القرآن بين الشفاهية والكتابية مراجعة منهج د.نصر حامد ابو زيد كن أول من يقيّم
نصر حامد أو زيد والمنهج الغائب
عمرو على بركات
لقد امتنع العلمانيون عن الإدلاء بدلوهم فى نظرية "نصر حامد أبو زيد" وقت أن كانت الحرب مستعرة بينه وبين السلفيين، تجنباً لنقد قد يضعهم وقتها مع حزب الرجعيين، أو تقديم مفردات عقلية يتم توظيفها من قبل الأصوليين فى مواجهة الرجل وهو المحسوب على التنويريين. فأفسح العلمانيون الساحة أمام نظرية "أبو زيد" منذ باكوراها، إفساحا سلبياً بالامتناع عن النقد، إلا انه بعد أن تدعم حزام الرجل حول خصره، وبات يتخذ لنفسه منبراً خاصاً به، آن الأوان لفتح باب الجدل مع منهجه فى قراءة النصوص المقدسة، انطلاقاً مما نادى به من رفضه لأى تجديد للخطاب الدينى إذا تم التعامل مع النصوص التأسيسية بنفس الأسس نفسها التى استقرت فى الفكر الاسلامى منذ القرن الثالث الهجرى.
نظرية أبو زيد
عام 1987م وقت أن كان "أبو زيد" فى اليابان انتهى من إعداد تقدمتة لكتابه "مفهوم النص، دراسة فى علوم القرآن" وطبعته الهيئة العامة للكتاب بعد ثلاث سنوات، لتشتعل وطيس حربه، مع ظروف رفض ترقيته، والتفريق بينه وبين زوجته، بسبب ما كشف عنه ?أبو زيد" من منهجه فى دراسة القرآن الكريم من منطلق إنزال مبادئ دراسة النصوص الأدبية عموماً على القرآن على نحو قال عنه" أن النص فى حقيقته وجوهره منتج ثقافى... فقد تشكل فى الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً... وعلى ذلك لا يمكن أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة والواقع ما دام انه نص داخل إطار النظام اللغوى للثقافة"، ولما كان "أبو زيد" وقتها فى اليابان حيث سيطر النموذج الارشادى لعلوم الحاسب الآلى على مفردات الثقافة، فقد انزل عليه نموذج التعامل المعلوماتى فى عصر الحواسب الآلية، مؤداه أن هناك مدخلات للمحتوى الثقافى، وهناك مخرجات لهذا المحتوى، بعد أن يتم التعامل مع المدخلات فيه، وهناك التغذية العكسية، وهو إعادة إدخال هذه المخرجات مرة أخرى فى صورة مدخلات، للتأكد من صحة التطبيقات المنطقية فى التعامل مع المعلومات الداخلة، وهذا ما طبقه "أبو زيد" فى تعامله مع القرآن فقد اعتبره منتج ثقافى(مفعول به) فى مرحلة التكوين والاكتمال، ثم منتج(فاعل) عندما دخل به لمرحلة التغذية العكسية، وأصبح نصاً مهيمناً تقاس عليه النصوص الأخرى.فهو نص تأثر بثقافة القرن السابع الميلادى، فى جزيرة العرب، من ناحية، وأثر فى تلك الثقافة فيما بعد، من ناحية أخرى.
فروض أبو زيد
لقد قدم "أبو زيد" نظرية فى قوة نظرية النسبية التى وضعها "أينشتين" عام 1905م للفيزياء، واعتمد على فرضيات معينة، ونجح كما نجح " أينشتين" فى اعتماد جماعة العلماء لنظريته، ولكن كلا من "أبو زيد" و" أينشتين" لم يقدما اى إثبات بالتجربة العملية المعتمده على العقل التجريبى لإثبات فروضهما، فقد تأكدت فروض نسبية "أينشتين" بسبب فشل كل المحاولات لدحض تلك الفروض فقط، كما أن فروض" أينشتين" تؤدى الى استنتاجات هائلة جرى التحقق منها بالتجربة، رغم عدم تجربة الفروض المؤسسة للنظرية أصلاً، إلا أن "أبو زيد" رغم عدم تقديمه لأى إثبات لفروضه فى كون القرآن تجادل مع ثقافة بيئته زماناً ومكاناً، وبسبب حساسية موقفه، لم يتعرض لمحاولات دحض تلك الفروض، هذا فضلاً أن نظريته توقفت عند حدود الفروض ولم يقدم تطبيقات لتأكيد صحة فروضه.
