رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (10)     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
الفصل السابع مذكرات (7) بين الرماد والورد " يأتي وقت بين الرماد والورد ، ينتهي فيه كل شيء ، يبدأ فيه كل شيئ " أبحث عن وجهي في المرآة ولا أجد ما أبحث عنه . يلزمني الكثير لكي أصبح" حلوة" ، يلزمني أيضاً الكثير من الأناقة لكي أشعر بالثقة . بالأمس ، كان لدينا محاضرة في " الجماليات " . الأستاذ الطريف جداً، الذي جاءنا حديثاً من أميركا ، بعد أن درس وأقام فيها سنين طويلة ، يأتينا بأفكار طريفة على شاكلته . هي تشبه بألوانها توليفة ثيابه الصفراء والبرتقالية ، التي يبدو فيها كأنه صحن بيض بالبندورة . بساطته بالتعامل معنا فيها سذاجة مؤكدة ، رغم أنها تروق لنا كثيراً. لكنني أتساءل : كيف سيصمد بها أمام كل تلك المؤامرات التي تحاك ضده في الإدارة ? يريد لنا بأن " نتحرر" ، ويظن بأن المشكلة هي في الكبت الجنسي ، وفي حرية إبداء الرأي . إن ما يتجرأ عليه بأفكاره عن " الحرية " وخصوصاً في حديثه عن الجنس ، الأكثرية يطبقونه بدون نظريات كبيرة ، لكن في الخفاء .............. أنا أسمي هذا أفكاراً مدللة لإناس مدللين ، لم يلمسوا قعر الهاوية . هو يقول بأنه يشعر بالإهانة في كل مرة يضطر فيها للوقوف على حاجز لقوات الردع ......... طبعاً ، هو لم يعش هنا أيام الحرب ، ولا يعرف أين يضع هذا النوع من الإهانة في سلم أولويات الحياة ، عندما يكون عليه أن يجد لها مكانها بين مشاعر أخرى أشد سطوة ، مثل : الجوع والخوف والعيش بدون استحمام ، وفقدان الأمل بالعودة إلى الحياة العادية للبشر ......... لو جرب انقطاع الماء والكهرباء والاختباء في الملاجئ لمدة سنتين متواصلتين ، وكان عليه أن يحمل دلواً من الماء إلى الطابق الرابع صعوداً على الدرج المظلم ، في كل مرة يضطر فيها لأن يقضي حاجته ، لفهم ما معنى الإهانة .......... بالأمس سألني ، خلال النقاش ، أثناء المحاضرة ، "هل من الممكن لي أن أحب رجلاً أشعر بأنه سهل المنال? " ........... كان يجب أن يختارني أنا بالذات لهذا السؤال ? ..... لما لا يسأل "أمال" ? . هي كانت قالت له : " والله حسب يا أستاذ ، فهل هو للسوق ، أم للصندوق ، أم لغدرات الزمان ? " . عندها سيضيع ، فهو لم يقرأ في مكيافللي هذا المثل ........ ولَكُنا ضحكنا وقتاً طويلاً . لكنه سألني أنا ، وأنا قلت : " لا " . هو يظن أن ما نعانيه للحصول على الشيء ، هو ما يحدد قيمته بالنسبة لنا . وفي هذا وجهة نظر ، لكنه برأيي ، نصف الطريق . هذه أفكار أميركية صرفة : يظنون أن كل شيء له ثمن ، أو مقابل ، وأن قيمة الشيء ، تكون بقيمة الثمن المدفوع مقابله ......... بإعتقادي ، العكس هو الصحيح ، أعتقد بأن حاجتنا إلى الأشياء هي التي تحدد قيمتها بالنسبة لنا ، وهي التي تحدد بالتالي : الثمن . إلا أنهم نجحوا في قلب المعادلة واختراع حاجات وهمية للإنسان ، وبالتالي قيماً وهمية . هذا هو الاستلاب بشكله الجديد ........ على أية حال ، هو بسؤاله نبهني إلى شيء ما كنت غافلة عنه ! البديل ، يجب أن أحسم أمري معه . الرسالة السابعة اليوم الشهيد ! عزيزتي صفاء : جئت اليوم لأحدثك عن يومي الشهيد ! ذلك اليوم سأصفه لك بكل تفاصيله التي لا أزال أذكرها بوضوح ، فهو اليوم الذي دفنت فيه كل أحلامي ، وكل البراءة التي كنت أعيش فيها ، حتى ذلك الحين . كان شتوياً ذلك النهار ، إلا أن الجو كان رائعاً ، لأن الشمس كانت قد سطعت من بعد رعود وأمطار دامت كل فترة ما قبل الظهيرة . التقينا قبيل العصر بقليل ، في نزهتنا المعتادة على الطريق السهلية ، البحرية ، وكان لي قلبٌ يومَها له جناحات . الأرض كما السماء ، كانت قد اغتسلت بماء غزير، أعاد إليها رونقها ، وأعاد إليها هدوءاً كانت قد عكرته العواصف . حتى البحر ، بدا إذ ذاك أكثر إتساعاً وجاذبية ، تحت خيوط الشمس النحيلة . الطريق ، الشجر ، البيوت ، بدت كأنها رسمت من جديد ، لأن حجاب البلل الشفيف الذي كان يغلفها ، ضاعف من عمق اللون فيها ، فانقشعت معالمها . كل شيء كان وضاءاً ، مشعاً ، واعداً بالحياة . كنت أرتدي كنزة صوفية ، زهرية اللون ، مفتوحة قليلاً عند الصدر، تحت سترتي التي تخليت عنها ، بمجرد صعودي إلى السيارة . الجو فيها كان دافئاً بحرارة التسخين ، وبهجة الألوان الصارخة ، واتقاد الرغبة المطلة من جسمي ، ومن عينيه . ووجدته على غير عادة ، وبدون أي كلام ، ينحرف عن الطريق الاعتيادية . ووجدتنا وقد توقفت بنا السيارة ، في مكان خال بين الشجر ......... فجأة ، صرنا وحدنا في حضن الطبيعة ، كأننا عدنا لمهدنا الأول . المشهد ، كان خيالياً ، المشهد كان أسطورياً ، و كل ما كان قبله ، وكل ما كان بعده ، هوالسراب ........ في تلك اللحظة الفريدة ، رأيته يرتمي على صدري . يهوي إليه كجرم هبط من السماء الأعلى ، ليتناثر فوقه كانشطارالنيازك . في دفعة واحدة ، صار يتدحرج على سفحه ، كانحدار الصخرعلى باطن الجبل ..... في دفعة واحدة ، لا تقبل الشك ، ولا التفكير ، ولا التردد ، ولا الانتظار .......... في انحناءة ، تشع فيها العيون ، باتقاد غريب ، ويكاد يفر منها النظر ..... ثم ، وبنفس الوتيرة الصاعقة ، يدس يده داخل قبة الكنزة ، ليخرج من عشه ، طائراً ، كان قد أعياه الانتظار . ليلتقط فرخاً ، كان لا زال ، بطراوة اللحم . يحتضنه بباطن كفه ، بشغف وورع ، كـأنه الدر المكنون . نظراته كانت مفترسة ، وذلك العصفورالمدلل ، كان شهياً ومثيراً ، ويحلم بأن يطير . كان شيئاً مذهلاً ما كنت أراه ، أهو صدري هذا المتحول ? هذا الحرون الجسور الذي يثب ويندفع بتلك الشهوة العميقة ? أهو صدري هذا ، الذي يعرف كيف يغري ويتغاوى برونقه وملمسه، وانزلاق النور عليه ، مشرباً بتلك الحمرة الخفيفة ? أهو نور الشمس ما جعله حقاً مضيئاً تلك اللحظة، أم أنه إنقشاع اللون عنه ، ليختلط فيهما بنضرة وإشعاع غير عاديين ? كان حقاً منظراً فريداً هذا الذي كنت أراه . صدري المسكون برغبات البوح الدفينة فيه دهوراً ، فم وشفتان طريتان لطالما اشتهيتهما ، تجوبانه بالطول والعرض ، تتمرغان فوق ذلك السفح الدافئ ، في كر وفر ، كأنهما تسعيان إلى احتواء المكان . ذاك التماس الصاعق كان مباغتاً ، ومتفجراً ، حتى بدت لي تلك اللحظة