البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الفلسفة و علم النفس

 موضوع النقاش : بين الدين والفلسفة    قيّم
التقييم :
( من قبل 19 أعضاء )
 ضياء  
29 - أكتوبر - 2007
 
 اكتشف الإنسان ، ومنذ قديم العصور ، قدرته على التفكير : أي تحويل المعرفة الحسية إلى معاني مجردة خاضعة للنظر العقلي ، وذلك من خلال قدرته على استنباط حلول لمواجهة المخاطر المحدقة بوجوده . ومنذ قديم العصور ، أخذ الإنسان يستغل تلك القدرة لتغيير شروط حياته والتأثير في العالم الذي يعيش فيه لأن هذه القدرة على تخيل الحلول ، أي تخيل ما هو ليس بموجود بعد واقعياً ، أعطى لوجوده أبعاداً قذفت به خارج المكان والزمان .
 
إن حاجة الإنسان إلى التفكير ، ثم إلى التفلسف ، تنبع من حاجته لاكتشاف حلول لمشاكل حياته المادية والوجودية . وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا أبداً وإلا وقعنا في العبثية والعدم .
 
إن رغبة الإنسان في السيطرة والتأثير على العالم المحيط به هي إذن دافعه الأول للتفكير ، لأن فهم ومنذ لحظات وجوده الأولى بأن للمعرفة سلطة وسلطان ، وبأنها سبيله الوحيد لإدخال نظام ما في عالم من الفوضى محفوف بالمخاطر ، فأخذ يتأمل في الكون والطبيعة لمحاولة فهم قوانينها ، وتساءل عن معنى وجود الإنسان على الأرض ، وعن أصل العالم وكيفية حدوثه ، فكان أن أدى ذلك إلى استنباط معرفة أولية صاغها على شكل أساطير ضمنها ، من جهة ، تاريخه وفهمه للوجود والدين والأخلاق ، كما عكست شعائرها وطقوسها ، من جهة أخرى ، رغبته في التحكم بمظاهر الطبيعة والموت والمرض ...
 
إلا أن عصر الفلسفة الذي بدأ عند اليونان أعاد تأسيس الوعي بالذات والعالم على نحو  جديد  : فبينما كانت الأسطورة قد وضعت الإنسان في عالم تتحكم بمصيره آلهة البانثيون ، وضعت الفلسفة الإنسان نفسه بمواجهة العالم ، وفرضت على عقله التحدي الأكبر : وهو محاولة الإستيلاء على المعرفة بواسطة العقل واستعادة القدرات التي كان قد نسبها للآلهة والتحكم بها لمحاولة السيطرة على القوانين المسيرة للكون والخروج من عبثية تلك الدائرة الأزلية من الخوف .
 
 فالفلسفة إذاً هي : المعرفة العقلية ، وهي في نشأتها ، الحاجة إلى عقلنة الوجود والأشياء وتعليلها ، وإشاعة النظام فيها بما يمكننا من احتوائها والسيطرة عليها .
 
إلا أن الإحساس باللامتناهي والعبث رافقا تلك الرغبة بإخضاع العالم لتفسيرات قوانين ملموسة ومضبوطة معرفياً . من هنا جاء التناقض في الفكر الفلسفي ، لأن الفلسفة توغلت في الماورائيات ، وحاولت البحث عن ذلك المعطى المجهول الذي يدفعنا للخروج على المحسوس المادي ويساعدنا على التوغل في أعماق الذات والوجود ، وحاولت إخضاعه للتفكير العقلي . ولهذا الوعي بأبعاد الوجود اللامتناهي ، وهذا الدفع خارج الذات وخارج حدود المعرفة الملموسة ، توكيد على أهمية دور الفلسفة في إعطاء معنى للحياة وقيمة الوجود الإنساني فيها ، وهو دفع فيه تحرير لثروات هائلة ، وطاقات لا نعرف حدودها بعد ، تزيل عالم الخواء من النفس وتنأى بنا على أن نكون شيئاً بسيطاً من ضمن الأشياء المحيطة بنا .
  
إن التجربة الفلسفية هي إذن جزء من التجربة العقلية والروحية للإنسان ، لكن سمتها الأساسية هو استخدامها للعقل كمصدر للمعرفة . هي نتاج خبرة  خاصة بالأنسان وليست من معطيات الوحي رغم أنها حاولت  ، في كثير من الأحيان ، اقتحام عالم الماورائيات وربط الديني - السماوي بالأرضي . من هنا جاء الالتباس . 
   
لا يمكن لأي فيلسوف ، أو لأية فلسفة إذن أن تقدم لنا حلاً نهائياً للقضايا الكبرى التي تشغل بالنا ، إن كل ما ستفعله الفلسفة ، أو الفيلسوف ، هو أنه سيبذل عصارة فكره وتجربته ، وسيحاول بأن يضفي على الحياة ونظامها شكلاً يقربها إلى الدرجة الأعلى من الوعي التي توصل إليها عصره وبيئته وزمنه الذي يعيشه ، وأحياناً تكون الفلسفة تعبيراًعن حركة إجتماعية هي خلاصة تجربة أمة أو شعب أو عصر ما بأكمله يشكلها الفيلسوف في منظومة معرفية محددة .
 
غير أن الفلسفة ورغم انتصارها للعقل ، هي تجربة روحية أيضاً لأنه لا يمكن فصل هذه الملكات عن بعضها البعض في الذات الواحدة . فكما أن خبرة الإنسان المعرفية لا يمكن فصلها عن معطيات الوحي الذي تجلى في الرسالات السماوية ، كذلك من الصعب فصل الفكر الإنساني عن مقصده في تلمس المعرفة وتجلياتها الموحى بها عبر الرسل والأنبياء .  
 
من هنا ، وبسبب هذا الالتباس الحاصل في مصدر المعرفة ، والذي شكل نقطة محورية في السجالات الفلسفية التي دارت في العصر الإسلامي ، سوف نحاول في هذا الملف إعادة قراءة العلاقة بين الدين والفلسفة ، من خلال متابعتنا لآراء فلاسفة ومفكرين كتبوا بهذا الخصوص على مدى التاريخ ، متمنين مشاركتكم في إغناء هذا الملف الذي نرتجي منه الفائدة ومتابعة الحوار الفلسفي الذي انقطع في مجالس الوراق .
 
 
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
بين الدين والفلسفة...أولا: خلفيات الإشكال...    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
  • يفترض العنوان ـ بين الدين والفلسفة ـ وجود شكل من العلاقة بين منظومتين: يفترض في الأولى أن يكون مصدرها الأول إلهي. وينظر إلى الثانية على أنها نتاج للتفكير الإنساني. هاتان المنظومتان تحيلان بالضرورة إلى نمطين من التفكير، وأسلوبين في الحياة، ونموذجين ثقافيين، وطريقتين في التعبير...ورؤيتين للعالم. ويبدو لي أن الوقوف على هذه التمايزات التي يفرضها التاريخ ـ تاريخ التفكير الفلسفي والتفكير الديني ـ تتطلب العودة إلى الأصول والعوامل التي فرضت هذا النمط أو ذاك...لابد من قراءة الفلسفة والدين في سياقهما التاريخي...فمثلما أن الفلسفة لا تعبر عن عبقرية يونانية خارج التاريخ، فإن الدين يحيل هو نفسه عن أسباب النزول في أصله، وتعدد النوازل في تطور أشكال فهمه...
  • وفي تقديري لابد من العودة إلى تاريخية الفلسفة أولا...
*وحيد
3 - يوليو - 2008
العودة إلى الأصول...التفكير في منطق الكون    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
عندما طرحتٌ أهمية البدء من وضع منظومتي الفلسفة والدين داخل سياق التشكل والتطور التاريخي كان هدفي من ذلك إبراز الدور التاريخي في رسم معالم التميز والخصوصية التي تسم التفكير الفلسفي والتفكير الديني كلا على حدة. أعتبر أن الفلسفة ليست مجرد معارف وتصورات ومفاهيم، بل هي طريقة في التفكير تشكلت من داخل الإنتاج الفلسفي...كما أن الدين ليس نصوصا وفتاوى بل هو رؤية عقلية تشكلت عبر الاحتكاك بتلك النصوص.
      ما الذي يميز الرؤيتين؟ مثل هذا السؤال لا يمكن مقاربته في اعتباري الشخصي إلا من خلال العودة إلى التاريخ. وبالدرجة الأولى تاريخ الفلسفة. ولكن لا تاريخ الأفكار الفلسفية الخالصة، بل تاريخ الطريقة التي امتزج فيها الإبداع الفلسفي مع طريقة التفكير، أي تاريخ الكيفية التي توحد فيها العقل واللغة، المضمون والأسلوب، الفلسفة والتفلسف.
 
