البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0    قيّم
التقييم :
( من قبل 10 أعضاء )

رأي الوراق :

 عبدالرؤوف النويهى 
30 - أبريل - 2007
عبر سنوات طويلة ،شاركت المرأة العربية المثقفة  بإبداعاتها المتميزة الرصينة الراقية  فى مسيرةالفن والأدب والفكر العربى ،ولم تقف مكتوفة الأيدى ، بل كانت شاعرة وناقدة وقاصة وباحثة فى مجالات العلوم المتنوعة ومناضلة فى المعترك  السياسى وناشطة فى الميدان الإجتماعى ، وبرعن براعة، تأخذ بالألباب وتسكر العقول 0فى أحضانهن ترعرعنا ،وعلى أيديهن تعلمنا ،وإليهن كل التقدير والإحترام 0
لن أنسى مارى زيادة وبنت الشاطىء ونازك الملائكة وفدوى طوقان وجميلة بوحريد ولطيفة الزيات وأم كلثوم وفيروز ومئات الأسماء المشرقات فى سماء وطننا العربى الكبير 0
 فليكن هذا الملف تذكارا  لإبداعهن ، وتقديرا  لدورهن ، وعرفانا بفضلهن على مدى الأجيال0
 1  2  3 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
فلسطين الملتقى والعناق 0000فدوى طوقان (1)    كن أول من يقيّم
 
فلسطين جرحنا النازف دوما 0
فلسطين الأقصى الشريف 0
فلسطين الناصرة ،بيت لحم 0
فلسطين الملتقى والعناق ،مهما طال الإحتلال 0
                                                           
                                                        عبدالرؤوف النويهى
 
                                            ***********************************
 
                      الشاعرة الفلسطينية /  فدوى طوقان
 
ولدت الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان في مدينة نابلس سنة 1917 لعائلة عريقة غنية ومحافظة جداً، وفيها تلقت تعليمها الابتدائي ولم تكمل مرحلة التعليم التي بدأتها في مدارس المدينة، فقد أخرجت من المدرسة لأسباب اجتماعية قاسية، جعلتها تتلقى أول ضربة في حياتها عندما ألقى القدر في طريقها بشاب صغير رماها بوردة فل تعبيراً عن إعجابه بها، وقد وصفت فدوى تلك الحادثة: "كان هناك من يراقب المتابعة، فوشى بالأمر لأخي يوسف، ودخل يوسف علي كزوبعة هائجة (قولي الصدق)... وقلت الصدق لأنجو من اللغة الوحيدة التي كان يخاطب بها الآخرين، العنف والضرب بقبضتين حديديتين، وكان يتمتع بقوة بدنية كبيرة لفرط ممارسته رياضة حمل الأثقال.      
أصدر حكمَه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي كما هدد بالقتل إذا ما تخطيت عتبة المنزل، وخرج من الدار لتأديب الغلام.
قبعت داخل الحدود الجغرافية التي حددها لي يوسفـ، ذاهلةً لا أكاد أصدق ما حدث. ما أشد الضرر الذي يصيب الطبيعة الأصلية للصغار والمراهقين بفعل خطأ التربية وسوء الفهم”.    
عانت فدوى طوقان قسوة الواقع الاجتماعي الذي قذف بها بعيداً بين جدران البيت السماوي في البلدة القديمة من مدينة نابلس، تنظر إلى نفسها بشيء من الخجل والاتهام، لقد فقدت أحب شيء إلى نفسها (المدرسة) التي أرادت أن تثبت نفسها من خلالها، وحرمت منها وهي في أمس الحاجة لها تصف فدوى طوقان موقف أبيها منها الذي لا يخاطبها مباشرة على عادة الرجال في زمانه- وإنما يخاطب أمها إذا أراد أن يبلغها شيئاً، ثم تقوم أمها بعد ذلك بتوصيل ما يريده أبوها منها، تقول:
"عاد أبي ذات صباح إلى البيت لبعض شأنه وكنت أساعد أمي في ترتيب أسرة النوم. وحين رآني سأل امي: لماذ لا تذهب البنت إلى المدرسة? “
قالت: تكثر في هذه الأيام القصص حول البنات فمن الأفضل وقد بلغت هذه السن أن تبقى في البيت . "قال أبي:" حسناً" وخرج!
كان أحياناً إذا أراد أن يبلغني أمراً يستعمل صيغة الغائب ولوكنت حاضرة بين عينيه، كان يقول لأمي: قولي للبنت تفعل كذا وكذا... وقولي للبنت إنها تكثر من شرب القهوة، فلا أراها إلا وهي تحتسي القهوة ليلاً ونهاراً وهكذا.
كان أشد ما عانيته حرماني من الذهاب الى المدرسة وانقطاعي عن الدراسة.
كانت أختي أديبة تجلس في المساء لتحضير دروس اليوم التالي،
 تفتح حقيبة كتبها وتنشر دفاترها حولها، وتشرع في الدراسة وعمل التمارين المقررة.           
 وهماً كنت أهرب إلى فراشي لأخفي دموعي تحت الغطاء، وبدأ يتكشف لدي الشعور الساحق بالظلم.”
وفي وقت متأخر من ليل الجمعة الثالث عشر من ديسمبر لعام ألفين وثلاثة رحلت فدوى طوقان عن عمر يناهز الخامسة والثمانين من عمرها، بعد رحلة عطاء طويلة أصلت فيها لمرحلة جديدة من تاريخ الشعر الفلسطيني بشكل خاص والشعر العربي بشكل عام.
علاقة فدوى بأخيها إبراهيم:
بدأت علاقة الشاعرة بأخيها إبراهيم منذ وقت مبكر من حياتها، وكان بالنسبة لها الأمل الوحيد المتبقي في عالمها المثقل بعذابات المرأة وظلم المجتمع، ورأت فيه الضوء الذي يطل عليها من خلف أستار العتمة والوحشة والوحدة.
وشكلت عودة إبراهيم من بيروت إلى نابلس، في تموز 1929 ، بعد أن أكمل دراسته وحصل على شهادته من الجامعة الأمريكية ببيروت، عاملاً مساعداً لإعادة بعض الفرح، إن لم نقل الفرح كله، إلى حياة فدوى طوقان، ورأت في قربه منها عاملاً مساعداً في إعادة ثقتها بنفسها، وترسيخ خطواتها على درب التعليم الذاتي الذي ألزمت نفسها به بعد أن أجبرت على ترك المدرسة، تقول:    
“كانت عاطفة حبي له قد تكونت من تجمع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو مسببها وباعثها.
أول هدية تلقيتها في صغري كانت منه
أول سفر من أسفار حياتي كان برفقته
كان هو الوحيد الذي ملأ فراغ النفس الذي عانيته بعد فقدان عمي، والطفولة التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل وجدت الأب الضائع مع الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها.        
 إن تلك الهدية بالذات، التي كانت قد أحضرها إلي من القدس أيام كان تلميذاً في مدرسة المطران، تلك الهدية التي كانت أول أسباب تعلقي بإبراهيم ذلك التعلق الذي راح يتكشف فيما بعد بصورة قوية.
كان تعامله معي يعطيني انطباعاً بأنه معني بإسعادي وإشاعة الفرح في قلبي، لا سيما حين كان يصطحبني في مشاويره إلى الجانب الغربي من سفح جبل عيبال”.
وبعد إقامة إبراهيم في نابلس بدأ سطر جديد في حياة فدوى طوقان فنذرت نفسها لخدمته والاعتناء به، وتهيئة شؤونه، ورأت في ذلك غاية سعادتها ومنتهى طموحها، وقد بلغ من تعلقها بأخيها أنها كانت تخاف عليه المرض والأذى، فهو الهواء الذي تتنفسه رئتاي  كما تقول وكان إبراهيم يبادلها حباً بحب، يأخذ بيدها، ويحاول تخفيف معاناتها، بخاصة عندما عرف بقصتها، وما حل بها من فقدان المدرسة والتزام البيت، تقول: "كان قد علم من أمي سبب قعودي في البيت، لكنه وهو الإنسان الواسع الأفق، الحنون، العالم بدخائل النفس البشرية، نظر إلى ذلك الأمر نظرة سبقت الزمن خمسين سنة إلى الأمام لم يتدخل، ولم يفرض إرادته على يوسف العنيف، لكنه راح يعاملني بالحب والحنو الغامر.
  وظلت تتجمع الأمور الصغيرة لتصبح جسراً ينقلني من حال إلى حال".
ولم يترك القدر لفدوى هذا السراج الذي لاح مضيئاً في سمائها المظلم، فقد أقيل أخوها من عمله في القسم العربي في الإذاعه الفلسطينية وغادر مع عائلته إلى العراق بضعة أشهر مرض فيها هناك، ثم عاد إلى نابلس ومات فيها، تقول فدوى: "وتوفي شقيقي إبراهيم فكانت وفاته ضربة أهوى بها القدر على قلبي ففجر فيه ينبوع ألم لا ينطفئ ومن هذا الينبوع تتفجر أشعاري على اختلاف موضوعاتها:".
 وانكسر شيء في أعماقي، وسكنتني حرقة اليتم.
فدوى طوقان والشعر:
كانت فدوى تتابع أخاها إبراهيم في كتابته للشعر، وتوجيهه للطلاب الذين كانوا يكتبونه، وقد سمعته مرة وهو يحدث أمه عن تلميذين من تلاميذه قد جاءا إليه بقصائد من نظمهما خالية من عيوب الوزن والقافية، فقالت "نيالهم".
وعندما سمعها إبراهيم، وهي تتكلم بحسرة، كأنها تلومه على عطائه مع تلاميذه وتقصيره معها، فنظر إليها وصمت، ثم قال فجأة: سأعلمك نظم الشعر، هيا معي. كانت أمي قد سكبت له الطعام، ولكنه ترك الغرفة، ولحقت به، وارتقينا معاً السلم المؤدي إلى الطابق الثاني حيث غرفته ومكتبته. وقف أمام رفوف الكتب وراح ينقل عينيه فيها باحثاً عن كتاب معين. أما أنا فكان قلبي يتواثب في صدري، وقد كتمت أنفاسي اللاهثة، دقيقتين، وأقبل علي وفي يده كتاب الحماسة لأبي تمام، نظر في الفهرس ثم فتح الكتاب عند صفحته بالذات، قال: هذه القصيدة سأقرؤها لك وأفسرها بيتاً بيتاً ثم تنقلينها إلى دفتر خاص وتحفظينها غيباً، لأسمعها منك هذا المساء عن ظهر قلب.  
ولم يكن اختيار إبراهيم مجرد اختيار عشوائي فقد اختار لها شعراً لامرأة ترثي أخاها، ثم يقول: لقد تعمدت أن أختار لك هذا الشعر لتري كيف كانت نساء العرب تكتب الشعر الجميل، وبدأت رحلة فدوى طوقان مع الشعر تحفظ القصائد التي يختارها لها إبراهيم، وبدأت تتعلم من جديد في مدرستها التي فتح إبراهيم إبوابها، تقول:
“هـا أنا أعود إلى الدفاتر والأقلام والدراسة والحفظ، ها أنا أعود إلى جنتي المفقودة، وعلى غلاف دفتر المحفوظات تلألأت بعيني هذه الكلمات التي كتبتها بخطي الردىء، خط تلميذة في الثالثة عشرة من العمر، الاسم: فدوى طوقان. الصف: شطبت الكلمة وكتبت بدلاً منها المعلم: إبراهيم طوقان. الموضوع: تعلم الشعر. المدرسة: البيت.
وبدت مرحلة جديدة في حياة فدوى طوقان، مرحلة تشعر فيها بذاتيتها وإنسانيتها وحقها في التعلم، وتجدد معها ثقتها بنفسها "أصبحت خفيفة كالطائر، لم أعد مثقلة القلب بالهم والتعب والنفس، في لحظة واحدة انزاح جبل الهوان وابتلعه العدم. وامتدت مكانه في نفسي مساحات مستقبل شاسع مضيئة خضراء كمروج القمح في الربيع". 
وحاول المعلم أن يختبر رغبة أخته الصغرى في تعلم الشعر، فتوقف عن مراجعتها لفترة محدودة دون أية كلمة عن الدروس، وفي اليوم الرابع راجعته بصوت مرتعش: هل غيرت رأيك? ويأتي الجواب منه سريعاً: لم أغير رأيي، ولكنني توقفت لأتأكد من صدق رغبتك في التعلم، سنواصل اليوم الدرس.              
بدأت فدوى طوقان تكتب على منوال الشعر العمودي، ومالت بعد ذلك إلى الشعر الحر0
 
