي تنمية العقل الجدلي المدرك لحقيقة المثل؛ فهي وحدها الجديرة بالارتقاء بالنفس والسمو بها إلى تأمل الموجودات العليا.
في مقابل الامتياز الذي يحظى به التفكير الرياضي هناك أنماط من التفكير تم تبخيسها وإقصاؤها من طرف أفلاطون. فإذا كانت الرياضيات تنتمي إلى العلم أو المعرفة الحقيقية التي يسعى إليها الفيلسوف، فهناك معارف وصناعات تنتمي إلى اللاعلم، أي إلى الوهم والحس. لذلك فالمطلوب من العقل الرياضي المجرد، التعالي عن الوهمي المتمثل في الفنون القائمة على المحاكاة والتي تقتضي خيالا، وعن اليومي المتمثل في الصناعات والممارسات ذات المردودية العملية والتي تقتضي مهارة وفطنة ودهاء. ولم يكن هذا التقابل خاصا بأفلاطون بل شكل ثابتا أساسيا في الفضاء العقلي للفلسفة اليونانية القائم على ثنائية المعقول والمحسوس. لقد استبعد أفلاطون الفنون نظرا لوهميتها، كما استبعد الصنائع نظرا ليوميتها.
ـ الفنون الوهمية: ركز أفلاطون إقصاءه بالخصوص على الرسم والشعر، مصنفا إياهما في«المرتبة الثالثة بالقياس إلى عرش الحقيقة». فإذا كان عمل الفنان مجرد وهم يقتصر على نسخ أجزاء من الظواهر، ويدفع إلى خداع الأطفال والسذج من الناس، فإن الشاعر مجرد مقلد لصورة الفضيلة، يفتقر إلى المعرفة السليمة بما يقلده.   إن تفكير الرياضي وتفكير الفنان والشاعر على طرفي نقيض.
ـ الصنائع اليومية: عمم أفلاطون إقصاءه على كل الوقائع والمجالات العابرة والمتقلبة التي تنتمي إلى الحياة اليومية المألوفة، والتي تنطوي على الفطنة والاحتراس والحصافة كخصائص تميز نمطا من التفكير أو الذكاء كان يطلق عليه وصف الميتيس Mètis؛ وهو أسلوب من المعرفة ينطوي على بناء معقد ومتماسك من الاتجاهات والسلوكات العقلية، كاليقظة والنظر الثاقب والتخمين والمراوغة والشطارة والانتباه واليقظة وانتهاز الفرص، كما ينطوي على مجموعة من المهارات المختلفة والحنكة وطول المراس، والتي لا تتناسب مع القياس المضبوط والاستدلال الدقيق؛ مما دفع بفلاسفة اليونان، الذين رسموا خريطة الفكر، إلى أن يلقوا بحيل وبراعات هذا النمط من التفكير والذكاء خارج مجال اهتمامهم، والتشطيب عليها من حقل العلم والمعرفة الحقة:_( M. Detienne ، J-P. Vernant، Les ruses de l’intelligence : la mètis
 des grecs، Flammarion، 2002، p. 10.  
ويمكن توضيح موقف أفلاطون من هذا العقل العملي الثاقب في حكمه على إحدى مظاهره المتمثلة في مهارة فن الصيد والإيقاع بالحيوانات والطرائد، والتي تتطلب دهاء يفوق دهاءها في المراوغة والتخفي. فمن باب المقارنة. إذا كان المؤرخ اليوناني بلوتارك  Plutarque (46 أو 49 م ـ 125 م)، المتأثر بمحاورات أفلاطون، يعتبر في رسالته (ذكاء الحيوانات) أن مطاردة الأخطبوط ينمي المهارة (deinótẽs) والذكاء العملي (súnesis)،فإن أفلاطون في (القوانين) يشجب ويدين بعنف فن الصيد وملاحقة الحيوانات المائية واستعمال شبكة الصيد وقنص الطيور، بل وكل أصناف القنص التي تستخدم المصائد والفخاخ، لأن كل هذه التقنيات تنمي خصائص الدهاء والتحايل، والرياء والتدليس، والتي تقف على الطرف النقيض من الفضائل التي تتوخاها مدينة القوانين من مواطنيها.
وما ينطبق على مجال الصيد والقنص يصح كذلك على مجالات الحدادة والنجارة والخطابة والحياكة وقيادة السفن والسفسطة والقضاء...إلخ، فممارسو هذه الأعمال موجودون في كل حيز من فضاء المدينة، ولكنهم غائبون بشكل غريب عن فضاء التاريخ، التاريخ الذي شيده الفلاسفة. لذلك يبدو من المفارقة أن يتم التنكر لنمط من التفكير والذكاء والاستدلال كانت له أهمية جوهرية، ومورس بشكل واسع في مجتمع كاليونان. إن الفلاسفة عندما تحدثوا عنه، كان حديثهم يقوم على السلب، ويدعو إلى الابتعاد عنه والتعالي عليه.
باسم الحقيقة الواحدة، لا يعترف أفلاطون إلا بالعقل الرياضي ـ النظري ـ المجرد)، يشترطه في القبول بأكاديميته، وباسمه يدين الشعر والفن، وباسمه كذلك يحط من قيمة كل أصناف العقل العملي مهما كانت قوتها وفعاليتها في إنتاج قيم ذات نفع للفرد والمجتمع.
 