العودة إلى الأصول
 
شكل التفكير النظري الفلسفي مع اليونان لحظة انعطاف في تاريخ العقل الإنساني الذي كان, إلى حدود تلك اللحظة, خاضعا لهيمنة التفكير الأسطوري في علاقته النظرية والوجودية بالكون والطبيعة؛ لذلك بدأ أفق التفكير في البحث عن منطق للكون قبل التفكير في منطق العقل الإنساني.
مع بداية القرن السادس قبل الميلاد، دشن فلاسفة ملطية (طاليس وأناكسيمندر وأناكسيمانس) طريقة جديدة في التفكير في الطبيعة تقوم على تفسير الطبيعة بالطبيعة، حيث تشكل كل الموجودات، الآلهة والعالم والإنسان، كونا موحدا ومتجانسا كمظاهر للطبيعة نفسها، كما أن الطرق والكيفيات التي تشكلت وانتظمت بواسطتها هذه الطبيعة يمكن الوصول إليها العقل الإنساني، والتعبير عنها باللغة. لقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة أن الأشياء والظواهر يجب أن تخضع لمبدأ واحد أو محدد يبرر وجودها ويمكن الإنسان من فهمها وتفسيرها وقياسها والتعبير عنها في خطاب فلسفي واضح ومفهوم من طرف الجميع.
إذا كان فلاسفة ملطية قد أرجعوا أشياء الوجود إلى عناصر طبيعية، فإن المدرسة الفيثاغورية ستُدخل عنصرا جديدا في التفكير في الكون، هو عنصر الرياضيات، حيث اعتبر  فيثاغور أن الأشياء كلها أعداد. فمن أجل  فهم الكون  والعالم لابد من معرفة وتبين العدد في الأشياء. وهذه المعرفة هي التي تحقق السيطرة على العالم. وقد أصبحت هذه الفكرة من السمات الرئيسية في النظرة الحديثة إلى العلم. والإعجاب بالرياضيات ـ عند فيثاغور ـ يجد تفسيره في مبدأين:
 أولهما وجودي؛ فإذا كان الانسجام أو التناغم بين الأشياء يقتضي وجود نسب محددة فيما بينها، فذلك يدل على أن الأشياء تحاكي الأعداد باعتبارها ماهيات مستقلة ومنطقية في ذاتها وأعم من الموجودات، وبالتالي لها خصائص جوهرية (أعداد كاملة ومتحابة...).
وثانيهما معرفي؛ فإذا كانت خصائص الأعداد القابلة للقياس هي التي تثير إعجاب الذكاء الإنساني، وتحفزه لتعقلها وتأملها، فذلك يقتضي التوسل بالبرهان باعتباره روح الرياضيات، من حيث أنه استدلال استنباطي دقيق قائم على البديهيات؛ ولعل ذلك هو السبب الذي جعل فيثاغور، وتلامذته، ينزعجون من غرابة بعض الأعداد التي لا تقبل القياس المضبوط والصياغة المنطقية، معتبرين ذلك فضيحة عقلية، لأن العقل يجب أن يكون حدسيا في معرفته، منطقيا في تصوراته واستدلالاته، وواضحا في لغته.
وينتج عن المبدأين السابقين أن العدد عقلاني في الواقع، منطقي في ذاته؛ وهو بذلك يشكل مجالا يندرج ضمنه كل شيء في اللوغوس. وبالتالي ستكون الرياضيات هي نموذج الانسجام الأنطلوجي، ومثال اليقين العقلي؛ فإذا كانت الأشياء المادية ناقصة ومتغيرة وزائلة، فإن الأعداد الرياضية هي المعقول الحقيقي الكامل والخالد؛ وتلك فكرة استأنفها أفلاطون، ومازالت سائدة لحد الآن.
إذا كان فيثاغور قد انزعج من التناقض، وعانق فكرة الانسجام، فإن هيرقليطس سيعتبر أن أساس العالم هو التآلف والتوازن بين الأضداد؛ إذ خلف صراع الأضداد الخاضع لحساب مضبوط، يوجد تناغم يشكل جوهر العالم؛ ذلك هو قانون العالم الذي أطلق عليه هيراقبيطس اسم اللوغوس Logos  كقوة ناظمة لصيرورة الظواهر، أو كعقل كلي كوني محايث للطبيعة. وعلى العقل الإنساني، الذي هو جزء منه البحث عنه والاحتذاء، وتجسيده في خطاب واضح وصادق. لذلك فالخطاب الصادق هو الذي يدرك اللوغوس ويتطابق معه. ومن لا يدركه لا يعرف ما يقول، ولا يفهم ما يقال؛ ومن هنا تكون الخطابات الكاذبة في مواجهة دائمة مع الخطاب الصادق. أما الذي يتكلم بالعقل فهو الذي يعمل من أجل فهم الأشياء أو برازها كما هي.
مع هيرقليطس تحققت وحدة اللوغوس، وحدة الواقع والخطاب في عقلهما (يشير العقل هنا إلى خاصية الفاعلية، أي كون الفاعل يقوم بفعل العقل والتنظيم والتنسيق أو إدراكهما) ومعقوليتهما (تشير المعقولية إلى خاصية المفعولية، أي كون الفاعل قابلا لأن يدرِِك ويفهم ويفسر نظامه وخطابه). ومع هيرقليطس ارتفع الصراع والتباين  بين تصور موضوعي للعقل يكون العالم  بموجبه معقولا وقابلا للتعبير عنه في خطاب منطقي، وتصور ذاتي يكون العقل بموجبه خطابا بشريا كاشفا وصريحا.
على خلاف هيرقليطس سيؤكد  بارمنيديس، بشكل قوي، على الوحدة العضوية بين الفكر والوجود الثابت والواحد، فاليقين العقلي هو المتعلق فقط بإدراك ذلك الوجود، لأن مبادئ العقل مطابقة تماما لوحدة وتجانس الوجود؛ أي أن خطاب العقل ليس مجرد حديث منطوق، بل هو تجل وجودي لحقيقة الوجود؛ أما الخطاب الذي يتحدث عن الكثرة والتغير والتعدد فهو مجرد وهم وظن. إن تصور بارمنيدس يقصي كل نشاط عقلي لا يخضع لمبادئ المنطق الضامنة لليقين والقائمة في الوجود. ويدل ذلك على أن وحدة وتجانس وثبات الوجود خصائص مؤسسة لوحدة وثبات مبادئ العقل، ( وهي المبادئ التي سيبلورها أرسطو فيما بعد ).
مجمل القول، أنه مع هؤلاء الفلاسفة الثلاث، فيثاغور وهيرقليطس وبارمنيدس، تأسس نموذج في التفكير يجعل من الرياضيات واللغة و"المنطق"، الأدوات الأساسية التي يتوسل بها العقل الإنساني في إدراكه لنظام العالم:  ففيثاغور جعل من انسجام العدد الطريقة المثالية في التفكير في العالم،  وهيرقليطس جعل من صدق الخطاب الوسيلة المثلى للتعبير عن جوهر العالم، وبارمنيدس طابق بين ثبات منطق العقل وثبات نظام الوجود. فكانوا بذلك مؤسسين لتصور فلسفي يجعل من الرياضيات واللغة و"المنطق" أطرا مؤسسة للنشاط العقلي الإنساني. لكن الأفق الذي دشنه هؤلاء، مع أسلافهم الملطيين، كان يسير من الإنسان إلى الكون والطبيعة، دون أن يكون العقل أو الخطاب الإنساني موضوعا للتفكير. ولذلك لما غالا هؤلاء في هذه النزعة المبجلة والتقديسية للطبيعة تمردت الروح اليونانية من خلال ظهور السوفسطائية، التي حولت الشراع والانتباه نحو الطبيعة الداخلية. وهو الاهتمام الذي تمثل بشكل واضح مع  سقراط.
      
