شاعرات ثمانينات القرن العشرين (1) كن أول من يقيّم
شاعرات ثمانينات القرن العشرين حضور مدهش وغياب مفاجئ في سبعينات القرن العشرين، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تنمو بتجربتها الوحدوية الرائدة نحو بناء الفكر الإنساني ودعم الثقافة الوطنية عبر جهود أبنائها، الذين وجدوا أنفسهم بشكل تلقائي يسهمون في رفعة هذا البناء الوطني الجديد. ومنذ ذلك الوقت، بدأ المجتمع يتعرف إلى شريحة من الشعب حمل على عاتقها المسألة الثقافية محمل الجد، وفتحت قنواتها نحو ما يحقق هوية هذا الوطن، مستفيدة من الخبرات والتجارب العربية الإنسانية فكان لوجود الأديب ضرورة قصوى تكمل وجه النهضة، حيث شهدت السبعينات ظهور أسماء محدودة العدد في فضاء الإبداع الشعري والقصصي، وازدادت التجربة عمقاً في الثمانينات التي أضافت أسماء شابة آنذاك متأثرة بمدارس أدبية مختلفة وخاصة مدرسة الحداثة. وقد وجدت هذه الأسماء اهتماماً إعلامياً وثقافياً طيبا، واحتفي بها بإقامة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات.. والذي كان وجوده ضرورة حتمية مع مضي الساحة في جذب التجارب المختلفة ودفعها إلى جرأة اقتحام الأدب (لا سيما الشعر) مكتسبة من الخبرات العربية ملامح تخصها.. وكان أكثرها تأثيراً تلك الخبرات التي أشرفت على الصفحات لثقافية في الصحف المحلية. في خطوة مهمة للتوثيق أصدر الاتحاد كتابين وثق فيهما أسماء تلك الفترة، كتاب “كلنا نحب البحر” لمجموعة من كتاب القصص القصيرة الإماراتيين، وكتاب “قصائد من الإمارات” للشعراء منهم وما أن انتهت الثمانينات، حتى كان عددٌ كبيرٌ من الأدباء قد أكمل انسحابه عن الساحة الأدبية في الوقت الذي كانت فيه تؤسس كما يبدو لشعر إماراتي معاصر له خصوصيته وملامحه تساوى في ذلك كتاب الشعر وكتاب القصة، ذكوراً وإناثاً. وبقي سؤال: هل هو انسحاب عن الكتابة? أم انسحاب عن النشر?! في ورقتي هذه لا أبحث في هذا السؤال، ولكنها محاولة في البحث عن أسباب الغياب، أسباب وجدتها في رؤى بعض الكتاب التي هي بلا شك غير كافية لتحليل مثل هذه الظاهرة، وأسباب أخذتها من الواقع، من أصحاب الحالة ومن عايشوهم في ذلك الوقت. حضور الشعر في الوقت الذي كان فيه جيل ما بعد الثمانينات بعيداً بمسافات متفاوتة عن الساحة الشعرية في الإمارات، كانت كوكبة من الأسماء تعيش الشعر إنتاجاً كتابياً غزيراً، وحضوراً في الفعاليات الأدبية خاصة عبر الصفحة الثقافية أو الملحق الثقافي في الخليج، الذي توالى على الإشراف فيها?مراجعة مستويات المنشور على صفحاتها شخصيات أدبية عربية معروفة ببعد فكرها وعمق ثقافتها، وأحاطت الأعمال الأدبية برؤى نقدية أسهمت في دعم التجربة الشعرية بأشكال من المعارف. أيامها قرأنا لحبيب الصايغ وظبية خميس ونجوم الغانم وخالد بدر عبيد، كما قرأنا لمنى سيف وأمينة عبد العزيز ورؤى سالم وسارة حارب وابتسام سهيل وأحمد راشد سعيدان وعمر المرزوقي وهاشم الموسوي ومحمد شريف الشيباني وعبيد موسى وهالة حميد معتوق. فقد مثل هؤلاء مرحلة تاريخية مهمة كانت جديرة بالتسجيل والرصد بالرغم من أن تجارب البعض كانت لا تزال في طور النمو والتشكل، بينما ينتظر المتابعون والنقاد بكثير من الأمل أن تتجذر هذه التجارب وتنمو لتصل إلى مستوى متميز في التعبير الفني. لقد كانت الساحة تموج بجماليات التمازج الفكري والثقافي بين الإماراتيين والإخوة العرب، وهي