 
 
*وحيد
17 - يوليو - 2008
العروي: التقليد والحداثة لا يتعايشان إلا على مستوى الخطاب.    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
حوار                                    
عبد الله العروي
 
 
.........................
ترجمة - سعيد الشطبي
                                       
- تقول في كتابك الأخير: «لم أرفع أبدا راية الفلسفة، ولا راية الثيولوجيا، ولا راية التاريخ؛ كل ما قمت به، ببساطة، هو أنني دافعت عن التاريخانية». عموما، مازلت تقوم بذلك. بم تبرر استمرارك في السير على نفس الطريق في الوقت الذي شهدت فيه التاريخانية تخلي الكثيرين عنها وتعرضت للنقد وتخوف منها آخرون من حيث ما يمكن أن يترتب عنها؟ ألا يزعجك أن تبقى وحيدا في مواجهة الجميع؟
< يمكنني أن أرد بما يلي: «ما الذي أتت به اللاتاريخانية؟». لا شيء، اللهم أنها هيأت سرير التقليدانية في معناها القح وصيغتها الصلبة. وهو ما نراه حولنا اليوم في كل مكان. فالمجتمعات الغربية جميعها آخذة، الآن، في اكتشاف أنها مجتمعات دينية؛ بل حتى في موطن فولتير نفسه، صرنا نسمع يساريين سابقين ينتقدون غياب التعالي والكينونة ما بعد العالم المادي.
إننا ندرك، اليوم، أن الفيلسوف، بالوظيفة، الذي لم يكن يكف عن الحديث عن وجود بنية ضمنية إنما كان يعني بذلك الانسجام الإلهي. أنا لست ضد الثيولوجيا، بل إنني أستغرق وقتا طويلا في دراستها والاستفادة منها؛ بيد أنني أجدني ميالا إلى ثيولوجيا متبناة، لا ثيوصوفية مخجلة أو مهربة.
لماذا قلت إنني لا أريد أن أكون فيلسوفا ولا ثيولوجيا ولا حتى مؤرخا حقيقيا؟ لأنني، كما قلت سابقا بكل تواضع، لا أعتقد أن الإنسان، أعني أي إنسان كان، أنت أو أنا، يمكنه في يوم من الأيام أن ينجح في أن يُلزم الحقيقة المطلقة الانكشاف أمامه مهما ملك من وسيلة في سبيل ذلك. ما يمكنه أن ينكشف أمامنا، أمام أي كان منا، ما هو إلا حقيقة نسبية، مشتركة، مقتسمة. فالحقيقة الموضوعية ليست هي الحقيقة المطلقة؛ إنها حقيقة اتفاق أو حقيقة صفقة، تسمح لنا بالتعايش في الحياة. أذكّر هنا بأننا نتكلم دائما عن العلوم الإنسانية، أو بالأحرى عن الحياة في المجتمع.
- لنعد إلى كتابك الأخير، الذي تتحدث فيه عن قراءة القرآن من خلال الحديث عن أثرها على الوجدان أكثر من العقل. ترى، كيف يمكن قراءة هذا الكلام الصادر عن رجل عقلاني؟
< لم يسبق لي، أبدا، أن قلت إن العقل هو شمولية تلغي كل ما ليس عقلا. عموما، أنا أستعمل كلمة «عقلانية» التي تقحم في معناها مشاركة الإنسان كما تشير إلى ذلك الكلمة في العربية. وقد وضحت في العديد من المناسبات أن مجال العقلانية محصور (العلم التجريبي، السياسة والتاريخ من حيث هو خادم للسياسة). غير أن التجربة الإنسانية لا تتوقف هاهنا؛ بل هنالك مجال واسع حيث لا تلعب العقلانية دورا كبيرا، بل دورا ثانويا، فحسب.
إن ما بدا لي، دائما، خطيرا عند استحضار السوابق التاريخية هو إقحام اللاعقلاني في موضوع الأولى به أن يظل تحت عنوان العقلانية، إما بحكم التوافق أو بحكم نفعية ما. فاللاعقلاني مُبعد عن الخير المشترك لسبب بسيط يتجلى في كونه منفلتا، لا يُتحكم فيه (ما العمل بالسحر في العلوم، أو بالعنف في السياسة، أو بالجنون في التاريخ؟). أما ما تبقى للاعقلاني فهو مجال التجربة الفردية الشاسع، من قبيل الفن، والأدب والدين.
لدي استطراد هنا. يحز في نفسي أن أرى في مدارسنا أن الكتاب المدرسي حول التربية الدينية يبدأ بفصل حول الغيب؛ لست لأنني أنفي الغيب، بل إنني أستغرب أن نكلم الأطفال عن الغيب، والحال أنه ينبغي أن نتحدث في الموضوع مع البالغين بعد أن يكونوا غادروا المدرسة بزمن طويل. مكان هذا النوع من مواضيع الحديث ليس مناسبا.