 
 
*وحيد
6 - يوليو - 2008
الأصول... 2 ـ من منطق الكون إلى منطق العقل    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
في سعينا رصد الطريقة التي تمفصل بها تطور الفلسفة كإنتاج مع ظهور نمط جديد للتفكير كرؤية، نتابع الانتقال الكيفي الذي دشنه السوفسطائيون بالمقارنة مع أسلافهم الفلاسفة الذين أتينا على ذكرهم في الحلقة السابقة...
    وفي هذا الإطار يمكن القول بأن السوفسطائيين قلبوا المعادلة الفلسفية التي وجهت تفكير فلاسفة ما قبل سقراط :(الطبيعة مقياس الإنسان) إلى صيغة مناقضة مفادها أن (الإنسان مقياس كل شيء)، حسب عبارة السوفسطائي بروتاغوراس. وقد جسد  السوفسطائيون هذه النظرة الفلسفية للإنسان في ممارستهم الاحترافية للتعليم ووضعهم طريقة في الحوار والخطابة تربط المعرفة، تحصيلا وتوصيلا, بالمصلحة الذاتية. لذلك كان عليهم ـ داخل شرطهم التاريخي ـ أن يؤسسوا العقل في تصورهم وممارستهم ,على ذرائعية (برغماتية) الخطاب: فبين رفض العنف وإرادة القوة كان فن الكلمة حلا وسطا للتحكم في الخصم وتوجيهه. وجعلوا من هذا الفن حرفة كباقي الحرف الأخرى القابلة للتعلم. ولن  يعود إلهاما غيبيا خارقا من طرف الآلهة. ومن خلال هذا الفن تتجسد قدرة الخطيب على إقناع الخاصة والعامة، وعلى توجيههم وإخضاعهم كالعبيد؛ وبالتالي فالخطيب قادر على مواجهة الجميع ومناقشة كل موضوع بكيفية يقنع بها الجمهور أكثر من أي شخص آخر.
 وهكذا, فاعتبارا للحاجة التي كانت تقتضيها الديموقراطية اليونانية، أصبحت القدرة على الخطابة والجدل اللغوي "السوفسطائي" معيارا للتفوق الفكري؛ فتم اعتبار البلاغة والفصاحة والحجاج عناصر لغوية مؤسِّسة لنوع من المهارة العقلية تشد الانتباه والإعجاب في التواصل اليومي وفي الخطاب النظري؛ كما اعتُبر الجدل "رياضة عقلية" تعكس قوة الملكات العقلية, وموهبة للتحكم في قواعد اللغة بهدف محاصرة الخصم واختزاله في الصمت.
 سادت هذه النظرة إلى الخطابة من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن التاسع عشر بعد الميلاد، الشيء الذي جعل منها ـ حسب رولان بارت ـ امبراطورية حقيقية فاقت أية امبراطورية سياسية، من خلال حجمها واستمرارها وهيمنتها في الغرب طوال ألفين وخمسمائة عام، من جورجياس السوفسطائي إلى لحظة نابليون الثالث (ت 1873 ). ولعل من بين أهم المجالات التي احتلتها امبراطورية الخطابة مجال التعليم، حيث أصبحت لها قيمة بيداغوجية سيوظفها التعليم خلال ما يقرب من خمسة وعشرين قرنا( Olivier Reboul, Introduction à La rhétorique : Théorie et pratique, PUF, Paris, 1991, p.44. ).
 لقد تفوق السوفسطائيون في إقناع التاريخ, بواسطة جدل الخطابة, كي تكون خطابة الجدل فوق التاريخ, بالرغم من أنهم مارسوها خارج سؤال الحقيقة؛ الشيء الذي رفضه سقراط, وبعده أفلاطون, اللذان جعلا الجدل في خدمة الحقيقة, أي وسيلة لمعرفة ماهية المثل.  
لقد اقتنع سقراط بالشعار الذي قرأه في معبد دلـف: "اعرف نفسك بنفسك"، والذي يدل على قدرة الإنسان على الوصول إلى المعرفة بذاته، ليس بنقلها وتلقيها كما هو الشأن بالنسبة للسوفسطائيين، بل بإيقاظها من منطقة النسيان فينا واستخراجها إلى التحقق. لذلك انتهج سقراط منهج التوليد (Maïeutique) الذي يقوم على استخراج الحقيقة من النفس بطرح الأسئلة على الغير وإيقاعه في الحيرة ودفعه للاعتراف بجهله ثم الوصول إلى الحل الصحيح.
ومن خلال ممارسة هذه الطريقة ينبعث مبدأ سقراطي عميق: "من الحيرة يتولد التفكير والمعرفة". وليست المعرفة عند سقراط إلا إمكانية لتذكر معرفة سابقة زمنيا على وجود الفرد. فـ "أن تعرف" لا تعني سوى أن تحتفظ بالمعارف التي اكتسبتها ذات مرة وألا تفقدها. أليس ما ندعوه بالنسيان ـ ياسيمياس ـ مجرد فقدان للمعرفة؟»( Platon , Phedon,  trad. Emile )Chambry,  Flammarion, Paris,
 1965, p. 127. والدليل أن مينون، العبد الصغير، تمكن بعقله الفطري، من الوصول إلى حقيقة هندسية بتوجيه الأسئلة إليه. إن انتباه سقراط إلى قدرة الذات على توظيف عقلها ـ ذاكرتها  في الإمساك بالحقيقة، جعل اتجاه النظر الفلسفي يتحول من اللوغوس الكوني إلى اللوغوس الإنساني، أي من منطق الكون إلى منطق العقل. وإذا كان سقراط قد أسس هذا المنطق على قدرة الذاكرة "الميتافيزيقية" على معرفة الذات واكتشاف الحقيقة، فإن أفلاطون وأرسطو سيضيفان شروطا أخرى لهذه القدرة المعرفية.  
 