كأنها اختراق للقدر . دقيقة أو دقيقتان من العمر دام فيهما هذا اللقاء . ربما تكون ثلاث دقائق ، وأنا لم انتبه ? ممكن ! كنت كالمصعوقة ولم أنتبه . كنت كالمصعوقة ولم أعد أذكر أيهما كان أقوى عندي لحظتها : شعوري باللذة أم بالغرابة ? أذكر بأنني لم أنبس ، ولم أتحرك في مكاني ، كأنني أتفرج على لعبة مثيرة تجري أمامي . ثم ? .... ثم توقف كل شيء ودفعة واحدة ! فجأة ، كما بدأ ، ارتد عني وهو لا زال متبلبلاً ، متهدجاً ، وكأن الخيط الذي كان بيننا قد انقطع ، كأن السحر قد توقف ، كأن الساعة قد دقت ، وعادت " سندريلا " إلى ثيابها الرثة . هو الخوف ، على الأرجح من أننا لسنا في مكان آمن ، ما أعاد إليه عقله . الرغبة كانت قد أفقدته صوابه ، والخوف أعاد إليه عقله . دقيقتان من العمر، كنا فيها معاً ، بدون خوف ، وبدون عقل ......... دقيقتان من العمر ، خارج حدود السلطة ، والإرادة ، والتيقظ ، والحسابات ........... دقيقتان من العمر ، خارج حدود الأخلاق ? ربما ، ربما هما كذلك ، عزيزتي ، لكنهما دقيقتان ، لهما من السحر والقوة والجمال أسنان حفرت في قلبي ، وفي ذاكرتي البعيدة . ثم ، عاد كل شيء ، إلى فقره المميت . ثم ، هذا اللا شيء البارد ، القاتل ......... العدم الكامل ، العماء ....... لا شيء بعدها يستحق أن نقوله ، أو نذكره ، أو نعود إليه . صدقيني ، صفاء: هبطنا من الأسطورة إلى اللاشيء ، العالم الحقيقي ? بل هو الوهم الكبير ............. عاد هو ليعتذر ، بكلمات من زمننا الأرضي : كانت هفوة ، لحظة ضعف ، أشياء كهذه نسيت تفاصيلها ، وينزلق في غمرة تبريراته ليشتكي ، بأنه لا يحلم إلا بأن يراني ممددة أمامه وعارية تماماً . كان ينطق عن الهوى ، كان لا يزال يهلوس ........ لم أعد أسمع ما كان يقول ، انبهاري ، وتوتري ، كانا يمنعاني من التفكير ، إلا في شيء واحد بوقتها : هو أن أعرف مصيري معه ! استجمعت شجاعتي ، كل شجاعتي ، لأنها كانت تلزمني كلها ودفعة واحدة ، وقررت اقتناص اللحظة التي لن تتكرر أبداً . لو سكت لحظتها لسكت العمر كله ، دون أن أسأل شيئاً . بقوة انفعال تلك اللحظة ، التي شعرت للتو ، بأنها تنتمي إلى طقوس القرابين ، تكورت الكلمات داخل صدري . وبقوة انفعال ما كان يعتمل في صدري من ألم ورهبة ، دفعتها ناشفة ، خشنة ، تكاد تلتصق ببلعومي ، فخرجت تتدحرج ، كالدبش الثقيل ، وصرت أطردها طرداً، وهي تتشبث بحلقي ، كمن ينتزع حشرة ........ تأتأت ، بل ، غمغمت ، أو ربما حشرجت ، بصوت لم أسمعه من قبل ، ولا أعرف مصدره : ـ " هل لا زلت ترى نهى ? " ، قلت . ـ "نعم " ، أجاب . ـ " وهل لا زلت تحبها ? " ، أضفت . ـ " نعم " ، أضاف ! ................................................... إنتهى الكلام وإنتهت مهمتي العسيرة ! ثم صمتنا دهراً ............. دهراً طويلاً صمتنا ، عزيزتي . ثم عدنا إلى المدينة ........... إلى المدينة عدنا ، عزيزتي ، صامتين ، مكسورين ......... سأتركك الآن ، صفاء ، يبدو أن وقت الذهاب قد حان ، ولأن لكل شيء أوانا ، وأشعر الآن بأنني أريد أن أرتاح . سأعود إليك غداً ، فاعذريني ، وإلى اللقاء . |