- : في إطار هذا السؤال حول الجانب الوجداني، نكاد نذهب حد اعتبار أن هنالك جانبا صوفيا فيكم ينكشف للقراء...
< العلم هو الحقيقة المشتركة فكريا؛ السياسة هي الحقيقة المشتركة اجتماعيا؛ أما الحقيقة الفردية فهي حقيقة ممنوحة للغير، لكنها ليست مشتركة بالضرورة والمبدإ. سموها كما تريدون، لكن هذا التمييز بين الأنواع الثلاثة للحقيقة، إذا بحثتم عنه جديا، ستجدونه حاضرا عند أكبر العقلانيين.
- كتبت في «الإسلام والحداثة» ما مضمونه أن مسعاك ليس هو وصف حالة من دون مخرج، بل هو بلوغ أقصى ما يمكن على مستوى الموضوعية حتى لا تكون ضحية لحلول خادعة. وفي كتابك الأخير «السنة والإصلاح»، تعود إلى عهد النبي إبراهيم. هل الباعث على ذلك هو الموضوعية دائما؟
< العنوان الحقيقي لكتابي هو «سنة وإصلاح»، الذي من خلاله سعيت إلى تعميم ما أريد قوله. إن إبراهيم يمثل مركز البرهنة، ويرمز إلى ظهور الذاكرة. وقد ظهر في وقت توقفت فيه الإنسانية (إنسانيتنا وليس إنسانية الآخرين، كالصينين والهنود، إلخ... التي نجهلها جهلا فظيعا، للأسف) والتفتت إلى ماضيها. الزمن كله، هنا، يتلخص في رؤية تكشف، في لحظة واحدة، ما سبق وما سيكون. هكذا وُلد التقليد.
إبراهيم هو الذاكرة، هو التقليد؛ إنه كلٌ متعدد مختزل في وحدة. التقليد هو اختزال التاريخ كله في نقطة واحدة من الزمكان. أما في ما يخص حالتنا نحن، فإن سنتنا تلخص تاريخ ملايير (كوسموس)، وملايين (حيوات)، وآلاف (الوعي) السنين في ما قيل عنه، نظريا، خلال عقد (في ما يسمى، كذلك، سنة) من الزمن. إنها إعادة منح التاريخ، الطبيعي والإنساني، غير الواعي ثم الواعي، كل كينونته؛ إنه، بمعنى من المعاني، الدخول «في الإصلاح». من دون ذلك، سنكون نواجه التقليد بالتقليد ليس إلا، ونجد أنفسنا في حرب تقليد مشتعلة؛ وهو ما نعيشه اليوم.
- نلاحظ اليوم أن الزوج «تقليد/حداثة» مازال يفرض ذاته بكثير من الإصرار، سواء على مستوى خطاب الدولة أو داخل المجتمع. وقد سبق أن كتبت أن دائرتي «التقليد والحداثة» لا يمكنهما أن تتعايشا في زمكان واحد. من أين لك هذا اليقين؟
< أُذكر هنا أن مفهومي التقليد والحداثة لا يتعايشان إلا على مستوى الخطاب، لا في الأفعال. فنحن نتحدث عن الطب التقليدي والمعمار التقليدي والفن التقليدي كما لو أنها أمور تثير الفضول. لكن، هل سبق لكم أن رأيتم في الشارع دراجات نارية تقليدية، وفي الجو طائرات تقليدية، وفي المستشفيات أجهزة كشف تقليدية؟ اللهم إذا تعلق الأمر بثنائية من نوع خاص كأن نقول: الجسد حديث والدماغ تقليدي. في هذه الحال يتعلق الأمر بنظرة (تقليدية) نلقيها على حقيقة (حديثة).
لكن، عندما نعود إلى النصوص القديمة، ندرك جيدا أن التقليد المكتوب، والذي نحتفظ ببعض أثره، هو دائما خطاب حول حقيقة. والسنة هي دائما محاكمة لبدعة معينة. والأخيرة تحيل على المعيش، على الملموس؛ أما السنة فما هي إلا إدانة شفهية، اجتماعية، وسياسية للبدعة. وما نسميه «بروز السنة» هو، بكل الصرامة، إعادة تسمية ما يخلقه ويجدده التاريخ. و»الجديد»، الذي يقابل بالنقد، لا يزول بالمرة، بل يعاد تصنيفه بشكل مختلف، فحسب. هذا ما نعيشه، اليوم.
أفليست أسلمة الحداثة و«تحويلها إلى تقليد» تكييفا لما لا نستطيع تجاوزه تحت اسم آخر مختلف؟ لقد رأينا ذلك جليا في شأن المنتوجات المالية الإسلامية: فقد كانت معروفة، واستُعملت قبل أن يُتخلى عنها؛ لكن يمكن دائما استعمالها والتخلي عنها مجددا. فهي ليست إسلامية إلا بالاسم لأنها كانت سائدة في الماضي في البلدان الإسلامية.
 