 
 
 
*عبدالرؤوف النويهى
30 - أبريل - 2007
فلسطين الملتقى والعناق 000فدوى طوقان (2)    كن أول من يقيّم
 
آثارها الشعرية:
صدرت للشاعرة المجموعات الشعرية التالية تباعاً:
  1-ديوان وحدي مع الأيام، دار النشر للجامعيين، القاهرة ،1952م.
  2-وجدتها، دار الآداب، بيروت، 1957م.
  3-أعطنا حباً، دار الآداب، بيروت, 1960م.
 4- أمام الباب المغلق، دار الآداب، بيروت ، 1967م.
   5-الليل والفرسان ، دار الآداب، بيروت، 1969م.
 6- على قمة الدنيا وحيداً، دار الآداب، بيروت، 1973.
  7-تموز والشيء الآخر، دار الشروق، عمان، 1989م.
  8-اللحن الأخير، دار الشروق، عمان، 2000م.
وقد ترجمت منتخبات من شعرها إلى اللغات: الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والفارسية والعبرية.
آثارها النثرية:
1-أخي ابراهيم، المكتبة العصرية، يافا، 1946م
2-رحلة صعبة- رحلة جبلية (سيرة ذاتية) دار الشروق، 1985م.
وترجم إلى الانجليزية والفرنسية واليابانية والعبرية.
3-الرحلة الأصعب (سيرة ذاتية) دار الشروق، عمان، (1993) ترجم الى الفرنسية.
الأوسمة والجوائز:
 1-جائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر البيض المتوسط باليرمو إيطاليا 1978م.
 2-جائزة عرار السنوية للشعر، رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، 1983.
3-جائزة سلطان العويس، الإمارات العربية المتحدة، 1989م.
4-وسام القدس، منظمة التحرير الفلسطينية، 1990.
5-جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، ساليرنو- ايطاليا.
6-جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة - إيطاليا 1992.
7-جائزة البابطين للإبداع الشعري، الكويت  1994م.
8-وسام الاستحقاق الثقافي، تونس، 1996م.
9-جائزة كفافس للشعر، 1996.
10-جائزة الآداب، منظمة التحرير الفلسطينية، 1997م.
نتاج فدوى طوقان الأدبي في الرسائل العلمية:
 أ - الدكتوراة:
1- إنتاج فدوى طوقان الشعري، د. عبدالله الشحام، جامعة مانشستر، انجلترا.
2- سيرة فدوى طوقان الذاتية، مايا فان درفلدن، جامعة امستردام،هولندا.        
3- فدوى طوقان: أغراض شعرها وخصائصه الفنية، د. ابراهيم العلم، الجامعة اللبنانية.
ب - الماجستير:
1-الصورة، أثر الوجدان الإسلامي في إنتاج فدوى طوقان، يحيى الأغا، جامعة القاهرة.
2- فرجينيا وولف وفدوى طوقان في السيرة الذاتية لكل منهما (دراسة مقارنة)، سيرين حليلة، جامعة لندن.
 3- الصورة الشعرية عند فدوى طوقان، خالد السنداوي، الجامعة العبرية.
4- فدوى طوقان في سيرتها الذاتية، ناديا عودة، جامعة بون، ألمانيا.
5- سيرة فدوى طوقان وأهميتها في دراسة أشعارها، رمضان عطا محمد شيخ عمر، جامعة النجاح الوطنية، نابلس.
6- هذا عدا أبحاثٍ ودراساتٍ كثيرةٍ نشرت في الكتب والمجلات والدوريات العربية والأجنبية. وثمة دراسات علمية أخرى صدرت مؤخرا ولم يتسن الاطلاع عليها.
---------------
خليل عودة
 
قالوا عن فدوى طوقان
 
"فدوى طوقان من أبرز شعراء جيلها، وما من شك في أن ما أسهمت به في دواوينها يعد جزءاً هاماً من التراث الشعري الحديث".
من تقرير لجنة تحكيم جائزة البابطين للإبداع الشعري، 1994م.
- “تميزت فدوى طوقان بروح إبداعية واضحة، وضعت شعرها في مقدمة الشعر النسائي الفلسطيني إن لم يكن في مقدمة الشعر النسائي العربي".
شاكر النابلسي، من مقدمة كتابه "فدوى طوقان تشتبك مع الشعر".    
- فدوى طوقان شاعرة عربية بديعة الأنغام، والتصاوير، والموسيقى، صاحبة موهبة فنية رفيعة بين شعراء وشاعرات الوطن العربي المعاصرين" 
د. عبدالمنعم خفاجي، من ملف جريدة البعث السورية عن فدوى طوقان.
- "كان شعرها صوراً حية لتطورالحياة الشعرية بعد النكبة، ومن يمض في قراءته، ويتدرج معه من حيث الزمان، يجد صورة وجدانية لحياة المجتمع الفلسطيني وتطورها بفعل تطور الأحداث المشتملة عليه".
د. عبدالرحمن ياغي، من ملف جريدة البعث السورية عن فدوى طوقان.
-"كانت قضية فلسطين تصبغ جانباً هاماً من شعر فدوى بلون أحمر قان، وكان شعر المقاومة عندها عنصراً أساسياً وملمحاً رئيسياً لا يكتمل وجهها الشعري بدونه...
من ملف جريدة البعث السورية عن فدوى طوقان.
-"منذ أيام الراحل العظيم طه حسين لم تبلغ سيرة ذاتية ما بلغته سيرة فدوى طوقان من جرأة في الطرح وأصالة في التعبير وإشراق في العبارة"
 الشاعر سميح القاسم.
 
*عبدالرؤوف النويهى
30 - أبريل - 2007
فلسطين الملتقى والعناق 000فدوى طوقان (3)    كن أول من يقيّم
 
 
 
أحمد دحبور
 
في الخطاب العربي السائد، يتردد، أحياناً، قول من نوع: "وأخيراً لا آخراً"، وهو شكل من مماطلة الكلام تجاه الموضوع. من حيث كونه تعبيراً عن قطوف النهايات، مع وعد بأن آخر كلمة لم تقل بعد. وهذا يعني أن الحوار مستمر، ونهر الحياة متصل..
كانت شمس هذا اليقين تلزمنا، لنجرّ لحظة التفاؤل إلى منطقة الضوء، وعندما وقفنا، بين الدهشة والغبطة، أمام شاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان، وهي تتحدى رهاب الزمن وقد تشبث بها الشعر، فتقدم "اللحن الأخير" في العام الألفين، لتكون تلك مجموعتها الثامنة بعد "وحدي مع الأيام ـ وجدتها ـ أعطنا حباً ـ أمام الباب المغلق ـ الليل والفرسان ـ على قمة الدنيا وحيداً ـ تموز والشيء الآخر".. وعلى هذا فإن مجموعة "اللحن الأخير" تؤخذ بوصفها حركة في إيقاع متصل نابض بالألم والفقد والعناد والاكتشاف. وتمدنا المصادفة الزمنية ببعد رمزي، عندما نصحح خطأ شائعاً حول العام الألفين، فهو آخر القرن العشرين وليس بداية الألفية الثالثة، وعلى هذا فإن "اللحن الأخير" هو خلاصة لتصفية حساب مع قرن من الزمن، إيذاناً باستقبال عصر جديد.
ومما له دلالة أن آخر مجموعات الشاعرة في أعمالها المنجزة، هي "تموز والشيء الآخر"، وتموز هو المنتصر على الموت، بما هو رمز للقيامة واستئناف الحياة. وتؤكد فدوى طوقان هذا المعنى، موضوعياً، وربما من حيث لا تدري، في حديثها المثير المدوي ـ في رأيي ـ الذي أدلت به لمجلة الوسط ـ العدد الصادر في 17/9/2000 كاشفة عن أن "اللحن الأخير" خلاصة تجربة حب عاشتها وهي في هذا العمر مع رجل أحب عينيها وأحبت روحه. فهذه الفراشة المهددة بلهب الشرق المميت منذ عقابيل الحرب العالمية الأولى، ظلت روحها الفولاذية قادرة على الصمود، والانتقال من موقع إلى موقع في معركة الحياة. إنها هي هي الفتاة التي أنشدت قبل زهاء نصف قرن "ألف انفعال ألف عاطفة ـ محمومة بدمي  بأعراقي ـ ماذا أحس?  أحس بي لهفاً ـ حيران يغمر كل آفاقي" وها هي، أميرة الشعر التي تقول هذه الأيام: "مازلت أحاور مالم يوجد ـ كي أعطيه وجود"، لا بمعنى أنها تراوح في المكان، بل على النقيض، إنها تتقدم وتسأل وتتحقق، لكن الزمن المكسور هو الذي لم يتقدم في شرقنا ووطننا إلا قليلاً.
لقد غيرت مجموعة "اللحن الأخير" خطتي الطموح. فقد كنت ـ بعد قصيدة  بانورامية كتبتها من وحي تجربتها وأهديتها إياها ـ أفكر في إعادة قراءة مشروعها الشعري كله. وكانت الشاعرة الكبيرة قد طوقت عنقي بحوار أجراه معها الكاتب المصري طلعت شاهين لجريدة أخبار الأدب" قالت فيه إن ما كتبته عن شعرها هو الأهم، على كثرة الدراسات والرسائل الأكاديمية المكتوبة في شعرها.
لكن "اللحن الأخير"، مع التصريح الأخير بقصة الحب الأخيرة، أملى حضوره الطاغي، فكان لا بد من هذه الوقفة المسترسلة. فما الذي أرادت فدوى طوقان أن توصله إلينا، قبل ورقة النعي التي لم تستطع ست وثمانون سنة من منعها عن أن تكون مباغتة لنا جميعاً?
صداقــة الحياة
علينا أن نأخذ تصريح فدوى طوقان بالحب الأخير، على محمل الرمز لا المجاز.  هو رمز لأن قوة الحياة لا تعترف بوطأة الزمن. والحب علامة قوة، بل إنه لحظة مصالحة مع الحياة وإنشاء صداقة معها بعد طول نبذ وصراع ومعاناة:
وعلمتني كيف تصبح دنيا المحال
البعيد المنال حقيقة
فتغدو الحياة صديقة
وهو ليس مجازاً مادام الواقع قادراً على أن يمدنا بالرموز من صميم حياتنا اليومية. فنحن البشر، نولد ونكبر ونحب ونتألم، ننكسر وننتصر، فلكل منا قصته، ولكن ذهاب هذه القصة إلى لحظة الإبداع، يعني الارتفاع بها من الشأن الشخصي إلى الرمز العام. ودور الشعر، في أحد مستوياته، هو الحفاظ  على سهم الخلق الصاعد من الذات إلى الآخر.  فالحب حالة خاصة بين حبيبين، لكن عندما يكون أحدهما مبدعاً، فإنه، من خلال منطوقه الإبداعي، يتحول إلى ناطق باسم المحبين الذين على شاكلته في العالم.  ولقد كانت شاعرتنا تصدر عن هذا المنطق من غير مواربة، فتؤكد "أنت المعنى، أنت الرمز" وعلى هذا فإن الحب "يسع الأرض وأطباق السما"، بل أن هذا الحب أصبح ترسيخاً لوجود الذات المحبة المبدعة "تأكيداً لوجودي ظل صديق العمر ونبض العمر". لكن هذه المعاني المتسامية للحب لا تخرجه من سيرورة الحياة إلى المجاز المقارب للأفكار والأحلام والأمنيات، بل إنها تتكثف وتتجسد في مشهد عياني. هكذا لن تهرب الشاعرة إلى النفاق الاجتماعي فتدعي أن قصيدتها في الحب تنهل من لحظة أمان معترف بها، بل تصدع بحق الحب على الصدق: "تحكي في همس عن حب، هو أغرب حب ـ حب الأخت أخاها ـ حب الأم لواحدها ـ حب صديق لصديق ـ يا سيد قلبي هذا حبي الطاهر لكن ـ في قلبي شيء آخر ـ يختبئ وراء الصمت" وإذا كانت لا تأبه بالضاغط الظلامي الذي يسفه الفرح، ويعترض على صداقة الحياة، فإنها ليست ملزمة بكشف أكثر مما تريد. إن من حق "الشيء الآخر" أن يظل محتجباً في صمتها الحميم. وهذا ليس جديداً عليها. ألم تؤكد لحبيبها قبل خمس وأربعين سنة في "القصيدة الأولى" من مجموعة "أعطنا حباً":
لا لا تسلني، لن أبوح به               سيظل حبك سر أسراري
على أن السرّ المكنون لا يلبس قناع المسكوت عنه. فهي تعتصم بالصمت لا خوفاً ولا حذراً، بل لأن الصمت مملكتها الجوانية المقدسة. وإذا كان من بوح فمن خلال الفرح أو الأسى اللذين يتوهجان في الملامح، وينقلان رسالة المشاعر الذاتية إلى الملأ الموضوعي:
.. كيف عبرت حقول الصقيع
بهذا التوهج ، هذا السطوع البديع?
ولأن هذا التوهج منوط بالذات،  فقد يومض وينطفئ، يقول ولا يقول، لكنه ينطوي على المعنى الجميل. معنى أن نحب فنكون أكثر ألفة مع الوجود، وأكثر صداقة للحياة حيث "طفل الحب يمضي سادراً في غيه لا ينثني عن عنفوانه".. وأي عنفوان! إنه القلب الأخضر المعافى شاباً في ريعان ما بعد السبعين.
*عبدالرؤوف النويهى
30 - أبريل - 2007
المرأة تاريخ طويل من التهميش    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
 
