البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : السر المصون في مغازلة العيون    كن أول من يقيّم
 طه أحمد 
3 - يونيو - 2007
باسمه تعالى
أرفعها باسم شاعرنا الأستاذ زهير ظاظا أدام الله أيامه, وسائر سراة الوراق الأعزة الأحباب
 
تقوم فكرة هذه المقامة اللطيفة على اعتبار المغازلة باللحظ فنا برأسه, وغاية بحد ذاتها, ولذة من اللذاذات المستقلة بحظها في الامتاع, المستغنية بحظوتها في الطباع, فتراى منشئها يجعل من لمحات أجفان  الغواني الحسان, ولحظات عيون الشَّوابِّ الملاح, سرا يغوص عليه, ويفتش فيه, فيستفتي فيه خبيرة لقنة, وغادة فطنة, اسمها حنيفة, يفزع إليها كلما ارتبك في أنشوطة غادة غمَّازة, وتغلغل في حبالة أجفان جارية رمَّازة, فيسألها عما غم عليه من أمرهن, وحجب عنه من إشارات غمزهن, فلم يزل بها سؤالا وإجابة, واستزادة واستجابة, حتى برع في مسائل الجفون, وسبر أغوار تلك الشؤون.
 
والحق أن من تتبع لمحات السواحر الخلابات يوشك أن يقع في البلابل, وكيف يسلم المرء من سكرة الشهوة إذا شرب من خمرة اللحظ الفاتر, والطرف الناعس, ومن أي وجه يتوقى إذا انقدحت تلك الشرارة الكهربائية فنفذت من العين لتوافي قدَرها عند حبة القلب, وتتوقد على مهل تحت شغافه, فلو لم يكن لإبليس سهم يرمي به, وشرك يقتل به, وفتنة يستهوي بها, إلا هذه اللحاظ لكفاه. وليس يُحْسِن ملكا بابل, وعصى موسى, وسحرة فرعون, إلا دون ما تحسنه أحداق الولائد.
 وقد قال ابن القيم: النظرة تولد خطرة, ثم تولد الخطرة فكرة, ثم تولد الفكرة شهوة, ثم تولد الشهوة إرادة, ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة, فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع.
 
وبعد, فهذه مقامة بديعة تفتح أجفانها على أشعة الوراق, بالغ صاحبها في تنميقها وتهذيبها, وتقليب المنطق فيها على أوجه من المعاني, بعبارة رشيقة, وإشارة دقيقة, وحس لطيف, وروح خفيف, وأسلوب وسط بين لغة العامة ولغة الخاصة, وقد نثر فيها مثاني ومثالث من أشعاره, مما دلنا على أنه شاعر دون الفحل وفوق الشُّعرور, ولا زلت منذ أمد أوالي البحث عن ترجمته بين تراجم البشر, وكل ما نعرفه عنه أنه أديب مصري من رجال أوائل القرن الرابع عشر. والله المعين.
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
السر المصون في مغازلة العيون 1    كن أول من يقيّم
 
 
السِّر المَصُون في مُغازَلة العُيون
 
بسمه الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه مقامة أنشأها الأديب الأريب محمد أفندي وهبي التميمي جمل الله الوجود بوجوده سماها: السر المصون في مغازلة العيون, وهي:
 
نشأتُ أعرف العيونَ هي المُقَل التي تنظر الخبز والماء, والأرض والسماء, والبعيد والقريب, والعدو والحبيب, إلى يوم انكشف غيمه وصحى, وحُشرت فيه الناس ضحى, وكان ذلك يوم الزينه, وقد برزت كل فرحة وحزينه, وبزغت من منازلها الكواكب, للفرجة على المواكب.
 