عن ج. المساء...

عن «لاروفي إكونوميا»
*abdelhafid
22 - نوفمبر - 2008
التناقض أيضا    ( من قبل 8 أعضاء )    قيّم
 
هاهي الأستاذة ضياء تفي بوعدها بفتح  هذا الموضوع للنقاش ( بين الدين والفلسفة ) , وقد وضعتْ في مقدمتها هدفاً واضحاً للفلسفة وهو ( إيجاد الحلول لمشاكل الحياة ) , وفي المقابل أشارت إلى أن للفلسفة جانباً روحياً , وكأنها تريد إيقاف دوافع التصادم التي ستنشأ ( آلياً ) بين المفهومين , للوصول إلى أهداف متنوعة وغير متضادة بين الدين والفلسفة , فهل الهدف ممكن ٌ ؟
في الدين القضايا الأساسية لا تحتمل  رأياً وسطاً , فالتسليم بوجود الله تعالى هو أول الخطوات , أما الفلسفة والتي تعتمد العقل , وعبره يجب الوصول إلى الحقائق , فلا مُسلمات , بل قضايا قابلة للبحث دائماً , والدين يتناول الجانب الحياتي الواقعي للإنسان ويضع له التشريعات , بينما تتناول الفلسفة ( في معظم مواضيعها )  بالتحليل العقلي ما وراء الطبيعة ,,
لا أريدُ وضع الصعوبات أمام قراءة جادة حول العلاقة بين الدين والفلسفة , لكن ( المطبات ) كثيرة , والأسئلة التي يبدأ فيها هذا الموضوع كبيرة جداً , وتحتاج إلى جهد كبير , أتمنى أن يكون الحوار في هذا الموضوع غير مقيد بالإلتزام بالبحث عن الحلول والتوافق , بل أيضاً إيضاح جوانب التناقض والإختلاف الموجودة أصلاً !
*محمد هشام
30 - أكتوبر - 2007
هايدغر وسؤال " الكون " ، " الكينونة " و " الكائن "     ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
ليس من السهل المغامرة في الكلام عن هايدغر ، الذي أعاد الفلسفة إلى مهدها الأول ، وذلك بالتساؤل عن معنى الوجود أو " كنه الوجود " ، ومن هنا تم اعتباره مجدد الأنتولوجيا التي هي : دراسة الذات الإنسانية من حيث كينونتها ( صفاتها المؤسسة لجوهر وجودها والتي لا يمكن انتزاعها عنها ) .
 
والتساؤل عن " الكون " بدأ منذ برمنيدس (450 ق . م ) الذي اعتبره أصل الوجود وبالمعنى العام الذي تدل عليه كلمة " التكوين " (Genèse ) كما جاءت في التوراة أي أنه : الوجود بعد العدم . غير أن أفلاطون قال بأن الذات في " كونها " ليست واحدة ، وليست متفردة بالصفات ، بل أن للصفات وجودات متعالية تجتمع بل وتتناقض أحياناً في الذات و" كونها " .
 
أما أرسطو ، فلقد توصل إلى تحديد " الكون " ( L'être ) على أنه : حصول الصورة في المادة ، وتحول جوهر أدنى إلى جوهر أعلى . يقابله " الفساد " الذي هو زوال الصورة عن المادة .
 
وأما الشيخ الرئيس " ابن سينا " فلقد استطاع ( على عكس أرسطو ) بالانطلاق من المحسوس ، تحديد خواص " الكون " لأنه كان طبيباً ويعنى بالجزئيات ثم ينطلق منها لتحديد الكليات : " الكون " عنده هو معنى أحادي وسيط بين الله والمخلوق . 
 
عند الأشاعرة : " الكون " هو مرادف ل " الثبوت " و " الوجود " و " التحقق " .
 
أما عند المعتزلة : فإن الكون والوجود هي مغايرة للثبوت والتحقق . ( لأن الكون والوجود عرضة للتغيير ) أما الثبوت والتحقق فهي أعم من الوجود .
 
ينطلق هايدغر في تعريفه " للكون " أو " الكينونة " من معطى بديهي وهو : أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتساءل عن معنى وجوده ، وأن مجرد طرح السؤال يفترض وجود معطى بديهي آخر لا يدركه العقل الراهن ، بكينونته ( أو كونه ) الراهن المتمثل أمامنا حالياً والذي يسميه هايدغر بالكينونة الحاضرة ( L'être - là - devant ) ( Desein ).
 
إن فلسفة هايدغر تقليدية جداً لجهة إعادتها طرح السؤال عن مصدر المعرفة ، فإذا كان الإنسان يعرف بالبداهة أنه موجود بدليل أنه يحاول تحديد ماهية وجوده ، فإن هذا يفترض وجود معطى معرفي يتجاوز قدرة الإنسان الحالية على التفكير لأن الإنسان بكينونته الحاضرة غير قادر على تحديد معنى وجوده .
 
