البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0    قيّم
التقييم :
( من قبل 10 أعضاء )

رأي الوراق :

 عبدالرؤوف النويهى 
30 - أبريل - 2007
عبر سنوات طويلة ،شاركت المرأة العربية المثقفة  بإبداعاتها المتميزة الرصينة الراقية  فى مسيرةالفن والأدب والفكر العربى ،ولم تقف مكتوفة الأيدى ، بل كانت شاعرة وناقدة وقاصة وباحثة فى مجالات العلوم المتنوعة ومناضلة فى المعترك  السياسى وناشطة فى الميدان الإجتماعى ، وبرعن براعة، تأخذ بالألباب وتسكر العقول 0فى أحضانهن ترعرعنا ،وعلى أيديهن تعلمنا ،وإليهن كل التقدير والإحترام 0
لن أنسى مارى زيادة وبنت الشاطىء ونازك الملائكة وفدوى طوقان وجميلة بوحريد ولطيفة الزيات وأم كلثوم وفيروز ومئات الأسماء المشرقات فى سماء وطننا العربى الكبير 0
 فليكن هذا الملف تذكارا  لإبداعهن ، وتقديرا  لدورهن ، وعرفانا بفضلهن على مدى الأجيال0
 5  6  7  8  9 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (1)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
محاولة منى ...أرجو أن تنال بعض التوفيق،فقد اهتممت براوية الأستاذة /ضياء العلى ،قرأتها أكثر من مرة .وخربشت بسطور قليلة محاولاً اختراقها وفهم مكنوناتها ،ولعلنى أكون قد لمست جزءً من خباياها .ونظراً لتناثر الرواية فى ملفها (البنت التى تبلبلت) وما يعانيه القارىء من تواصل مع النص ،فتفتق ذهنى لجمعها وحدة واحدة ، حتى يتسنى قراءتها  دون وجود ما يقطع التواصل .
وقدمتها بما جادت بها قريحتى من تنويعات  .................................................لعلها  تقول شيئاً  على هامش هذه الرواية الفارقة.                                                 
                                                                    عبدالرؤوف النويهى
 
تنويعات على لحن الغربة والترحال

 
هذه تنويعات على لحن الغربة والترحا ل ، للبنت التى تبلبلت ، أزعم أنها تنويعات على لحن أصيل،مجرد نغمات نشاز قد تألفها الأذن أو تأباها ، وقد تنسجم قليلا  مع اللحن الرئيسى أو تشذ عنه وما أنا إلا عازف مبتدىء ،وكنت فى سنى الأولى والمبكرة أعزف على البيانو  سوناتات لكبار الموسيقيين العالميين ( الأعظم بيتهوفن  ، وموتسارت ، وشوبان 0000) وتوقفت طويلا وطويلا جدا وشغلتنى الحياة والأولاد وطلب المعاش والسعى على الرزق والتنقل بين البلاد والعديد من المحاكم ، والأبحاث الفقهية والقانونية والدراسات العليا، ونسيت ماكنت أهواه واشتاقه وأحرص عليه وضاع وأصبح ذكرى  ، لكن أذ نى تهوى السماع وأصبح بيتهوفن وسيمفونيته التسع وأعما له المتنوعة خير سلوى وخير معين 0وأقول ولعل الصواب  يعاضدنى ويسا ندنى0 أن   البنت التى تبلبلت ، هى البلبلة الصداحة ، إن صح القول ولم أخرج على ثوابت اللغة ، أرجو أن تتقبلها منى بقبول حسن ، إن أصبت أو جانبنى الصواب 0وكما ثبت فى اليقين ، أن من اجتهد ، فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر .
مفتتح
 ليست السيرة الذاتية سوى العودة للماضى والبحث عن تجربة حياة ، وحصاد الذكريات، والتفاعل الخلاق لمسيرة العمر عبر سريان الزمن، وما نجم عن الإحتكاك مع الواقع المعايش وما شكله من تحقيق أحلام وإنتكاسة آمال ، وما علا من شأن وما سقط من قدر0وقد تختلف السيرة الذاتية عن الذكريات عن الإعترافات ، وزعمى أن كل واحدة تشكل تجربة كتابة ، كل منها لها وجودها وحدودها ، يشترك الجميع فى أنها عن شخصية واحدة ، ولكن تخلتف فيما يبتغى السارد سرده ، ومراده ومأربه ، بل أن الكتابة عن الذات لصيق بها الصدق والأمانة والحقيقة بل والدقة والوضوح ، ورغم هذا الإلتزام الأخلاقى وما يلقيه على عاتق السارد من حقوق وواجبات ، إلا أن النسيان يعترى الذاكرة، والذاكرة قلب خؤون ،وكثيرا جدا ما يحاول السارد سد الثغرات والإلتفاف حول الواقعة المراد سردها بالتزو يق والتجميل وتخفيف حدة المظلم منها  والتركيز على صورة المضيىء فيها ، وحتى تبدو مقبولة ولا تنال من الإعتبارات الشخصية داخل منظومة القيم بالمجتمع وأطر الثقافة التى يحض عليها 0 والتساؤل الملح لماذا السيرة الذاتية ??وأزعم أن السيرة الذاتية أشمل وأعم وأوسع من مجرد الحكى أو القص وإنما  هى الكشف وإماطة اللثام عن حياة السارد باعتبارها حياة ذات وجهين ، داخل الكتابة وخارجها ، ويتجلى ذلك واضحا فى السياق الروائى والقصصى والذى لايقل فى الحبكة والتنظير والفنية واللغة والتصوير عن الأعمال الروائية الخالدة والتى لازالت ترسم المعالم وتتماهى مع و اقع  لم يكن موجودا حال كتابتها ، وكأنها بخلودها على مدى السنين ،  تؤكد لنا وبما لايتسرب إليه الوهن،عظمة الفعل الروائى والإحساس المتنامى نحو الإمساك بتلابيب الحقائق وكلما قرأناها تزداد أهميتها بداخلنا لما  فيها من استبطان للغامض والمستور من نفوسنا وما تهدر به عقولنا  , ويبين بجلاء إختيار السارد لمحطات حياته والأحداث التى تشكل مسيرته والمؤثرة بوقائعها سلبا و إيجابا ،والشخصيات المنتقاة وبدقة متناهية من وسط العديد التى مر بهم وشاركوه الكثير من أحداث الحياة وتفاعلاتها ، جمالها وقبحها ، حلوها ومرها ، إنتصاراتها وهزائمها ،أى الحياة بعمومها 00000
شكوى القلب الأخضر
    والرواذاتية  (الرواية والسيرة الذاتية )والتى تفضلت الأستاذة / ضياء000 وعبر إثنى عشر رسالة ، ومذكراتها الإثنى عشر ، ترويها بصوتين مختلفين ،فالرسائل    يتضح فيها عمق التجربة وسيطرة اللغة الرصينة  وخبرة العمروالغربة والترحال والحلول بوطن غير الوطن  ،والتمرس فى الإمساك بالحقائق و القبض على واقع يكتب عنه بعد ما يقرب من عشرين سنة ، إنها المرأة التى فهمت وأدركت وتغربت إنها الواقع بدون رتوش أو تزويق أو أوهام ,وما صفاء إلا ضياء0 إنها شخصية واحدة ، إنها تحكى لنفسها تاريخها المستعاد ، وتثور على الماضى وتضع داخلها على طاولة التشريح وتفككه ((الكشف عن أشياء صحيحة ، لم يكن باستطاعتى الحديث عنها ، لولا الرغبة القوية بالمجاهرة بالحقيقة الداخلية للإنسان ، وتفكيكها إلى عناصرها البسيطة الأولى 0000بها يستقيم الميزان ))))ضياء 21/3/  2006 ،بل عناوين الرسائل يشى بالتساؤل والمراجعة لما مضى من  أيام وأحداث وشخصيات ،((( مراهقة فى العشرين ، الحب المستحيل ، الحب الكبير ، حب أم صداقة ،معنى السعادة ، البحث عن دولفين ينقذنى ، اليوم الشهيد ،رأسى الصغيرة ،الحقيقة عارية ، الطريدة ، طقوس الإغتسال الأخير ، دائما أبى 000000)))    وأما المذكرات واللغة المحبطة  التى حيكت بها وكثرة الألفاظ الحزينة والمهمومة والمنكسرة {وتبلبل الأشياء } ،هذه البنوتة الجميلة الرشيقة المتمردة الباحثة عن الحب وعن الأحلام المستحيلة (أنا سجينة ، القلق ، الخوف ، أحمال ألقيها فى البحر ، مرارة ، توتر عصبية ، غضب 000) ،وتبدأالمذكرات  بالإقتتال   وتنتهى بانتظار الموت ((((إنهم يقتتلون ، تقنيات اللقاء ، أين البديل، من أين الطريق ، فى حصار الواقع ، المساواة فى الجحيم ، بين الرماد والورد، فى الطريق للجحيم ،إلى الأمير المزعوم، أختار غدا ، فى إنتظار الموت  ، تهيؤات فى لحظة اكتمال الدور )))
 
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (2)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
صياح الدجاجة
إلى أى مدى يكون الإنسان صريحا مع نفسه والأخرين ?????  وإلى أى مدى يكون الوضوح والدقة ??وإلى أى مدى يستطيع الإنسان إختراق محرمات المجتمع ،وطرائق تفكيره ،ومنظومة قيمه ،ومناهل ثقافاته، وثوابت عقائده ??إلى أى مدى????????? أظن ظنا مستريبا ، أنه من الصعب والمستحيل والإستحالة أن يتعرى الإنسان العربى ثقافة ودينا ووطنا ويطرح حياته هكذا وعلى الملأ ?بل يتأكد لدى وبيقين لايتزعزع ، أن الإنسان له طوايا وخبايا تسكن بأعماقه  وترحل برحيله  0 فالقيود الإجتماعية على حرية السارد، قيود شديدة الوطأة وبالأخص على  المرأة التى ستحد تمامامن السردية لغوامض سرائرها ودفائن ذاتها ،ومهما زعمنا التحرروالتمرد على القضبان الفولاذية والحصار من الجهات الست ،فهو زعم لا يرتقى إلى الحقيقة المجردة00000 إن المرأة دجاجة وديعة لا يحق لها أن تصيح فالصيا ح للديكة ، وكل الديوك  تخجل أن تصيح ولو صاح بعضها فبقدر معلوم ، وإلا تعرضوا للهجوم القاسى والتنديد بهم وصاروا عرضا مستباحا وحيا ة منتهكة ، فما بالك  لوصاحت الدجاجة ?!! وصراع الذات هو إنتصار النفس على نفسها ، أن تفكك مشاعرها إلى عناصرها الأولية 000حتى يستقيم ميزان حياتها 00 لكنه ليس صراعا أحادى الجانب فقد يصطدم مع الآخرين  فتشن عليه الحروب ويسخط عليه الساخطون وينقم منه الناقمون 000(((( هذا هو الميزان الفطرى ، ما أردت أن أنبش عليه لكى أجده مطمورا ، تحت ركا م هائل من الأفكار والسلوك والتصورات المعقدة ، هذا هو الميزان الذى نعرف الأشياء وهو دليلنا عندما يتبلبل العقل 000ما أحكيه لن يكون وعظا 00وهو  ليس باعترافات   وهو يتطلب منى جهدا كبيرا ، لأنه يضطرنى للكشف عن أ شياء حميمية 0000)))))ضياء 21/3/2006وأزعم أن الجهد الكبير ، وهو مقاومة المألوف والمتعارف والراسخ رسوخ الشم  الرواسى ، أن تثور عليه الأستاذة / ضياء ، وتعلن حالة الحرب ،الحالة القصوى ، لهو هجوم بكل الأسلحة وعلى كل الجبهات وفى آن واحد. وتظل كتابتها هدفا مرصودا لأسنة الأقلام ، تشرح وتوضح وتجرح وتخدش صمته وتحل طلاسمه وتفك ألغازه وتزيل مبهمه ، وسيتأكد لنا من  خلال البحث المطروح، نجا ح  _ البنت التى تبلبلت _    فيما سعت نحوه وبقوة ، أو نأى عنها وبقسوة .
سيرة ضياء/صفاء