إبداع المرأة الأدبي بين التهميش والإلغاء
 
في كتابها (لغة من صنع الرجال) تقول ديل سبيندر: "لقد صنعت النساء تاريخاً بقدر ما صنع الرجال لكنَّ تاريخهن لم يسجل ولم ينقل، وربما كتبت النساء بقدر ما كتب الرجال، ولكن لم يتم الاحتفاظ بكتاباتهن، وقد خلقت النساء دون شك من المعاني بقدر ما خلق الرجال، لكن هذه المعاني لم يكتب لها الحياة، حيث ناقضت المعاني النسائية المعاني الذكورية، وفهم الذكور للواقع لم يتم الاحتفاظ بالمعاني النسائية، وبينما ورثنا المعاني المتراكمة للتجربة الذكورية، فإن معاني وتجارب جداتنا غالباً ما اختفت من على وجه الأرض".
أما لماذا لم تكن هناك كتابات نسائية مستمرة قبل القرن الثامن عشر فهذا جوابه لدى فرجيننا وولف بقولها (إن الجواب كامن في حاضر مقفل عليه في مفكرات قديمة، مخبأ تماماً في خزائن قديمة، نصف محذوف من ذاكرة العصور، يمكن إيجاده في حيوات المجموعات، وفي الممرات المظلمة للتاريخ حيث لا يمكن رؤية أجيال النساء إلا كأشباح، لأن القليل جداً معروف عن النساء، فتاريخ انكلترا هو تاريخ الخط الذكوري وليس تاريخ الخط النسوي).
إن المقولات السابقة تنطبق تماماً في وصفها الحال على النساء العربيات اللواتي خضع إبداعهن للتهميش والإقصاء عبر التاريخ،ولعل أبرز الأمثلة التي يمكن أن نطرحها كدليل على التعامل الإقصائي مع إبداع المرأة والذي تراوح ما بين الإلغاء والتهميش، هو تاريخ الرواية، عربياً وعالمياً، فمن المعروف عربياً وما أكدّه الباحثون في التراث الأدبي العربي، والتأريخ لهذا الجنس الأدبي أن أول رواية عربية هي (زينب) للكاتب المصري محمد حسين هيكل عام (1914 )،إلا أن البحث في الوثائق المخبأة في الأدراج يثبت غير ذلك، وهذا ما قامت د. بثينة شعبان في كتابها (مائة عام من الرواية النسائية العربية) لتكشف النقاب عن حقيقة أن أول رواية عربية هي (حسن العواقب) أو (غادة الزهراء) للكاتبة اللبنانية زينب فواز، الصادرة عن منشورات الدار الهندية في القاهرة عام 1899، وبينما كانت روايات أحمد فارس الشدياق (1804 - 1889)، وإبراهيم اليازجي (1846 - 1906)، وسليم البستاني (1848 - 1884) وغيرهم، والتي ظهرت قبل حسن العواقب مزيجاً من المقامة والرواية الحديثة كما وصلتهم عبر ترجمات لروايات غربية، فإن (حسن العواقب)- حسب الباحثة شعبان - هي أول رواية واقعية تاريخية تظهر فيها معظم عناصر الرواية الحديثة من شخصيات ، وموضوع وجو روائي، وقد عبرت الكاتبة في مقدمة روايتها عن فهم عميق لهذه العناصر بقولها: (بما أن الروايات الأدبية هي أهم نوع من الكتابة تعكس فكر المرء وتفيد وتمتع، وبما أن الروايات تعيد إنتاج صورة للواقع، وليس الواقع بحالته الفجة فقد قررت أن أكتب هذه الرواية آملة أن تفيد وتمتع).
كتبت الروائية السورية عفيفة كرم التي شغلت منصب رئيس تحرير جريدة (الهدى) في نيويورك العديد من الروايات قبل ظهور رواية زينب لـ (هيكل) وكانت أول رواياتها (بديعة وفؤاد)، والتي ناقشت في مقدمتها الرواية كصنف أدبي وأهم خصائصها الفنية، وبعدها كتبت سبع روايات ولم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد، كما نشرت الكاتبة اللبنانية التي كانت تعيش في مصر (لبيبة هاشم) رواية عام 1904 بعنوان (قلب الرجل)، وعام 1907 رواية أخرى بعنوان (شيرين ابنة الشرق)، وفي عام 1904 نشرت لبيبة ميخائيل صوايا من لبنان روايتها (حسناء سالونيك) على حلقات في جريدة الهدى بنيويورك، كما نشرت زينب فواز رواية أخرى تمثل قصة رمزية تاريخية بعنوان (الملك قورش)، ونشرت فريدة عطايا روايتها التاريخية (بين عرشين) عام 1912 وبذلك يتبين أن ثلاث نساء سوريات (لبنانيات) كن قد نشرن إحدى عشرة رواية! قبل نشر رواية (هيكل)، كما أن مقالات زينب فواز المطالبة بإصدار تشريعات لتنظيم حياة النساء وضمان حقوقهن في التعليم والعمل ،والتي نشرت بين عامي (1891 - 1900) سبقت كتاب قاسم أمين عن تحرير المرأة الذي صدر عام 1898.(1)
لقد طال التأريخ للرواية العالمية ما طال الرواية العربية أيضاً ،إذ يعتبر نقاد ومؤرخو الأدب أن الرواية بمواصفاتها الفنية قد ولدت في الغرب، وبالتحديد في دول أوروبية مثل فرنسا وعلى يد كاتبها الشهير (بلزاك)، أو على يد الكاتب الإيطالي (بوكيشو)، وفي كتاب (امرأة استثنائية) الذي ترجمته مريم جمعة ،والذي يستعرض تجارب من الإبداع النسائي العالمي يتبين للقارئ العربي ما يدل وبشكل قاطع على أن الرواية قد ولدت في الشرق الأقصى، وتحديداً اليابان إذ يبدو أن هناك مؤشر حقيقي على أنها ولدت في القرن الحادي عشر الميلادي على يد الكاتبتين اليابانيتين (شاي شبناغون) مؤلفة كتاب (الوسادة)، و(شبكيبو موراساكي) مؤلفة رواية (حكاية جينجي)، والتي اعتبرت من أهم الآثار الأدبية العالمية كعمل روائي متكامل، لاحتوائه على المقومات الأساسية لفن الرواية(2)، وهذا الاكتشاف يحدث انقلاباً جذرياً في التأريخ لفن الرواية والأدب عموماً، ويدلل على تاريخ طويل من الإلغاء والتجاهل لإبداع المرأة على مر العصور،وفي حين أخذت دور النشر النسوية في الغرب خلال ما يزيد على أربعة عقود ماضية، تعكف على اكتشاف الكتابات النسوية وتشجيع نشر أعمال النساء، وتقديمها في المناهج المدرسية والجامعية، لم يبدأ هذا الجهد الهام بعد في العالم العربي إلا على شكل مبادرات فردية تظهر بين حين وآخر وتواجه الكثير من الصعوبات، ويبدو أن تجاهل النقاد العرب لإبداعات المرأة قد وصل إلى المترجمين، فبالرغم من أهمية الأدب الأمريكي اللاتيني وتأثيره الكبير في الأدب العربي المعاصر، فقد أهمل المترجمون إبداعات المرأة الأمريكية اللاتينية مع كل ما يقدمه من إضاءات للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لدول أمريكا اللاتينية وفي هذا السياق لا بدّ من الإشادة بكتاب (نيران أخرى)، قصص مختارة لكاتبات من أمريكا اللاتينية من ترجمة (الياس فركوح وحنان شرايخة) ، وفي تقديمه لهذا الكتاب يشير المحرر (ألبرتومانويل) إلى تجاهل العالم لإبداع المرأة اللاتينية ويقول في إجابته على سؤال أين الأخريات ممن لم تترجم أعمالهن?: (هذه المجموعة لا تقدم إجابة على هذا السؤال لكنها تعتزم إظهار شيء مما هو مفقود، فالقصص كلها لنساء، لأن ما نفذ إلى فضول المحرر، هو أن أفضل الكتب التي لم تترجم من بلدان أمريكا اللاتينية، هي تلك المكتوبة من قبل نساء)، وبينما الأدب من بلدان أمريكا اللاتينية نال الاهتمام حتى درجة الانفجار مع كتاب رجال، فإنه يدين بالكثير لكل من الراهبة المكسيكية الأخت (جوانا إنييزدي لاكروز1648 - 1695)، وبعدها بثلاثة
قرون الأرجنتينية ( فيكتوريا أوكامبو).(3)
 