وصف الحياة الاعتيادية ، العلاقة بالعالم المحيط ، وبالآخرين ، قلقها والجذور المكونة لمعارفها الأنتولوجية ، تمكننا من تحديد وشرح البنية الإجمالية العامة للكينونة الحاضرة ( L'être - là - devant ) التي تؤلف زمنيتها ، أي تحدد صفاتها في الزمن الراهن ( Temporalité ) والتي تجعل منها ذاتاً تاريخية . ثم أن دراسة هذه " الكينونات " وفهمها في زمنيتها وتاريخيتها ، سوف يرسم لنا أفق الكينونة الحقيقية الأصلية مقابل الكينونة الزائفة .
 
فالإنسان " متروك " في العالم ، وباكتشافه لنفسه ك : " مشروع " ، ككينونة قابلة للتحقيق سوف يتمكن من تحديد اتجاهه لأن " الكينونة الحاضرة " يمكن أن تتوه في وجود مزيف ( إغراق في الحياة العادية اليومية ) . ولا يتم التوصل إلى تحقيق الكينونة الأصلية إلا بالتجربة العاطفية والمعاش واقعيا التي تضعنا في حالة من القلق ، والتي يكون فيها ما يمكن تحقيقه من الكينونة معكوس بكليته .
 
هذه التجربة ( القلق ) التي تخفي عن أعيننا المشهد المطمئن لسلوكنا وتكشف أمامنا العدم بحدوده القصوى " كينونة الموت " تفتح أمامنا طريق الكشف على حقيقة الذات الفعلية " الكينونة الأصلية " . فالإنسان لا يكون إنساناً بطمئنة نفسه بواسطة المعرفة ( الأفكار النظرية ) لكنه يتحقق : بالتجربة القلقة وبأن ينقذ من النسيان سؤال الكينونة وذلك بأن يكون راعي هذه الكينونة وبأن يحرر الكلام من اعتياديته ( أي من الاستخدام اليومي التلقائي والاصطلاحي للكلام ) .
 
المسألة تكمن إذاً في تحرير الكينونة من تقنية التفكير ، وذلك بأن نعيد التفكير إلى بعده الأصلي وهو : تحقيق العلاقة بين الذات والإنسان ، وتحرير اللغة من استخدامها اليومي النفعي ، من علاقات القواعد اللغوية الشكلية ، لكي تعود إلى حالتها الشعرية لأنها تنبض بالمعاني ، و(لأن الإنسان يحيا على هذه الأرض بشاعرية ) كما يقول هولدرين .
 
وكان أبو العلاء المعري قد قال في قصيدته التي أولها : ألا في سبيل المجد ما انا فاعل
وإني وإن كنت الأخير زمانه
 
لآت بما لم تستطعه الأوائل .
 
 
*ضياء
23 - نوفمبر - 2007
هايدغر وسؤال اللغة والشعر (1)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
هايدغر قارئاً هولدرلن:
ما يبقى، يؤسسه الشعراء
 