فبينما أخوض غمرات القتام1, وأسبح في تيار الزحام, إذ لمحت غادة ذات نقاب, كأنها الشمس تحت السحاب, تختلس ببهجتها النفوس, وتزدهي ازدهاء الطاووس, وهي تُسِرُّ لحظات التفرس, ولمحات التجسس, فكاد البصر ينهبها, والنظر يشربها, ولما أحست بانتباهي, ورأتني غير متلاهي, وجهت نحوي فلتات العيون, ولفتات الجفون, حتى تلاقينا باللحظين, وأسرت العين للعين, فرحتُ وأنا سكران, من خمرة الأجفان, وقلت إن هذا إلا سحر مبين, وفتنة للعالمين, وتطلَّبت حل مبهم هذا الرمز, وفك طلسم ذاك الكنز, وفزعت إلى ذات خدر كنت ألوذ بها لقربها, وأعوذ بها لأدبها, كاملة حسنا وعقلا, بارعة خُبْرا ونقلا, تشتمل بالتذكير على وصف ملة إبراهيم عليه السلام, وبالتأنيث على شطر كنية إمام الإسلام2, فبعد قضاء سنن التحية وفرض السلام, تماسكنا بأهداب المقال وأردان الكلام, وخضنا في حديث المال والولد, والعين والحسد, فقلت: أللعيون فتون ? قالت: نعم كما للجنون, قلت: بالله أستعين, من شر العين, قالت: أي العيون تعني?, قلت: كل عين تضني, قالت: قصدت العين البيضاء الزرقاء الضيقة الجاحظه, قلت: أردت العين السوداء النجلاء الواسعة اللاحظه, قالت: أبِنْ لي الإضمار, فوراء قدحك نار, قلت: أعندك للضيف إكرام, قالت: نعم سوى الحرام, قلت: لا أطلب غير الاستفادة, قالت: أتستفيد من غادة?, قلت: العلم في الصدور لا في السطور, قالت: لا تخرج عن الدستور, قلت: والعافون عن الناس, قالت: إذاً لا باس, قلت: أتيتك سايلا, والسائل لا ينهر, قالت: ليس كل سائل مطهر, قلت: ما هذه المواربة في المقال, قالت: الجواب على قدر السؤال, قلت: بعزة الجمال وسر العيون, وعصر الشباب وعهد الشجون, ما الذي تقوله العين للعين, إذا اتَّحد مركز اللحظين, قالت وقد ثنتها أهواء الطرب, وحركتها نشوة الأدب: سألتني عن النبإ العظيم, والسر الكريم, فهل تصان لديك الوديعه, قلت: نعم وتحفظ عندي الصنيعه, قالت: سأنبِّئك بتأويل ما أوحته إلينا الألحاظ, لا ما روته لنا الحفاظ, فاعلم أن النفوس كامنة بها أهواء غريزية ساكنة بزواجر التكليف الديني والعقلي وهو السر اللطيف, الذي أتى لصيانته التكليف, فحرم المدام3 وأنكر على السماع4, حتى لا يبتذل فتمجه الطباع, إذ هما يتركان تعريف التكليف نكرة, ويبرزان الأهواء على أصل الفطرة, والعيون بها مستودع ذاك السر, ومنبع هذا السحر, فإذا نظرت عين ذي حسن إلى عين نفس لطيفة الروح, وسرت بينهما مراسلات اللواحظ ومغامزات البوح, تعارفا وائتلفا, وتحالفا على الوفا, وتذاكرا لذة الحديث في عالم الأرواح, وتشاكيا ألم التكليف في عالم الأشباح, وتواددا, وتواعدا, وتعاهدا على الكتمان, والتعاون عند الإمكان, وتشاكلا في الهوى نفسا وروحا, ويوحى لكل قلب من الألحاظ ما يوحى, وهذا الذي استفتيتني فيه, قد أطلعتك على خافيه.
قلت: بخ بخ لكِ من بارعة في هذه الفنون, وعالمة بمسائل العيون, فقد اتضح لي وبان, مما أبديتيه من التبيان, أن العيون هي وسائل اللذات, ورسائل الذات, فيا سبحان الله ليس هذا الذي عرفناه, وعن الكتب أخذناه, فمبلغ علمنا أن لحاظ العيون, هي سهام المنون, ومن أصيب بها صار عيشه الهني نكيدا, وعاد شقيا بعد أن كان سعيدا5, فتبسمت تبسم المفيد الملاطف, في وجه مستفيدِ المعارف, وقالت هيهات ليس من تأمل وذاق, كمن نظر في الأوراق, ولا يعرف قيمة الدر إلا من غاص عليه, لا من أهدي إليه, وأنت قرأت أحرفاً مسطوره, وأسطراً مزبوره6, فأعجبتك نفاسة الكلام, وبلاغة النظام, فطرت فرحا, ومشيت مرحا, وزعمت أن ذاك هو الغزل والنسيب, وعددت نفسك أديبا أريب7, ولم تميز المقال المصنوع, من الخيال المطبوع, فكنت كالآكل من الشجرة, وهو يجهل أصل الثمرة, فليس الخُبْرُ كالخَبَر, ولا الإدراك بالسماع كالإدراك بالنظر, والعاقل الكامل من ترقَّت همته عن رتب الأخذ بالسماع إلى مقامات الكشف بالعِيان, وتلقي