*وحيد
8 - يوليو - 2008
3 ـ أفلاطون ...بين الأمس واليوم    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
إذا كان سقراط قد تمكن ـ إلى حد كبير ـ  من تحقيق تلك النقلة المتميزة  للوغوس من بعده الكوني إلى بعده الإنساني، مؤسسا إياها على ميتافيزيقية الذاكرة فإن أفلاطون يؤسس تصوره ضمن نظرياته حول النفس والمعرفة والمجتمع, وتنطوي هذه  التصورات على عناصر ميتافيزيقة وسيكولوجية وإبيستمولوجية استمرت لمدة طويلة من الزمن.
في تصوره السيكولوجي يميز أفلاطون بين ثلاث  قوى نفسية: الشهوية القائمة على لذة الإشباع الجسمي, والغضبية الرامية إلى تحقيق دوافع الشجاعة والإرادة والصبر, ثم العاقلة التي تمكن الإنسان من التفكير وبلوغ الحقيقة. ولكل قوة نفسية وظيفتها المحدد سلفا. ويكون الفرد عادلا حين يؤدي وظيفته الحقة حسب طبيعته. لكن الناس غير متماثلين في تحقيق شرط العدالة النفسية هذا: فهناك البعض من يسيطر عليه الجزء العاقل وهم الفلاسفة، وهناك من يخضع للجزء الشهوي وهم محبو الربح، أما الذين يسيطر عليهم الغضب فهم الطموحون. وداخل هذا التصنيف يرى أفلاطون أن الفيلسوف هو أقدر الفئات الثلاث على التفكير السليم اعتبارا للشروط الثلاثة التي يتوفر عليها, وهي الخبرة والذكاء والاستدلال: والاستدلال لا يتم إلا بالتفكير الرياضي, الذي سيعتبر شرطا لدخول الأكاديمية. إذا كان أفلاطون يعتبر الذكاء مظهرا من مظاهر القوة العاقلة, فإن تصنيفه يعكس تراتبية لا تعترف بأي قسط لدور الجسد والانفعال في فعالية العقل وعملية التفكير.
أما البعد الإبيستمولوجي (= المعرفي) فيتأسس على المبدأ الأفلاطوني أن"المعرفة تذكر والجهل نسيان". بمعنى أن العقل الإنساني لا ينتج معارف جديدة, وإنما يسترجع ويبرز معارف قبلية وجدت بدءا في الزمن الميتافيزيقي. لذلك يُعتبر التذكر عند أفلاطون سيرورة معرفية تقتضي, من أجل الإمساك بالحقيقة, تجاوز مستوى المعرفة الحسية التي لا تعتبر سوى فرصة عابرة  لتنبيه وإيقاظ الذهن, نحو التعقل الخالص الذي لا يتم إلا بعبور درجتين من مستوى المعرفة العقلية: درجة الاستدلال الرياضي كتفكير عقلي مجرد حول العدد, ثم درجة الجدل العقلي الصاعد (الدياليكتيك) الذي يمكن من تعقل المثل مباشرة, وهو مستوى لا يصله إلا الفلاسفة. وبذلك يكون المنهج الديالكتيكي وحده الكفيل بتخليص النفس من وهدة الجهل والارتقاء إلى أعلى حيث المبدأ الأول. وإذا كان الجدل يعتبر تاج وقمة كل العلوم, فإن تحصيله وبلوغه يقتضيان التوفر على "مواهب طبيعية", تتمثل في الرجولة والذكاء وقوة الذاكرة والجلد على المشقة . وهكذا فالهدف من هذا "العقل المجرد" المحاصر بالعوامل الوراثية والشروط المعرفية والرياضية لا يرتبط باليومي الإنساني المباشر, أي لا يتحدد في تحقيق تكيف إيجابي وجيد مع الوسط الإنساني, كما لا يتحدد في حل مشكلات معينة، بل هو هدف ميتافيزيقي أساسا، أي تعقل المثل.
لكن بالإضافة إلى هذه الأبعاد التي تؤسس التصور الأفلاطوني، هناك بعد جوهري يتمثل في الرؤية التراتبية.  يتصور أفلاطون أن في النفس الإنسانية نفس الأجزاء التي توجد في الدولة وبنفس العدد. وبالرغم من كون جميع الناس يحملون نفس القوى النفسية الثلاث, فنحن لسنا جميعا سواء, وإنما تتباين طبائعنا وتوجد بيننا فروق هي التي تحدد أهليتنا لعمل معين. أي أن اختلاف الوظائف داخل المجتمع حتمية بيولوجية تقتضيها الطبيعة الفطرية للأفراد: فحاملو القوة الشهوية لا يناسبهم إلا أن يكونوا أصحاب أعمال وصنائع، والحاملون للقوة الغضبية يلائمهم فقط عمل الجندية وحراسة الدولة، في حين أن أصحاب القوة العاقلة هم الحكام الذين يتم انتقاؤهم من بين حراس الدولة بعد أصناف من التربية والتدريب والتكوين الفلسفي, لأنهم  بحكم ذكاءهم الفطري يقبلون على تعلم الفلسفة, وبحكم ذاكرتهم القوية يميلون إلى عدم نسيانها. وفي انتظار إعداد هذه الطبقة الحاكمة لابد أن يصبح الفلاسفة حكاما في دولهم.
ويلجأ أفلاطون في ترسيخه لهذه الحتمية البيولوجية التي يجعلها مؤسسة لتفاوت الطبقات إلى تشبيه أسطوري يعتبر أن الله الذي خلق الجميع من بطن الأرض مزج تركيب الحكام بمعدن الذهب, وتركيب الحراس بالفضة, وتركيب الفلاحين والصناع بالحديد والنحاس, «لهذا عهد الله إلى الحكام أولا وقبل كل شيء برعاية الأطفال, وبالعناية الكبرى بالمعدن الذي يدخل في تركيب نفوسهم. فإن دخل في تركيب أبنائهم عنصر من النحاس أو الحديد, فينبغي ألا تأخذهم بهم رحمة...إذ أن هناك نبوءة تقول إن الدولة تفنى لو حرسها الحديد والنحاس».
عندما أنهى سقراط  ـ لسان أفلاطون في المحاورة ـ سرد تلك الأسطورة سأل محاوره جلوكون «والآن فهل تعرف وسيلة لبث الإيمان بهذه الأسطورة في النفوس؟», ثم أجابه جلوكون «لست أعرف أية وسيلة تصلح للجيل الحالي, غير أن في وسع المرء أن يدفع أبناءه إلى تصديقها, ومن بعدهم ذريتهم ورجال المستقبل». ويبدو أن تخمين جلوكون كان صادقا, وكأن التاريخ يعيد نفسه بصيغ مختلفة: إن تبرير تصنيف الطبقات والجماعات حسب جدارتها ومؤهلاتها الفطرية اتخذ صيغا مختلفة حسب سياق واتجاهات تاريخ الغرب؛ فإذا كان أفلاطون قد أسس تبريره على حتمية بيولوجية, فإن الكنيسة أسسته على اعتقاد ديني, ومنذ قرنين لعبت الأطروحات العلمية الدور الرئيسي في إحياء أسطورة أفلاطون التي تتلخص في اعتبار الحتمية البيولوجية مبدأ لتفسير الاختلاف والتفاوت في مستويات التفكير والذكاء.