 الترجمة والتقديم: هنري فريد صعب
 
 
لم تحظَ فلسفة في القرن العشرين بما حظيت به فلسفة مارتن هايدغر (1889 – 1976). فقد كان مثار اهتمام معظم الفلاسفة والمفكّرين، ولاسيما بعد صدور كتابه الشهير عام 1927 "الكينونة والزمان" L'être et le temps الذي اعتبر أهم عمل فلسفي عرفه ذلك القرن. ولعل فرنسا كانت السبّاقة في التأثر به. وما "الكينونة والعدم" لجان بول سارتر سوى مثال على ذلك. كما شأن فلاسفة وجوديين آخرين وأبرزهم موريس مارلو بونتي وغبريال مارسيل. لكن ما يستميلنا لدى هذا الفيلسوف هو تحوّل فكره الى البحث في الشعر والشعراء، مما وسع نطاق جمهوره، وغدا مرجعاً يؤخذ بحكمه في هذا المجال، حتى عدّ بحق "صديق الشعراء". على عكس ما هو مأثور عن غالبية الفلاسفة. وحين توفي رثاه رينه شار الذي كانت تربطه به مودّة، بقصيدة قصيرة. إلا أنّ أحبّ الشعراء إليه هو هولدرلن. فقد خصّه بأربعة أبحاث كتبها في أوقات متفاوتة وهي: "هولدرلن وماهية الشعر" (1936) (يرى القارىء في ما يلي ترجمة للقسم الأكبر من هذا البحث)، "كما في يوم عيد" (1941)، "ذكرى" (1943) و"عودة" (1943). وجميعها ألقاها هايدغر كمحاضرات وصدرت مجموعة في كتاب عنوانه "اقترابات من هولدرلن". وفي رأي فيلسوفنا أنّ الشعر، وإن يكن من أرومة الفكر ذاتها، يبقى بعيداً جداً عنه: "المفكر يقول الوجود، أما الشاعر فيسمّي المقدّس. ولا شك أننا نعرف الكثير عن العلاقات بين الفلسفة والشعر، لكننا لا نعرف شيئاً عن الحوار بين الشاعر والمفكر اللذين يسكنان متقاربين على أبعد الجبال بعضها عن بعض" (فقرة من بحثه "ما الميتافيزيقا" – 1943). إنّ ما يقوله الشاعر هو المقدّس، وما يسمعه في كلامه هو المقدس. والكلام هو مجيء المقدس. وشعر هولدرلن هو من إملاء المقدس. و"الأعلى" و"المقدس" هما عنده امر واحد. إنهما الصفاء والسكون. ولعل هولدرلن قد ينفرد بإيمانه بالشعر وبأصله الألهي. فهو يتنشق في الشعر بخشوع أنفاس الألهي. ويقوم الشعر، كالاثير الذي يملأ العالم الواقع بين السماء والأرض، بملء الهوّة القائمة بين الفكر وأسفله، بين الآلهة والبشر. إلاّ أنّ "المادة" التي تعظّم هذا المقدس هي اللغة. والشاعر ككل كائن يكتفي بأن يقول ما تقوله اللغة بصوت خافت. ومع ذلك، فالشعر لا يكمن فقط في موسيقى اللغة وقدرتها البدئيّة على الكشف، وإنما في الصورة أيضاً. وهذه ليست خيالا خالصاً. إن "جوهر الصورة"، يقول هايدغر، هو أن يجعلنا نرى شيئاً ما. الصورة الشعرية ترينا العالم اليومي. لكنها ترينا إياه غريباً. إنها ترينا "اللامرئي".
 
هي ذي المواضيع الخمسة التي تعالجها هذه المحاضرة:

1 – "التعريض"(1): "هذه المشغلة الأكبر براءة من كل المشاغل".
(أعمال هولدرلن، المجلد 3، ص 377)

2 – "لذلك، فإن اللغة التي هي من أخطر الملكيات، قد أعطيت للأنسان... لكي يؤكد ما يكونه..." (المجلد 4، ص 246)

3 – "لقد خبر الأنسان كثيراً،
وسمّى العديد من السمويين
مُذ كنا حواراً
وفي مقدورنا أن يُصغي بعضنا الى بعض".
(المجلد 4، ص 343)

4 – "ولكن ما يبقى، إنما يؤسسه الشعراء".
(المجلد 4، ص 63)

5 – "الانسان غنيّ بالقِيَم، لكنه شعرياً يقيم على هذه الأرض".
(المجلد 6، ص 25)

لماذا اخترنا أعمال هولدرلن لتبيُّن ماهية الشعر، وليس هوميروس أو سوفوكليس، فيرجيل أو دانتي، شكسبير أو غوته ؟ ألم تتحقق ماهية الشعر في أعمال هؤلاء الشعراء، في غنى يعادل وربما يتجاوز إبداعات هولدرلن التي توقفت فجأة قبل الأوان ؟

قد يكون. ومع ذلك اخترنا هولدرلن دون سواه. ولكن هل يمكن فعلا أن نستخرج من أعمال شاعر واحد ماهية الشعر بشكل عام؟

العام، نعني به ما يصح بالنسبة الى كثيرين. وهذا ما لا نستطيع بلوغه ولا من طريق التفكير المقارن. لذلك، ثمة حاجة الى أن نستعرض أكبر تشكل ممكن من القصائد وضروب الشعر. وفي هذه الحالة، فإن شعر هولدرلن ليس سوى واحد من كثرة. وإذ ذاك لا يكفي وحده للقيام بماهية الشعر. ويكون مشروعنا، منذ البداية، قد حوى بذور فشله. وهو فشل أكيد، ما دمنا نعني بـ"ماهية الشعر"، ما يتركّز في مفهوم عام يصح في كل ضرب من ضروب الشعر على السواء. ودائماً ما يكون هذا العام، هذه القيمة التي تصحّ بالنسبة الى كل خاص بدون تمييز، هو "اللامتحيّز: "إنه تلك "الماهية" التي لا يمكن أبداً ان تصبح ذاتية. فيما نحن نبحث عن هذه الذاتية في الماهية بالذات. وهذا ما يدفعنا الى أن نقرر إن كنا نهتم بالشعر وكيف، وإن تكن الافتراضات التي نأتي بها، تبقينا في مجال الشعر وكيف.

لم نختر هولدرلن لأن أعماله حققت، كواحد من أعمال كثيرة، ماهية الشعر العامة، بل لأن ما يشكل قوام شعره، هو ذلك القرار الشعري الذي يرتكز على "تقريض" ماهية الشعر بالذات. إن هولدرلن في نظرنا هو "شاعر الشعراء" بامتياز.

