والله زمان ..... كن أول من يقيّم
النص لميرال الطحاوي منقول من رواية " الخباء " الصادرة عن دار الآداب ـ بيروت 1999
والله زمان ما قلت بوشان... ولا حام طير المنايا
ولا تقطعت روس فرسان .. قدام جَمَل الصبايا
في الصباح ليلة جديدة نترك فيها " فوز " و " صافية " يرتبان حوائجهما في الصناديق وتحزمان ما لهما من مطالب ، وتترك بابها الموارب يزداد نحيباً ، وشهيق نشيجها يعلو كأنه يؤنس صمت البيت الموحش رغم كل مظاهر العرس ، حتى ليلة الحناء ، لم تخرج ، دخلت " صافية " إليها وخرجت باكية ثم قالت للجدة :
ــ ليس لي في العرس ولا الخضاب ... اتركوني معها " فنخزتها الجدة في صدرها بالعصا وقالت : " صرت ملك رجلك يا خلفة السوء .. منذ متى صار لك لسان يا بعر المطايا ، مالك خيرة في شيء يا بغيضة " .
بكت " صافية " بمرارة ثم ابتلعت دموعها ومدت كفيها وساقيها للخضاب ، ولم تحوم " فوز " ناحية بابها الموارب ، حتى وهي تركب في " شبرية " عرسها .
رائحة الحناء كانت تتسرب في كل ركن ممزوجة بالمستكة والبان وخليط الدهون النفاذة على الجدائل ، والأثواب الزاهية تطوى مضمخة بالعطور .
ولمع البرق ورنت الأساور والخلاخيل والنبايل وكرادين الصدر . انكفأ ظهر " فوز " النحيل من كثرة ما حملت من مزاين تصلصل في صدرها ووسطها ، وبدت " صافية " جميلة وحزينة وكأنها كبرت دهراً ، وجاءت " آن " ترتدي فوق سروالها عباءة كعباءة الجدة مطرزة بالألوان المتداخلة ، وأرسلت شعرها المذهب ، وكان وجهها بلا ندوب مطلياً باللون الوردي ، كانت مشرقة وجميلة وخفتت عيون النسوة ، وتبادلن مصمصة الشفاه والهمس كلما قامت أو جلست ، عيناها تروحان وتجيئان بين كل التفاصيل كأنها تمتصها .
جاءت الجمال و" الشباري " منذ طلوع الشمس وجاء أبي فحمل جسد ابنة بعد أخرى ، ثم دخل غرفته وأغلقها عليه ، وتحرك ركب الفرسان بالخيول فالجمال والشباري ثم بقية الركائب وكان الحداء مبهجاً .
ــ " وإن زغردت لي لأغني .. واشرح قلوب الحزينة ، وأنا عارف اللي قتلني .. أبيض ورقيبته طويلة " .
خبط الأكف وصفير الشباب في المقدمة ، والزغاريد من وراء المطايا والعبيد يجرون خلف الموكب :
ــ " عقدك من التارة للتارة .. مزيكة في ايدين نصارى " .
يصفقون والخرطوش يهدر في السماء ، حتى نساء الفلاحين بصدورهن المفتوحة ووجوههن السمراء المكشوفة خرجن ومن خلفهن صغارهن ، يفتحون أفواههن بدهشة ور ينطقون ، والصوت كلما اقتربنا صار أكثر جلجلة .
ــ " يوم أن قلتم فَرَحنا .. لاجي والرِّجل حافية ، لفوا البكرج على اليمين .. وحيوا ضيوف وحَلِّية " .
يرمح الشباب يتسابقون بخيولهم ، يسبقون الموكب ويعودون ، والصبايا يرمقنهم من تحت البراقع ويتعالى الهمس المعتاد ، والصفير يعلو من كل جانب .
ــ " يا ستار النار كلتنا .. والعين السودة قتلتنا " والزغاريد تفلق سكون الأرض الرملية ونصل السور الطيني والبوابات المفتوحة التي تتلقاها بمزيد من الزغاريد والخرطوش ، معركة حامية في السماء والأرض .
كان البيتان متواجهين ، غرف طينية مسقوفة بالخشب وعلى جانبيها الشرفات الواسعو والسلمات ، وبعيد تسكن غرف الخبيز والطبيخ بطينها الذي أكله الرماد ، والأحواش الواسعة بمرابطها وشجرة مستكة وحيدة تظلل فسحة البيت والبقية خلاء موحش منضود به خيمات متباعدة ، كل خيمة تعطي ظهرها للبيت وتواجه خلاء أكثر وحشة . قالت النسوة وهن يلتهمن اللحم المكدس فوق " أناجر " الخبز المفتوت :
ــ " سند وونس ، أختان في بيت واحد " .
ــ وقالت الأخرى " سترة البنت هم والله " .
وتطوعت الجدة بمواعظها : " والله جلبة شوم .. وقنايتهم حرام ، بضاعة تربيها لغيرك ، إن تركتها بارت وإن بعتها عليك الخسارة " .
ــ " صدقت يا خالة " حاكمة " نربي ونهنن ومسيرهن لحجر غيرك " .
ــ " يكفينا الله شر بلاياهن .. والله ما عاشت لي بنت ، قالوا يا " حاكمة " أين تذهب بناتك ? ! قلت الله يكفيني شرهن ، مصلية والله مصلية وداعية " .
ــ " صدقت يا جدة ، صدقت ، لكن بيموتوا كده .. قدر الله يا جدة ، قدر الله أم ? ! " .
ــ " قدر الله يا بنت ، داعية ومصلية ما يبقى لي منهن شيء ، مسافة ما البنية توأوأ يأتيها ستار الصبايا ، يحمل ويشيل ، لكن وليدي الله ابتلاه وهو صابر " .
يمصمصن شفاههن بتأثر ويتقاسمن قطع اللحم المسلوق ويتلمظن بالحكايا ، وحين ينفضن أيديهن من بقايا الوليمة يلملمن حوائجهن ويبدأ الركب في التفرق ، كل جماعة بواد ، ونعود ، أقل كثيراً مما ذهبنا ، ندلي رؤوسنا بحزن ، والجدة تتنفس بتأفف ، خلصت من نصف البضاعة وبقي هم النصف الآخر ، و" سردوب " تنهنه بالدموع والبقية كل في ملكوته ، والبيت ساكن وهي في غرفتها غارقة في دمعها .
|