 
إختيار الشكل الأدبى التى يحتوى  التجربة الإبداعية، عبء ثقيل، ويكشف عن قدر المعاناة التى تهمين على الراوى وامتلاكه للفضاء الروائى الذى يسبح فيه ، وسيطرته الكلية على آليات إبداعه وشخوصه وبما تمتلأ عقولهم من فلسفة وعقيدة ورؤى فكرية بل كل ما يمس حياة الإنسان من أحلام وأوهام وأفكار وفلسفات وعقائد وحياة وموت ، فهو المحرك لهم وهم ينطقون بلسانه ،ويتحركون بأمره، ويحييهم، ويميتهم، ويبعدهم، ويقربهم  فهى شخصيات إنتقا ئية 0تتعدد وظائفهم عبر العمل الإبداعى وفعل الخلق لذواتهم ، ومواقع تواجدهم وأماكن وأزمان ظهورهم واختفائهم ولغتهم ، فهم يتفاعلون مع الآنا الساردة ويدورون فى فلكها وجودا وعدما ،وفى البنت التى تبلبلت ، كان الشكل الروائى جامعا لأشكال أدبية نمطية ، من حكاية ومذكرات ورسائل ، وكل شكل له قدرته وفنيته التعبيرية وضوحا وغموضا ، بل تختلف  المنطلقات الفكرية لدى كل شكل أدبى 00وعلى المتلقى وتقبله للعمل الإبداعى أن يتفاعل معه وبما يزيد من حيوية النص ، سيما وأن لذةالقراءة والإستمتاع بها تصنع وشيجة وخيطا رقيقا بين العمل الإبداعى والمتلقى / القارئ ، ليس بحسب الجنس أو النوع، وإنما بين حيوات متعددة تنتمى إلى ذات الوطن  والروافد الثقافية و وحدة الهدف واللغة والحضارة والمصير   0
وتبدأ الرواذاتية  بتوضيح للغلاظة التى أثمرت وعكرت ماء اليقين  الذى لابد من تعكيره من وقت لآخر   لكى نزداد يقينا ، وتوضيح أكثر عن البنت المشدودة بين رغبتين  ، الرغبة فى النقاء الفطرى ،والرغبة فى الحياة المعاصرة 0ثم يبدأ المونالوج أو المناجاة وأستعادة الماضى 00سيرة /ضياء  تتذكر وتبرر وتناقش وتعنف نفسها (أتذكرين )وينحصر التذكر فى الأب والأم والجدة  ومحاولة استدعائهم من الماضى ، لكن أفعالهم وتصرفاتهم  تصبح ألغازا غير مفهومة ، ربما بحكم التجربة قصيرة الأمد للراوية ، كانت التصرفات مثار تساؤل واستفهام 0
 
الوطن كان فيروز
  
 
"تبلبلى كالريح"  "البنت الرقيقة المثقفة دمثة الأخلاق ومنذورة أن
 تكون أما مثالية "0هذا فى الماضى 0أما الحاضر  " كأنك القطيع الشاردة ،مشتتة، مبعثرة، منزوعة الروح   ""لآنا الساردة تستدعى الماضى فى مواجهة الحاضر، وتعقد محاكمة فقد جاء ت اللحظةالحاسمة، ولكن لمن تعقد المحاكمة ثم من القاضى الذى يتصدى لنظرالدعوى ??????
الأب هذا السياسى الشيوعى الممتلأ يقينا بالأخوة بين البشر، الحالم بالمدينة الفاضلة(يوتوبيا )كان أمميا ، ومايراه من حرب مدمرة بوطنه ،هى حرب الرأسمالية ضد الطبقات الكادحة ، حرب تحرير وثورة إجتماعية ، يحلم بالعدل والمساواة بين البشر ،مثقف ، يكن القدسية لكل من لوركا ، أبو العلاء ، المتنبى ، الليندى، ينتقد عبد الناصر الذى نكل بالشيوعيين !!!!!!!والذين بنوا له السد العالى !!!!كان عروبيا00
هذا الجبل يبكى لموت عبدالناصر !!!!!!!! وتم تدميرمنزل الأسرة ( الحرب المجنونة) ولكنه يغنى (اوف أوف ولك معود على الفجعات قلبى )،أميرطفولة الساردة /صفاء /ضياء /سيرة لكنه يظل لغزا، واثق من نفسه وتنسحب هذه الثقة لتحيط بإبنته ،خجول ،يقول للأم وبا ستحياء شديد بإمكانك نزع الغطاء عن الرأس ، زوج رؤوم وأب حنون ومنا ضل شريف و ملتزم بالتقاليد  ومتمسك بالموروث الدينى0
الأم هذه السيدة المهمومة بأولادها والمشغولة ببيتها ، لاتعرف شيئا عن الصراع الطبقى ودورالمرأة فى التحررالعالمى ،كانت سعيدة سعادة مطلقة أن صدر الأمر من زوجها بنزع غطاءالرأس وإلى غير رجعة ،حتى تهتم  بالتسريحة الجديدة مثل   اسمهان وليلى مراد00
الجدة وهى الحريصة على  إستمرارية الحياة  رغم الدماروالقتلى والخراب والتخريب ولم يخا لجها الشك فى النهاية تقوم بزرع بذور الريحان ""بحق الخضر أبو العباس تعيش زرعتى ولاتيبس ،"""لكنها برأى الساردة تعيش الأساطير 0
الساردة /الراوية "00الحرب ،داهمتنى مبكرا أعدمتنى ماء الحياة ،إبنة الأريعة عشر ربيعا،الحرب استدامت ،حروب ،أعادتنا إلى مهدنا الأول 0000العراء 0"
الساردة ترصد الواقع المحبط الواقع  الساحق للأحلام ، لاأمل فى غد مشرق ، هناك العراءالقاسى والفاضح والمدمر ، أسرة داخل  مجتمع يتمزق بوطن ينهار بعالم متواطىء بحكام خونة  ،،، بحرب ضروس تأكل الأخضر واليابس 0000وبعينين  طفولتين و بعقل ذكى لماح   تقف على تخوم الواقع والخيال ،ترى  عالما متكاملا يلتقى فيه الوهم بالواقع ،والحقيقة بالخيال 0وكانت حكاية البنت التى تبلبلت
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (3)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
                                             الحكاية تبدأ هكذا :

سيرة " تحدث نفسها "

أتذكرين ? تلك البنت التي كنت أعرفها ! ... كانت رقيقة ، نقية ، دمثة الأخلاق ومنذورة لأن تكون أماً مثالية !... هكذا عرفتك ! فما الذي جرى لك ، لكي تتبدلي ? ما الذي حدث لك ، لكي تتبلبلي كالريح ... ? أهو الزمان من أشقاك وغير ألوانك ? وما الذي فعلتِه أنت بنفسك ، لكي أراك ، كأنك القطيع الشاردة : مشتتة ، مبعثرة ، ومنزوعة الروح  ............. ?

ستقولين : " ربما هي الحرب التي داهمتني باكراً ، أعدمتني ماء الحياة  ... أربعة عشر عاماً ،  هي عمر الورود ، إعصار الطفولة اللجوجة ، ودفق الشباب الذي لا يطيق الانتظار . لم   أرها ، ضيعتها بالانتظار ...


 كان العمرجميلاً ، والوقت كان ودوداً : الوطن كان فيروز ، والحب كان فيروز. الأهل والأصدقاء ? كانوا بسطاء ، لا يعدون الأيام . حتى حدثت الزلزلة .... ! " .لكني أنا رأيتها لما أقبلت ! هدية الزمان إليك ، لما أقبلت ، كما المهرجان ! كزهوة البستان أشرقت ، فرحت لها بذاك الزمان . ألا تذكرينها كما أذكرها أنا ? أم أنك تتناسين ? أتذكرين ? جدتك ، لما كانت تغرس شتولها بقرب باب الحديقة ? تضع بذور الحبق ،الريحان،في باطن الأرض ، ثم تهيل عليها التراب بكفيها وهي تتمتم :" بحق الخضرأبو العباس ، تعيش زريعتي وما تيبس ..."ترددها ثلاث مرات ، تزرعها في هلة القمر ، وتسقيها من بعد الغروب ،  ... كنت تضحكين في سرك وتقولين : " جدتي ، تعيش في الأساطير ! الماضي حكايات ، والحاضر ، دعاء وصلوات .... " . أتذكرين كيف كانت  شتولها بهجة للروح ? مساكب الفل والنرجس ، وأحواض البنفسج والمنتور ، كانت بهجة للروح !.... كانت تشبه أعوامك الأربعة عشرة . أفلا تذكرين ?"الحرب استدامت حروباً " ، تقولين ، " هدمتنا الحرب ! أعادتنا إلى مهدنا الأول ، العراء ! "

 صحيح ، عزيزتي ، الحرب استطالت ، وعبثاً بحثنا لها عن أسباب ، لكي نحتويها ، لكي نعقلها  . قالوا بأنها كانت حرباً طائفية . قلنا : بأننا انتفضنا  ضد مشروع الانعزالية والصهيونية .. أبي أقنعنا وقتذاك  بأنها كانت أيضاً (حرب الرأسمالية ضد الطبقات  الكادحة)  وأنها حرب تحرير وثورة اجتماعية ! كان يردد : بأنها تحالف البورجوازية مع الفاشية ، والامبريالية العالمية ضد مصالح الشعوب الفقيرة ، من أندونيسيا ، إلى كوبا وفيتنام ، حتى الجزائر والصحراء الغربية .  وكان يحفظ اسم لوركا وإلليندي إلى جانب المتنبي وأبي العلاء المعري ويتحدث عنهم بشيء من القدسية.. هو كان أممياً ، ويحلم بالعدل الاجتماعي والمساواة بين البشر ..." يا الله ! كم أحبه أبي ! أمير طفولتي ، وملهم سنواتي الأربعة عشرة . سيبقى لغزاً أبي : كان عروبياً ، لكنه كان لا يكف عن انتقاد عبد الناصر الذي" نكل بالشيوعيين " ، على حد قوله،   "مع أنهم بنوا له السد العالي " ،لكنه بكاه بحرقة شديدة يوم مات.

أتذكرين !

يوم استفقت بالصدفة ، ذات صباح ماطر، لتري ذلك المشهد الخيالي : كان الجبل يبكي ! يخفي وجهه بيده ويشهق بقوة ! يستمع إلى المذيع في الراديو الذي كان يبكي بدوره ، ويشهق هو أيضاً .... باليد الأخرى ، كان يحمل سيكارة تكاد تحرق أصابعه.. اليد التي كان يلبس فيها ساعته الفاخرة التي طالما أثارت إعجابك ! أتذكرين ?" لن أفهمه أبداً أبي ! لن أفهمه " عشرة أعوام مرت بعدها . رأيتِه مرة أخرى يتنقل، كالحجل ، بين ركام بيتكم الذي هدمته الحرب . يبحث عن بعض الصور ينتشلها من بين الأنقاض :
" أوف ، أوف ، ولَكْ معَوَّدْ على الفجعات قلبي ... " ، كان يغني !
" يبدو أنها طقوس يا أبي ! طقوس اخترعناها ونعيد تمثيلها في كل مرة لنستعيد بها الفاجعة . طقوس ، نهدي فيها القرابين إلى آلهة الموت والدمار ! "
لن تذكري رائدة الفضاء السوفياتية . لكن أمك سوف تذكرها لك بنشوة لو سألتِها عن الرفيقة ذات العيون الزرقاء الباردة التي صعدت إلى سطح القمر .
" آه يا جدتي ، لو تعلمين ، بأنهم في بلاد الرفيقة ذات العيون الزرقاء، قد أنبتوا القطن ملوناً في سفوح " التوندرا "على اسم " لينين العظيم " ، وأن تقريرها عن زيارتها للقمر يفيد بأنه كومة أحجار لا تنفع ولا تضر ."

يومها ، كان أبوك قد اصطحب أمك معه لاستقبال الزائرة الاستثنائية . كل الرفاق كانوا قد اصطحبوا زوجاتهم ......... يومها ، قال أبوك لأمك ، باستحياء شديد ، وبعد تردد طوي" بإمكانك أن تنزعي الغطاء عن رأسك لو أردت " .لم يكررها مرتين . ورغم أن أمك لا تعرف شيئاً عن الاضطهاد الطبقي ، ورغم أنها لم تعد تذكر شيئاً مما قالته الرفيقة عن دور المرأة في حركة التحرر العالمي ، إلا أنها انتزعته إلى غير رجعة ، همها كان ، أن تشبه " أسمهان " و " ليلى مراد " بتسريحتها الجديدة .