*وحيد
11 - يوليو - 2008
4-أفلاطون وشرط الرياضيات    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
لقد رفض أفلاطون الجدل السوفسطائي لأنه يوجد خارج سؤال الحقيقة. ولكي يكون الجدل في عمق هذا السؤال، أي وسيلة لتعقل المثل، ينبغي تأسيسه على الرياضيات التي جعلها أفلاطون شرطا لدخول الأكاديمية. وهو بذلك يبعث من جديد إرث فيثاغور الذي أعجب بسحر العدد.
ويمكن رصد التفسير الأفلاطوني لهذا الشرف أو الامتياز الذي يحظى به العقل الرياضي من خلال مجموعة من الاعتبارات:
 أولها بيداغوجي، ذلك أن الرياضيات وسيلة لتنمية تفكير الذين يعانون بطأً في الفهم وصعوبة في التعلم، فهي ـ في هذا المستوى ـ رياضة عقلية تنمي الذهن وتنشط قدراته من أجل استيعاب المعارف الأخرى، 
 أما الاعتبار الثاني فسياسي، يتعلق بتوظيف الجانب التطبيقي للرياضيات في حماية وتدبير الجمهورية الفاضلة. إن الرياضيات ضرورية ـ حسب أفلاطون ـ للذين سيوجدون في أعلى مناصب الدولة، وهم حراسها ثم الحاكم عليها. إن الرياضيات ضرورية لسياسة المدينة.
أما ثالث الاعتبارات فله بعد فلسفي يتعلق بقدرة الرياضيات كرياضة عقلية، بالنسبة للفيلسوف الحاكم، على خلق الروح الفلسفية، أي تنمية العقل الجدلي المدرك لحقيقة المثل؛ فهي وحدها الجديرة بالارتقاء بالنفس والسمو بها إلى تأمل الموجودات العليا.
في مقابل الامتياز الذي يحظى به التفكير الرياضي هناك أنماط من التفكير تم تبخيسها وإقصاؤها من طرف أفلاطون. فإذا كانت الرياضيات تنتمي إلى العلم أو المعرفة الحقيقية التي يسعى إليها الفيلسوف، فهناك معارف وصناعات تنتمي إلى اللاعلم، أي إلى الوهم والحس. لذلك فالمطلوب من العقل الرياضي المجرد، التعالي عن الوهمي المتمثل في الفنون القائمة على المحاكاة والتي تقتضي خيالا، وعن اليومي المتمثل في الصناعات والممارسات ذات المردودية العملية والتي تقتضي مهارة وفطنة ودهاء. ولم يكن هذا التقابل خاصا بأفلاطون بل شكل ثابتا أساسيا في الفضاء العقلي للفلسفة اليونانية القائم على ثنائية المعقول والمحسوس. لقد استبعد أفلاطون الفنون نظرا لوهميتها، كما استبعد الصنائع نظرا ليوميتها.
ـ الفنون الوهمية: ركز أفلاطون إقصاءه بالخصوص على الرسم والشعر، مصنفا إياهما في«المرتبة الثالثة بالقياس إلى عرش الحقيقة». فإذا كان عمل الفنان مجرد وهم يقتصر على نسخ أجزاء من الظواهر، ويدفع إلى خداع الأطفال والسذج من الناس، فإن الشاعر مجرد مقلد لصورة الفضيلة، يفتقر إلى المعرفة السليمة بما يقلده.   إن تفكير الرياضي وتفكير الفنان والشاعر على طرفي نقيض.
ـ الصنائع اليومية: عمم أفلاطون إقصاءه على كل الوقائع والمجالات العابرة والمتقلبة التي تنتمي إلى الحياة اليومية المألوفة، والتي تنطوي على الفطنة والاحتراس والحصافة كخصائص تميز نمطا من التفكير أو الذكاء كان يطلق عليه وصف الميتيس Mètis؛ وهو أسلوب من المعرفة ينطوي على بناء معقد ومتماسك من الاتجاهات والسلوكات العقلية، كاليقظة والنظر الثاقب والتخمين والمراوغة والشطارة والانتباه واليقظة وانتهاز الفرص، كما ينطوي على مجموعة من المهارات المختلفة والحنكة وطول المراس، والتي لا تتناسب مع القياس المضبوط والاستدلال الدقيق؛ مما دفع بفلاسفة اليونان، الذين رسموا خريطة الفكر، إلى أن يلقوا بحيل وبراعات هذا النمط من التفكير والذكاء خارج مجال اهتمامهم، والتشطيب عليها من حقل العلم والمعرفة الحقة:_( M. Detienne ، J-P. Vernant، Les ruses de l’intelligence : la mètis
 des grecs، Flammarion، 2002، p. 10.  
ويمكن توضيح موقف أفلاطون من هذا العقل العملي الثاقب في حكمه على إحدى مظاهره المتمثلة في مهارة فن الصيد والإيقاع بالحيوانات والطرائد، والتي تتطلب دهاء يفوق دهاءها في المراوغة والتخفي. فمن باب المقارنة. إذا كان المؤرخ اليوناني بلوتارك  Plutarque (46 أو 49 م ـ 125 م)، المتأثر بمحاورات أفلاطون، يعتبر في رسالته (ذكاء الحيوانات) أن مطاردة الأخطبوط ينمي المهارة (deinótẽs) والذكاء العملي (súnesis)،فإن أفلاطون في (القوانين) يشجب ويدين بعنف فن الصيد وملاحقة الحيوانات المائية واستعمال شبكة الصيد وقنص الطيور، بل وكل أصناف القنص التي تستخدم المصائد والفخاخ، لأن كل هذه التقنيات تنمي خصائص الدهاء والتحايل، والرياء والتدليس، والتي تقف على الطرف النقيض من الفضائل التي تتوخاها مدينة القوانين من مواطنيها.
وما ينطبق على مجال الصيد والقنص يصح كذلك على مجالات الحدادة والنجارة والخطابة والحياكة وقيادة السفن والسفسطة والقضاء...إلخ، فممارسو هذه الأعمال موجودون في كل حيز من فضاء المدينة، ولكنهم غائبون بشكل غريب عن فضاء التاريخ، التاريخ الذي شيده الفلاسفة. لذلك يبدو من المفارقة أن يتم التنكر لنمط من التفكير والذكاء والاستدلال كانت له أهمية جوهرية، ومورس بشكل واسع في مجتمع كاليونان. إن الفلاسفة عندما تحدثوا عنه، كان حديثهم يقوم على السلب، ويدعو إلى الابتعاد عنه والتعالي عليه.
باسم الحقيقة الواحدة، لا يعترف أفلاطون إلا بالعقل الرياضي ـ النظري ـ المجرد)، يشترطه في القبول بأكاديميته، وباسمه يدين الشعر والفن، وباسمه كذلك يحط من قيمة كل أصناف العقل العملي مهما كانت قوتها وفعاليتها في إنتاج قيم ذات نفع للفرد والمجتمع.
 