يمتد إلغاء وتهميش وتجاهل إبداع المرأة ليطال كافة الأجناس الأدبية ،وما زال عدد كبير من النقاد المعاصرين، ومؤرخي الأدب يعتبرون أن المرأة قد وقفت طويلاً خارج فاعلية الكتابة وما يحدث الآن هوعبارة عن محاولات لتكون ذاتاً فاعلة كتابياً وإبداعياً، إلا أن المصنفات التراثية الفكرية، والأدبية تشير إلى وجود إبداع نسائي مميزوغني ومتنوع، وإن كان الشعر ديوان العرب، فقد كانت المرأة شاعرة موهوبة ،لكن أشعارها لم تصلنا إلا على شكل قصائد مبعثرة، وأحياناً غير مكتملة، وتلك القصائد تدحض فكرة أن شعر النساء هو شعر رثاء يعبر عن مشاعر أمهات وأخوات ثكالى، ويبين معالجة النساء لقضايا السلم والحرب بين القبائل، والعدالة إضافة إلى شعر الغزل الذي كتبته العاشقات لعشاقهنن وكان أكثر جرأة مما يكتب هذه الأيام، فحين ألقت ليلى الأخيلية قصيدة للحجاج تمتدح فيها عشيقها توبة، قال رجل من المستمعين لقصيدتها: أنا واثق أنه لا يستحق عشر ما وصفته به، فسألت ليلى الرجل: وهل رأيت توبة? أجاب لا، قالت: لو رأيته لأردت منه أن يجعل جميع العذراوات في قبيلتك حوامل، كما عرف العرب أقلام نسائية في ألوان النثر المختلفة من الرسائل والمقامات والقصص والأمثال والتفاسير الإسلامية، ويظهر نثر النساء في معظم النماذج المقدمة متماسكاً، متيناً، معبراً عن سعة ثقافة ودراية كبيرة، وإضافة إلى كون النساء ناثرات وشاعرات فقد كان لهن السبق في مجال النقد الأدبي وتأسيس الصالونات الأدبية منذ أيام الجاهلية وبدايات الإسلام ،مما أصبح يشكل جزءاً من التراث النسائي في غالبية أنحاء العالم، لكن تجاهل النقاد للتأريخ لهذا التراث وإعادة قراءته أضاع الكثير من قيمته المادية والمعرفية، ومثال على هذا التجاهل هو تهميش دور الخنساء كناقدة وتقديمها للأجيال العربية على أنها شاعرة فقط ، بالرغم من أنها الناقدة الأولى في الأدب العربي (توفيت عام 646م) وهي تماضر بنت عمرو بن الحارث بن شريد التي كانت تقف في سوق عكاظ في الحجاز لتتفحص قصائد الشعراء الوافدين من جميع أنحاء الجزيرة العربية، وتفاضل بينها بحساسية عالية للغة ،وتمكن نادر من المصطلح الشعري، كما كانت أم جندب شاعرة من الجاهلية وناقدة معروفة بنقدها أكثر مما هي معروفة بشعرها، وخلال الفترة الإسلامية الأولى بدأت النساء الناقدات بافتتاح صالونات أدبية في بيوتهن يلتقي فيها الشعراء ويلقون أشعارهم وينتظرون حكم المضيفة ،وكان أول صالون أدبي هو صالون سكينة بن الحسين وهي شاعرة وناقدة فذة عاشت في الحجاز وتوفيت عام 735، وما زال طلاب الأدب يستنيرون بأحكامها على جرير والفرزدق وكثيرعزة وجميل بثينة، إذا ما أرادوا دراسة هؤلاء الشعراء.
إذ كنا نشير هنا إلى الإبداع الموثق والمبعثر في بطون المؤلفات التراثية، فالمؤشرات تشير إلى حقيقة أن معظم الشعر وحتى النثر الذي كتبته النساء العربيات لم يسجل أوضاع بعد تسجيله وذلك لسببن رئيسيين كما تشير المصادر العربية، فحين بدأ العرب بتسجيل أدبهم ركزوا جهودهم على شعر الرجال بسبب (قيمته الأدبية)، ولم يولو إلا اهتماماً ضئيلاً جداً لإبداع النساء لأنه كان (رقيقاً وضعيفاً)، وكما أن معظم ما سجل (وهو قليل على كل حال) قد ضاع خلال الغزوات الأجنبية والتي (تم تدمير معظم التراث الأدبي خلالها)، وقد لا يتسع المجال لمناقشة السببين المذكورين، ولكن من الذي حكم على ذلك الإبداع أنه ضعيفاً? ولماذا ضاع هذا الإبداع خلال الغزو الأجنبي ولم يحدث ذلك بالتوازي مع إبداع الرجال?
 إن العقلية التي حكمت على ضياع جزء هام من التراث العربي والإنساني والتي تتمثل مقولة الفرزدق)إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها) ما زالت وللأسف هي العقلية التي تحكم معظم النقاد المعاصرين والذين يعتبرون أنفسهم أحياناً مناصرين للمرأة، وموضوعيين في تناولهم لإبداعها، فهذا د. عبدالله الغذامي يتساءل بصيغة توحي بالشك في كتابه (المرأة واللغة): هل استطاعت المرأة أن تجعل من إبداعها معادلاً يوازي إبداع الذكورة ولا يقل عنه، ولا يقبل أن يكون ملحقا به أو تابعاً له?(4)، ولعل التمعن بهذا السؤال يحيلنا إلى مصطلح (الأدب النسائي) وإشكالاته العديدة إذ غالباً ما يتم تصنيف الأدب بين رجالي ونسائي بمنطق التقليل من شأن  إبداع المرأة، وليس من خلال خصوصية أحاسسيس المرأة، ولعل هذا ما دعاني لتجنب استخدام المصطلح في المقال الحالي، وأثرت قول (إبداع المرأة) على اعتبار أن صيغة المرأة والإبداع تعتبر في المرأة الجنس، والكيان، والشخصية القائمة على البناء الثقافي باعتبارها مكملة لجنس الرجل في الحياة والمجتمع .
ختاماً نؤكد أن إعادة الاعتبار ضمن مشاريع قراءة التراث لإبداع المرأة في العالم العربي ضرورة ملحة، لما فيه من إثراء للثقافة العربية والإنسانية عموماً ولما ينطوي عليه كإبداع من قيم إنسانية، واجتماعية واقتصادية، تعكس صورة المجتمع العربي وتساعد على فهمه وتواصله مع العالم بشكل أفضل.
 
المراجع:
1 – مئة عام من الرواية النسائية العربية: د.بثينة شعبان ، دار الآداب ، بيروت ، 1999، ص ص 23- 40
2-  امرأة استثنائية ، تجارب من الإبداع النسائي العالمي ، ترجمة : مريم جمعة فرج،
دائرة الثقافة والإعلام ، الشارقة ، 2003، ص ص 9- 18
3- نيران أخرى ، قصص مختارة لكاتبات من أمريكا اللاتينية ، ترجمة: الياس فركوح وحنان شرايخة ،أزمنة للنشر والتوزيع ، عمان ، 1999 ، ص ص 7 - 15
4 – المرأة واللغة ، : د . عبد الله الغذامي ، المركز الثقافي العربي، بيروت ، 1996، 10
*خولة
1 - مايو - 2007
شكر وامتنان    كن أول من يقيّم
 
كل الشكر لزميلتنا الأستاذة خولة، على هذه المشاركة الثمينة، واتمنى أن لا يطول موعدنا مع المشاركة التالية، وشكر خاص على  كتاب (غربة الراعي) وقد اغتنمت أن أكتب لك هذا الشكر لأنني فرغت للتو من قراءة الكتاب، وكنت =وهنا أوجه حديثي للأصدقاء= أستمع لصديقتنا خولة أثناء حديثها عن مشروعها الأخير في (أدب السيرة الذاتية) إذ راحت تعد قائمة مطولة من أسماء رجالات كبار كانت لهم مساهمة في هذا الحقل، وكان ممن ذكرتهم المرحوم د إحسان عباس وكتابه (غربة الراعي) ولم أكن على علم بالكتاب، ولم تمض دقائق على كلام خولة لأجد نفسي غارقا في كتاب (غربة الراعي) واستخلصتُ منه صفحات سأنشرها في الوراق لاحقا، أكرر شكري وامتناني للأستاذة خولة، والشكر موصول لأستاذنا الكبير عبد الرؤوف النويهي. وأنصحه ايضا بقراءة كتاب (غربة الراعي) ففيه حديث مهم عن المرحوم محمد النويهي وكان من أصدقاء إحسان عباس أثناء عمله في الجامعة في السودان.
*زهير
1 - مايو - 2007
ظاهرة التصنيف الجنسى فى الأدب العربى0    كن أول من يقيّم
 
    
ظاهرة التصنيف الجنسي في الأدب العربي
GMT 15:30:00 2007 الإثنين 30 أبريل
حوراء النداوي
                
لقد صار الحديث عن المجتمع الذكوري حديثا سمجا مملاً فقد بريقه من كثرة التكرار، لا سيما و انه اتخذ مناح متفرقة شتت الفكرة الاساسية، فاجتمع هذان الامران ليضفيا في النهاية شيئا من عدم الالتفات من جهة المتلقي الذي بات يسخر من هذا المصطلح كلما اصطدم "بقضية المراة".. و ضاق النساء قبل الرجال من الكلام حول حقوق المراة، و قهر المراة، و المجتمع الابوي الخ.. و بما انني ساستخدم مثل هذه الاصطلاحات وجدت من الحكمة ان انبه القاريء لها و ان اختلف استخدامي لموضعها.. فاذا كان القاريء ممن ضاقوا بها فيمكنه الامساك عن القراءة من الان و ان كان مناصرا لقضية المراة فيمكنه ايضا الامساك من الان لاني لا اناصرها بمثل ذلك النهج السالف ذكره..
بين فترة و اخرى تطالعنا اعمال ثقافية نسوية يضج لها الشارع الثقافي العربي اما احتفاءا او استنكارا لها.. اما اسباب الاستنكار فهي عادة ما تكون معروفة، مثل الجراة و التمرد و تعدي الخطوط الحمراء المفروضة تقاليديا..الخ..
في الحقيقة ان ما يستوقفني هو الاحتفاء بالمراة المبدعة - او في بعض الاحايين "المبتدعة"-
هذا الاحتفاء المبالغ فيه في كثير من الاحيان، جعلنا كمتلقين ننظر الى ابداع المرأة كحالة طارئة على الحركة الثقافية و الابداعية.. هذه النظرة لا تصب في صالح المراة بالتاكيد، بل في صالح ما ينعته مناصروا قضيتها "بالمجتمع الذكوري"، الذي صنف بدوره الابداع الانساني العام على حسب الجنس وقلل من اهمية و جودة ابداع المراة على وجه الخصوص.. مما جعلنا كمتلقين ننبهر الى حد الانكار بكل امراة تخرج علينا بقصيدة شعرية او بعمل مسرحي مثلاً، لاننا منذ البداية مبرمجون على حكم مسبق و هو ان الابداع الثقافي الناتج عن الانثى طاريء..
بما ان الابداع الحقيقي هو ابداع صرف و غير قابل للتصنيف الجنسي اساسا، فان مثل هذا التصنيف القسري قد بدأ يشمل ابداعنا كله بمشكلة انعدام التطور الابداعي.. فاذا كنا كمتلقين قد سمحنا لرواية ركيكة لامرأة ان تنجح مثلا..ً فاننا بالتأكيد سياتي علينا يوم نقبل فيه برواية اقل من سابقتها ضعفاً، و يومها لن نعود نهتم ما اذا كان كاتبها امرأة او رجل.. هذا بالاضافة الى كوننا سنبقى نراوح في مكاننا في افضل الاحوال اما في اسوءها فاننا و للاسف سنكون في طريقنا نحو هبوط حاد..

احيانا اقع في حيرة كبيرة عندما اجد كبار المبدعين و النقاد يحتفون بعمل الانثى الضعيف..
لكنني لدهشتي الاكبر استنتجت ان هؤلاء انما يهللون لذلك العمل خوفا من ان يتهموا بالعداء للمرأة و ابداعها.. في الواقع انا ليس لدي دليلاً ملموسا على هذا الاستنتاج لكنني لا يمكنني ابدا تفسير اقبال ادباء و نقاد كبار على اعمال ادبية ركيكة جداً.. لا يمكنني الا ان اخرج بذلك الاستنتاج.. هذا بالاضافة الى ان غالبية من ابدى عدم استحسانه هذه الاعمال اتهم بالعداء للجرأة القصصية اذا كان العمل رواية او لانثوية الكاتبة فاننا نجد ان الكثير من النقاد قد اشادوا بهذه الروايات فيما بعد كأنهم يريدون جب هذه التهم عن انفسهم..
نستخلص من هذا ان من يطبلون و يهللون لابداع المراة انما هم ينظرون اليها على اساس انها اقل مستوى من ان تطال ابداعا مميزا، فهم بذلك انما ينظرون اليها نظرة دونية.. ثم و كاننا بهذا نحدد للمراة مستوى معين من الابداع لا يسمح لها ان تتخطاه..
في الغرب تنعدم مثل هذه الثقافة الشاذة عندهم.. فنجد ان الكثير من التحف الادبية الخالدة كانت لنساء.. مثل ذهب مع الريح لمارجريت ميتشل، و الارض الطيبة لبيرل اس. باك و مرتفعات وذرينغ لايميلي برونتي ثم ما نتج عنها و اختيها من روايات اثرت الادب الناطق بالانكليزية.. اما بالنسبة للادب المعاصر فنجد الكتاب الاكثر مبيعا هاري بوتر و كاتبته كما هو معروف امراة.. و لا يمكننا ان نغفل كاتبة معاصرة بحجم ايزابيل الليندي التي تشكل ثالوثا رائعا للادب الجنوب اميريكي مع كل من باولو كويلو و غابريل غارثيا ماركيز و ان كانت في نظري لم تصل الى مستوييهما الا انها تعد ندا لهما و هذا يكفيها - ليس لانهما رجلان بل باعتبارهما قمما ادبية يحسب حسابها-.. اما اذا ما رجعنا قليلا الى الوراء، الى السبعينيات تحديدا فستقابلنا سوزان هينتون بروايتها الاشهر (اللا منتمون) التي صدرت لها و هي بعد لم تتعد السابعة عشرة، و احدثت من خلالها نقلة نوعية في عالم ادب الشباب..
كل هؤلاء النساء لم يشر الى اعمالهن على انها صادرة من اناث بل كابداعات انسانية شمولية.. في المقابل لا نحترم في عالمنا العربي ابداع نسائنا بل ذهبنا الى ما هو اكثر من هذا و صرنا نتهم المراة اذا ابدعت حقا بسرقة ذلك الابداع من رجل و نسبه لنفسها.. كما حدث مع الاديبة احلام مستغانمي و روايتها الشهيرة ذاكرة الجسد..
غير ان ما يعزز هذه الفكرة اساسا عن المرأة في عالمنا، هو عدم اقتناع المرأة ذاتها بنفسها و بقدراتها.. فالمرأة اذا كانت منهزمة فإن هزيمتها انما تنطلق من نفسها، لانها في اغلب الاحيان اقتنعت بان قدراتها و ابداعها يقلان عن قدرات و ابداع الرجل..
ببساطة لا يوجد شيء اسمه ابداع ذكوري و ابداع نسوي.. هناك ابداع فقط.. ابداع انساني عام.. لذلك لا يجب ان نعلّي من شأن المرأة التي توازي رجلا ما ابداعياً و نفضلها عليه لانها تختلف عنه بالجنس..
انها دعوة للنقد و التجرد..انتقدوا ابداعها اذا كان بحاجة لذلك فبالنقد يمكن للمبدعة ان ترتقي للافضل.. لا بكيل المديح غير المناسب لها..
                                              موقع إيلاف
 من أمتع وأعمق الدراسات التى قرأتها ،هذه الدراسة القيمة للباحثة الجليلة الأستاذة / خولة ، وأنضم إلى أخى الأعز /زهير ظاظا ،فى تدفق دراسات وأبحاث  الأستاذة / خولة ، لإزاحة عصور النسيان والتجاهل عن إبداع المرأة 0
ولم أجد مناسبا إلا هذه الصرخة التى تطلقها الأستاذة /حوراء ،لعلها تلقى أُذناً واعيةً وعقولاً صاغيةَ
                                         عبدالرؤوف النويهى
*عبدالرؤوف النويهى
1 - مايو - 2007
شاعرات ثمانينات القرن العشرين (1)    كن أول من يقيّم
 