*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (4)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الفصل الأول
مذكرات (1)
إنهم يقتتلون ....
 أذكر بأنهم يقتتلون ! قذائف تتساقط فوق رؤوسنا أسمع لها دوياً في قلبي وفي صدري ........ في كل مرة طرف جديد ، وحرب جديدة . المهم أننا سوف نبقى سجناء داخل البيت مدة لا يعرف أحد منا كم ستطول . لن أستطيع الخروج أو الذهاب إلى الجامعة أو إلى أي مكان آخر . أنا سجينة ! أيامي تحترق . أذوبها كل يوم في مقادير من القلق والخوف والضجر ثم ، أتجرعها بمرارة  عشرون عاماً بلغت ، ولم أعد أرغب بالمزيد .. أيامي ، أحمال ألقيها في البحر .. كيف أقاوم هذا التوتر ? هذا الغضب ? وأحلامي المستحيلة ، كيف أقاومها ? لا أطيق نفسي ! لا أطيق أحداً من حولي.. أنانية ? بل أكثر ! أرغب بالأذية ، بتحطيم أي شيء .... " ستندمين ! " ، تقولين "بعد خمس دقائق ، سوف تندمين " . ربما ! وربما أرتاح خمس دقائق . رغبتي هي دائماً أن أبكي وأن أحطم أي شيء أمامي . هل أنا عاقلة أم مجنونة ?نفسي ، أشفق عليها وأكره ما أنا فيه .
عندما أخلو إليها ، نفسي ، أسألها أشياء كثيرة ... هي لا تعرف بماذا تجيب . هي تعرف بأنها تريد حياة أخرى غير هذه التي نحياها  ! حالتنا المادية تزداد سوءاً . أحلم بأشياء كثيرة اعتيادية ، ولا يمكنني الحصول عليها  . ليس من أمل ! أحلم بفستان من الحرير ، وجوارب ناعمة ، وأن أعقص شعري بدلال عندما أذهب لملاقاة أميري ..... حتى ولو كان جباناً ، و "لا يستاهل " . يلزمني ثلاثمائة ليرة الآن لحل معظم مشاكلي . أين أنا منها  اليوم ? العادة الشهرية تؤلمني وتستبقيني أياماً في الفراش .
 يأتيني اللحن الجنائزي من مكبرات الصوت في الخارج . إذاعة جوالة يدعون فيها لحملة تبرعات من أجل جرحى القصف الإسرائيلي في بيروت والجنوب . " أناديكم ، أشد على أياديكم
 وأبوس الأرض ، تحت نعالكم
  وأقول أفديكم .........."
  يد قوية تضغط على قلبي وتعتصره ... أرغب بالبكاء طويلاً ، طويلاً
 لو كان معي أربعمائة ليرة لاشتريت :
  جاكيت صوف رمادية ب 100
  قماش قميص موسلين أبيض ب 50
  قماش بنطلون بني ب50
  بوتين أسود ب200
  سأعود إلى أوراقي الآن .. اتركيني أنت ، "سيرة " .  دعيني وشأني فلم تحاسبينني ? هل أنت   أمي ? ثم إن أمي لا تشبهك أبداً ، هي دائماً لا تقول شيئاً ولا تتدخل بشيء . أمي ، لا تشبهك ! وأنا لا أبحث عن أم اخرى  ! سأكتب إلى " صفاء" ، هي صديقتي ، هي تشبهني . تعرفت إليها في دار المعلمين ، ومن وقتها ، لم نفترق أبداً . سأكتب إليها ، لكن ليس اليوم ، بل بعد عشرين سنة ، بعد أن أكون قد شفيت من آلامي ... هي  مثلي ، هي ستفهمني . أما أنت ? ...  فأنا لا أفهم نفسي !...
الرسالة الأولى
 
مراهقة في العشرين
عزيزتي صفاء : 
 تحياتي لك في هذا الصباح البارد هنا ، والذي قررت أن أبدأ فيه رسائلي إليك . عملت لنفسي فنجاناً من القهوة القوية ، وبحثت عن لون دافئ لرسالتي ، لعل حرارته تساعدني على التخفف من قيودي وإخراج ما أريد قوله . هو قرار لطالما أجلت التفكير فيه بانتظار حدوث معجزة ما، تغير حياتي . حياتي تغيرت بدون معجزات ، فأنا ما زلت أنا ، بكل الأسى وكل الشجن . مع هذا ، نويت أن أحكي لك حكايتي ، لعلني أستطيع ?
 يصعب علي تخيل ردة فعلك : أتراك ستغضبين ? أو ربما تفاجئك بعض التفاصيل ?  ربما تشفقين على صاحبتك كثيراً وتقولين في نفسك : " ما أتعسها ! " ، وربما تقسين علي في حكمك وتقولين : " ما أسخفها ! " . هذا ممكن ! لكنه ليس ما أبحث عنه . أريدك أن تكوني عوناً لي ، أذناً صاغية ، وقلباً يسمع... سأحكي لك بحرية كاملة ، وصدق كبير ، لأن ما أرجوه هو أن أنجح بنقل إحساس تلك الفترة كما عشتها بالذات . المسألة برأيي تكمن هنا ! في حنايا الذاكرة التي تنتقي وتوضب وتغربل الأشياء على مزاجها ، وتشيد لنا من بعدها قصوراً من الأوهام نرتع  فيها . تؤسطر لنا ماضينا وتخلق لنا تبريرات لغرائزنا العمياء . أريد أن أصل إليه ، بحقيقته الكاملة ، ذلك الإحساس الجائر الذي زلزلني ، واحتلني ، واستقر في أعماق أعماقي ، ولم يعد يبارحها أبداً . على وقع سوطه الرهيب ، وعلى أنقاض عجزي وخيبتي ، أعدت تكوين نفسي ، يوماً بيوم ، وساعةً بساعة . وها أنا من جديد ! روح حبيسة ! ... تذكار أنا للألم في بحر العذاب الشاسعة ! ... غريق في يم العناء !  فهل سينطق من في فيه ماء ???
  يبدو أنني كنت مراهقة ، لا زلت !  " في العشرين ? " سوف تقولين . نعم ! ولم أكن أعرف ذلك . كنت أظن بأنني ناضجة . لأنني تعلمت الكلام بالسياسة . ولأنني ناضلت ، وحملت السلاح ، وتمردت على المجتمع . كل هذا كان تجربة فريدة بدون شك ، تجربة قذفت بي إلى بر آخر وشطآن أخرى لم نختبرها بعد . الحرب ، أتاحت لي تلك الفرصة النادرة . ستة سنوات قضيناها في تعلم حياة جديدة أنضجت لدي سلوكاً اجتماعياً مختلفاً ، ووعياً بالمسائل العامة ، لكنها لم تنضج عواطفي التي ركنتها جانباً في تلك الظروف . أوقاتنا قضيناها في الدورات العسكرية ، وجمع التبرعات ، وبيع الجريدة الحزبية ، والخدمة الرفاقية في المركز ، ولكن وعلى الأخص في القراءات والاجتماعات ، والنقاشات السياسية  الطويلة ، الطويلة ... خلال تلك المدة ، شيعنا الكثيرين ممن كنا نحبهم : شهداء !
 كانوا يقتربون بنا من الموت . في كل مرة ماتوا فيها ، كنا نقترب منه حتى كأننا نلامسه باليد . لكنهم ، ولا أدري كيف ، كانوا يبعدونه عنا فجأة ، بحركة  بهلوانية ، يحجبونه عنا بأجسادهم ...  كانوا يختارونه بمحض إرادتهم وكأنهم ينتصرون به على ضآلة القدر الذي كنا نعيشه . كأنهم بشجاعتهم هذه يتسامقون نحو المقدس ليلتحموا معه . كل واحد فيهم كان قد ابتكر لنفسه موتاً مختلفاً ، وكأنهم قرروا تطويعه بكل الوسائل . كنا في كل دورة حياة جديدة ،  نقدم فيها قرباناً للموت ،  نشيعه على أنه اختار بأن يكون   بطلاً ، وأن القرعة قد وقعت عليه في هذا الدور لكي يجتاز الحد الفاصل بين الدوني والأعلى . واحداً تلو الآخر كان الموت يزيحهم في طريقه إلينا ، وكانت تلك الحالة من ضرورات الطقس الذي كنا نعيشه .كنت أبكيهم كالأم ! في كل مرة . بحنان يوازي قدسية الحياة . بأسف يضاهي شرعة الموت . كنت أمعن في الطقس المحرر ، البكاء ، حتى جذور الألم ، أستخرج منه شحنة الخوف والعذاب التي كنا نراكمها في كل دور . حتى الرمق الأخير ، كنت أحزن ، حتى النهاية ...
 لم أتعلم شيئاً في الحياة التي كانت تدور خارج دائرتنا المغلقة . الحياة كانت بواد ونحنا كنا بواد آخر . كنا نعيش تلك الفترة في عالمنا الذاتي كأنها أسطورة خلق لم تكتمل أبداً .
 في تلك الأثناء ، كنت أندفع بكليتي نحو ذلك الهدف الذي كنا نأمله ، وهذا يشبهني تماماً ، أن أضع كل طاقتي وتركيزي في السهم الذي أطلقه لكي يذهب إلى أبعد نقطة ممكنة ، وأنسى كل الباقي .  تلك الفترة كنت أعيشها بنقاء شاعر يكتب ملحمة كبرى سوف تغير مجرى التاريخ .
  في مساحتي الحميمة ، بقيت خاماً بالمعنى الحرفي للكلمة . لم أغامر في هذا المجال ولا بلمسة يد ، يردعني عن ذلك قليل من العنجهية ، وكثير من الخجل ، وجملة تلفظ بها والدي يوماً وهو يراني أغادر البيت . كان قد كررها بالإيحاء دوماً ، لكنه يومها قالها صريحة وبالعربي الفصيح :
  " أنا أثق بك يا بابا ! "
 هذ الكلمة ، حمتني طويلاً من طيش المراهقة ، لكنها أثقلت جناحاتي بما يشبه الأوزان . تمنيت أحياناً بأن أنساها . تمنيت أحياناً بأن أبحث لها عن تأويلات تخفف من وقع خطواتها التي كانت تلاحقني وتتجسس علي . ليس من سبيل ! كان يحكي بالعربي . وبالعربي ، ليس لها إلا تفسير واحد لا يقبل التأويل . بذلك ، تحولت تلك " الحرية " التي منحني إياها والدي ، بالذهاب والإياب ، وممارسة العمل السياسي ، منحني إياها بكرمه الخاص وعقليته الخاصة ، تحولت إلى قلعة كأنها السجن ، عليها حارس اسمه الخوف : الخوف من أن أخون هذه الثقة ، الخوف من أن أعمل شيئاً لا يعجب أبي ، الخوف من الابتذال .
 ربما ستفهمين أنت ما أعنيه صفاء ، لأنك مثلي عاطفية ومكابرة . لأنك مثلي من بيت حملنا أوزار التاريخ والقبيلة  وأشعرنا بأننا أقرباء الأنبياء والقديسين . ولأنك مثلي لك أهل أرادوا بأن يتمدنوا فلم يعاملونا  كالولايا ، إلا أنهم ظلوا خائفين علينا من صيت البغايا ، فتحولنا نحن بهذا إلى " جان ? دارك " على طريق الحرية والتمدن . قمعنا أنوثتنا المخيفة داخل عباءات النضال ، أو ركناها جانباً في كهف حريتنا الموعودة ، زمناً اختبرنا فيه قدراتنا الذكورية : القدرة على الفعل والتأثير المباشر .  تحررنا ، دون أن نلطخ قدسية الانتماء المتعالي على كل نفعية .  الهدف ، جعلناه متعالياً حتى يوازي قدسية الانتماء .
 لكن ، في ذلك اليوم الذي سوف تستيقظ فيه تلك الأنوثة ، وتلك الرغبات " الدونية " التي تأباها "القبيلة" ، ويرفضها " التاريخ " ، وتستعر منها " الأنا المثالي " فكيف نفعل ?????
 سوف اتوقف هنا اليوم ، عزيزتي ، وأعود إليك قريباً . فإلى اللقاء
 
 
 
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (5)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الفصل الثانى
مذكرات 2
تقنيات اللقاء
 
 لا أقرأ ، لا أدرس ، لا أعمل ، لا أرتاح ، لا أحلم . أثرثر قليلاً ، وأضجر كثيراً  كثير....االيوم ، رأيت أميري !  يا للنكسة ، ماكان أتعسه من لقاء.ما أتعسني في هذه الحكاية ! أنا لا أفهم هذا الإنسان : طلب بأن يراني ويتحدث معي . ولما ذهبت   للقائه ، صار يناقشني في أوضاعي ، ويحدثني عن دراستي . طلب مني بأن لا أترك  " دار المعلمين "  "هو أضمن من الجامعة " برأيه . نصحني أيضاً بأن أعمل دورة إنكليزي ، الفرنسي لم يعد نافعاً ، قال .......... استمعت إليه بضجر .... لا أعرف كيف يفكر هذا الناصح ، يختلق الأعذار لكي يراني ، ثم ما أن نصبح معاً ، حتى يبدأ بتصنع دور الفقيه العالم . لا يبادلني شيئاً من اللطافة ! ولا أي كلمة حلوة ترضيني . يكلمني كأنه أبي ! هو أكبر مني بعشرة سنوات ، لكنه ليس أبي . لست بحاجة لأب آخر ?
 