فنون الغزل عن عيون الحسان, وحدَّث بما رأى لا بما روى, ودخل مدينة الرقة من باب الهوى. وإن صادفه من التصانيف ما رق وراق, واستعذبت سُلافتَه الأذواق, وكان مُعرِباً للمعاني, ومطرباً كالأغاني8, بحث بفكرته عن أساس بانيه, ومدارك مبانيه, ليعثر خياله بأصل الخيال, ويذوق لذة ذاك الجِرْيال9, وأنت إن عُجت على موارد الجمال10, تكن مشغول البال, وإن طالعت في كتاب, تمرُّ مَرَّ السحاب, وهذا الذي أوهمك أن لحاظ العيون, هي سهام المنون, لأنك حفظتَ وما ذقت, وسمعت وما نظرت, وفاتك التأمل لما ورد عن عشاق العيون, وكيف تراهم يشكون و يشكرون, وإن أطالوا الشكوى من النحول والسهاد, رجعوا بالتعنيف على اللوام والحساد, وكيف حُسدوا إذا لم يكن ذاك نعيم, ومقام كريم, وإنك لتعهد, أن خير الناس من يُحسد, وأما ما تسمع من التهويل في الكلام, وتشبيه الألحاظ بالحسام, وسهام الحِمَام11, فذاك للتذكير لا للنكير, وللترغيب لا للتحذير, وإنما غالطتْ بذلك الأذكياء, ليبهموا الأمر على الأغبياء, لأنه يَجِلُّ عن أن يذقه ذليل لئيم, وقد أرشدتك فذق إنك أنت العزيز الكريم.
قلت: لقد أفدت بما عز, وحللت طلسم رصد هذا الكنز, وأبنت لذة كانت خافية, وألنت فكرة كانت جافية, ومننت عليَّ بالإفاده, فلك الحسنى وأزيد الزِّياده, فهل لا ينكرن الحسان على نظر العيون إليهن, وهل لا ينفرن من ملاحظة الجفون لهن?, قالت: أتراك تريد الاطلاع, على ما وراء القناع, فأنا كاشفة لك النقاب, ورافعة عنك الحجاب, فاعلم أن لكل نفس ميلاً إلى الهوى بالطبع الغريزي ولا يردها إلا زاجر العقل أو الدين, وحظ النساء فيهما قليل كما ورد عن التنزيل وجاء عن الأمين12, فهن إليه أمْيَلُ بالطبع اللطيف, وأضْيَعُ عهداً لأمر التكليف, فأية خَوْدٍ13 رزقت نصيباً من الجمال, تميل لعرضه على أبصار الرجال, لتختبر حظَّها من صنع الله البديع, الذي لم يوجده في الجميع, فإذا برزت الحسناء من خدرها إلى مسارح اللمحات, ومرامي اللحظات, أرسلت رائد الطرف يتوسم الصُّوَر, ويتفرس نفوس البشَر, فإن نظرَتْ فظا غليظ القلب, لاهٍ عن دواعي الحب, صرَفتْ نظرها عن صورته, ومرَّتْ وتركته في غفلته, وإن لمحت متبصرا نقَّادا, ومتغزِّلا مُنقادا, وأمنت عين عُتلٍّ زنيم, وهمَّاز مشَّاء بنميم, تلطَّفت في تعريض إشارات حسنها لدقيق لمحاته الخفية, ورقيق لحظاته السرية, ومتى ما استشعرت باستحسانه المنحة, وأسَرَّ الهوى ما أسرَّ في تلك اللمحة, تغازلا, وتراسلا, واجتنيا لذَّة السِّر المصون, من مغازلة العيون, والغافلون عن ذاك المقام, إن هم إلا كالأنعام, قلت: لله درك, ما أطيب طيبك ونشرك14, فأعلميني حكمة نفور ذوي الجمال, من المشيب والإقلال15, فقد تواترت بذلك الأخبار, ونطقت به الأشعار, قالت: أهذا تجاهل عارف, قلت: بل تطلُّبُ معارف, قالت: واهاً كيف يجتمع الهوى وداعي الوقار16, والتصابي وشاغل الافتقار, ولكن ربما تشَفَّع للإقلال الجمال البديع, وأما المشيب فليس له شفيع, وإن تشَفَّع له شفيع الإضطرار, فباطن الحال إنكار, قلت: أفهل يشترط في وجود الهوى فيهن وجود الجمال, أم يوجد الهوى عندهن على أي حال?, قالت: اسمع أُخَيَّ: أما اللذة فشرط وجودها الحيوانية, والهوى شرط وجوده الإنسانية, وبقدر الاستعداد, يكون الإيجاد, والأنوثية أكبر استعداداً وأكثر, ومنها يكون الهوى أظهر, فكل أنثى تميل إلى الهوى بالطبيعه, ولكن إن وَجَدَتْ شفيعه, وشفيع الهوى الجمال, المشوب بالدَّلال, وبمقدار تمكنها من ذاك الشفيع, يكون لها الهوى مطيع, واللآئي يَئِسْنَ من الجمال, فليس لهن في الهوى آمال, إلا تعرضا لذوي الشهوات الحيوانية, واللذات الجسمانية, وربما غالطت من قبح ما فيها وملح ما يلوح, فالتمست بما لاح استرواح الروح, وهذا جواب سؤالك, فأثبته في خيالك.
*طه أحمد
3 - يونيو - 2007
السر المصون في مغازلة العيون 2    كن أول من يقيّم
 