وكأن "أبو زيد" اكتشف بعد عشرين عاما من تدبيج نظريته، أن الإمام "محمد عبده" يقر بتأثير ثقافة البيئة على النص القرآنى، مع تحوله من المعتزلة الى الاشاعرة للتميز فى كلام الله بين القديم الازلى وبين القرآن المتلو موضوع نظريته، لقد أراد "أبو زيد" أن يجد عضداً له القبول عند السلفيين، و المجددين فى آن واحد، هو "محمد عبده"، حيث لم ينجح "أمين الخولى" فى تثبيته أمام المحنة الأولى، وتقديم إسعافاته الأولية له، حين أعتمد على مذهبه الذى نادى به من ضرورة الاعتماد على الدراسات الأدبية لكتاب العربية الأوحد دراسة صحيحة كاملة الفهم، ولكن "محمد عبده" لم يقل بهذا صراحة، وإنما استنتجه "أبو زيد" من "رشيد رضا" رفيق وتلميذ الإمام. وعليه فان "أبو زيد" يبحث حالياً عن تأصيل، ومرجعية لنظريته، فى الوقت الذى كان الأحرى به أن يصرف جل همه نحو إيجاد تطبيقات لتلك النظرية التى عجز عن إثبات فروضها.
منهج أبو زيد
يرى "أبو زيد" أن القرآن يصف نفسه بأنه رسالة، والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة أو نظام لغوى، ولاستحالة دراسة المرسل فرأى انه من الطبيعى أن يكون المدخل العلمى لدرس النص القرآنى مدخل الواقع والثقافة، (مفهوم النص)وعليه فقد وعد "أبو زيد" بمحاولة كشف مكونات، وآليات النص الخاصةــ كمرحلة المدخلات ــ ثم دور النص نفسه فى عملية تأويله ــ كمرحلة التغذية العكسية ــ فقام باستعراض مفهوم الوحى، ضارباً أمثلة من واقع البيئة القرآنية عن اتصال البشر الشائع وقتها بالجن، ثم عرض لأفكار اقرب ما تكون لأفكار" شحرور" الذى انقلب عليه، عندما فرق بين القرآن والكتاب، ومفهوم الرسالة والبلاغ، ثم درس النص بنفس آليات الراديكاليين، بدراسة المكى والمدنى، بنفس منهج "جمال البنا"، ومعايير التمييز بين نوعى الآيات، واستخدم أسباب النزول ليؤكد على مدى ارتباط النص بواقعه، بل تحولت الآيات المنسوخة والناسخة الى محاولات النص للتأقلم مع فرضيات الواقع ليحقق الانسجام على حد قول"عبد الكريم"، ولم يقدم نتيجة لنظريته كما وعد فكل ما قام به "أبو زيد" أن أعلن عن نظرية لم يتمكن من إثباتها، رغم كل ما يدعيه من استخدام المنهج العقلى، فالجديد الذى قدمه هو إعادة صياغة مفاهيم أحكمت أصلا من قبل السلفيين، وانتهت بهم الى واقعنا المعاصر، من قراءة ل "عبد القاهر الجرجانى" فى دلائله للإعجاز، و " الزركشى" فى برهانه فى علوم القرآن، ولولا ما أثير حول نظريته من مشكلة، لمرت مر الكرام، دون أن يحسب بسببها "أبو زيد" على الليبراليين، أو المجددين.