  أنا  بدوري ، لا أبدي شيئاً من اللطف نحوه . أستمع إلى وعظه دون حماس ، أعامله بجفاء وتحفظ بينما أنتظر منه الكثير الكثير من الحب , هذا سخف ، أحلم بالمستحيل !
 
  اليوم بعد الظهر ، توترت الحالة الأمنية من جديد ، قاموا بتفجير ما كان مكتباً لقوات الصاعقة بالقرب من بيتنا ، ثم توتر الوضع الأمني على إثرها ... هذا يعني حبس في البيت إلى ما شاء الله... لا أعلم كم من الوقت سوف أنتظر لكي أراه من جديد .
لما كلمته ، في هذا الصباح ، سألني متصنعاً المزاح ، إذا كنت قد اشتقت إليه ? 
  ـ " لا ، لِمَ ? " قلت بتعجب . 
  كنت قد انتظرت خمسة أيام قبل أن أكلمه ، حتى تفتق ذهني عن حجة لا يمكنه أن يشك فيها إطلاقاً . هكذا حسبت . إلا أنه قال بأنه يريد بأن يراني ،" لي معك حديث " قال .
 ـ " لا أرغب بالخروج " ، أكدت . ثم، لا أعرف كيف غيرت رأيي  وذهبت للقائه في نفس الساعة .
 أنا أغبى واحدة على هذه الأرض !
 
الرسالة الثانية
الحب المستحيل
عزيزتي صفاء :جئت اليوم ، لأكمل إليك ما بدأناه من حديث . آتيك دائماً في الصباح مع ركوة القهوة التي أبحث لها عن مكان ، منذ عشر دقائق ، فلا أجده ، بسبب هذا الكم الهائل من الأشياء غير الضرورية المركونة أمامي على المكتب ...........................................................................................
كنت قد أصبحت بالعشرين ، وكانت الحرب من حولنا لا زالت تبدل أثوابها و تبدي لنا في كل يوم تشرق وتغرب فيه الشمس ، جانباً من وجهها القبيح  . ومع أن ما سأحكيه لك هو قصة حبي الأول والتي لا ترتبط مباشرة بالأحداث الدائرة ، إلا أن مزاجي وتحولاتي ، وما تبدى عني من انفعالات ، هو وليد ما كان يحيط بنا من ظروف كانت تنسج من حولنا كخيوط العنكبوت .
لم أعد أذكر بالتحديد كيف نشأت هذه العلاقة الملتبسة . كأنها كانت قد بدأت من دون انتباه مني ? ...... لا شك بأن الإعجاب كان الأسبق فأنا كنت أعرفه منذ زمن طويل ، دون أن أفكر فيه ، أو أن يخطر ببالي بأنه من الممكن بأن تنشأ بيننا علاقة ما أياً كان نوعها . كان صديقنا ورفيقنا منذ وقت طويل ، وكانت خطيبته صديقتنا . المدينة كلها كانت تعرف قصة  حبهما التي كانت قد استطالت عشر سنوات بدون نتيجة . الحرب والضائقة الاقتصادية حالت دون زواجهما . كانا يعيشان علاقتهما  بحرية ، وهو ما كان وجه الاستثناء بالنسبة لجيلهما ، ومع أن هذا النمط من العلاقات كان مقبولاً في دائرتنا الخاصة ، إلا أنه كان مستهجناً في مدينة محافظة كمدينتنا .
 
لم يكن الإعجاب الذي كنت أكنه له في السابق حباً ، لكنه ساعد على تأسيس الوهم الذي اخترته لنفسي وبنيت حوله صرحاً من المبالغات، حول : شكله ، دماثته ، أخلاقه ، وذكائه المنقطع النظير ، ولكن خصوصاً حول طيبته ، ونيته الخالصة نحوي .... صنعت له تمثالاً براقاً تضمنته عاطفتي وأوهامي وكل ما كان يجول في نفسي من رغبات ، وكل ما ورثته من الأفكار والتصورات التي كنت أعرفها عن الرجل المثالي  .. بهذا ، جاءت عاطفتي نحوه مزلزلة ، جارفة كبيرة كبيرة ، بغير حدود .
 تلك العاطفة  المستبدة ، كانت من صنعي أنا ، وعندما بدأت أشعر بخطورتها وأردت كبحها ، كان المارد قد خرج من قمقمه وأفلت من بين أصابعي . جربت فيما بعد ، أن أستعيض عنها بطرق ملتوية : كأن أحب غيره مثلاً ، أو أن أبتعد وأعمل لنفسي شلة أصدقاء جدد . جربت أن أذهب إلى التعاقد للتدريس ، لأشغل نهاري كله .......... كل هذا جربته لأجل احتوائها ، لكنها كانت تعود في كل مرة بقوة أكبر ، لتفيض عن كياني بعد أن استحلته ، وملأته ، وكان بإمكانها أيضاً أن تملأ السموات والأرض .
 
  كل هذا العنف ، كان يجب أن أجد له مبرراً مقنعاً . نحن دائماً بحاجة لأن نخلق لأنفسنا مبررات مثالية نغلف بها عواطفنا وميولنا . بهذا ، نمنحها شرعيتها . بهذا ، نجعلها متسامية عن حاجات البشر " العاديين " . لذلك ، جعلته بنظري مثالياً ، وحجرت عليه عواطفي ورغباتي التي لا يمكن أن ترضى بأقل من هذا . طبعاً ، عزيزتي ، هذا كله ، هو منه براء . هو على الأرجح لم يكن يعلم ماذا يدور في  " رأسي الصغيرة " .
 أما الحقيقة ، فهي أنه ، ومنذ أصبح بيننا عمل حزبي مشترك ، وصرنا نرى بعضنا باستمرار ، صارت نظرته إليّ تتغير مع الوقت .
في البداية ، استغربت وتجاهلت الموضوع . ثم صرت أتغاضى عن بعض الابتسامات الغير مبررة والتي بدأت تشغل رأسي المليئة بالأوهام . كنت أراقب اهتمامه بي وأنا أقول لنفسي بأن هذا مستحيل ! لا يمكن أبداً ! هو عاقل ، وشبه متزوج ، وكل الناس تشهد بجديته ورصانته ، ولم يعرف عنه مغامرات في السابق ، فلماذا اليوم ? ومعي أنا بالذات ? ربما أفهم دماثته نحوي على شكل خاطئ ? ربما يستلطفني فقط  وهذا كل شيء
ولما صارت نظراته تتكرر في شد وجذب ، دون أن تكون واضحة ،  صارت أفكاري تحوم حولها ، لأجد نفسي ، شيئاً ، فشيئاً ، مشدودة نحوه بخيط من حرير . مزيج من الشك واليقين ، مزيج من الخوف والمتعة ، الذي يضعك تماماً عند الحد الفاصل بين العقل والرغبة ، حيث تتبلبل الأشياء   ...............  ثم صار وجوده يملأ من حولي فضاء كان بحاجة لمن  يشغله .  شيئاً فشيئاً ، صرت أتنسم هواءه دون أن أشعر .
 نظراته نحوي ، عكرت مياه البحر التي كانت راكدة حتى ذلك الحين . نظراته ، أشعلت بركاناً كان خامداً : سخونة ، تشبه رياح الخماسين ، صفراء ، دافئة ، بدات تهب هادئة ، ثم تتحول رويداً رويداً إلى ريح عاتية تدور في أرجاء نفسي دون أن تجد لنفسها متنفساً أو طريق . خلال وقت قصير ، صرت أسيرة ذلك الدفء المزلزل . حدث معي أنني ولأول مرة ، أشعر بعيون رجل تقع على جسمي ! عيونه ، كانت تراني كما لم يرني أحد من قبل ، كأنني كنت حتى لحظتها ، خفية عن عيون الرجال .  نظراته ، كانت تخترقني وتلتف من حولي و كنت أشعر بحرارتها من دون أن ألتفت ، تتغلغل في ثنايا جسمي واستداراته  وكل ما بدا منه تحت بنطلوني الضيق ، تتمرغ فوق جلدي لتوقظ شياطينه كلها .............
  العالم كله يصبح وقتها مساوياً لكثافة اللحظة ! العالم كله يصبح  قطعة من جسد آدمي ّ!
  هكذا كان ، أشعل البركان الذي سوف يحرق أمامه الأخضر واليابس ، حتى صار جسمي هو مركز العالم الذي صرت أعيش فيه .  تحفز مستمر ، وانجذاب دائم . هو، كان يشعر بهبوبي هذا ويأكل منه . عيونه كانت تأكل بنهم ، أما جسده ، فلم أكن أعرف عنه شيئاً . كان بعيد المنال .
 أعرف بأنه كان يبدو عليه التوتر . حركاته كانت تبدو عصبية فلا يستطيع الركون في مجلسه لوقت طويل . يداه ، كانتا تنطقان بتمردهما وسعيهما الدائم لالتقاط أي شيء من على الطاولة أمامه والعبث به ثم التخلي عنه بعد لحظات .
كان يستدير بكليته لأدنى حركة لا تستدعي الالتفات ، لالتقاط ورقة ، لالتقاط قلم ، يضعه هنا ، يضعه هناك ، يوقعه أرضاً ، ثم يسترده بتأفف مطلقاً نحوه وابلاً من الشتائم ، ليعود ويعتذر عنها في الحال ............. كان يغيب أحياناً ، لثوان داخل أفكاره ثم ، ينتفض فجأة بقوة وكأنه اكتشف للتو بأنه كان بيننا .......
  ذلك الانجذاب ، واحدنا للآخر ، كان يشكل من حولنا حقلاً مغناطيسياً تنتقل عبره إشارات غريبة تجعل من هذه الكيمياء السحرية شيئاً ممكناً ، كأن ذرات الجسم كلها تتفكك وتتخفف بفعل جاذبية الآخر فتصبح قادرة على الطيران ، ويصبح الصراع معها لإبقائها داخل حدود الجسد الهامد ، شيئاً عصياً .
 هذه الرغبة ،كانت تأكلني ليل نهار . مساماتي كلها كانت مسكونة بتلك الرغبة . توتر فظيع بمجرد أن أخلو إلى نفسي أو أن أفكر فيه ....... كنت أفكر فيه طول الوقت . كل جوارحي كانت مهيئة لاستقباله ، وطول الوقت إجتياح مؤلم وجائر ، إحباط مدمر، هو ذلك الشعور الذي يشبه تفتح الزهرة التي تتوق إلى الشمس والنور ، ولا تجد من حولها إلا الظلمة والعماء .
 الليل كان مؤرقاً ، والنهار كان ترقباً ، حتى صار الأمر متعباً وغير محتمل . اللحظات التي كنا نلتقي  فيها ، دائماً بين الآخرين ، أو نتحدث فيها بالهاتف ، كانت تزيد من توتري وانفعالي وتمدني بتساؤلات وتهيؤات لا فائدة منها سوى إشغال  "رأسي الصغيرة " بتخريفات مصطنعة : كنت أبحث لنفسي عن دور في حياته ، دوراً يكون مقبولاً ، فمن أكون أنا بالنسبة إليه ?هكذا عزيزتي ، كانت تمر بنا الأيام . هكذا بقينا ، لوقت طويل بعلاقة ضبابية مؤرقة ، مزعجة ومحجبة بألف قناع .
أتركك الآن لأعود إليك غداً أو بعد غد ، فانتظريني .
 