 
شاعرات ثمانينات القرن     العشرين
حضور مدهش وغياب مفاجئ
 
في سبعينات القرن العشرين، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة تنمو بتجربتها الوحدوية الرائدة نحو بناء الفكر الإنساني ودعم الثقافة الوطنية عبر جهود أبنائها، الذين وجدوا أنفسهم بشكل تلقائي يسهمون في رفعة هذا البناء الوطني الجديد. ومنذ ذلك الوقت، بدأ المجتمع يتعرف إلى شريحة من الشعب حمل على عاتقها المسألة الثقافية محمل الجد، وفتحت قنواتها نحو ما يحقق هوية هذا الوطن، مستفيدة من الخبرات والتجارب العربية الإنسانية فكان لوجود الأديب ضرورة قصوى تكمل وجه النهضة، حيث شهدت السبعينات ظهور أسماء
محدودة العدد في فضاء الإبداع الشعري والقصصي، وازدادت التجربة عمقاً في الثمانينات التي أضافت أسماء شابة آنذاك متأثرة بمدارس أدبية مختلفة وخاصة مدرسة الحداثة. وقد وجدت هذه الأسماء اهتماماً إعلامياً وثقافياً طيبا، واحتفي بها بإقامة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات.. والذي كان وجوده ضرورة حتمية مع مضي الساحة في جذب التجارب المختلفة ودفعها إلى جرأة اقتحام الأدب (لا سيما الشعر) مكتسبة من الخبرات العربية ملامح تخصها.. وكان أكثرها تأثيراً تلك الخبرات التي أشرفت على الصفحات لثقافية في الصحف المحلية.
في خطوة مهمة للتوثيق أصدر الاتحاد كتابين وثق فيهما أسماء تلك الفترة، كتاب “كلنا نحب البحر” لمجموعة من كتاب القصص القصيرة الإماراتيين، وكتاب “قصائد من الإمارات” للشعراء منهم وما أن انتهت الثمانينات، حتى كان عددٌ كبيرٌ من الأدباء قد أكمل انسحابه عن الساحة الأدبية في الوقت الذي كانت فيه تؤسس كما يبدو لشعر إماراتي معاصر له خصوصيته وملامحه تساوى في ذلك كتاب الشعر وكتاب القصة، ذكوراً وإناثاً.
وبقي سؤال: هل هو انسحاب عن الكتابة? أم انسحاب عن النشر?! في ورقتي هذه لا أبحث في هذا السؤال، ولكنها محاولة في البحث عن أسباب الغياب، أسباب وجدتها في رؤى بعض الكتاب التي هي بلا شك غير كافية لتحليل مثل هذه الظاهرة، وأسباب أخذتها من الواقع، من أصحاب الحالة ومن عايشوهم في ذلك الوقت.
حضور الشعر
في الوقت الذي كان فيه جيل ما بعد الثمانينات بعيداً بمسافات متفاوتة عن الساحة الشعرية في الإمارات، كانت كوكبة من الأسماء تعيش الشعر إنتاجاً كتابياً غزيراً، وحضوراً في الفعاليات الأدبية خاصة عبر الصفحة الثقافية أو الملحق الثقافي في الخليج، الذي توالى على الإشراف فيها?مراجعة مستويات المنشور على صفحاتها شخصيات أدبية عربية معروفة ببعد فكرها وعمق ثقافتها، وأحاطت الأعمال الأدبية برؤى نقدية أسهمت في دعم التجربة الشعرية بأشكال من المعارف.
أيامها قرأنا لحبيب الصايغ وظبية خميس ونجوم الغانم وخالد بدر عبيد، كما قرأنا لمنى سيف وأمينة عبد العزيز ورؤى سالم وسارة حارب وابتسام سهيل وأحمد راشد سعيدان وعمر المرزوقي وهاشم الموسوي ومحمد شريف الشيباني وعبيد موسى وهالة حميد معتوق.
فقد مثل هؤلاء مرحلة تاريخية مهمة كانت جديرة بالتسجيل والرصد بالرغم من أن تجارب البعض كانت لا تزال في طور النمو والتشكل، بينما ينتظر المتابعون والنقاد بكثير من الأمل أن تتجذر هذه التجارب وتنمو لتصل إلى مستوى متميز في التعبير الفني.
لقد كانت الساحة تموج بجماليات التمازج الفكري والثقافي بين الإماراتيين والإخوة العرب، وهي جماليات مقدر لها أن تتوحد واقعياً وتاريخياً مروراً بكل مقومات الوحدة التي تجمع الأمة بغض النظر عن مستويات تطبيقها.
فالثقافة واحدة، وأجمل ما فيها هذا التشظي والتفرع، المبني على لغة البيئة ورموزها، جاءوا من العراق وسوريا ومصر والسودان ليشكلوا مع أبناء البلاد فوجاً يحمل على عاتقه تأسيساً لثقافة مغايرة، وآداب وفنون مختلفة مرسومة بملامح الإمارات، مكتنزة بخصوصية لا مثيل لها، تبدأ من زمن ما قبل النفط وتمر بلحظة الإعلان عن اتحاد الدولة لتتشرب وقود الرحلة القادمة والمهمة إيذاناً بالانطلاق نحو التأسيس الثقافي.
في تلك الآونة? والدنيا تتطلع إلينا، والشكوك ماضية في استمرارية نجاح هذا المشروع الوحدوي، مضت تلك الكوكبة الثقافية العربية الإماراتية في طريقها، شأنها شأن أية رحلة تنموية في تلك السنوات، مضت واثقة بأن الأيام آتية باكتمال البناء.
كانت المعارك الأدبية أكثر وضوحاً وصراحة ومواجهة.. بالرغم مما كانت تؤول إليه أحياناً من نتائج غير مرضية وكانت قصائد بعينها تأخذ حظها من القراءات النقدية والاهتمام الصحفي الواسع.
بل إن بعض المفاهيم الصادمة لثقافة المجتمع المحافظ والمبني على مجموعة القيم والعقيدة، وجدت من يتصدى لها ويحللها ويعيد قراءتها من مفهوم ثقافي يضع في اعتباره أول ما يضع القيم الثابتة التي تتعارض مع كتابات ترى أن في ذلك حرية يحتاجها الإبداع، وجرأة لا بد منها كي يحقق درجته الإبداعية، كقراءة إبراهيم بوملحة لبعض قصائد ظبية خميس.
تجارب وصراعات
كما كان هناك صراع ليس صاخباً صوته خافت بين الشاعرة والمجتمع الذي لا يريد أن تقرأ ابنته من خلال سطور ذات إيقاع وتفاعيل ولغة مشاغبة تتحدى الكلام المألوف لتصبح إعلاناً صارخاً يقرؤه الجميع، فكانت الحيلة التي لجأت إليها الشاعرة كي تعطي نفسها فرصة لبوح أكثر حرية أن توارت وراء أسماء مستعارة، سواء كاملة أو جزئية، لذلك لن نستغرب لو عرفنا أن الشاعرات رؤى سالم، وسارة حارب، ومنى سيف، وحصة طالب إضافة إلى شاعرات الشعر الشعبي مثل أنغام الخلود، وفتاة الشارقة، وفتاة دبي، قد حملن هذه الأسماء ليحافظن على حضورهن.
هذا الصراع لم يكن مشكلة لشاعرات أخريات ظبية أو نجوم أو ميسون.. كما أنه لم يشكل مشكلة من دون حل للشاعرات اللواتي بدأن بنحت أسمائهن الصريحة في عالم كتابة الشعر مع بدء التسعينات.
وهنا أتساءل:هل يمكن أن يكون الاسم المستعار سبباً للرحيل بعيداً عن ساحة الشعر?
هل يصبح خانقاً إلى حد عدم احتماله واحتمال رؤيته موقعاً به في آخر النص، كما حدث للكاتبة السعودية بنت يام التي اتخذت قراراً جريئاً للخروج من هذا المأزق بالإعلان عن اسمها نورة بنت مسلم والاستمرار فيما بدأته تحت اسمها الحقيقي?
وقد واكبت هذا الظهور مطبوعات أخرى ساندت جريدة “الخليج” في دعمها وتعريف المجتمع بها، وأهم هذه المطبوعات “الأزمنة العربية” التي لم تكن تكتفي بما يرسل إليها من نتاج أدبي، بل كانت تبحث عن هذا النتاج وترحب به على صفحاتها، أما التناوش بين طرفي الحداثة والتقليد، فقد ظل مثرياً للساحة وللرؤى الأدبية.. كما ظل كل طرف محتفظاً بأحقيته في الاختيار، في الوقت الذي ظهر فيه طرف ثالث في الشعر محايد هو طرف وسطي يمثله فريق التفعيلة، وهذا لم يكن يعني ألا يدخل كل طرف منطقة طرف آخر من باب التجربة ربما.. أو تحدي قدراته أو قدرات الطرف الآخر.
في ظل هذا الواقع تكرست أسماء عشقت الشعر، وأحبت أن يكون لها نصيب منه، فجعلته الهوية الإبداعية الأساسية في تجربتها. ولأنني معنية في ورقتي هذه بالشاعرات، ولأن الشاعرة المرأة تمثل دائماً إشكالية، وتطرح أسئلة، فإنني أود أن يكون الحديث عن غيابها هي بالذات، وإن كان الحديث يأخذني في هذه الورقة إلى مساحة تشمل الشعراء الذي انزووا هم أيضاً باعتبار أن هناك أسباباً للصمت تجمع الطرفين.
الشاعرات اللواتي نفتح صفحة فترة الثمانينات من القرن الماضي هن:
رؤى سالم، سارة حارب، ابتسام سهيل، أمينة عبد العزيز، حصة عبد الله، فرح مختار، ليلى أحمد (وهي قاصة أيضاً)، منى سيف، هالة حميد معتوق.
وبينما تابعت كل من ميسون صقر وظبية خميس ونجوم الغانم مشروعاتهن الشعرية بالرغم من انقطاعات زمنية يلجأن فيها إلى الصمت لأسباب مختلفة فإن صمت الأخريات طال إلى درجة أنه أصبح وكأنه إعلانٌ “غير معلن” لعدم العودة ثانية.
الغياب لماذا?
يحضرني هنا هذا الجزء من قصيدة للشاعرة سعاد الصباح،حيث تقول:
يقولون
إن الكلام امتياز الرجل
فلا تنطقي
ويقولون إن الكتابة إثم عظيم
فلا تكتبي
أعرف قصة واقعية لشاعرة عربية شابة ( غير خليجية ).. كانت شاعرة معروفة في بلادها في التسعينات، حيث حظيت باحتفاء نقدي لديوانها الذي لم تصدر غيره.. وأقيمت لها أمسيات عديدة وفي مواقع ثقافية مهمة في محيطها، وفجأة اختفت.
وبعد السؤال عنها لدى من كانوا يعرفونها، وعن سبب انقطاع اتصالاتها مع الصديقات والأصدقاء داخل وخارج القطر، قيل لي إنها تعرضت لقمع عشائري، حدد إقامتها تمهيداً لمحو اسمها من ذاكرة ثقافة وطنها.
وقد يكون السبب واضحاً من خلال هذين النموذجين: أحدهما نص لشاعرة، والآخر قصة حقيقية لشاعرة أخرى جسدت في الواقع نص سعاد الصباح. وحتى لا أتورط في موضوع الصراع الذي يُراد له ألا ينتهي بين الرجل والمرأة (باعتبار أن كلمة الرجل هي النافذة في العشيرة أو المجتمع).. فإنني أتحول إلى ما يمكن أن يكون أسباباً أخرى للصمت.
أقوال محبطة
كثيراً ما تحيط الشكوك بقدرات المرأة الشعرية، فتعطي درجة أدنى مما يكتبه الشاعر، فقد ورد عن أحد كتاب القرن العشرين العرب قوله: “إن الشعر نادر، ولدى النساء أندر”. وشاعر في قرننا هذا يقول: الشاعرة الحقيقية غائبة.
ويقول ناصر عراق “نستطيع أن نقرر من اليقين أن الشعر العربي كله الذي يمتد في التاريخ قرابة ألفي عام، لم يلتفت باهتمام لائق إلا إلى اثنتين من النساء “المبدعات” هما الخنساء في القرن السابع الميلادي، ونازك الملائكة في القرن العشرين”.
بينما تتساءل بهيجة مصري إدلبي في مقالتها، تساؤلات حول أدب المرأة إن كانت المرأة المثقفة تدرك هشاشة دورها خارج البيت?
أقوال محبطة قد تمر عليها الكثيرات من دون أن تترك أثراً سوى التحدِّي لأن يكن صاحبات الشعر النادر، وليزدن عدد الشاعرات في قائمة لا تضم سوى الخنساء ونازك الملائكة.
وفي المقابل، قد تحدث مثل هذه الأقاويل شرخاً في ثقة إحداهن بقدرتها الإبداعية وبنتاجها الشعري.. وليس في “الصمت” لهذا السبب مبالغة، فكل نفس إنسانية تنطوي على خواص واستعدادات خاصة قد تفاجئ صاحبها أحياناً.
ومع ذلك، فإن المرأة إن أدركت عن اقتناع هشاشة دورها أو موقعها في المجتمع، واتخاذها بناءً على ذلك نمطاً سلوكياً استسلامياً يتجاوب مع هذا الإدراك أمر يحسب عليها لا على المجتمع، فالمجتمعات المتطلعة إلى النمو لا تستسيغ المستسلمين والمتراجعين عن غايات هم وضعوها ثم تخلوا عنها.
*عبدالرؤوف النويهى
1 - مايو - 2007
شاعرات ثمانينات القرن العشرين (2)    كن أول من يقيّم
 