ولكن أليس فعل "التقريض" إشارة الى انحراف في تأمل الذات؟ أليس في الوقت نفسه اعترافاً بأننا محرومون من فيض العالم ؟ و"التقريض" عندئذ، ألا يزيد العقبات ؟ أليس شيئاً فائت الأوان ونهاية ؟

الجواب في ما يأتي:

في رسالة بعث بها هولدرلن الى امه في كانون الثاني 1799، أشار الى أنه مشغول بقرض الشعر. وهذا "الانشغال هو الأكثر براءة". فكيف ذلك ؟ إنه يتجلى في الشكل المعتدل لـ"اللعب". فهو يبتكر، طليقاً، عالمه الخاص من الصور، ويظل مستغرقاً في نطاق ما تصوّره. وهذا اللعب ينجو من رصانة القرار الملتزم بطريقة أو بأخرى. وعليه، فإن قرض الشعر هو مسالم تماماً، وفي الوقت عينه هو غير فعّال، لأنه يبقى مجرّد كلام وإطناب. وهذا لا نصيب له من الفعل الذي يتصل مباشرة بالواقع ويغيّره. الشعر كالحلم، لا حقيقة واقعة. إنه لعب كلمات، وليس البتة رصانة فعل. الشعر مسالم وغير فعّال. وهل ثمة أفضل من اللغة الصافية، يستطيع ان يدّعي أنه بلا خطر؟ طبعاً، نحن، في نظرتنا الى الشعر كـ "أكثر المشاغل براءة"، لم ندرك بعدُ جوهره. لكننا على الأقل، استطعنا أن نعيّن أين يجب البحث عنه. فالشعر يبدع أعماله في نطاق اللغة، ومن "مادة" اللغة. فماذا يقول هولدرلن في صدد اللغة؟ لنستمع مرة ثانية اليه.

 
في تخطيط مجزّأ يعود تاريخه الى العام نفسه (1800) الذي كتبت فيه الرسالة المذكورة آنفاً، يقول الشاعر:

"لكن الكائن البشري يقيم في الاكواخ، ويكتسي بثوب محتشم، لأن كينونته جد حميمة، وجدّ راعية أيضاً. والواقع، أنه يصون "الروح" كما الكاهنة الشعلة السموية. وهنا مهارته. ولذا أعطيت له، هو الشبيه بالآلهة، حرية الاختيرا، والقدرة السامية على التنظيم والتنفيذ. ولذا أيضاً، أعطيت له اللغة أخطر الملكيات حيث ينشىء ويهدم، ثم يغيب عائداً الى الحية أبداً، الربة وا لأم، لكي يشهد انه ورث عنها ما يكونه، وتعلّم منها أسمى ما تملك وأقدس، الحب الذي يحفظ الكون". (المجلد 4، ص 246)

إن اللغة، هذا المجال لـ"أكثر المشاغل براءة"، هي أيضاً أخطر الملكيات". فكيف التوفيق بين هذين الاثباتين. لنترك الآن هذا السؤال، ولنطرح قبلُ، ثلاثة أسئلة: لمن تكون اللغة ملكية؟ وكيف تكون الملكية الأخطر؟ وعلى أيّ وجه عموماً تكون ملكية ؟

لنلاحظ أولا الفقرة التي جاء فيها هذا الكلام عن اللغة. لقد جاء في مخطط لقصيدة يُظهر من هو الكائن البشري في مقابل كائنات الطبيعة الاخرى. وذكر بعضها: الوردة، البجع، الوعل في الغابة (المجلد 4، ص 302 و385). كذلك، فإن الفقرة المذكورة، وبما أن النباتات محددة بالنسبة الى الحيوانات، تبدأ بهذه الكلمات:

"ولكن في الأكواخ يقيم الكائن البشري".

فمن هو اذاً الكائن البشري؟ ذاك الذي عليه أن يشهد على ما يكونه. وأن يشهد يعني أن يكشف ويُبلغ من جهة، وفي الوقت نفسه يعني أيضاً أن يضمن، في الإبلاغ، ما أبلغ به. فالإنسان هو "ذاك" الذي "يكونه" بالضبط، في الشهادة على "دازاينه"(2) "Son Dasein" الخاص. لكن هذه الشهادة لا تعني أن كينونة الانسان تعبّر عن ذاتها بعد فوات الأوان، وأن هذا التعبير إضافي وعلى هامش كينونته. كلا، بل هي تساهم في تكوين "دازاين" الانسان بالذات. ولكن ما يجب على الانسان أن يشهد عليه؟ إنه انتماؤه الى الأرض. وهذا الانتماء قوامه أن يكون الانسان وارثاً ومتعلماً في كل شيء. لكنّ الأشياء في تنافر. وما يفرّق بين الأشياء، وفي الوقت نفسه يجمعها، هو ما يسميه هولدرلن "الحميمية – الذاتية" "l'Essentielle Intimité". وشهادة الانتماء الى هذه "الحميمية – الذاتية" تتم بخلق عالم وسطوع فجره، كما بهدمه وأفول نجمه. وتولد الشهادة على كينونة الأنسان، ومن ثم على تحققها الصحيح، من حرية القرار. وهذه الحرية تقبض على "الضروري" وترتبط بقيود داعٍ اعلى. وأن تكون شاهداً على هذا الانتماء الى الموجود "L'existant" في جملته، انما يتم و"يتأرخن" "S'histarialise" كـ"تاريخ". ولكن لكي يكون تاريخ ما ممكناً، يجب ان تعطى اللغة للأنسان. فاللغة هي من ملكيات الأنسان.