عندها صقلت مرآة لبي, وتتابعت الهامات قلبي, وقلت: قد فهمت ما شرحت, وعلمت ما أوضحت, وبسرك سأدرك من رقة الطبيعه, ما لا يدركه عمر بن أبي ربيعه, فلما أحست بإقبالي, وآنست استحصالي, تبسمت تبسم الحكيم إذا أصاب, والكريم إذا أثاب, وقالت دع ما فات, وتيقظ لما هو آت, وإن ضللت فسلْ بصير17, ولا ينبئك مثل خبير, فرحت ضالا في تيه الأفكار, أحاول الهداية لتلك الأسرار.
ولما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود, وتشتت ما في البيوت وتبدَّد, خرجت أدور وأرود, وأتطلب موارد العيون السود, فصادفتُ غانيةً تسير, كأنها البدر المنير, فأرسلت طرفي اختلاسا, وتطلبت لحظها التماسا, وحاورت لمحات الأجفان, حتى التقى الإنسان بالإنسان18, فمكرت مكرا كبارا, وأسررت الهوى إسرارا, واغتنمنا فرصة اللذات, والناس من حولنا كالأموات, فسعيت إلى أستاذتي, لأعرض قصتي, ولما صرت خلف الستر, وتوصلت إلى الخدر, قابلتني أوانس المسرة, وقربت من تلك الحضرة, ورفعت إلى المقام الأسنى, فكنت كقاب قوسين أو أدنى, فأديت من الشكر الواجب والفرض, بلثم الأذيال وتقبيل الأرض, ولما زالت الدهشة, واستأنست الوحشة, شرعت في عرض حالي, وشرح ما جرى لي, فتهلل وجهها واستهل, وقالت سوف يكون وابل هذا الطَّل19, فخبرني ماذا رأيت في العين, عند التقاء اللحظين, قلت: رأيت أمرا جليلاً لا يكيَّف, وشيئاكميناً لا يوصف, فأريد من أفضالك, كشف ذلك, فأقبلت علي إقبال الطروب على المطرب, والأديب على المعرب, وقالت: سأبوح لك بهذا السر المصون, الذي لاح لك في مغازلة العيون, فهذا الذي رأيته هو الذي من أجله أجالت الفحول جياد الأفكار, في ميادين الأشعار, وشببوا بليلى ولبنى, ليذوقوا لذة تلك20 المعنى, فمنهم من ذاق ومنهم من كاد, ومنهم من اهتدى ومنهم من حاد, وكم تطلبه قوم بمباشرة الأشباح, فراحت منهم الأرواح,  وهو النعيم المقيم, والملك العظيم, فأرني بمقالك, مكانه من خيالك, قلت: خذي جني غرسك, وانظري ضوء شمسك, وأنشدت:
مغازلة العيون ألذ طعـما   و أحلى من معاطاة السُّلافه 21 
وبين مراسلات اللحظ شيء   كمين لا تعادله الخلافــه
 فقالت: أراك قد عثرت بالمقصود, ولكن إن استزدت نجود, قلت: إني أستزيد لأستفيد, فلا تحرميني من تعريفك المفيد, قالت: اعلم أنه لا فضل للإنسان على باقي الحيوان إلا بإدراكه المعنويات, فمن طلب اللذات بمباشرة المحسوسات, ألحق بعالم البهايم والسباع, وإن كان ذا قول فصل وأمر مطاع, ومن هداه الله من الحيرة, ونظر بعين البصيرة, وذاق الأمور بالذوق السليم, تلذذ بسر معنى ''لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم'', وإن سألتني التقريب, فإني أجيب: كم بين من طلب طعاما نفيسا فملأ وعاه, وشرابا لذيذا فشرب ما اشتهاه, ومحبوبا جميلا فنال مناه, ثم أزعجته التُّخَم, وأقلقه الفتور والألم, وبين فَطِنٍ لطيف, وغَزِلٍ ظريف, تتبع موارد الحسان, وغازل العيون والأجفان, ورآى من سواد العيون أبدع صبغه, صبغة الله ومن أحسن من الله صبغه, فهذا هو الموحد بلسان الخلاعه, والمخالف بنية الطاعه, والجاني ثمار اللذات وليس بجان, والمقتبس نور اللذات22 من شمس المعاني, والراتع في رياض تجليات ذاك السر المصون, وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون, وها قد أنبأتك بما لم تحط به خبرا, وأريد أعلم قدر إدراكك له شعرا, قلت: إي وأبيك, اسمعي ما يرضيك, وأنشدت:
مغازلة العيون هي النـــعيم   يراها من له ذوق سـليم
و من يطلب وصال الغيد صرفا   بلا غزل فذاك هو البهيم
فقالت: بأبي من راح يرق فذاب, وأرشدناه فسبق إلى الباب, فانح نحو هذه المسالك, فأنت أهلا لذلك, فشكرت رب البيت, وأُبت من حيث أتيت.