 
 
*وحيد
17 - يوليو - 2008
أرسطو ووحدة العقل    كن أول من يقيّم
 
 مع أرسطو "اكتمل" مشهد الخطاب الفلسفي اليوناني حول وحدة العقل؛ وهو "اكتمال" يحدده زمنان اثنان، الماضي والمستقبل: لقد وظف أرسطو آراء سابقيه كي تمتد قرونا طويلة فيما بعد.
ـ  فمن حيث توظيفه لإرث سابقيه، يبدو أن الثقة القوية بالعقل التي سادت قبله شكلت الأساس التاريخي الذي انبنى عليه المنطق الأرسطي، باعتباره مجموعة من القواعد، الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع والعلية، من شأن مراعاتها عصمة الذهن من الخطأ. وستصبح هذه القواعد هي نفسها مبادئ العقل، وسيصبح العقل مطابقا للمنطق، أو هو المنطق نفسه. ونعني بكونها مبادئ أنها تشكل ـ حسب أرسطو ـ نقط بدايات مطلقة لكل تفكير سليم، واضحة بذاتها ولا تحتاج إلى برهان. وبالتالي فمعيار العصمة هنا هو البرهان كاستدلال قائم على وضوح التعريفات ويقين المقدمات، ومنتج للمعرفة الحقة. وكلما اقترب العقل من البرهان واعتمده، أي كلما تخلص من "شوائب" الجدل والسفسطة والخطابة والشعر، كلما  كان تفكيره قويما وسليما. وإذا كان حقل البرهان ـ حسب أرسطو ـ هو الفلسفة والطبيعيات والرياضيات باعتبارها علوما نظرية، فإن الحقل الملائم للجدل، باعتباره رياضة عقلية، هو الخطابة. والخطابة عند أرسطو بحث في الوسائل المناسبة للإقناع، من حيث ارتباطها بالسلطة المعنوية للخطيب (إيجاد الحجج والقدرة على التأثير في المتلقي) وبنفسية المتلقي. ويحدد أرسطو هذه الوسائل في الاستقراء باستعمال المثل من أجل التأثير النفسي، والاستنباط بتوظيف القياس المضمر بهدف الحجاج العقلي في مجال المحاكم والتجمع الشعبي ومجلس ممثلي الشعب، حيث يسود الرأي والحوار كمجال وسط بين العلم والعنف. وهذا ما يجعل من خطابة أرسطو خطابة حجة واستدلال، .
 هكذا رسم أرسطو خريطة العقل الإنساني بتوظيف وتجاوز  أعمال سابقيه، خريطة تميز بين الاستدلالات البرهانية الموظفة في العلوم النظرية المجردة والمؤدية إلى العلم الخالص أو العلم من أجل العلم، والاستدلالات الجدلية الموظفة في الخطابة والمؤدية إلى الإقناع بالرأي (وليس بالعلم) في المجالات السياسية والاجتماعية والقضائية، هذا علاوة على الآليات الأخرى التي توجد دون البرهان والجدل. إن هذا التمييز الأرسطي ينطوي على مفاضلة بين ذكاء منطقي رياضي مجرد يحتل قمة الهرم، وذكاء اجتماعي يرتبط باليومي السياسي أدنى رتبة في سلم التفكير.  
ـ  ذلك ما قام به أرسطو وهو يوظف أفكار سابقيه وخطابات معاصريه. أما من حيث تأثيره في المستقبل، إذا كان التاريخ قد أعاد نفسه مع أفلاطون، من خلال إحياء مبدأ الحتمية البيولوجية، فإن هذا التاريخ لم يتنكر لتلميذه أرسطو :«لقد ظل لواء السيادة منعقدا لمنطق أرسطو حتى القرن التاسع عشر. وأصبح المنطق، شأنه شأن الكثير مما أنتجه أرسطو، يعلم بطريقة متحجرة على أيدي أناس انبهروا بسلطة أرسطو إلى حد لم يعودوا معه يجرأون على مناقشة أية فكرة من أفكاره»--(برتراند راسل). وبموزاة هذه الهيمنة "الامبراطورية" التي عرفها المنطق الأرسطي  كعلم طوال قرون، كانت هناك "دكتاتورية" الخطابة التي سادت قرونا كفن ورياضة وممارسة وأخلاق وتعليم، أكثر مما سادت كعلم، إلى درجة أنها اعتبرت فوق التاريخ، ولكن في مكانة "ماقبل العلم". وستترسخ هذه الهيمنة أكثر بعد تقويض البلاغة الأرسطية حين سيتم الدمج بين الخطابة والشعر(حدث ذلك في عهد الامبراطور الروماني Octavianus Auguste الذي عاش بين 63 و 14 قيل الميلاد.) . الشيء الذي ترتب عنه إفراغ الخطابة من بعدها الجدلي الاستدلالي الذي تم إلحاقه بالمنطق، واختزالها في محسنات وأشكال لغوية مزخرفة، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تأسيس ما يسمى بـ "الأدب" حاليا. لكن ما معنى هيمنة المنطق كعلم ودمج الخطابة في الشعر؟ معناه أن التاريخ كرس هيمنة العقل المنطقي الصوري، ولو بشكل مدرسي متحجر، وأقصى البعد العقلي الاجتماعي المتمثل في مهارات التأثير في الآخر؛ كما رسخ أبعادا أخرى للعقل اللغوي باختزال الخطابة إلى مجرد كلام مُحَسّن أو محسنات بديعية. وهكذا إذا كان أرسطو اقتصر على تفضيل العقل المنطقي على العقل الاجتماعي، فالذي حدث فيما بعد «أنه لم يتم الإقرار والاعتراف إلا بالذكاء الأول ... وتم بالمقابل التخلي عن الذكاء الثاني بشكل كلي، فوقع الجدل والخطابة ضحية تمارين مدرسية عقيمة سيلقي بها ديكارت جانبا» (Pierre Oléron، L’intelligence de l’homme).
مع ديكارت سنفتح صفحة أخرى في بناء معمار العقل الفلسفي...
*وحيد
4 - سبتمبر - 2008
أرسطو وحتمية المنطق    كن أول من يقيّم

رأي الوراق :
 
  كان الرسام الإيطالي Raphaël (1483 ـ 1520) دقيقا في لوحته الشهيرة "مدرسة أثينا" حين شخص التباين بين أفلاطون وأرسطو بوضع الأول رافعا سبابته نحو الأعلى في إشارة إلى عالم المثل, وجاعلا الثاني يشير بكفه اليمنى نحو الأسفل كعلامة على اتجاهه الواقعي المادي.
 يتجلى الطابع المادي لدى أرسطو في عبارته الشهيرة (الإنسان حيوان عاقل). ويبرز هذا البعد الحيوي العقلي في التصنيف الأرسطي للأفعال النفسية إلى: نفس نباتية، ونفس حيوانية، ثم نفس ناطقة/ عاقلة تختص بالتفكير والمعرفة. وإذا كان أرسطو يميز في القوة العاقلة بين عقل منفعل وعقل فعال: الأول قوة مستعدة, أو صفحة تنطبع فيها صور العقل الفعال, والثاني قوة  تجرد وتستخلص المعقولات والمعاني الكلية وتتيح للعقل المنفعل الاتحاد بها, ومن خلاله تصبح المعرفة ممكنة. فإن هذا التمييز يدل على أن كل إنسان يتوفر على عقل بالقوة هو عبارة عن استعداد طبيعي للمعرفة, قابل لأن يتحول إلى عقل بالفعـل, أي إلى تفكير ومعرفة, من خلال القدرة على تجريد الكليات من أعيان المحسوسات.
لذلك يعتبر التجريد الفعل الذهني المميز للعقل. وإذا كان التجريد هو استخلاص المعاني الكلية من المحسوسات الجزئية, فهو يتأسس إذن على الإدراك الحسي, سواء تعلق الأمر بالإدراك الحسي الظاهر بالحواس الخمس, أو بالإحساس كالتمييز بين المحسوسات وإدراك المشترك بينها, وإدراك الإدراك, والذاكرة والخيال. فانطلاقا من هذه الإدراكات الحسية يتمكن العقل من القيام بوظيفته الأساسية وهي التجريد كأرقى سيرورة للعقل.
وهكذا, إذا  كان أفلاطون يضع هوة فاصلة بين الإدراك الحسي والإدراك العقلي, فإن أرسطو يعتبر الأول مؤسسا للثاني؛ جاعلا بذلك من فعل التجريد الخاصية المميزة للتفكير الإنساني.
رغم تباينهما إبيستمولوجيا, فإن أرسطو يقترب كثيرا من أستاذه من حيث البعد التراتبي لتصوره للعقل, وهذا مبرر تماما بحكم انتمائهما إلى فضاء عقلي واحد.
إن التصنيف التراتبي الأرسطي لقوى النفس معناه أن التفاوت لا يقوم فقط بين الإنسان والحيوان, بل بين البشر أنفسهم من حيث نسب التوازن بين العقل الذي ينفرد به الإنسان, والأحاسيس التي يشاركه فيها الحيوان . ويجعل أرسطو من هذا التمايز قانونا عاما يحكم كل مظاهر الحياة, أي الطبيعة والنفس والمجتمع, ويؤسسه على التقابل بين الأعلى (الأكثر ذكاء) والأدنى (الأقل ذكاء): ففي مقابل الطرف الأعلى الذي يمثله الإنسان والسيد والذكر والنفس والعقل والشعب اليوناني, هناك طرف أدنى يمثله الحيوان والعبد والمرأة والجسد والنزوع والشعوب الأخرى؛ ومثلما أن النفس تسيطر على الجسد, فكذلك ينبغي أن يسيطر الإنسان على الحيوان, والسيد على العبد, والذكر على الأنثى...إلخ. ويفسر أرسطو كل أشكال الفوارق بين الناس على أساس تفاوت فطري ـ وراثي.
ذلك ما يؤسس تصور أرسطو للمنطق. إذا كان المنطق يعتبر "أورغانون" العلوم, وآلة تمكن من التمييز بين الصحة والفساد في التصورات والأحكام, وتعصم الذهن من الخطأ في الاستدلال, فليس الناس سواسية في استعمال تلك الآلة, ذلك أن «البعض لا يقبل إلا لغة رياضية، والبعض لا يريد إلا أمثلة، والبعض يريد الاستشهاد بالشعر، والبعض يحتم في كل بحث برهانا محكما، بينما غيره يعتبر هذا الإحكام إسرافا…». وحين يميز أرسطو بين الأقيسة أو الآليات الاستدلالية, البرهان والجدل والسفسطة ثم الخطابة والشعر, يعتبر القياس البرهاني أرقى الأقيسة, لأنه قياس ينتج علما أي معرفة ثابتة, ضرورية يقينية ومجردة عن أي منفعة. أما الأقيسة الأخرى فتنطوي على أبعاد خارج دائرة المعرفة الخالصة؛ إنها آليات توجه الذات المتكلمة نحو التأثير في الآخر أو إفحامه أو توجيهه أو الاستهزاء به وترذيل أقواله. وبالتالي فإن تراتب وتفاضل الأقيسة يعكس ـ من الناحية النفسية والاجتماعية   والتربوية ـ فوارق فردية في طرق الإدراك والتبليغ على حد سواء, أي في مستويات التفكير. بمعنى أن اختلاف طرق المعرفة, أو قل, تباين أنواع الاستدلالات إنما يتأسس على تمايز تراتبي بين الناس في قدراتهم العقلية.
 