 
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (6)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الفصل الثالث
مذكرات 3
 
أين البديل ?
 
  يا إلهي ! ما الذي أفعله !
 اليوم أمضيت أغلب وقتي في الجامعة . ضحكنا وتسلينا كثيراً مع أصدقائي الجدد خارج أوقات المحاضرات .  هناك من يغازلني في هذه الشلة ولقد أسميته "بالبديل ". هو لطيف ومؤدب ويناسبني تماماً، لمَ أتركه يحلم ? لمَ لا أحبه عن جد ?
 الآن أشعر بالضيق .
  صفنا له رأسان : الأول ، من لقبناه "بمكتبةالبغدادي" على اسم مكتبة أبيه . كأنه قد ولد فيها ، أو كأن أمه كانت تطبخ لهم الكتب في الحلة ، بدلاً من الخضار . هويحفظها كلها عن صفحة قلبه . يتهيأ لنا بأنه يمكننا بأن نفتح رأسه ونقلب فيها عن صفحات الطبري وابن خلدون ورسالة الشافعي والكتاب الذي نريد في الفقه و التفسير و الصرف والنحو أو في التاريخ  ،.غير أنه جاف ومتزمت ولا يعير دفتره لأحد .
 الثاني ، الياس ، موسوعة في اللاهوت وتاريخ الديانات والمجامع المسكونية . وله دراية كبيرة في فلسفات القرون الوسطى والقديس اوغسطين وتوما الأكويني وكل ما سبق وتلا الثورة الفرنسية من تنظيرات لاهوتية .... لكن عصر النهضة يبقى مجاله المفضل . مأساته أننا برأيه ندرس الفلسفة على طريقة الأزهر : فقه ، تصوف ،فلسفة إسلامية ، علم كلام ، هذه كلها برأيه مادة واحدة . نحن بالكاد نعرف شيئاً عن الفلسفات الحديثة ، يقول، فكيف سنعرف ماذا يجري في العالم ? ثم لم لا ندرس اللاهوت المسيحي ?  يتساءل هو أيضاً لا يعير دفتره لأحد .
 البغدادي يقول : البرنامج مبتور ، لا يوجد فيه علوم القرآن والحديث ، وليس فيه مادة اللغة العربية كأساس لا بد منه . دون علوم اللغة لن نفهم شيئاً . يتناطحان طوال الوقت ، بهدوء أحياناً و ببعض العصبية أحياناً أخرى . ما يعرفانه يتجاوز غالباً معرفة الأساتذة بكثير، لذلك هم يتحاشون نقاشاتهم خلال المحاضرات. أما ما بيننا وبينهم ، فمسافات شاسعة تفصلنا . غير أنه ، لما يمتد نقاشهم هذا إلى خارج الصف فإننا كثيراً ما ننقسم تلقائياً إلى فريقين، كل بحسب انتمائه .  
صديقتي " آليسار" تحب شاباً مسيحياً . هما مرتبطان منذ المرحلة الثانوية وتكاد تحصل مذابح بين العائلتين بسبب هذه العلاقة . هي مصرة على موقفها وتتحدى الجميع ولا تريد بأن تتزوج غيره . عمومتها لهم سطوة وهيبة والكل يرهبهم في منطقتهم إلا هي . هو الآن مسافر في أميركا ، وأتى اليوم في زيارة . هي من أرسله إلى هناك ليتمكن من إيجاد إقامة وعمل في ذلك المكان المحايد . سيرسل لها لتلحق به بمجرد أن يستقر وضعه . هكذا وعدها ، هكذا حكت لي وهي تحدثني عنه في كل يوم وتروي حكايتها التي تشبه إلى حد كبير حكاية " عنتر وعبلة " حتى اقتنعت فعلاً بانه فارس " بني عبس" . اليوم تعرفت إليه وأخشى أنني فهمت ما لم تفهمه " آليسار "  كيف لها بأن تفهمه وهو أميرها ? !   ..... بدا لي متورطاً بهذه العلاقة دون أن يكون له أية كلمة يقولها . يبدو أنه إنسان مسالم ولا يحب المشاكل بل ويتحاشى المواجهات . " آليسار " كانت تتكلم في هذه الجلسة بحماس واندفاع كبيرين . كل ما قالته كان باتاً ، مقرراً ، ولا يقبل النقاش . بدا لي مذعناً ولكن بدون كبير اقتناع .
 يا إلهي !  من منا يستطيع الدخول إلى عقل الآخر ليعرف كيف يفكر ?
  ما أعمانا عن الحقيقة وهي تعيش بقربنا ، تأكل وتشرب من حمقنا وبلادتنا . ربما كان من الأفضل أن نظل نجهل حقيقة الأشياء لكي نظل نحب ، ونحلم ، ونتمنى . ضعفنا وشوائبنا ، هي الخمير التي يطلع بها هذا العجين . لولاها ، لتوقفت الحياة عن الدوران ، لولاها لعقمت .
خيالنا ، رحم الوجود . رغباتنا ، ماء الحياة !
 
                                                الرسالة الثالثة
 
                                                  الحب الكبير
عزيزتي صفاء:
عندي عمل كثير اليوم لكنني قررت تأجيله إلى ما بعد القهوة وجلستنا الصباحية . لقاءاتي بأميري ، لم تكن تتجازو إطار الصداقة الذي رسمناه لأنفسنا . وخلوتنا الخاصة ، كانت نزهات بالسيارة ، على الطريق الساحلية التي نادراً ما كنا نبتعد عنها . طريق سهلية بموازاة البحر جنوباً ، وحتى  "حاجز البربارة " الذي كان أبعد نقطة ممكن الوصول إليها في ذلك الحين . ثم ، نعود أدراجنا ، على مهل ، لأن الوقت كان يمضي سريعاً ، بشعور يشبه شعور الأولاد بعدما تتوقف " المرجوحة " ، ويصير لزوماً بأن ينزلوا منها .
بدأت تلك الرحلات بأن كان يقترح أحياناً توصيلي إلى البيت . ثم صارت الطريق إلى بيتنا تطول بقدر ما أخذت الأحاديث بيننا تتعمق وتتواصل بمتعة غريبة . ثم تحولت رويداً رويداً إلى تلك النزهات البحرية الحميمة ، يرافقنا خلالها صوت " فيروز " في مسجل السيارة ، ونسائم دافئات غنمناها أحياناً من عطاء البحر الكريم .
 صيفاً  ، شتاءً ، زرعنا تلك الطريق بمشاويرنا ، وهي لحظات الدفء الوحيدة التي نجت من إعصار تلك العلاقة المضنية . لحظات من السلام نادرة في خضم ذلك البحر الهائج .
 أحاديثنا بمجملها كانت تدور عن أخبار الجامعة والرفاق . كنا نتندر بقصصهم وأحوالهم ، ونحلل شخصياتهم ، ونتمازح في تعليقات من هنا وهناك كنت أكتشف معه جوانب لم أكن أعرفها في البشر، لأنه كان أكثر خبرة واطلاعاً مني . ورغم أنه كان يظل حذراً ومتحفظاً في حديثه ، فلا يجرّح بأحد أو يبالغ في الحكم عليه ، ولا يقول أكثر مما يتوجب الحديث ، إلا أنه كان كريماً جداً في شتائمه ، يغدقها بدون تردد ، على من يستحق أومن لا يستحق ، تحبباً منه أحياناً . تلك الشتائم كانت هي لحظة التراخي الوحيدة في حديثه المضبوط تماماً .......  كنت أشعر دائماً بأنه يعرف أكثر مما يقول ، بينما كنت أنا أقول أكثر مما أعرف . صراحتي وبداهة أحاسيسي ، كانت تعطيني مصداقية خاصة أتجاوز بها الحدود والمسافات التي كانت تفصلنا عن بعضنا . حواجز كثيرة منها حرص بشدة على أن لا أتخطاها ، إلا أن مساحات شاسعة منها كانت تتهاوى أمام سذاجتي الأفلاطونية .
كانت حرباً بلا هوادة ، بين عقله الصارم ، وسليقتي الفطرية ، كنت أتجرأ فيها على كل المواضيع حتى تلك التي لم أكن أعرف عنها شيئاً .
 كنا نتكلم كثيراً بالسياسة ، ورغم معرفتي القلية بالقياس معه إلا أن موقفي من الأمور ظل واضحاً بدون لبس، لأن علاقتي بها كانت دون طموح . أحياناً ، كنا نتكلم في العلاقات الدائرة حولنا ، ومن خلال أحاديثنا عن الآخرين كنا نفصل وجهة نظرنا . كنت أتكلم بجرأة جعلته يظن بادئ الأمر بأنني صاحبة تجربة ، لكن صراحتي كانت في الحقيقة تشبه شجاعة الطفل الذي لا يقدر حجم الخطر لأنه لم يجربه بعد . علاقاتي الحميمة ، عشتها في الخيال فقط ، والحب بالنسبة لي كان قصة رومانسية " كروميو وجولييت " . في أعماقي ، كنت أعتقد بالحب الكبير الذي لا يقهر ، وبأن الإنسان يحب مرة واحدة في حياته يعيش عليها العمر كله . صدقاً ، لم يكن باستطاعتي تخيل شيء آخر .
 دهشته كانت كبيرة عندما صار يتكشف له بأنني كنت ملاكاً ، لا زلت ! أأقول خيبته ربما ? على أية حال كانت مفاجأة لم يكن يتوقعها ولم يكن ليفهم ذلك طالما أنه كان بإمكاني أن أعيش حياتي " بحرية " :
" لم أحب أحداً بعد ! " ، قلت كأنني أبرر ذنباً اقترفته .
" لا يوجد حب كبير ، الإنسان ممكن أن يحب مرة واثنتين وثلاثة ، وهو في كل مرة سوف يظن بأنه الحب الكبير . " ، قال .
  لم أقتنع ، حالتي وما كنت أعيشه كانت تؤكد لي بأن هذا غير ممكن . ما كنت أشعر به في داخلي نحوه كان كل طاقة الحياة وما دونها هو الموت فكيف نحيا و نموت مرة واثنتين وثلاثة ? لم أقتنع .
اليوم ، عزيزتي ، وبعد أكثر من عشرين سنة ، لا زلت أتساءل ، من منا كان على حق ? : صحيح أن الإنسان يحب أكثر من مرة في حياته ، ولكن لو نظرنا إلى شريط حياتنا من بعيد ، أفلا نجد بأن الحب الكبير سوف يبقى بارزاً فيها تماماً ، كما الهرم الكبير بجانب الأهرامات الصغيرة ?
 سوف أتركك الآن  ، وأعود إليك في أقرب فرصة . حتى ذلك ، كوني بخير ، وإلى اللقاء .
 