جماليات مقدر لها أن تتوحد واقعياً وتاريخياً مروراً بكل مقومات الوحدة التي تجمع الأمة بغض النظر عن مستويات تطبيقها. فالثقافة واحدة، وأجمل ما فيها هذا التشظي والتفرع، المبني على لغة البيئة ورموزها، جاءوا من العراق وسوريا ومصر والسودان ليشكلوا مع أبناء البلاد فوجاً يحمل على عاتقه تأسيساً لثقافة مغايرة، وآداب وفنون مختلفة مرسومة بملامح الإمارات، مكتنزة بخصوصية لا مثيل لها، تبدأ من زمن ما قبل النفط وتمر بلحظة الإعلان عن اتحاد الدولة لتتشرب وقود الرحلة القادمة والمهمة إيذاناً بالانطلاق نحو التأسيس الثقافي. في تلك الآونة? والدنيا تتطلع إلينا، والشكوك ماضية في استمرارية نجاح هذا المشروع الوحدوي، مضت تلك الكوكبة الثقافية العربية الإماراتية في طريقها، شأنها شأن أية رحلة تنموية في تلك السنوات، مضت واثقة بأن الأيام آتية باكتمال البناء. كانت المعارك الأدبية أكثر وضوحاً وصراحة ومواجهة.. بالرغم مما كانت تؤول إليه أحياناً من نتائج غير مرضية وكانت قصائد بعينها تأخذ حظها من القراءات النقدية والاهتمام الصحفي الواسع. بل إن بعض المفاهيم الصادمة لثقافة المجتمع المحافظ والمبني على مجموعة القيم والعقيدة، وجدت من يتصدى لها ويحللها ويعيد قراءتها من مفهوم ثقافي يضع في اعتباره أول ما يضع القيم الثابتة التي تتعارض مع كتابات ترى أن في ذلك حرية يحتاجها الإبداع، وجرأة لا بد منها كي يحقق درجته الإبداعية، كقراءة إبراهيم بوملحة لبعض قصائد ظبية خميس. تجارب وصراعات كما كان هناك صراع ليس صاخباً صوته خافت بين الشاعرة والمجتمع الذي لا يريد أن تقرأ ابنته من خلال سطور ذات إيقاع وتفاعيل ولغة مشاغبة تتحدى الكلام المألوف لتصبح إعلاناً صارخاً يقرؤه الجميع، فكانت الحيلة التي لجأت إليها الشاعرة كي تعطي نفسها فرصة لبوح أكثر حرية أن توارت وراء أسماء مستعارة، سواء كاملة أو جزئية، لذلك لن نستغرب لو عرفنا أن الشاعرات رؤى سالم، وسارة حارب، ومنى سيف، وحصة طالب إضافة إلى شاعرات الشعر الشعبي مثل أنغام الخلود، وفتاة الشارقة، وفتاة دبي، قد حملن هذه الأسماء ليحافظن على حضورهن. هذا الصراع لم يكن مشكلة لشاعرات أخريات ظبية أو نجوم أو ميسون.. كما أنه لم يشكل مشكلة من دون حل للشاعرات اللواتي بدأن بنحت أسمائهن الصريحة في عالم كتابة الشعر مع بدء التسعينات. وهنا أتساءل:هل يمكن أن يكون الاسم المستعار سبباً للرحيل بعيداً عن ساحة الشعر? هل يصبح خانقاً إلى حد عدم احتماله واحتمال رؤيته موقعاً به في آخر النص، كما حدث للكاتبة السعودية بنت يام التي اتخذت قراراً جريئاً للخروج من هذا المأزق بالإعلان عن اسمها نورة بنت مسلم والاستمرار فيما بدأته تحت اسمها الحقيقي? وقد واكبت هذا الظهور مطبوعات أخرى ساندت جريدة “الخليج” في دعمها وتعريف المجتمع بها، وأهم هذه المطبوعات “الأزمنة العربية” التي لم تكن تكتفي بما يرسل إليها من نتاج أدبي، بل كانت تبحث عن هذا النتاج وترحب به على صفحاتها، أما التناوش بين طرفي الحداثة والتقليد، فقد ظل مثرياً للساحة وللرؤى الأدبية.. كما ظل كل طرف محتفظاً بأحقيته في الاختيار، في الوقت الذي ظهر فيه طرف ثالث في الشعر محايد هو طرف وسطي يمثله فريق التفعيلة، وهذا لم يكن يعني ألا يدخل كل طرف منطقة طرف آخر من باب التجربة ربما.. أو تحدي قدراته أو قدرات الطرف الآخر. في ظل هذا الواقع تكرست أسماء عشقت الشعر، وأحبت أن