*وحيد
3 - سبتمبر - 2008
فاصل جميل    كن أول من يقيّم
 
      تحية خاصة وخالصة لك عزيزي عبدالحفيظ...مع ألف شكر على هديتك الموسيقية الرائعة...وسلامي للعزيز أشباب الذي التقيته صدفة وبعجالة فأثرنا اسمك وتميزك في حديثنا الخاطف.
      أتمنى أن تكون مداخلاتي حول تشكل وتطور نمط التفكير الفسلفي موضع فائدة ومناسبة لفتح حوار لاحق حول موضوع العلاقة بين الفلسفة والدين، الموضوع الذي فتحته الأستاذة ضياء...ومازال يتطلب مزيدا من القول غير الفصل...
      بدوري أتمنى لك مزيدا من العطاء والتألق...وفقنا الله جميعا...
*وحيد
9 - سبتمبر - 2008
ديكارت وديموقراطية العقل...    كن أول من يقيّم
 
تنبيه: كان بودي تركيزالمقالات السابقة في خلاصات دقيقة تعكس أهم خصائص التفكير الفلسفي كما انعكست على صفحات الفلسفة اليونانية. لكني ارتأيت أن أؤجل ذلك إلى حين الانتهاء من الجانب الفلسفي وقبل الانتقال إلى الجانب الديني... 
----------------------
ينطوي الفاصل الزمني بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة على سيادة خطاب ديني وثوقي كرسته الكنيسة. وتميزت الفلسفة الحديثة ـ في مختلف لحظاتها ـ بسعيها نحو "التحرر"  من القيود الدينية، بدرجات متفاوتة، من خلال إعلائها من قيمة العقل الإنساني؛ واعتباره قوة إنسانية متحررة من كل سلطة ميتافيزيقية أو وصاية دينية؛ لذلك انصب الاهتمام تارة على دراسة مصدر المعرفة الإنسانية، وتارة على طرق تلك المعرفة . وهما إشكالان نعتبرهما محور اهتمام رواد الفلسفة الحديثة الذين مازال تأثيرهم قويا حتى اليوم.
رغم الرأي الذي يعتبر ديكارت Descartes أب الفلسفة الحديثة، فإن تصوره للعقل يندرج في نفس المنظومة الفكرية الغربية التي تشكلت أصولها مع الفلسفة اليونانية. فهذا التصور يقوم على ثنائية الجسم والنفس: إذا كان الجسم يتميز بخصائص الانقسام والامتداد والحركة والآلية، فإن النفس جوهر روحي بسيط خاصيته التفكير؛ وهذا معناه أن في إمكان العقل ـ أساس التفكير ـ الاستغناء عن الجسم الذي هو بمثابة آلة، فنحن «نعرف جليا أننا لا نحتاج لكي نكون موجودين إلى أي شيء آخر يمكن أن يعزى إلى الجسم، وإنما وجودنا بفكرنا وحده»(ديكارت). إن العقل قوة نفسية محضة تميز الإنسان عن الحيوان؛ بل هو «أعدل الأشياء توزعا بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه أوتي منه الكفاية». ويدل ذلك على «أن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي القوة التي يطلق عليها في الحقيقة اسم العقل، أو النطق، واحدة بالفطرة عند جميع الناس». وينطوي هذا التصريح على تصور "ديموقراطي" للعقل؛ باعتباره خاصية إنسانية عامة، لا وجود لها عند الحيوانات التي يعتبرها ديكارت مجرد كائنات آلية لا تفكر، لأنها لا تتكلم ولا تتصرف بوعي يمكنها من التكيف مع كل الظروف، هذا في حين «ليس في الناس، ولا أستثني البلهاء منهم، من هم من الغباوة  والبلادة بحيث يعجزون عن ترتيب الألفاظ المختلفة بعضها مع بعض، وعن تأليف كلام منها يعبرون به عن أفكارهم»؛ كما أن الإنسان قادر بعقله الفطري على التكيف المرن، لأن «العقل آلة كلية يمكن استخدامها في جميع الظروف». إن العقل عند ديكارت ميزة إنسانية تتحدد كقدرة على الحكم السليم والتمييز القويم، وتتجسد في القدرة على الكلام المفهوم والتكيف المرن، وهما مؤشران يبدوان لدى جميع الناس بمن في ذلك الصم والبكم بحكم قدرتهم على فهم وتصور معاني الإشارات، الشيء الذي لا يستطيعه الحيوان الذي يستجيب للإشارة دون "فهم" معناها.         
وعلى المستوى الإبيستمولوجي، إذا كان العقل كقوة سيكولوجية هو القدرة على الحكم الصائب والتمييز السليم، فإن بلوغ ذلك يقتضي فعلين عقليين أساسين: الحدس والاستدلال؛ وهما الفعلان اللذان أسسهما ديكارت نظريا من خلال ممارسته الفلسفية؛ فبالحدس توصل إلى حقيقة الكوجيطو، وبالاستدلال استنبط حقائق أخرى مؤسسة على الحقيقة الأولى. وبحكم أن هذين الفعلين يتعلقان بتصور المعاني العقلية المحضة، فذلك ما يجعلهما أرقى الأفعال العقلية. ودونهما يوجد الإحساس والتخيل اللذان يعتبرهما ديكارت مصدرين للخطأ والوهم.
 هاهنا يبدو أن ديكارت لا يعترف إلا بنمط واحد من العقل، هو العقل التصوري النظري في شكليه، الحدسي والاستدلالي، وهما الشكلان اللذان ميز بينهما علم النفس فيما بعد . وأما العقل الحدسي فهو الذي يقوم على إدراك واضح ومتميز، ويتأسس على عمليات سيكولوجية هي نفسها قواعد المنهج: كتجنب السرعة والتهور، والتعود على الصبر والتحرر من الحس والخيال والأحكام المسبقة، والتركيز والانتباه والولع بالبسائط. وأما العقل الاستدلالي فهو الذي يقوم على استنباط  قضايا من قضايا أخرى تم حدسها. فالاستدلال إذن تابع للحدس ومعتمد عليه؛ وكلما تم تحويل الاستدلال إلى حدس كانت النتيجة أكثر يقينا.
ويبدو، هنا، الطموح الديكارتي قويا في تحويل التفكير الاستدلالي إلى تفكير حدسي، وهذا ممكن من خلال قواعد التحليل والتركيب والمراجعة كعمليات عقلية تتم من خلال ترويض العقل على تعلم النظام في حل المسائل الرياضية البسيطة؛ ومن شأن هذه الرياضة العقلية تمكين العقل من تجنب الخطأ في الحكم والخلط بين الحق والباطل. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار تلك العمليات الناظمة للتفكير الحدسي والاستدلالي "حركات رياضية عقلية" تضبط وتقنن النشاط العقلي أكثر مما تحرره وتفتحه أمام الممكن المعرفي، والتي كانت تعكس نوع التربية الدينية التي خضع لها ديكارت. ( يمكن أن نقابل هذا الموقف مع تصور أرسطو للجدل باعتباره "رياضة عقلية" تمكن العالم والجاهل من كشف الادعاءات وفحص الأخطاء والتناقضات, وإن كانت الأسباب تختلف, ذلك أن تلك التمارين العقلية القائمة على الضبط والنظام تعكس نوع التربية الدينية اليسوعية التي خضع لها الفيلسوف, وهو تلميذ في مدرسة لافليش, والتي كانت تقوم على تدعيم الإرادة والمسؤولية الإنسانية وتنزيه الله وتجنيب العقل مناقشة أسرار الدين, بحيث لم يستطع ديكارت بمنهجه الشكي ومشروعه الفلسفي التخلص من تأثيرها ما دام أنه استثنى من شكه عقائد الكنيسة والكتاب المقدس.)
ذلك يعني أن تفكير ديكارت،  أب الفلسفة الحديثة لم يتحرر كليا من وصاية الدين، ولم يدخل بعد "عصر التنوير"، وهذا ما يدفع إلى القول بأن ديكارت «يمثل نهاية مرحلة أكثر منه تمثيلا لبداية مرحلة، وأنه فيلسوف الإيمان أكثر من فيلسوف العقل»(حسن حنفي). لكن ذلك مجرد وجه تاريخي لفلسفة ديكارت، فهناك أيضا وجه سيكولوجي يفسر ميله ـ المضمر ـ إلى الإيمان أكثر من ميله إلى العقل، وإيثاره ـ الصريح ـ قاعدة سلامة اليقين على استثناء مغامرة الشك الحقيقي؛ ذلك أن ديكارت كان ذكيا حين استبق حكم التاريخ في رفضه لكل استثناء أو خروج عن تلك القاعدة، وهو الاستثناء الذي كان ضحيته اسبينوزا. 
*وحيد
12 - سبتمبر - 2008
ديكارت..الرياضيات والسيادة على الطبيعة    كن أول من يقيّم
 