 
   
الانشغال عن الشعر
هل يمكن أن تتعرض غوايات الشعر إلى فقد سحرها فيسهل الانشغال عنه بأشياء أخرى في الحياة?
لا شك أن حياتنا مكتنزة بهموم لا حاجة لتصنيفها إلى المجالات المعروفة سلفا، لأن الهموم اليومية التي تشغلنا تتعداها، تتعدى كونها اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية.. إنها هموم حياتية تسلب الإنسان منا وقته وجهده، والمرأة متأثرة بشكل كبير وعميق بكل ما يحيطنا من قضايا وإن كانت الأسرة (أو بمعنى آخر تكوين الأسرة) يشكل علامة فارقة في حياتهن الإبداعية، الأمر الذي يجعلهن أمام خيارين: إما الأسرة? وإما الشعر .
كما في عالم الإبداعات الأخرى: إما الأسرة وإما الفن، أو إما الأسرة وإما العمل، وهكذا. فالكثيرات يفضلن أن يعشن انتماءهن الأنثوي الأصيل إلى الأشياء والقرار ذاتي نابع من قناعتهن وإن كان لا يخفى عليهن ولا على الجميع أنه قرار حاصل على مباركة باطنة حينا وظاهرة أحياناً من مجتمعها الصغير الذي تنتمي إليه (الأسرة)، خاصة أن الشعر أو الإبداع عموماً يمثل مجداً شخصياً لها بعيداً عن أفراد الأسرة نسبياً .
وهنا تفضل المرأة تجنب الاصطدام معها بهدف أن تكمل مسيرة الحياة آمنة مطمئنة من دون كدر “الشعر” الذي يمكن أن يقلب موازين الاستقرار العائلي الذي تنشده، وهي في حالة كهذه غير ملامة..فحضورها الشعري لا يضمن لها ذلك الأمان خاصة أنها مشكوك في موهبتها كما ذكرنا في السبب السابق.
تقول بهيجة مصري الادلبي: “غالباً ما تنسى المرأة نفسها أمام عوالم أكبر من عالمها، ومشاكل أكبر من همومها، دائماً تنظر إلى العالم ككل متكامل بسبب مسؤولياتها الأسرية”.
وهي إذ تنسى نفسها فهي تنسى مواهبها وخصوصياتها وعلاقاتها في سبيل تلك المسؤوليات، والنسيان هنا متعمد، فقد قررت أن تنسى، بل إن هناك شاعرات استغرقتهن هموم خارج الأسرة خاصة إذا كان مجتمعها يعيش ظرفاً استثنائياً، فها هي نازك الملائكة كانت شاعرة عظيمة في بداياتها حتى مطلع السبعينات..ولكنها لم تواصل الرحلة وانقطعت عن الكتابة الشعرية. وبدأت تكتب في قضايا سياسية، ولو استمرت في التطور وارتياد آفاق جديدة لبلغت شأوا كبيراً للمرة الأولى في تاريخ الشعر العربي كامرأة “أو ليست تنسى نفسها أمام عوالم أكبر، ومشاكل أكثر”.
 
الاكتفاء بالتجلي
يقول د. عمر عبد العزيز في كتابه زمن الإبداع: إن أسباباً كثيرة تستدعي التوقف، بل التوقف إلى حد الإلغاء، بناءً على إحدى النظريات التي تقول: “ممنوع على الإنسان أن يترك أثراً على الأرض التي يعبر عليها”.
ويحضرني هنا موقف إحدى شاعرات الثمانينات حين تواصلت معها من أجل أن تعود إلى الساحة، فجاء ردها القاطع الذي يدل على أنه لو كان في مقدورها أن تلغي اسمها من الساحة ومن المرحلة التاريخية التي وثقت هذا الاسم لفعلت، إشارة إلى اكتفائها بذلك الحضور الذي استمر لأقل من عشر سنوات.
إنه ذلك الإلغاء الذي ورد في “زمن الإبداع” والذي يفوق الصمت والتوقف. أما لماذا?! فربما هو الاكتفاء الذي لو تجاوزته التجربة وأكملت مسيرتها لتسبب ذلك في التقليل من شأنها الذي بلغته.
سوء إدارة الخلاف والاختلاف
في عالمنا العربي، لم نرق بعد إلى مستوى النضج المطلوب عند معالجة الخلاف في وجهات النظر والاختلاف على رؤية معينة، ويرجح هذا الأمر بخصوص الإبداع والثقافة إلى ما أسماه ب “متاهة المرجعية” التي لم تصل إلى فن إدارة الخلاف والاختلاف على قاعدة الإقرار بالتنويع الشامل، والاعتقاد بضرورة التباين الذي يمكن أن يجد مصائره المثلى.
 
بدائل الزمن “غير الجميل
في زمن ما، كان الشعر والإعلام وجهين لعملة واحدة? فالشاعر كان لسان حال القبيلة، أما الآن فقد أصبح لكل وجه عملته الخاصة.
ومما يؤسف له أن ثورة الاتصالات والانفتاح الفضائي جاء في غير مصلحة الكلمة المعبرة.. والمجنحة كفراشات الربيع.
هذه الثورة وذلك الانفتاح بما تحويانه من ثقافة عجزت عن استيعاب معنى القيم الإنسانية بل ومفهوم الثقافة الإنسانية التي تنادي باحترام عقلية الآخر وكيانه ووجوده وثقافته ودينه، هما بدائل لكلمة الشعر، فأنت تكتب وما زلت تكتب، ولكن من يسمعك? أو كم واحداً يسمعك?! قياساً إلى مصادر أخرى مشوهة للاستماع.
 
أمانة الكلمة
هي أمانة ثقيلة، وفي عقيدتنا اننا محاسبون على الكلمة، وفي القرآن الكريم: والشعراء يتبعهم الغاوون) ومن رحمه الله تعالى أنه استثنى منهم: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ونرجو أن نكون ضمن هذا الاستثناء .
في داخلنا تأصيل لثقافتنا التي ترفض الخروج عن قيم الأمانة، والتي تمثل الكلمة إحدى صورها، ومغرور من قال إنه واثق من صفاء ونقاء كل الكلمات التي قالها شعراً.
فهل تثقل هذه الأمانة كاهل الشاعرات والشعراء على حد سواء.. فيعتزلون!?
وبعد، شهود ذلك الوقت يبدو مناقضاً لما ذكرته في بداية الورقة من تضافر جهود مثقفي العرب ومثقفي الإمارات، منهم يقولون:
لم يكن هناك احترام للمبدع المحلي، كان المبدعُ الإماراتي أقل شأناً من سواه حتى لو كان القادمون والذين نسميهم “خبراء” يقللون من أهمية الشاعر الإماراتي فيتجاوز النقد أحياناً أدواته المشروعة إلى ما هو قذف وطعن في التجربة وإفراغ لكل حروف الإبداع منها.
إذن وبكل بساطة، التشجيع لم يكن كافياً .. لا المعنوي ولا المادي.
والعين دائماً على المبدعين العرب أكثر منها على المحليين.
وشهود ذلك الوقت يقولون: إن المعتزلين والمعتزلات يكتبون، ولكنهم أداروا ظهورهم للساحة الأدبية كما أدارت لهم ظهرها، فرفضوا النشر، ورفضوا الحضور.
ولأن لكل تجربة حسناتها وسيئاتها، إيجابياتها وسلبياتها، فيبدو أنه وبالرغم من فوران الحركة الأدبية في الثمانينات وما تضمنت من اختلافات في الآراء تصل إلى حد الخلاف، إلا أن بعض نتائجها لم تكن لمصلحة الساحة..فأدت إلى صمت البعض، واستمرار البعض الآخر في حضور متقطع، تاركين للأسماء الجديدة مساحة لحضور آخر، حضور ينقصه وجود الخبرة الإماراتية التي يمثلها الرعيلُ الأول من شعراء الدولة (وأقصد شعراء الفصحى).
قد لا تنطبق كل هذه الأسباب في الغياب عن الساحة الشعرية الإماراتية على كل شاعرات الثمانينات، فهناك من استبدلن بالحضور في المجال الأكاديمي السياسي الحضور الشعري مثل الدكتورة ابتسام سهيل. وهناك من انغمست في هموم البيت والأمومة فتراجع الشعر درجة مثل الشاعرة هالة حميد معتوق التي كان حضورها مميزاً ومؤثراً في الوسط الأدبي، ولكن نسيت نفسها أمام عوالم أكبر من عالمها.
وهناك من اكتفت أن توجه كل حضورها للوظيفة مثل رؤى سالم، وهناك من تكتب ولا ترغب في النشر وهناك من رأت أن الاستمرار في المواجهة لا جدوى منه، مواجهة المجتمع بنشاط غير مرضي عنه بشكل كبير، فآثرت العزلة، وسارت أخرى إلى أبعد من ذلك، إلى إلغاء التجربة برمتها، وهنا المأساة.
على أن الحكم بندرة الشعر الجيد لدى النساء، وأن الشاعرات الحقيقيات ما زلن ضرباً من الحلم أو الخيال، وأن التاريخ العربي برمته لم يسجل سوى اسمين لشاعرتين حقيقيتين، وسواها من الأقوال، فهي آراء لا يحسن بها أن تكون عثرة في طريق تطوير التجربة.
لقد كتبت المرأة منذ عصور ما قبل الميلاد، وليست بحاجة اليوم لإثبات استطاعتها وقدرتها على الكتابة، فالمرأة كتبت منذ الأزل وسوف تبقى تكتب إلى النهاية.
 