 واقتفيت الأثر, ففاق الخُبرُ الخَبَر, وبدت لي سرائر السر المرموز, وذخائر تلك الكنوز, ليوم كنت بحانوت عطار, إذ مرت بي ذات إزار, فغازلتها فأبدت شواهد الإنكار, فرابني ذاك الإضمار, وأمعنت النظر زياده, فإذا هي أستاذتي الغاده, فلحقني من الخجل والوجل ما لحق إخوة يوسف عند لقياه, وقلت لا حول ولا قوة إلا بالله, فلما أبصرت شاني, وما علاني, أقبلت نحوي وقالت: لا تثريب عليك اليوم, وحاشاك الذم واللوم, فنحن أدرى بحالك, وبمذهبك وانتحالك, فزرنا في الظلام, وذرنا والاحتشام, فشكرت ومدحت, ورحت حين حان الوقت, ولما لبيت مناديها, وحللت ناديها, أجملت التحية قولا وفعلا, وجعلت المقام أهلا وسهلا, ورفعتني مكان الأعزة الأحباب, فتواضعت تواضع الروض للسحاب, وتجاذبنا بأطواق المحاورة, في المسامرة, فقالت: قد شاهدت منك اليوم ما أوجبني الاستقصا, عن مقامك الأقصى, فهل ذاك منك فكاهة الأذواق, أم عربدة الأسواق, قلت: حاشا لمن منك يستفيد, أن يكون عربيد, بل ما نظرتيه, فهو الذي غرستيه, قالت: نِعْمَ ذاك, فعرِّفني هل سبرت شيئا من أحوال ذوي الجمال, قلت: إي وقلت في ذلك مقال, وأنشدت:
ومن لم تستند من الغواني   إلى رسل اللواحظ و الفراسه
تكون بليدة أو ذات عيب   خفـي أو تميل إلى الخساسه
قالت: أراك تفقهت في هذا الدين, واجتهدت حتى حكمت عن يقين, فأفديك من فتى أفتى ومالك في المدينه, وقضى على المِلاَحِ بلبس الزينه, فوحق أحمد وابن إدريس, لقد أصبحت إمام هذا المذهب النفيس, قلت: بأبي حنيفة التي وجدتني ضالا فهدت, وأهلا فاعتنت, قالت: على اعترافك قد شكرناك, ولكن أنى لك ذاك, قلت: اسمعي أبياتي, تعلمي آياتي, وأنشدت:
وكل مليحة بالطبع تهــوى   و يعجبها مغازلة العيـــون
أنا أدرى بهن من المربِّي    إذا ما جئت من قبل الجفون
فمن ربَّى يرى ما كان باد   ويُكشَفُ لي عن السر المصون
فقالت: لا فض فوك, ورُحم أمك وأبوك, قد أبدعت إذ أنشدت, وأقنعت إذ أسندت, فبأي سير سرت حتى اهتديت, قلت: بهذا اهتديت, وأنشدت:
إذا الحسناء ذات الدل مرت   تغازل بالحواجب و اللواحـظ
بعثتُ لخُبْرِها جاسوس لحـظي   يَرودُ حمى لواحظها اليواقظ
فيأتي مخبرا عن كل ســـر   ولكن للوفا والعهد حافــظ
قالت: لقد علمت من أين توكل الكتف, وكيف تجني وتقتطف, وأريد أعرف قوى ذوقك لتلك اللذات, ودرجة ما بلغت في هذه المقامات, قلت: قري عينا واسمعي, تعرفي ما معي, وأنشدت:
و يوم لا تغازلني عيــون   و لم أنظر مراسـلة أموت
كأن سهام ألحاظ الغواني   ذوات الدل للأرواح قوت
فاستخفها الطرب, وصاحت ياللأدب, وقبلت راسي,{....}23, وقالت: قد أطربت بالمثالث والمثاني, وأنعشت بسَلْسَل تلك المعاني, وإنما لو أنت كاف كأنَّ لام24, لكانت أجمل تجريدا وأرقى مقام24, ولكن قد سلكت الطريق وبقيت عقبة ستهون, وتحظى بنتايج ذاك السر المصون, فقلت: باتجاه قلبك, و إمداد أسرارك, نحظى إن شاء الله ويهون علينا ذلك, قالت: أنا متوجهة إليك بكليتي ومقبلة عليك, ومخلصة لك فيما ألقيه إليك, فأحْسِن الاقتفا والاتباع, تكن تميميَّ النسب والطباع, فدام لك شكري ما دامت الأيام, ونسأل الله تعالى حسن الختام, ثم قمت وقامت وطوينا ذاك البساط, وقد علانا ما علانا من الأنس والنشاط, وتعاهدنا على حفظ الوفا والعهد, وودعتها بتقبيل ظهر اليد, ورحت أسأل الله التوفيق وأرجوه, وألتمس الخير من حسان الوجوه, انتهى, وقال مؤرخا إنشاءها:
مقامة إنشاءها    تاريخه تمت وتم    1286 . 
*طه أحمد
3 - يونيو - 2007
الحاشية    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الحاشية:
ـــــــــــــ
 