ولكن كيف تكون اللغة الملكية الاشد خطرأً ؟ انها الاخطر من كل الاخطار، لأنها هي التي تبدأ بخلق امكان خطر ما. فالخطر هو تهديد للكينونة من قِبَل كائن "étant" ما. وعليه، فالانسان لا يجد نفسه معرَّضاً، الا بمقتضى اللغة، لشيء منكشف "révélé"، يحاصره باعتباره كائناً ويثيره في "دازاينه"، ويضلله ويهديه باعتباره غير – كائن "Non – étant". فاللغة هي التي تخلق أولا المجال المنكشف حيث التهديد والضلال يضغطان على الكينونة؛ كذلك هي التي تخلق امكان ضياع الكينونة. لكن اللغة لسيت خطر الأخطار فحسب، بل هي تخفي حتماً في ذاتها ولذاتها خطراً دائماً. مهمة اللغة ان تكشف عن الكائن بصفته كائناً، في العمل "l'œuvre" وأن تضمنه. في اللغة يمكن التعبير عما هو الأكثر جلاء وغموضاً، كما عن الملتبس والشائع المشترك. وينبغي للكلام الأصيل كي يكون مفهوماً، وتالياً كي يصبح ملكاً جماعياً، أن يكون مشتركاً. لذلك ورد في فقرة أخرى لهولدرلن: "لقد تكلمت الى الألوهة، لكنكم نسيتم جميعاً ان البواكير لم تكن قطّ للفانين، وإنما هي ملك الآلهة. إذ ينبغي أولا ان تصبح الثمرة أكثر شيوعاً، والفة يومية، حتى تصير ملك الفانين" (المجلد 4، ص 238). فالجليّ والشائع يشكلان كلاهما قولاً ما. الكلام اذاً، بما هو كلام، لا يقدم مباشرة ضماناً على أنه كلام اصيل او فراغ صائت. بالعكس، إن الكلام الأصيل، غالباً ما يبدو، في بساطته، اشبه بشيء غير أصيل. ومن جهة أخرى، نرى ان الكلام الذي يتخذ مظهر الأصالة، ليس في الغالب سوى ثرثرة وتبليغ. وعلى هذا النحو، فاللغة مرغمة دوماً على أن تتخذ مظهر المولّد لذاتها، ومن ثم تُعرّض للخطر ما هو من خصائصها على الاطلاق، أي القول الأصيل.

فبأي معنى الآن هذه الملكية الأشد خطراً من سواها، هي "ملكية" للانسان؟ اللغة هي ملكيته الخاصة، لتصرّفه بها بهدف نقل اختباراته، وقراراته، وانطباعاته الشعورية. اللغة تصلح للفهم. وبما انها أداة صالحة لهذه الوظيفة، هي "ملكية". لكن ماهية اللغة لا تحصر همّها في كونها وسيلة للفهم. فتحديدنا لها على هذا النحو، لا يوصلنا الى ماهيتها الخاصة، وانما يقدّم نتيجة لهذه الماهية. اللغة ليست فقط أداة يملكها الأنسان الى جانب أدوات كثيرة أخرى. اللغة هي، قبل كل شيء وعلى العموم، ما يضمن إمكان الانوجاد في وسط رحابة الكائن. فحيث تكون اللغة فقط، يكون عالم، اي تلك الحلقة المتغيّرة أبداً، من القرارات، والمشاريع، والعمل، والمسؤولية، وكذلك من التعسف، والصخب، والانحطاط، والضلال. وحيث يكون عالم، يكون "تاريخ" فحسب. اللغة هي ملكية على معنى أكثر أصالة. فأن تكون ملكية ضامنة لهذا العالم ولهذا التاريخ، معناه انها تضمن أن "يكون" الأنسان على نحو "تاريخوي"(3) "Historial". اللغة ليست أداة جاهزة، بل بالعكس، إنها ذلك الحدث الذي يملك في ذاته أعلى إمكانات كينونة الأنسان. من ماهية اللغة هذه، علينا أولا ان نتحقق، لكي نفهم مجال عمل الشعر، ونفهم الشعر بذاته حقاً. فكيف تتأرخن اللغة؟ للأجابة عن هذا السؤال، لنتأمل معاً ما يقوله هولدرلن:
*  المقال منقول عن النهار العربي والدولي ، الملحق الثقافي
 
( تابع )
*ضياء
27 - ديسمبر - 2007
 1  2  3