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (7)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الفصل الرابع
مذكرات 4
  من أين الطريق ?
 أزداد نحولاً يوماً بعد يوم !
 قصصت شعري ويا ليتني لم أفعل فأنا لم أجد طريقة مقنعة لتسريحه .
" نهال" ، سوف يترشح لأمانة سرالخلية بدلاً عني ، يحاول تطبيق الرفاق من وراء ظهري، وهو لا يعلم بأن هذا آخر ما أفكر فيه .
منذ مدة طويلة تراودني فكرة ترك التنطيم ، أشك بجدوى كل ما نفعله . من الممكن قريباَ ، أن أطلب تعليق عضويتي .
الأسبوع الماضي ، كنت قد قرأت مقالاً ل :" جوزيف سماحة " ينتقد  فيه " برنامج الإصلاح السياسي " الذي طرحته " الحركة الوطنية " ويتهمه بأنه ذو منحى إسلامي، ولا يراعي مشكلة الأقليات المسيحية في لبنان . اقتنعت بوجهة نظره وسأطرح الموضوع للنقاش داخل الخلية . أعرف سلفاً بأن الموضوع سوف يرفع لأمانة المنطقة وربما إلى أعلى لأنه ليس على مستوى رفاق الخلية . سنحصل فيما بعد على تبريرات من نوع : بأنه يراعي  " ظروف المرحلة التاريخية " ، وبأن " حتمية العلاقة والتحالف المصيري مع المقاومة الفلسطينية يستدعي ........ " ، وأن " قاعدة التحالفات الوطنية العريضة تستلزم ........ " ، نحن مجرد مؤسسة ضمن باقي المؤسسات . كل ما نقوله أو نفعله لا نقرر فيه شيئاً ، كأننا موظفون درجة عاشرة .
  في الماضي ، كنت قد أثرت موضوع المساعدات المالية التي تأتينا من " العراق " والتي تحولنا بفضلها إلى شيء مضحك يشبه ال " تشي غيفارا " ببدلة وربطة عنق . ورفضت المشاركة في حملة جمع التبرعات   قالوا لي وقتها بأن  " الظروف تغيرت ، وأننا لم نعد في مرحلة التقشف وبأننا لم نعتد على ذلك بعد .... إنما جمع التبرعات هو للحفاظ على العلاقة بالجماهير ...."  ، وقالوا : " بأننا يجب أن نتحلى بالواقعية السياسية ! " ، من فينا أكثر واقعية ، الذي يدفع أم الذي يقدم الخدمات ? من يخدع من ? لا زلت أتساءل ...........
وجهي مليء بالبثور هذه الأيام . أجد نفسي رهيبة ومفزعة . عندي اجتماع بعد الظهر ويجب أن أراه بعد الاجتماع .......... هذه البثور تنغص علي حياتي . كيف أواجهه ? هل سأتجرأ اليوم على أن أطلب منه بعض التوضيحات ? سوف يتهرب بدون شك لكنني سوف أواجهه !
 
 
الرسالة الرابعة

 حب أم صداقة ?
عزيزتي صفاء :
 أعود إليك اليوم ، أحاول من جديد  أن أتذكر معك ما حصل معي من مواقف  لم أصرح بها لنفسي أحياناً ، وأستعيد عملاً صعباً بدأته، وأتمنى أن أصل إلى نهايته ، لعلني أقدر ..........
كانت تلك الطريق التي كنا نقطعها ذهاباً وإياباً في كل مرة ، شاهداً على حالنا المسكونة برغبات لا تجرؤ في الإفصاح عن ذاتها ... خلالها ، كنا نملأ الجو من حولنا بأحاديث تريد أن تواري ما كنا نشعر  به ، ما كنا نخجل منه ونريد أن نخفيه ............
اهتمامه بي ، كان تحرياً عن أحوالي التي لم يهتم بها أحد من قبل :  أكلي ، شربي ، نومي ، جامعتي ، أساتذتي ، وحتى البثور التي كانت تظهر على وجهي أحياناً كان يراقبها :
" لا تعبثي بها ! اتركيها " ، كان يقول بلهجة الآمر ! .
انتباه كامل لأدنى حركة ، أو كلمة ، أوأي التفاتة مني داخل السيارة . يسألني إذا كنت مرتاحة في جلستي ، إذا كان يجب أن يغلق النافذة ? إذا كانت الأغنية في المسجل على ذوقي ??? .... رهافة حركاته وحميمية تلك الكلمات التي كانت تحيطني بكل الرعاية ، كانت تغلفني بوشاح من الحرير، وهذا الاهتمام الدؤوب بكل التفاصيل كان يحتويني بدفء وترف ، خياليين ،  فأشعر كأنني أميرة في قصر من الأحلام .
ثم يعود ليسألني ، لما لا يكون عندي صديق " خاص " .
 " لم أحب أحداً بعد !  لو حصل فسوف تكون أول من يعلم ! "
مناورات ساذجة كان يفهمها بوضوح . غالباً ، كان يليها السكون ........
 غير أن السكون الذي كان يأتي بعدها ، كان فاضحاً ! مقاطع الصمت التي كانت تجلل ذاك السكون ،  كانت تشي بالمستور ........  مقاطع الصمت تلك  كانت ترخي معطفاً من الوقار ، ينسدل باستحياء  شديد ، فوق أنفاسنا المتلامسة بحذر . عندما ينطفىء الكلام ، تطفو الحقيقة على سطح الهواء ، كسمكة تعوم في بحر هادئ . هكذا كانت تعوم زهرة اللوتس المسكونة بالرغبة ........
 لقاؤنا ، كان يزهر في السكون ، يتجلى في ردائه الشفاف ، ليعلن عن حقيقته الأصلية . خلف إطار   " الصداقة " الصارم ، كانت اللوحة تخفي فضاء لا حدود له من الأحلام ...  شساعة لا يحدها خيال الصداقة . حقول من النسيم ، تجري فيها خيول بلون الفضة  ، لم يلامسها خيال الصداقة أبداً ......... 
ما أبعد هذا عن الصداقة ، عزيزتي !
ما أبعد الصداقة عما كنا فيه من هذيان الروح ! من خفقان يشبه قرع الطبول . من تحفز ، يشبه هبوب العاصفة . الفضاء من حولنا كان كان اضطراباً أحمق . توتر كان يغلفنا ويتململ فينا متصاعداً ليكون من حولنا ملاذاً هشاً لأحاسيسنا ، ملاذاً يشبه فقاعة الصابون ........... المدى من حولنا كان يشتعل بشرقطات خفيفة ، تومض ثم تخبو في الخفاء ........... غيمة من ندف ذلك الوجد المكنون كانت تطفو برفق فوق سماء عالمنا .. تتأرجح  بخفة الوجد المتصاعد ، فتنأى قليلاً ثم تعود ، ودون أن تبتعد كثيراً عن مصدر الدفء المهيمن .
 هذا الفضاء الساحر ، عزيزتي ، كان جنتي وناري . كنت بأمس الحاجة إليه ، كنت بأمس الحاجة إلى هذه اللحظات ، أكتشف فيها نفسي  .هذا المزيج من الحنان الدافق ، والتألق الحسي ، كان بالنسبة لي ، انبعاثاً ، لروحي ولجسدي ، من ثبات عميق . هذه الأوقات ، كنت أعيشها كأنها انبلاج الصبح في أسطورة حياتي . كنت فيها أتمرد على ذلك الثقل الذي يجذبني إلى الأرض لأطفو على مسامات جلدي ، هنيهات ،  وربما خرجت منها أحياناً ، هنيهات ،  لألامس شفافية لحظات من الوجود ، آسرة .
  شيء من الأبوة في كلامه ، كان يشعرني بأنني مسيجة بألف وردة . وذلك الارتجاج العنيف من الداخل ، والذي يهز الروح ، يغربل الأحاسيس وينخلها ثم يرمي شرارة وجد في القش المنثور من حولها ليشعل شموسها السخية كلها ، لتزهر فيها ألف أقحوانة .
كيف أضع كل هذا في خانة الصداقة ? وأية صداقة هذه التي سوف تقلب كيانك وتجعلك عبدة لها ومملوكة من أطراف أهدابك وحتى مضغة القلب الذي لم يعد يعرف الاستكانة ? أي نفاق هذا بأن ندعي على أنها صداقة ? ما أبعد الصداقة ، صديقتي ، عن ذلك الذي كنا فيه .
هذا الوضع ، سوف يتسبب لي بجرح مؤلم لأن كل واحد فينا ، ورغم ما كنا فيه من عشق مؤكد ، ظل محتفظاً بمشاعره لنفسه ، منكراً لها تجاه الآخر ......... يبدو بأننا كنا نشعر بأنها كانت عيباً كبيراً وجب التستر عليه ، حتى من أنفسنا ?
هذا ما سأحدثك فيه في رسالتي القادمة ، حتى ذلك أتمنى لك يوماً هادئاً وإلى اللقاء .
 
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (8)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
الفصل الخامس
مذكرات 5
فى حصار الواقع


في الليل ، تجتاحني الكوابيس . في المساء ، أراقب أبي وهو ينهار في كل يوم . يعد أرقام الخسارة ويذوي بظلها . أتشاجر معه أحياناً ، أهزه ، أحاول إيقاظه ، أرسل إليه نداءات استغاثة لا يسمعها وهو بالكاد يجاوبني . هو يبتعد عنا في كل يوم مسافة .
 في النهار ، أرى أمي ، في كل يوم ، تتحايل على الواقع لتخرج منه ما نأكله لنقتات به في نهارنا . هي أيضاً تبتعد ، تقترب منا بقدر الواجب ، ثم تبتعد . ترمي إلينا بحبوب نتلقفها بسرعة بمناقيدنا الشرهة ، ثم تعود إلى نفسها لتغلق محارتها على خوف أعمق من المحيط .............
 أتشاجر مع أخواتي على فستان استعارته مني إحداهن دون استئذان ، وأحياناً على مطرح على الكنبة بقرب التلفزيون ......... الجو كئيب ، الجو مقلق ، وأنا عصفور في الريح ......
 
الرسالة الخامسة
 
معنى السعادة ?
 
  صديقتي العزيزة :
  تحية وسلاماً يظللان يومك الذي أتمناه لك جميلاً وهادئاً .
كانت تلك العاطفة المهولة تسكنني بمكر واستبداد ، ولم أك أستطيع حيالها شيئاً . كانت حياتي تسير على وقع الانتظار المضني ، وترقب الأيام والساعات ، والشمس والمطر ، والأحوال الأمنية ، وتوقع رنين التلفون ، وتصيد الفرص واقتناصها ، حتى ولو كلفني ذلك ساعات ، بل نهارات من العناء في ترتيبها وتغليفها بالبراقع لكي تظهر كانها ، " طبيعية وبالصدفة "   لم أك أعرف كيف أواري كل تلك العاطفة . كنت أريد منه ، على الأقل ، اعترافاً صريحاً بأن ما بيننا يتجاوز إطار الصداقة من بعيد . كنت أرغب في أن يعلن لي شوقه واشتياقه الصريح ،   ربما كان ذلك كافياً في لحظتها ، لإعادة التوازن إلى ميزان روحي الذي كان مختل الكفتين .  ورحت أنتظر ....... سنتين قضيتهما في ترقب كلمات لم تأت أبداً . لم أكن أتوقع منه أن يعلن لي " الحب الكبير " ، كنت أدرك بأن هكذا تصريح ثمنه فادح ولن يقوى عليه . لكن ، أن  يعترف ب " الخاص " في علاقتنا ، وبهذا الرابط الذي يجمعنا ويتجاوز إرادتنا إلى ما هو أقوى ......... كنت أظن أنه لا زال يكابر وبأن الأيام القادمة سوف تنصفني .......... وظللت أنتظر ، بصبر كبير . كنت أترك للأمل متسعاً بيننا دون أن أجرؤ أبداً على المواجهة أو طرح الأسئلة المحرجة . صبرت كثيراً على هذا وحيرني فيها سؤال : إذا لم يك ذلك حباً ، فكيف يكون الحب إذاً ?
 أذكر أنه كان يحلو له بأن يمازحني أحياناً قائلاً :
ـ  " لا تحبيني ! " .
 كان يجد في ذلك ربما مناسبة لإفهامي بأنه غير قادر على التورط عاطفياً . من جهتي كنت أجد كلماته مهينة ولم يك بإمكاني أن أرد عليها .
 هكذا ، عزيزتي ، عذبتني طويلاً كل تلك التساؤلات التي جهلت فيها معنى الحب في قاموسه ......... حتى اقتنعت بأنني غبية وبأنني لا أفهم هذه الأشياء ........ جربت أن أتعلم ، أن أدرب نفسي على معان جديدة للحياة والسعادة ، بدون فائدة . رويداً ، رويداً فهمت أن الخروج من حلمي ذي الأبراج العالية ، والدخول إلى عالم " الرؤية الواقعية " لن يكون   مجانياً ، فهل سأقوى على دفع الثمن ?
  ـ " أتمناك سعيدة ، سيرة " .......... كان يردد . كيف ? كنت أسأل نفسي وأنا لا أرى السعادة إلا معه ومن خلاله ....... كيف يتمناني سعيدة وهو يبخل علي بالأمان الذي أبحث عنه ? حتى سمعته يوماً آخر يقول لي : " لو كان الأمر بيدي ، لجعلتك سعيدة ! أنت لا زلت تجهلين معنى السعادة . لو كنت على غير ما أنت عليه لجعلتك سعيدة ، كنت تعلمت مني أشياء كثيرة ......... الجنس مهم ، بل هو  أهم ما في الحياة ......... تعالي لعندي بعد أن تتزوجي لأشرح لك ما أقول ... " كنت أستمع إليه كالبلهاء ، كيف يمكنني بأن أعود إليه بعد أن أتزوج ? كنت أشعر بالإهانة وأن شيئاً في هذا المنطق يستعصي علي فأصمت .
وفي مرة أخرى ، أضاف :" هناك تفاصيل لا يعرفها كل الناس ، حتى المتزوجون من سنين ، أغلب الرجال لا يفهم جسد المرأة ، لا يمكنني أن أشرح لك ،  أتمنى لك أن تتزوجي واحداً يعرف كيف يسعدك " .كنت أصغي كالمشدوهة . حقيقة ، لم أكن أعي ما يقول . كأن هذا الكلام كان يأتيني من عالم آخرغيرالعالم الذي كنت أعيش فيه . السعادة ? لم أكن أحلم بأكثر من أن يضمني إلى دفء صدره لكي أشعر بالسعادة . هكذا كنت أعتقد !
 ستقولين : " بلهاء " ? . من أين يأتي البله ، عزيزتي ? أليس من الأفكار المتناقضة التي نراكمها فوق بعضها دون وعي منا بتناقضها ? أوليس من الأحاسيس التي لم تورق إلا في الخيال ? من أن تضعي ثقتك المطلقة بفكرة ، برغبة ، بشخص ، بأي شيء خارج عن ذاتك السحيقة ! لكنني كنت بلهاء ، بدون شك ! عمياء ، ربما ? وربما كنت مجرد عاشقة . وفي ذات مرة قال لي باضطراب ظاهر :
 ـ  " أحلم بأن أراك ممددة أمامي وعارية تماماً ! " .
  " أنا ? " ، قلت مندهشة ........  استغربت ذوقه ، ولم أفهم !
أحلم بأن يطوقني بذراعيه بقوة ، بأن ينقض علي كما ينقض الأخطبوط على فريسته ، وأن ينغرس في جسمي كله فنختلط معاً ونصبح شيئاً واحداً وإلى الأبد . لكن ، من كان يتجرأ بوقتها على قول هذا ?
هكذا عزيزتي ، صرت أرى ولا أرى . أفهم ولا أفهم . كل شيء كان واضحاً ومفهوماً ومع ذلك ظللت أتمرد وأعاند على الحقيقة .
رغبتي التي كانت تجذبني إليه كانت تحاول تخدير عقلي .. شيء ما في صدري كان يحبه ولا يقوى على التخلي عنه .. شيء ما في صدري كان يرفض هذا المنطق ويتمرد عليه ..............
 سأعود إليك صفاء ، غداً أعود إليك لأصف لك كيف وصلنا إلى ذروة هذا التناقض فانتظريني ..............إلى اللقاء .
 