شاعرات الصمت
رؤى سالم في مساء ثمانيني من القرن العشرين كتبت:
طيور المساء ستحملنا لضفاف الحنين
نحن الذين حملنا الحنين هوية
ونورسة في الفؤاد تعشش
ترسم قبلتها للمجيء الجديد
ابتسام سهيل في نهار ثمانيني من القرن العشرين وقبل أن تشغل في نشاطها الأكاديمي ورؤاها السياسية في أحداث تتصاعد كل يوم كتبت:
 
حينما أعلنت ولادة طفلي... الفرح
استنكر السلطان جرأتي
وحاربتني المدينة
المسورة بالحصون العالية
كالكفن.
 
                                            صالحة غابش - الخليج الثقافي
*عبدالرؤوف النويهى
1 - مايو - 2007
فلسطين الملتقى والعناق 000فدوى طوقان (4)    كن أول من يقيّم
 
فدوى طوقان ورسالة اللحن الأخير  (2)
 
التقاط الفرصــة
ولأنه حب حقيقي، لا مجازي، فهو يتعرض كأي حب، للعواصف والصدمات، و يتطلب استحقاقات الأرق والحيرة والألم: "النوم عصي ـ والليل تطول مسافته ـ والصمت رفيق". ويأخذ الحب معادله الموضوعي من البحر، هذا الشاسع الذي ضاق بما رحب "ويا بحر فات أوان اتساعك" لأن الحب يقلص المسافات زماناً ومكاناً فيكون البحر هو "اللازمان" أما ماؤه فهو ملح الموت. لكن هذا ليس إلا أحد وجوه البحر بما هو معادل للحب. لأن ثمة وجوهاً تسفر عن الصخب والسكينة، بل عن المتناقضات جميعاً:
وأنت التوتر، أنت التمزق
أنت اختلاط العقول
وأنت الصراع وأنت الضياع
وحين تعبر الشاعرة عن خوفها من هذا المجهول "القوي العتي" المفعم باللا أمان واللا نهاية يهدهدها البحر ـ أو الحب ـ فهو "عبقر الشعراء، مبدع المعجزات" بل إنه يوشي نسيج الوجود بدر المحار وبمرجان القلب ومذاب اللازورد. البحر هو الماء، وجعلنا من الماء كل شيء حي، والماء ميعاد وردة الروح مع الحياة "أنا الماء محيي الموات" وإذ تطمئن الشاعرة لهذا المدى المائي، تستسلم لقوة جاذبيته.  فالبحر، كالحب، شيء كالقدر:
وأدخل في جسد الماء،
يا قوة الجذب أنت
فلبيك لبيك
وهي لا تكتفي بالذهاب إلى هذا البحر اختياراً نهائياً. بل تمنحه الصفة التي يستحق: أنه سيد الأرض. وأن يكون البحر معادلاً موضوعياً للحب، يعني أن الطبيعة شريكة في اختلاجات القلب واختلاط المشاعر. لقد كان البحر مفتاح الربيع، ولكن للشتاء دورته أيضاً" وأقبل ديسمبر الجهم نحوي يحث خطاه ـ يلفع بالثلج جسم المساء الكئيب". فمادام الحب بحراً، فهو مد وجزر. وينسحب هذان النقيضان على قوانين الطبيعة كلها بحيث يغدو القمر "على طرف الكون يزحف واهي الخطى نحو كهف المغيب". هكذا تأخذ مانوية الحياة بعديها المتضادين من نواميس الوجود. فإذا كان ربيع، فإن ثمة شتاء "وريح الشتاء تعري الوجود ـ وتفرغه من هبات الحياة" لكن المحبة لا تستسلم.  فهي الوردة المعجزة القادرة على استحضار بشاشة الربيع، بل وتغيير منطق دورة السنة:
وغيرت طقس الفصول
ولامست معجزة الخلق والمدهش المستحيل
وتحتفل اللغة في شفتيها ومع مداد قلمها  فثمة انتشاء وارتواء وجمال وثراء وكل ينابيع هذا الفرح، وكل ابتسامات قوس قزح.  فالشاعرة التي تدرك محدودية الحياة، تدرك أيضاً أننا نستطيع أن نوسع هذه الحياة، وأن نجعلها أكثر جمالاً، بالتقاط الفرصة حيث يغرق هذا العالم في الموسيقى ونغني أصفى أشعار الحب المتوهج: "ما أحلى الحب وما أبهاه ـ يحيا بين يديه رميم".
الصمت والصــوت
 تبدو حاسة السمع، التي لا بد وأن نشفعها بما يمكن أن نسميه السمع الحدسي، وكأنها بوابة الشاعرة لولوج العالم. وقد يصعب إحصاء المرات التي تتواتر فيها كلمتا الصمت والصوت. فالصوت هو رائحة الحبيب، وهو أيضاً أفق الخيال:
ما الذي يجعل من صوتك أفقاً
خارج الأرض إذا ارتاد
 
فضاءات القصيدة
وللصوت أيضاً بعده غير المحسوس، هذا الذي يلتقط سمع الشاعرة حدساً وتخميناً: "إنك إيقاع حياتي ـ والنغم الأحلى في عمري" ومادام كذلك، فإن لصوت الحبيب مستوى ميتافيزيقياً لا نعرف من أين تستقبله هذه المحبة السعيدة: "يأتيني صوتك من أقصى أقصى الدنيا" وليس هذا الصوت الحبيب آمراً ناهياً يترك الشاعرة في موقع المتلقي السلبي، فهي تتلقف هذا الصوت لتصبح إنسانة مختلفة بحس مختلف ورؤيا قادرة على الكشف وصولاً إلى لحظة الإبداع. إن صوت الحبيب "يعمق فيّ الحس ـ يوسع فيّ مجالات الرؤيا ـ يفتح لي آفاق الكشف ـ يشرع لي أبواب الشعر"، وعلى هذا فإن الصوت هو معراج باهر الضوء، يتحول إلى فرح دائم "يحتضن القلب كما فرح البنت بثوب العيد". وإذا كان شعر فدوى يرفل بالضوء عرساً بصرياً، والزهر فاكهة الرائحة، والنكهة طعماً وذوقاً، فإن الصوت يبقى الأهم. لأنه وسيلة عناق الروحين والعقلين معاً. والشاعرة لا تفسر الظاهرة، بل بها تحتفل، وفي فمها سؤال معروف الجواب:
ما الذي يجعل من صوتك نهرين
يفيضان بأعماقي حنيناً وشجن
والحنين يصلها بالماضي. أما الشجن فهو اللاحم بين الماضي و الحاضر. وحين نتذكر، في شعر فدوى أن الصوت يأتي من الأقاصي البعيدة، فهو أيضاً رباط المستقبل. وبهذا يكون صوت الحبيب سيداً لزمان شاعرة تعرف كيف ترد على الصوت بالصوت. والشعر صوت وكذلك الغناء. بل إن الكتابة بحد ذاتها هي صوت الروح. وحين تكتب صمتها فإنما تعيد إنتاج الصوت على طريقتها وبمقاسها الوجداني "في صمتي رؤيا تتسع وتكبر ـ والكلمات تضيق". لهذا فإن ذروة المعاناة هي في صمت الشعر. لقد أدارت حوارها مع العالم بالشعر، وحين يصمت الشعر فمعنى ذلك أنها تضرب عن الاتصال بالوجود، فيمحي الحب ويختفي الصوت: "صمت الشعر فلا  رجع صدى" والشعر عندها علامة حياة بل علامة الحياة، فإما الشعر وإما "أنني ما زلت أحيا خارج الموت البطيء".
بهذا لا يكون التعارض بين الصوت والصوت ترفاً مانوياً في عالم فدوى طوقان. بل هو جدل الكينونة في ارتقائها إلى لحظة الصيرورة: يأتي الصوت فيولد الصوت الآخر، وقد ينبئ صوت الشاعرة عن صمت شفاف، هو استمرار الجدل.  أما الصمت المطبق. صمت العدم، فهو انكسار التجربة الذي يعبر عنه موت الشعر.. ولن يموت الشعر في اللحن الأخير.
الطفلة وردة المرأة
لئن نجحت فدوى طوقان، من حيث لم تخطط، في إنشاء هذا الجدل الخلاق  بين الصمت والصوت، لقد نجحت كذلك في الجدل بين الطفلة التي تسكنها وبينها وهي في سن الحكمة والنضج والخبرة الكبيرة. ولهذا تلزمنا وقفة خاصة مع قصيدتها أنشودة الحب التي تستقصي رحلة العمر منذ أن:
كان وراء البنت الطفلة عشرة أعوام
حين دعته بصوت مخنوق بالدمع:
حنانك خذني
والطفلة التي لم يتشكل وعيها بعد. ولم تنضج مساحة شعورها، تظل مخطوفة إلى الغامض المجهول. إلى الآخر. وليكن أباً وأماً أو أهلاً لا على التعيين. لأن ما تحس به هو أنها "وحدي أنا ـ لا شيء أنا ـ أنا ظل". ومشروع الشاعرة المشروع، فيما تتحول الطفلة إلى أنثى، هو أن تخرج من لا شيئيتها، وتتحقق بكيانها، لا بكونها ظلاً للآخر. إلا أن السد الكتيم تمثل في انقطاع الحوار مع العالم. وكيف يكون حوار والكون مهجور "فيه الحب تجمد ـ فيه الحس تبلد" أما سهمها الصاعد باتجاه كينونتها، فهو بحجم وعيها الطفلي "وأنا الطفلة تصبو للحب وتهفو ـ للفرح الطفلي الساذج ـ للنط على الحبل ـ وللغوص بماء البركة ـ للهو مع الأطفال". ولأنها تكتب شعراً ولا تسرد حكاية، فهي لا تخبر أن ثقافة مجتمع الذكور كانت تمنع هذا الصعود التلقائي. لكنها تشير إلى ذلك بالتجريد والتعميم: "القمع يعذبني – والسطوة ترهبني" وإلى ذلك يبدو جسدها ضعيفاً أمام التحديات "والجسم سقيم منهار". من هنا كانت حاجتها إلى الآخر، هذا الغامض غير المحدد ، فتدعوه بما يشبه الصلاة:
أغثني
خذني من عشرة أعوامي
من ظلمة أيامي خذني
وها هي "لوليتا" تتهجى أبجدية الآخر فقد تسللت مفردات من نوع الحضن والصدر ولكنها محروسة باللغة العامة التي تبعد شبح الإحساس الغريزي ـ أنثى لرجل ـ فتحوم حول خلاص المطحونين والمنبوذين والمحرومين، مع الضرب على وتر: خذني، خذني.. إلى أن ننتقل إلى المقطع الثاني مع نهر الأيام، حيث "يمر العام وراء العام ـ الطفلة تكبر والأنثى ـ وردة بستان" وتتفتح الوردة، ويصبح للأطيار ـ بما هي رموز للذكر ـ معنى ملموس. فقد ابتسم الحب وفاض عليها "من كل جهات الدنيا ـ ليطوقها بتمائمه ـ ويباركها بشعائره ـ ويساقيها من كوثره" وهي لم تحصل إلى هذه اللحظة إلا بعد "تخبطها في ليل متاهة" ولكن القلب انتصر على العقل والفكر والأفهام. بتعبير آخر، على النواهي والزواجر. فهي إزاء "كون مكتمل ومعافى ـ تتماهى فيه أنا مع أنت"، ولها أن تندى الأرض. وتخضر حتى العظام، أما الزمن المسحور فيقاس "بدقات القلب المبهور". إنها قصيدة احتفالية. نشيد للحب والحياة. لكن مأساة فدوى، وبنات جنسها ووطنها، أن العالم ليس مغلقاً على قصيدة واحدة، فلا بد من انكسار يتلو هذا الفرح، ولن ننحو باللائمة دوماً على الظرف الموضوعي. فهذا الظرف الموضوعي أنتج كوابح وضغوطاً على الذات، حتى أصبح للذات مشكلاتها المركبة. وقد وعت الشاعرة هذه الحقيقة في وقت مبكر، فكتبت منذ عام 1959 في تقديم قصيدتها "لا مفر" تقول بوضوح:" لا أومن بجبرية تأتينا من الخارج، وإنما الجبرية تكمن في داخل الذات، هي جزء لا ينفصل عن النفس.. ومن هنا مأساة وجودنا الإنساني" وهكذا فإننا إذا فرحنا بإقبالها على الحياة، بعد أن تفتحت الطفلة وردة في بستان الأنثى، فلن نلبث أن نرى كم في هذا البستان من الجراح التي خلفتها الأشواك.
*عبدالرؤوف النويهى
2 - مايو - 2007
فلسين الملتقى والعناق000فدوىطوقان (5)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
فدوى طوقان ورسالة اللحن الأخير (3)
 