يكون لها نصيب منه، فجعلته الهوية الإبداعية الأساسية في تجربتها. ولأنني معنية في ورقتي هذه بالشاعرات، ولأن الشاعرة المرأة تمثل دائماً إشكالية، وتطرح أسئلة، فإنني أود أن يكون الحديث عن غيابها هي بالذات، وإن كان الحديث يأخذني في هذه الورقة إلى مساحة تشمل الشعراء الذي انزووا هم أيضاً باعتبار أن هناك أسباباً للصمت تجمع الطرفين. الشاعرات اللواتي نفتح صفحة فترة الثمانينات من القرن الماضي هن: رؤى سالم، سارة حارب، ابتسام سهيل، أمينة عبد العزيز، حصة عبد الله، فرح مختار، ليلى أحمد (وهي قاصة أيضاً)، منى سيف، هالة حميد معتوق. وبينما تابعت كل من ميسون صقر وظبية خميس ونجوم الغانم مشروعاتهن الشعرية بالرغم من انقطاعات زمنية يلجأن فيها إلى الصمت لأسباب مختلفة فإن صمت الأخريات طال إلى درجة أنه أصبح وكأنه إعلانٌ “غير معلن” لعدم العودة ثانية. الغياب لماذا? يحضرني هنا هذا الجزء من قصيدة للشاعرة سعاد الصباح،حيث تقول: يقولون إن الكلام امتياز الرجل فلا تنطقي ويقولون إن الكتابة إثم عظيم فلا تكتبي أعرف قصة واقعية لشاعرة عربية شابة ( غير خليجية ).. كانت شاعرة معروفة في بلادها في التسعينات، حيث حظيت باحتفاء نقدي لديوانها الذي لم تصدر غيره.. وأقيمت لها أمسيات عديدة وفي مواقع ثقافية مهمة في محيطها، وفجأة اختفت. وبعد السؤال عنها لدى من كانوا يعرفونها، وعن سبب انقطاع اتصالاتها مع الصديقات والأصدقاء داخل وخارج القطر، قيل لي إنها تعرضت لقمع عشائري، حدد إقامتها تمهيداً لمحو اسمها من ذاكرة ثقافة وطنها. وقد يكون السبب واضحاً من خلال هذين النموذجين: أحدهما نص لشاعرة، والآخر قصة حقيقية لشاعرة أخرى جسدت في الواقع نص سعاد الصباح. وحتى لا أتورط في موضوع الصراع الذي يُراد له ألا ينتهي بين الرجل والمرأة (باعتبار أن كلمة الرجل هي النافذة في العشيرة أو المجتمع).. فإنني أتحول إلى ما يمكن أن يكون أسباباً أخرى للصمت. أقوال محبطة كثيراً ما تحيط الشكوك بقدرات المرأة الشعرية، فتعطي درجة أدنى مما يكتبه الشاعر، فقد ورد عن أحد كتاب القرن العشرين العرب قوله: “إن الشعر نادر، ولدى النساء أندر”. وشاعر في قرننا هذا يقول: الشاعرة الحقيقية غائبة. ويقول ناصر عراق “نستطيع أن نقرر من اليقين أن الشعر العربي كله الذي يمتد في التاريخ قرابة ألفي عام، لم يلتفت باهتمام لائق إلا إلى اثنتين من النساء “المبدعات” هما الخنساء في القرن السابع الميلادي، ونازك الملائكة في القرن العشرين”. بينما تتساءل بهيجة مصري إدلبي في مقالتها، تساؤلات حول أدب المرأة إن كانت المرأة المثقفة تدرك هشاشة دورها خارج البيت? أقوال محبطة قد تمر عليها الكثيرات من دون أن تترك أثراً سوى التحدِّي لأن يكن صاحبات الشعر النادر، وليزدن عدد الشاعرات في قائمة لا تضم سوى الخنساء ونازك الملائكة. وفي المقابل، قد تحدث مثل هذه الأقاويل شرخاً في ثقة إحداهن بقدرتها الإبداعية وبنتاجها الشعري.. وليس في “الصمت” لهذا السبب مبالغة، فكل نفس إنسانية تنطوي على خواص واستعدادات خاصة قد تفاجئ صاحبها أحياناً. ومع ذلك، فإن المرأة إن أدركت عن اقتناع هشاشة دورها أو موقعها في المجتمع، واتخاذها بناءً على ذلك نمطاً سلوكياً استسلامياً يتجاوب مع هذا الإدراك أمر يحسب عليها لا على المجتمع، فالمجتمعات المتطلعة إلى النمو لا تستسيغ المستسلمين والمتراجعين عن غايات هم وضعوها ثم تخلوا عنها. |