 
 
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (9)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الفصل السادس
مذكرات6
المساواة في الجحيم !
 
 
  اليوم ، رأيت أميري .......... بالأمس ، رأيت البديل !
  ربما لهذا السبب رأسي تؤلمني وأشعر بكل هذا التوتر ?
 
  أبحث عن مخرج بأي ثمن لكنني لا شك مخطئة وإلا لما شعرت بهذا الضيق كله ......... أحتاج لمن يأخذني بيدي ويبعدني عنه فلا أعود أراه أو أفكر فيه لكنني لم أنجح بالتعلق بمن اخترته بديلاً .
أميري يعاملني بود ظاهر لكنني لا أريد منه هذا !
   يريد أن يفهمني بأنه يحبني لكنه لا يستطيع أكثر من هذا ?
  كأنه يقول : " تعالي لنأخذ من هذه العلاقة ما نستطيعه وأما الباقي فهو خارج عن إرادتنا ........... "
  لو صدقته أكون مجنونة . لو صدقته أكون مغفلة !
  يطلب ويلح علي بأن ألاقيه إلى بيروت !
  تباً له ولبيروته تلك التي يحبها ويحدثني عنها كأنها معشوقته ، فأنا لن ألاقيه لا إلى بيروت ولا إلى أي مكان آخر وليذهب إلى الجحيم .............
  والله ، كنت ذهبت معه إلى الجحيم لو أراد ، أما بيروت فلا !
  في الجحيم ، سوف نتساوى هناك . أما بيروت فستكون له ، جنته هو ، سأكون له بكليتي وبكل الحب الذي يكتنفني تجاهه وسيكون لي بعضاً  منه ، لساعات ، نذراً من الوقت لن يزيدني إلا جوعاً وظمأً ......... سأكون له مجرد خدينة !
 اليوم ألغيت موعداً مع أصدقاء الجامعة لأنه طلب مني بأن ألاقيه إلى المركز . ألح علي بأن آتي وقلت له : " بشوف " .
  لما وصلت إلى هناك ورآني ، طار من السعادة . كان مسروراً لاستجابتي . تحدثت مع الجميع ما عداه . أغظته ، تجاهلته ، وفعلت كل ما بوسعي لاستثارة غيرته .
   بعد وقت ، ودعتهم ، ثم انسحبت دون أن أسأله عما كان يريد مني .
 لا أعلم لما فعلت هذا !
  توقعت بأن يتصل بي في المساء ، لكنه لم يفعل .
   تأملت بأن يتصل بي في المساء ، لكنه لم يفعل .
  أكيد فكر كثيراً بأن يتصل ، لكنه عاد وتراجع لما فكر .
   دائماً يتراجع عندما يفكر .
  ثم يتصل ذات مرة ، هكذا ، دون تفكير .
  دائماً يعيدني بتردده إلى الدوامة ذاتها .
  كم أتمنى في هذه اللحظة بأن أشتمه ، وأن اقول له كل رأيي فيه !
  كم أتمنى في هذه اللحظة لو أقتله ، ثم أبكي عليه العمر كله فلا أشبع !
 لا أطيق نفسي ! لا أطيق هذا العبث !
  إلى متى سوف نبقى على هذا الحال يا ربي ?
 " يا أيها الناس الذين أحبهم
صبراً على الغضب
ضعوا بين العيون الشمس
والفولاذ في العصب " .......
لا أذكر من هو قائل هذه الأبيات ، ربما هو علي القيسي أو عمران القيسي . سأقوم لألعب الورق مع إخوتي فهم ينادونني .
 
 
الرسالة السادسة
أبحث عن دلفين ينقذني
 
 
  عزيزتي صفاء :
 
 
  الطقس هنا ، عاد إلى برودته المعتادة ، ولذلك تجدينني قد تسلحت بالرداء السميك ، والجوارب الصوفية ، أبحث من خلالها عن الدفء المهاجر ........ قهوتي بردت بسرعة ، سأقوم لتسخينها ثم أعود إليك في الحال .
 
  لم أكن حتى ذلك الحين ، كما أخبرتك ، قد تجرأت أبداً بالسؤال عن أحواله الشخصية . كان يضرب حصاراً حول الموضوع يجعلني أتهيب على الخوض فيه ، لذلك ، ظلت ظروف علاقته بخطيبته ضبابية خصوصاً وأنها كانت قد اختفت عن الأنظار منذ مدة طويلة .
 
  هذا الغموض المتعمد منه ، كما أظن ، سمح لخيالي بالمراهنة على بعض الأوهام المتفائلة جداً من نوع : ربما يكونا قد انفصلا ، أو ربما يكونا على خلاف أو برود ولكن الموضوع لم يحسم بعد  .... وإلا ، فلماذا تقرب مني في هذه الفترة ? ..... كنت أبحث عن بصيص أمل أخدع به نفسي ، مع أنني في قرارتي كنت مقتنعة بأن ذلك مستحيل وبأن علاقتهما أقوى من الخلافات العادية لأنها ملزمة أخلاقياً ، في العرف العام صارت أقوى من الزواج منذ أصبحت علنية . رغم هذا ، ظللت أحلم بأعجوبة ، بدلفين ما ينقذني مما أنا فيه من غرق .......... صرت أتمنى بأن تكون مثلاً قد انسحبت من حياته . افتراضات حمقاء كهذه كنت أحيكها في سري ، ثم أبحث لها عن دلائل وقرائن من نوع بأنه : لم يكن ليتجرأ على التحرش بي لو لم يكن حل من ارتباطه الآخر . أو : لا بد أنهما على خلاف حتى تبتعد عنه كل تلك المدة ............... كنت أبحث عن خشبة خلاص أتعلق بها لأصون كرامتي الجريحة ، وهذه التخريفات المصطنعة كانت نوعاً من المكابرة على واقع كنت أشعر به مهيناً دون أن أتمكن من مواجهته . لكن التناقض كان واقعاً بين ما تبقى عندي من تقدير لنفسي  ، وما أرغب به بجنون . التناقض كان صارخاً ولا يمكن الهروب منه إلا بهذا البله المصطنع ............
أن ينظر إلي على أنني فتاة سهلة ?
   أن يفكر بأنني من الممكن أن أرضى بعلاقة جانبية ?
  أن يظن بأنني من الممكن أن أتقاسمه مع إمرأة أخرى وأن يتقاسمني مع رجل آخر ?  هذا تخريف لا بد !
 مستحيل بأن يفكر هكذا ، مستحيل بأن يراني على هذه الصورة ، مستحيل !
  كل الماضي الذي أتيت منه كان نقياً ، وكل ما أشعر به وأتمناه هو حب  صاف ومطلق لا تشوبه الشوائب . ثم ، لماذا سوف أرضى أنا بهذا الدور الهامشي الذليل ? وهل الحب بنظره هو هذا ? هل السعادة هي هذه ?  لو كنت أبحث عن أي علاقة ، أفلن يكون في مقدوري بأن أجد متطوعاً آخراً بديلاً عنه ? لا ، لا يمكن أن يكون تفكيره بهذه السطحية أبداً !
 مدة مديدة تجاذبتني فيها كل تلك الأفكار . رحت أقاومها وأحاول بأن أصرعها كمن يصارع طواحين الهواء . كنت خلالها " دون كي شوت " الحب بدون منازع . طويلاً ، طويلاً ، ولوحدي ........... التجأت إلى الأوهام تحميني من ملامة عقلي الذي لم يستطع كبح جماح رغبتي  ،ولم يستطع تقديم البديل .
 حتى ذلك اليوم الشهيد !
  حتى ذلك اليوم الفاصل ، ظللت أتأرجح بين النار والنار ، ودون أن أنجح في اجتثاث بذور الأمل الكاذب . ظللت أحلم بأنه سوف يكون لي ، ربما ، يوماً ما ، بكليته ، بكل مافيه من مكر ونعومة، وكل ما في سريرته الخبيثة نحوي من طمع . ببسمته الساحرة وبذاءة لسانه عندما تعتريه حمى الشتائم القليلة الحياء ........... بلسانه المراوغ ، وكل الشبق المطل من عينيه لما ينسى بأنني أراه . أن أحتويه بجوارحي كلها وأنا كما أنا ، بقوتي ، وعنفواني ، وعزة نفسي ، التي لا ترتضيه إلا كاملاً ........... كنت أظن بأنني قادرة على أن أطير به ، لنطوف البلدان والشطآن ، لأباهي به العالم ، وأحميه من الجوع ، والبرد ، والمرض ، والتعب ، وصيبة العين الغادرة ، التي لم يكن يؤمن بها .
  حتى ذلك اليوم الشهيد !
   ما حدث في ذلك اليوم ، هو ما سوف أحكيه لك في رسالتي القادمة .
  حتى ذلك ، كوني بخير ، وإلى اللقاء .
 
 
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (10)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الفصل السابع
مذكرات  (7)
بين الرماد والورد
 
 
 
    " يأتي وقت بين الرماد والورد ، ينتهي فيه كل شيء ، يبدأ فيه كل  شيئ "
 
 
أبحث عن وجهي في المرآة ولا أجد ما أبحث عنه . يلزمني الكثير لكي أصبح" حلوة" ، يلزمني أيضاً الكثير من الأناقة لكي أشعر بالثقة .
 