مـوت الحب
لا أذكر اسم الشاعر الفرنسي الذي قال إن تراجيديا الحياة تتمثل في أنك إن مددت يديك على وسعهما لاحتضانها، فإن ظلك سيرسم على الأرض شكل الصليب. والصليب هو رمز العذاب. وها هي شاعرتنا الممتلئة بالحب، تكتشف أن الحب لم يكن إلا "ومضة وانطفأت في أفق العمر ولم تترك أثر ـ عبرت لمح البصر ـ وتلاشت في تلافيف الزمن" بل إن الزمن ميت لم يسفر إلا عن "زفرة أو عبرة أو بعض لوعة ـ خيط حزن، غصة، ظل شجن" وقد تنحني الشاعرة أمام التحدي فتعترف بالانكسار شيئاً، أمام "هجمة العمر ومن وطء السنين" فقد هنأها الحب بمساء الخير ومداعبة الأجفان إذا الصبح تنفس واحتل مساحة ليلها ونهارها "فلسفة لوجودي ظل، ونبعاً" لكن عطباً ألم بالتجربة.
وصحوت على
حلم كابوس جهم ذات صباح
ولأن الشاعرة إحدى ملكات الصمت والأسرار، فإنها لا تبوح، بل تكتفي بلوم القدر، هي التي تحدثت من قبل عن الجبرية الذاتية، ولن تخبر عن سبب هزيمتها الجديدة إلا بأن الحب اغتيل" طعنته سكين الأقدار ـ وسقته كأس الموت المرة" بل إنها تشيع هذا الحب كما نشيع ميتاً عزيزاً "أكذا تغتالك صاعقة القدر الهوجاء ـ أكذا تذروك رياح القدر المشؤوم ـ يا أجمل ما خلق الله ـ فليرحمك الله".  على أن الحب الميت لا يكتفي بما يورثه من حسرة ، بل إنه يترك مكانه بغضاً ومقتاً:
كل شيء عاد ، لا شيء سوى بغض عنيف
طلعت نبتتة السوداء من حب عنيف
هكذا يصبح الحبيب غريماً بعد أن ظللها بما يشبه شجر الجنة. ولا جنة الآن   بل "تقلبت على نار الجحيم". لقد تلاشى الوهج الذهبي، وانقشع الوهم ليكون الحصاد المر تعبيراً عن نهاية عمر. فالحب هو مسوغ العمر وحين يتلاشى فما جدوى العمر? بل إن الحب رحلة نوعية في تجربة تسفر عن اعتراف أليم: "رجعت بخفي حنين ـ بكفين فارغتين". ولا يبقى إلا أن تلوم القدر الذي يلوح من بين السطور أنه ليس الملوم الوحيد، فالمشكلة في الأرض بمعنى المكان، وفي الفراغ وفي المتاهة:
قدر رماك على فراغ
لا تقلك فيه أرض
لا تظلك في متاهته سماء
بل إنها حين مدت يدها لمصافحة الحياة التي عقدت معها ـ كما كنا  رأينا ـ صداقة، فإن الذي صافحها هو الهواء. فثمة خلل ما. خلل في المدى المحيط، حيث يمتد الفراغ: "هذا الفراغ هو الحقيقة ـ ما من أحد ـ ما من أحد".
 مواصلة الصراع
على أن الفراشة الفولاذية جديرة ببنية روحها.  فبقدر ما يبدو الجسد هشاً ويتجلى الجرح عميقاً، تظل الروح مشدودة إلى الأقاصي. عصية على الترويض و"يظل الشعر والحب قريبين من الجن لصيقين به لا يبرحانه" لأن طفل الحب لا ينثني عن عنفوانه. وحين تبرز المحبطات، يبرز، بموازاتها، بأس الأعماق والاستعداد للجولة الجديدة:
وراءك شوط طويل المدى
سفحت عليه سنين العمر
لقد عركت الحياة وفلسفتها، ذاقت حلوها ومرها، وصابرت على الوجه المكفهر. لكن ذلك الشيء الصلب، الداخلي، ظل عصياً على الهزيمة:
فحسبك أنك لم تهزمي
ولا حطمتك سهام القدر
وإلى أن تبرأ الجراح، ويتحامل الجسد للنهوض فالمسير فالوصول، ستظل تواسي قلبها الغوي ولا تتأسى على الحب، بل تخادع حزنها العصي بالضحك.  فبعد كل شيء، يظل هناك كوكب "لم يزل مجراه يجري باتجاهي". لقد افتتحت الشاعرة مجموعتها هذه بأغنية تختزل الأسى والخيبة والهزيمة لكنها تنتهي بصيحة الأمل الخفي. ربما كان أملاً في أرض غير موجودة. لكنه كائن:
يبقى الأمل المنشود
بعيداً جداً
يستوطن أرض اللاموجود
ولهذا فهي تستحث "أخا الروح" ألا يموت، وتراهن على الضوء والنكهة والمعنى. بل إن هذا الحب ـ لا إخفاقه ـ نوع من القدر، ولو حاولت أن تنأى عنه فسيظل في داخلها ما "يشدك قسراً إليه ـ بأي جناحين أنت تطيرين هاربة منه.."، وهي تستجيب لهذا القدر الجميل، فلا فرار من مواصلة الصراع مادامت محكومة بالشعر. والشعر، كالحب، علامة حياة، وله على قلبها "سطوة السيد والمولى الأمير" حتى لتتساءل أن تتساءل ونحن نعرف الجواب" ما الذي يمكن أن يفعله قلب يحب الحب للحب وللشعر وللمعنى الجميل". بهذا لا يفوت أوان اتساع البحر. وسيظل اللحن يعزف أخيراً لا آخراً. لتكون رسالة الشاعرة هي مواصلة الحضور في العالم. قد يكون هذا العالم بيتاً موحشاً. قد لا يكون أماً وليس فيه أهل. بل إن الحبيب يختفي صوته والصمت يسود، لكن للروح احتياطياتها الدفاعية الهجومية "فرحاً وموسيقى وأعياداً وأشعاراً وشمساً أشرقت في جنح ليل زمهريري طويل".. ولم ينتصر الزمهرير على شمس فدوى طوقان الدافئة، بل إن هذه الشمس من شأنها أن تحرس بدفئها تجارب الأجيال الراهنة والقادمة.
شجـون اللحن الأخير
حين دفعت شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان، بمجموعتها هذه إلى النور، لم تكن تطلب تأكيد وجود هو مؤكد بألف علامة وإشارة. وكما قلت في البداية، لم تضع لحناً أخيراً لاختتام الرحلة، بل كانت في صميم سيرورتها التي أدت إلى هذه الخلاصة الشعرية. لقد ابتدأت حياتها الوجودية والشعرية بالقول: حياتي وعود، وحزن وديوان شعر وعود. وظل الحزن وديوان الشعر علامتيها المتجددتين باستمرار، حتى ليمكن للقارئ المجرب أن يعرف أن هذه القصيدة أو تلك، من شعر فدوى حتى لو لم يكن اسمها مطبوعاً، ولا يعني هذا أن في الأمر تكراراً، بل هو العمل على ثيمة فنية ذات خصائص مميزة. لكنها تحمل ثراءها في داخلها من خلال اتساع التجربة الوجودية والثقافية. على أن فدوى المرتبط اسمها بجملة التجديد في الشعر العربي المعاصر، تبدو في هذه المجموعة أحياناً، وقد خفت قبضتها التي لم تكن متسامحة مع العبارات التقليدية، فوقعنا على كلام من نوع "الأمل المنشود ـ وهزيم الرعود ـ المساء الكئيب ـ أخو الروح ـ النبراس المضيء ـ الغيث همى ـ حبي الطاهر ـ شغاف القلب ـ رجع الصدى ـ سهام القدر ـ كأس الموت المرة ـ انقشع الوهم" وقد يكون من حق الشاعر الحديث أن يستخدم أمثال هذه الكليشهات، لكن في إطار النص الغائب، حيث يستحضر المألوف شاهداً أو مفارقاً لغير المألوف. أما أن يتم استخدامها كما يستخدمها الذين ثار جيل فدوى عليهم، فهو نوع من التساهل الذي يحرج حساسية الحداثة. إلا أنه من حسن حظ الشعر أن مثل هذه العبارات كانت تمر لماماً في "اللحن الأخير"، ولم تتنازل الشاعرة عن أي انتصار جوهري مما أحرزه الشعر الحديث، فضلاً عن أنها أنجزت مجموعة شعرية متجانسة، حتى لتبدو قصيدة درامية يحكمها الصراع بين المد والجزر، والشد والجذب، والحزن والفرح، واليأس والأمل. وقليلة هي المجموعات الشعرية (مما نقرأ هذه الأيام) التي تنشغل بالوحدة العضوية لا داخل القصيدة،  فذلك من تحصيل الحاصل إذا كنا نطلب شعراً حقيقياً، ولكن من داخل المجموعة كلها. بل إن شعر فدوى كله، بهذا المعنى، هو قصيدة متصلة تتجوهر وتتأصل وتتجدد. إنها لا تركن للمناسبة، لكنها تستطيع أن تفجر من المناسبة فضاء شعرياً عابراً للزمن، كما فعلت في رثائها لأخويها إبراهيم ونمر، وفي قصائدها المرتبطة بفلسطين نكبة وسؤالاً وثورة وانتفاضة. وإذا لم تمر فلسطين بهذه المجموعة الأخيرة، فلأن السياق لم يقتض ذلك. ولكن: منذا الذي يزعم أن فلسطين لن تكون ساطعة الحضور لمجرد مرور اسم فدوى طوقان?
ثم ماذا? قد تفاجئنا فدوى، بعد غيابها، بأشعار كانت تخبئها ضمن ما وصفته بسر أسرارها. وقد لا نجد في أوراقها جديداً. وإن كنت أراهن شخصياً على "الكنوز" التي احتفظت بها من الأشعار "المحظورة" لشقيقها الشاعر الكبير ابراهيم طوقان. ومع ذلك تعالوا نعترف بأن هذه الثمانينية الرقيقة قد حرست الطفلة في روحها، وأبعدتها عن لواقط فضولنا. فهي التي قالت في واحدة من أجرأ ما كتبته النساء في الحب: حزني أعز وأقدس من أن يقال..
من حقها أن تأخذ حزنها معاً.. ولكن من ينكر أنها تركت لنا حزناً غير محسوب، لأن علينا منذ 12/12/2003 أن نواصل الحياة وليس فيها من فدوى طوقان إلا أشعارها التي توجتها باللحن الأخير.
------------
*شاعر فلسطيني
 
*عبدالرؤوف النويهى
2 - مايو - 2007
 1  2  3