1- القتام: الغبار
2- قال شاعرنا الأستاذ زهير ظاظا وهو الفطن اللقن: حنيفة هو اسم الفتاة التي يحاورها التميمي في المقامة, وقد ضمَّنه في لغز, وهو قوله: كاملة حسنا وعقلا, بارعة خبرا ونقلا, تشتمل بالتذكير على وصف ملة إبراهيم عليه السلام, وبالتأنيث على شطر كنية إمام الإسلام. اهـ قلت: وقد وجدت مصادق هذا في قول التميمي في آخر المقامة  مخاطبا هذه المرأة مقسما بأبيها:''..قلت: بأبي حنيفة التي وجدتني ضالا فهدت..''
3- المُدام: الخمر
4- لعلها : وأنكر على {أهل} السماع.
5- وذلك كقول الشاعر وهو محق:
 
كلُّ الحوادث مبداها من الــــنظر   ومعظم النار من مستصغر الشّـَرر
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها    فتك السهام بلا قوس ولا وتــــــر
والعبد ما دام ذا عين يقلــــــبها    في أعين الغيد موقوف على خطر
يسرُّ ناظرَه ما ضرَّ خاطــــــــره    لا مرحبا بسرور عاد بالضّـــــَرر
 
6- مزبورة: مكتوبة
7- كذا بالأصل
8- فيه تورية وهو يريد كتاب الأغاني للأصبهاني
9- الجريال: الخَمرُ الشديدة الحُمْرة
10- عاج على المكان: عطف عليه
11- الحِمام: الموت
12- يشير إلى شهادة المرأة في القرآن, وحديث مسلم في صحيحه.
13- الخَوْدُ: الجارية الناعمة, والفتاة الحسنةُ الخلقة.
14- النشر: الريح الطيبة
15- الإقلال: الفقر
16- تريد الشيب
17- كذا بالأصل
18- الإنسان هنا هو إنسان العين وهو المثال الذي يرى في السواد
19- الطل: أخف المطر والوابل المطر الشديد, ولعل الصواب أن يقال: وسوف يكون وابلاً هذا الطَّلُّ .
20- كذا بالأصل
21- السُّلافة: الخمر
22- كرَّر لفظة اللذات مرتين, ولو استعمل مرادفا غيرها كان أليق بالمقامة وأجود.
23- لم أهتد إلى الكلمة بالأصل المخطوط
24- كذا بالأصل,لام, ومقام.
                                                             