   بالأمس ، كان لدينا محاضرة في " الجماليات " . الأستاذ الطريف جداً، الذي جاءنا حديثاً من أميركا ،  بعد أن درس وأقام فيها سنين طويلة ، يأتينا بأفكار طريفة على شاكلته . هي تشبه بألوانها توليفة ثيابه الصفراء والبرتقالية ، التي يبدو فيها كأنه صحن بيض بالبندورة . بساطته بالتعامل معنا فيها سذاجة مؤكدة ، رغم أنها تروق لنا كثيراً. لكنني أتساءل : كيف سيصمد بها أمام كل تلك المؤامرات التي تحاك ضده في الإدارة ?  يريد لنا بأن " نتحرر" ، ويظن بأن المشكلة هي في الكبت الجنسي ، وفي حرية إبداء الرأي . إن ما يتجرأ عليه بأفكاره عن " الحرية " وخصوصاً في حديثه عن الجنس ، الأكثرية يطبقونه بدون نظريات كبيرة ، لكن في الخفاء .............. أنا أسمي هذا أفكاراً مدللة لإناس مدللين ، لم يلمسوا قعر الهاوية . هو يقول بأنه يشعر بالإهانة في كل مرة يضطر فيها للوقوف على حاجز لقوات الردع .........  طبعاً ، هو لم يعش هنا أيام الحرب ، ولا يعرف أين يضع هذا النوع من الإهانة في سلم أولويات الحياة ، عندما يكون عليه أن يجد لها مكانها بين مشاعر أخرى أشد سطوة ،  مثل : الجوع والخوف والعيش بدون استحمام ، وفقدان الأمل بالعودة إلى الحياة العادية للبشر ......... لو جرب انقطاع الماء والكهرباء والاختباء في الملاجئ لمدة سنتين  متواصلتين ،  وكان عليه أن يحمل دلواً من الماء إلى الطابق الرابع صعوداً على الدرج المظلم ،  في كل مرة يضطر فيها لأن يقضي حاجته ، لفهم ما معنى الإهانة ..........
 
  بالأمس سألني ، خلال النقاش ، أثناء المحاضرة ، "هل من الممكن لي أن أحب رجلاً أشعر بأنه سهل المنال? " ........... كان يجب أن يختارني أنا بالذات لهذا السؤال ? ..... لما لا يسأل "أمال" ? . هي كانت قالت له : " والله حسب يا أستاذ ، فهل هو للسوق ، أم للصندوق ، أم لغدرات الزمان ? " . عندها سيضيع ، فهو لم يقرأ في مكيافللي هذا المثل  ........ ولَكُنا ضحكنا وقتاً طويلاً . لكنه سألني أنا ، وأنا قلت : " لا " .
 هو يظن أن ما نعانيه للحصول على الشيء ، هو ما يحدد قيمته بالنسبة لنا . وفي هذا وجهة  نظر ، لكنه برأيي ،  نصف الطريق . هذه أفكار أميركية صرفة : يظنون أن كل شيء له ثمن ، أو مقابل ، وأن قيمة الشيء ، تكون بقيمة الثمن المدفوع مقابله .........  بإعتقادي ، العكس هو الصحيح ،  أعتقد بأن حاجتنا إلى الأشياء هي التي تحدد قيمتها بالنسبة لنا ، وهي التي تحدد بالتالي : الثمن . إلا أنهم نجحوا في قلب المعادلة واختراع حاجات وهمية للإنسان ، وبالتالي قيماً وهمية . هذا هو الاستلاب بشكله الجديد ........ 
 
  على أية حال ، هو بسؤاله نبهني إلى شيء ما كنت غافلة عنه ! البديل ، يجب أن أحسم أمري معه .
 
الرسالة السابعة
اليوم الشهيد !
 
 عزيزتي صفاء :
 جئت اليوم لأحدثك عن يومي الشهيد ! ذلك اليوم سأصفه لك بكل تفاصيله التي لا أزال أذكرها  بوضوح ، فهو اليوم الذي دفنت فيه كل أحلامي ، وكل البراءة التي كنت أعيش فيها ، حتى ذلك الحين .
 
   كان شتوياً ذلك النهار ، إلا أن الجو كان رائعاً ، لأن الشمس كانت قد سطعت من بعد رعود وأمطار دامت كل فترة ما قبل الظهيرة . التقينا قبيل العصر بقليل ، في نزهتنا المعتادة على الطريق السهلية ،   البحرية ، وكان لي قلبٌ يومَها  له جناحات . الأرض كما السماء ، كانت قد اغتسلت بماء غزير، أعاد إليها رونقها ، وأعاد إليها هدوءاً كانت قد عكرته العواصف . حتى البحر ، بدا إذ ذاك أكثر إتساعاً وجاذبية ، تحت خيوط الشمس النحيلة . الطريق ، الشجر ، البيوت ،  بدت كأنها رسمت من جديد ، لأن حجاب البلل الشفيف الذي كان يغلفها ، ضاعف من عمق اللون فيها ، فانقشعت معالمها . كل شيء كان وضاءاً ، مشعاً ، واعداً بالحياة .
 
  كنت أرتدي كنزة صوفية ، زهرية اللون ، مفتوحة قليلاً عند الصدر، تحت سترتي التي تخليت عنها ، بمجرد صعودي إلى السيارة . الجو فيها كان دافئاً بحرارة التسخين ، وبهجة الألوان الصارخة ، واتقاد الرغبة المطلة من جسمي ، ومن عينيه . ووجدته على غير عادة ، وبدون أي كلام ، ينحرف عن الطريق الاعتيادية . ووجدتنا وقد توقفت بنا السيارة ، في مكان خال بين الشجر ......... فجأة ، صرنا وحدنا في حضن الطبيعة ، كأننا عدنا لمهدنا الأول . المشهد ، كان خيالياً ، المشهد كان أسطورياً ، و كل ما كان قبله ، وكل ما كان بعده ، هوالسراب ........
في تلك اللحظة الفريدة ، رأيته يرتمي على صدري . يهوي إليه كجرم هبط من السماء  الأعلى ،  ليتناثر فوقه كانشطارالنيازك . في دفعة واحدة ، صار يتدحرج على سفحه ، كانحدار الصخرعلى باطن الجبل .....  في دفعة واحدة ، لا تقبل الشك ، ولا التفكير ، ولا  التردد ، ولا الانتظار .......... في انحناءة ، تشع فيها العيون ، باتقاد غريب ، ويكاد يفر منها النظر ..... ثم ، وبنفس الوتيرة الصاعقة ، يدس يده داخل قبة الكنزة ، ليخرج من عشه ، طائراً ، كان قد أعياه الانتظار .  ليلتقط فرخاً ، كان لا  زال ، بطراوة اللحم . يحتضنه بباطن  كفه ،  بشغف وورع ، كـأنه الدر المكنون . نظراته  كانت مفترسة ، وذلك العصفورالمدلل ، كان شهياً ومثيراً ، ويحلم بأن  يطير . 
 كان شيئاً مذهلاً ما كنت أراه ، أهو صدري هذا المتحول ? هذا الحرون الجسور الذي يثب ويندفع بتلك الشهوة العميقة ? أهو صدري هذا ، الذي يعرف كيف يغري ويتغاوى برونقه وملمسه، وانزلاق النور عليه ، مشرباً بتلك الحمرة الخفيفة ? أهو نور الشمس ما جعله حقاً مضيئاً تلك اللحظة، أم أنه إنقشاع اللون عنه ، ليختلط فيهما بنضرة وإشعاع غير عاديين ?
كان حقاً منظراً فريداً هذا الذي كنت أراه . صدري المسكون برغبات البوح الدفينة فيه دهوراً ، فم وشفتان طريتان لطالما اشتهيتهما  ، تجوبانه بالطول والعرض ، تتمرغان فوق ذلك السفح الدافئ ، في كر وفر ، كأنهما تسعيان إلى احتواء المكان .  ذاك التماس الصاعق كان مباغتاً ، ومتفجراً ، حتى بدت لي تلك اللحظة كأنها اختراق للقدر .
 
  دقيقة أو دقيقتان من العمر دام فيهما هذا اللقاء . ربما تكون ثلاث دقائق ، وأنا لم انتبه ? ممكن ! كنت كالمصعوقة ولم أنتبه . كنت كالمصعوقة ولم أعد أذكر أيهما كان أقوى عندي لحظتها : شعوري باللذة أم بالغرابة ?
 أذكر بأنني لم أنبس ، ولم أتحرك في مكاني ، كأنني أتفرج على لعبة مثيرة تجري أمامي . ثم ? ....
ثم توقف كل شيء ودفعة واحدة ! فجأة ، كما بدأ ، ارتد عني وهو لا زال متبلبلاً ، متهدجاً ، وكأن الخيط الذي كان بيننا قد انقطع ، كأن السحر قد توقف ، كأن الساعة قد دقت ، وعادت " سندريلا " إلى ثيابها الرثة .
هو الخوف ، على الأرجح من أننا لسنا في مكان آمن ، ما أعاد إليه عقله .
الرغبة كانت قد أفقدته صوابه ، والخوف أعاد إليه عقله .
 دقيقتان من العمر، كنا فيها معاً ، بدون خوف ، وبدون عقل .........
دقيقتان من العمر ، خارج حدود السلطة ، والإرادة ، والتيقظ  ، والحسابات ........... 
دقيقتان من العمر ، خارج حدود الأخلاق ?
ربما ، ربما هما كذلك ، عزيزتي ،  لكنهما دقيقتان ، لهما من السحر والقوة والجمال أسنان  حفرت في قلبي ، وفي ذاكرتي البعيدة .
ثم ، عاد كل شيء ، إلى فقره المميت .
 
ثم ، هذا اللا شيء البارد ، القاتل ......... العدم الكامل ، العماء .......
 
لا شيء بعدها يستحق أن نقوله ، أو نذكره ، أو نعود إليه . صدقيني ، صفاء: هبطنا من الأسطورة إلى اللاشيء ، العالم الحقيقي ? بل هو الوهم الكبير .............
 
عاد هو ليعتذر ، بكلمات من زمننا الأرضي : كانت هفوة ، لحظة ضعف ، أشياء كهذه نسيت تفاصيلها ، وينزلق في غمرة تبريراته ليشتكي ، بأنه لا يحلم إلا بأن يراني ممددة أمامه وعارية تماماً . كان ينطق عن الهوى ، كان لا يزال يهلوس ........ لم أعد أسمع ما كان يقول ، انبهاري ، وتوتري ، كانا يمنعاني من التفكير ، إلا في شيء واحد بوقتها : هو أن أعرف مصيري معه !
استجمعت شجاعتي ، كل شجاعتي ، لأنها كانت تلزمني كلها ودفعة واحدة ، وقررت اقتناص اللحظة التي لن تتكرر أبداً . لو سكت لحظتها  لسكت العمر كله ، دون أن أسأل شيئاً . بقوة انفعال تلك اللحظة ، التي شعرت للتو ، بأنها تنتمي إلى طقوس القرابين ، تكورت الكلمات داخل صدري . وبقوة انفعال ما كان يعتمل في صدري من ألم ورهبة ، دفعتها ناشفة ، خشنة ، تكاد تلتصق ببلعومي ، فخرجت تتدحرج ، كالدبش الثقيل ، وصرت أطردها طرداً، وهي تتشبث بحلقي ، كمن ينتزع حشرة ........
تأتأت ، بل ، غمغمت ، أو ربما حشرجت ، بصوت لم أسمعه من قبل ، ولا أعرف مصدره :
  ـ  " هل لا زلت ترى نهى ? " ، قلت .
  ـ  "نعم " ، أجاب .
 ـ  " وهل لا زلت تحبها ? " ، أضفت .
  ـ  " نعم " ، أضاف !
...................................................
   إنتهى الكلام وإنتهت مهمتي العسيرة !
ثم صمتنا دهراً .............
 دهراً طويلاً صمتنا ، عزيزتي .
  ثم عدنا إلى المدينة ...........
  إلى المدينة عدنا ، عزيزتي ، صامتين ، مكسورين .........
  سأتركك الآن ، صفاء ، يبدو أن وقت الذهاب قد حان ، ولأن لكل شيء أوانا ، وأشعر الآن بأنني أريد أن أرتاح .  سأعود إليك غداً ، فاعذريني ، وإلى اللقاء .
*عبدالرؤوف النويهى
11 - أكتوبر - 2007
 5  6  7  8  9