يصرح ديكارت أن الاختلافات والفوارق المكتسبة بين الناس، ترجع إلى كيفيات وطرق التفكير المطبقة، ولا تنشأ «عن كون بعضنا أعقل من بعض». ولذلك يمكن تقليصها وتجاوزها إذا تم اتباع المنهج السليم؛ والمنهج السليم هو المستمد من الرياضيات التي تعتبر أول العلوم وتقدم أكمل المناهج: «كنت معجبا بالرياضيات خاصة لما في حججها من يقين وبداهة، ولكني لم أكن مدركا بعد فائدتها الحقيقية». وسوف يدرك ديكارت القيمة الحقيقية للرياضيات عندما سيكتشف إمكانية تطبيقها في دراسة الظواهر الطبيعية، وسيعتبرها، فيما بعد، حاملة للعلم الشامل الذي يمكن استخدامه في كل الظواهر بما فيها الظواهر الميتافيزيقية.
وبوضعه الرياضيات في أعلى مراتب العلوم يجعل ديكارت "العقل الرياضي" "سيد العقول"، لأنه وحده القادر على اكتشاف الحقيقة؛ أما العقول الأخرى، الفطرية غير الرياضية، التي يتساوى فيها الجميع فتقتصر فقط على التمييز بين ما هو موجود من معارف. ولذلك سيكون التفاوت بين الناس ناشئا عن مدى القرب أو البعد من المنهج الرياضي ذي القدرة وحده على الإمساك بالحقيقة، يقول ديكارت «إن العقول لا تتساوى جميعا في استعدادها لاكتشاف الأشياء من تلقاء ذاتها وبمحض قدراتها...» والسبب في هذا التفاوت هو ارتباط العقل بالذاكرة والمخيلة كخاصيتين تهيمنان على سلوك العامة، وكعائقين أمام الإبداع والاكتشاف.
بعد أن خاب أمله في كل المعارف السابقة وجد ديكارت ضالته في علم وحيد هو الرياضيات. لماذا هذا الإعجاب بالرياضيات الذي يصل حد التقديس؟ شكلت الرياضيات بالنسبة لديكارت العلم الوحيد الذي استجاب لرغبته في وضع علم قابل للتطبيق على ظواهر الطبيعة، لأن الطبيعة نفسها تنطوي على مبادئ المنطق والرياضيات وقوانين الحركة، والتي على الحدس الإنساني الذكي والصافي أن يخضع لها، وعلى ضوئها يمكنه فهم ميكانيكية الطبيعة وتفسيرها  تفسيرا بسيطا وشاملا. وبهذا المعنى فالرياضيات تحمل اللغة الكونية، لغة الوضوح والدقة واليقين، والتي نقرأ بها كل الظواهر. وبهذا المنهج الرياضي الشامل »يمكننا الوصول إلى معارف عظيمة النفع في الحياة ... وأن نجعل أنفسنا بذلك سادة الطبيعة ومالكيها». وبالتالي فمن شأن عقلنا الرياضي أن يؤدي إلى معارف ليست فقط يقينية، بل ذات فعالية ومردودية، وهذا ما يجعل منه عقلا معياريا.
بتمجيده للعقل الرياضي وقصره على الخاصة، سيتأنف ديكارت طريق من سبقه من الفلاسفة في اعتبارهم الرياضيات النموذج العقلي الوحيد الذي يجسد أرقى ما يمكن أن يصله تفكير الإنسان: فالفيثاغوريين اعتبروا نظام الأشياء محاكيا لنظام الأعداد، وأفلاطون جعل من التفكير الرياضي طريقا نحو الحقيقة وشرطا لولوج الأكاديمية، وأرسطو اعتبر الرياضيات الأصل الذي يستفاد منه البرهان، وهاهو ديكارت يعتبرها الإمكانية المنهجية الوحيدة للإمساك بالمعرفة الشاملة. لذلك ففيلسوفنا تجاوز "النزعة الرياضوية اليونانية" بسعيه إلى إبراز قدرة المنهج الرياضي على التعبير عن وحدة العقل الإنساني، أي بتحقيق مطابقة بين وحدة المنهج و"وحدة الفطرة" التي لم يستطع الإمساك بها؛ إذ بالرغم من كونية العقل الفطري لدى الإنسان والمؤسسة على القدرة على الحكم السليم، فإن الدور السلبي للمكتسب التربوي والاجتماعي يحول دون تحقيق "عصمة الذهن من الخطأ"، ولا يضمن هذا الشرط سوى المنهج الرياضي. هاهنا يصبح العقل الرياضي مقننا وموجها للعقل الفطري.
*وحيد
13 - سبتمبر - 2008
 1  2  3