وصف المخطوطة:
 
اعتمدت نسخة المكتبة الأزهرية الشريفة, وهي من إحدى عشرة ورقة تنتهي المقامة في الورقة الخامسة عليها بعض التعليقات القصيرة على هوامشها في شرح بعض الغريب, وبعدها قُيد موشح أندلسي نظمه '' الأديب البارع الشهير الشيخ عثمان مدوخ مدرس النحو بالمدارس المصرية تهنئة بعيد الأضحى لسدة الدولة التوفيقية السنية'' وبعده قصيدة  أخرى له في مدح منصور باشا ناظر الأوقاف والمعارف لذلك العهد, وتهنئته بالعيد, وبعده ثلاثة تقاريظ لثلاثة  فضلاء من البلاد المصرية يثنون فيها على الشيخ عثمان مدوخ هذا وتهنئته التعييدية, ويختتم المخطوط بنقل فصل في صفة الشهود ومن لا يجوز الحكم بشهادته من كتاب كشف الغمة. وقد نقل لنا شاعرنا أبو الفداء وصف المخطوطة كما ورد في الملحق الخامس من ملحقات فهارس المكتبة الأزهرية, هذا نصه:السر المصون في مغازلة العيون، وهي مقامة أدبية للأديب محمد أفندي وهبي التميمي، من رجال أوائل القرن الرابع عشر الهجري، أولها بعد الديباجة: نشأت أعرف العيون هي المقل التي تنظر الخبز والماء والأرض والسماء.... فرغ من إنشائها سنة 1286هـ: نسخة في مجلد بقلم معتاد، بآخرها قصيدة للشيخ عثمان مدوخ مدرس اللغة العربية بالمدارس بالقاهرة سنة 1293هـ نظمها في تهنئة منصور باشا ناظر الأوقاف والمعارف المصرية سابقا بالعيد، وتقاريظ ، في عشر ورقات، ومسطرتها مختلفة " 25 سم" ورقمها (5822) 62441
 
 
 
*طه أحمد
3 - يونيو - 2007
شكر وامتنان    كن أول من يقيّم
 
وشكرا لبديع الزمان على استجابته الكريمة، سلمه الله وأرضاه وأسعدنا بلقاه.
*زهير
3 - يونيو - 2007
تصحيح اسم الأديب كاتب مقامة "السر المصون في مغازلة العيون:    كن أول من يقيّم
 
يرجى تصحيح اسم الأديب الذي كتب هذه المقامة الأدبية وهو الشاعر الفاضل محمد بن أحمد الخطيب التميمي الداري الخليلي، وهو ابن الشيخ احمد التميمي مفتي الحنفية في الديار المصرية في عهد محمد علي باشا، وله مقامة أخرى غزلية مطبوعة في مطبعة المقتطف سنة 1888م تشبه مقامة "السر المصون في مغازلة العيون" ومن هنا جاء الالتباس بأن المقامة مطبوعة. أيضا له ديوان شعر مطبوع بعنوان "ديوان الصفا". وذريته وأحفاده لايزالون أحياء يرزقون.
انظر مجلة المقتطف المصرية الجزء الرابع من السنة الثالثة عشرة صفحة 280 و كذلك مجلة الرسالة المصرية العدد 108 صفحة 1208 سنة 1935
عبدالرحمن
29 - مارس - 2008