مفهوم الثقافة عند أبى زيد
لم يقدم لنا حتى الآن المعنى الذى قصده بالثقافة التى يدعى أن القرآن تأثر بها أولاً، ثم عاد القرآن بعد اكتماله ليؤثر فيها، سوى قولاً عمومياً، معرفا إياها بثقافة القرن السابع الميلادى، فهو قد باغتنا، على الفور بتأثر القرآن بثقافة لم يذكر خصائصها وبنيتها، بل وما يعد تراثاً، وحداثة وقتها لهذه الثقافة، وهو الذى يدعى انه يراعى السياق واتساقاته، نراه قد ارتكب مغالطة على محورين: الأول، أن أخذ معايير العصر وراح يطبقها على ثقافة تفتقد لمقومات الثقافة التى أنتجت تلك المعايير أصلاً، والثانى، أنه لم يجد فكاكاً من تطبيق معايير تلك الثقافة القديمة التى كانت قائمة وقتها على النص موضوع بحثه، ليخرج علينا بنتائج مدعياً أنها نتائج تطبيق النظرية الأدبية الحديثة.
الثقافة الشفاهية والكتابية
لم ينجح "أبو زيد" فى فصل نفسه عن سياقه المعاصر، ليقف على أعتاب ثقافة عصر القرآن، فالحقيقة التى لم يكلف نفسه عناء البحث عنها قبل أن يبحث عن "كلام الله" هى ثقافة "كلام البشر" وقت نزول الوحى، وهى تحتاج لمنهج الدراسات الأنثروبولوجية، وتستحيل معها الدراسات الأدبية التى حاول إنزالها "أبو زيد" متبعا "أمين الخولى" فى رأى عرضيّ له عندما ترجم جزءاً من دائرة المعارف الإسلامية، أما الدراسات الانثروبولوجية، فتمدنا بطبيعة الثقافة العربية فى القرن السابع الميلادى فى كونها ثقافة شفاهية خالصة، يكتسب أهلها المعارف بالمشافهة، ولا يعرفون شيئاً عن ثقافة مماثلة لثقافتنا الكتابية، كما ذكر " أونج" فى كتابه "الشفاهية والكتابية"، فكيف يأخذ"أبو زيد" منهج دراسات أدبية لثقافة كتابية، ليطبقه على ثقافة شفاهية لا يعرف أهلها أن هناك شكلاً للكتابة، وهم ما أسماهم" أونج" الشفاهيين الخلّص? لقد أرخ القرآن لذلك الفرق، والتمايز الثقافى وقت نزول الوحى، فأول آية نزلت على الرسول(ص) هى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) سورة العلق ، واقرأ هنا بالمفهوم الشفاهى تختلف عنها بالمفهوم الكتابى، فهى بمعنى ردد خلفى، أو رتل، أما اقرأ الكتابية فهى من كيان مادى للصوت الذى تحول إليه وهو المكتوب على الورق،الأولى تعتمد على السمع والذاكرة السمعية، والثانية تعتمد على النظر والذاكرة البصرية، وهناك فرق بينهما. وعليه فان التحول الذى نتج عن الجدل الثقافى للنص القرآنى مع بيئته، هو أن تحولت الثقافة فى مجملها من شفاهية الى كتابية، وقد أدرك النص القرآنى قيمة هذا التحول، فى المرحلة البينية، التى عرف فيها العرب الثقافة الكتابية ولكن معرفة البواكير فأرخ القرآن لتلك المرحلة البينية قائلاً: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } (283) سورة البقرة ففى تلك المرحلة لم تكن الثقافة الكتابية قد انتشرت ليتيسر إيجاد من يُلمون بآلياتها فى أى وقت، وفى أى مكان، وعندما حدث التحول التالى بتعميق الكتابية أثبته القرآن فى آخر آيته حسب أسباب النزول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } (282) سورة البقرة لقد أصبحت الكتابة، والإملاء، من مفردات الثقافة والبيئة بفضل القرآن، لتحل محل القراءة والترتيل، واتخذت تطبيقاتها، فى الحياة العملية، على مستوى حجية الإثبات، فى مواجهة حجية الشهود، ذات الثقافة الشفاهية. وعليه فان الحدود التى يرى"أبو زيد" استقرارها فى مجتمع القرآن قبل أن يهبط به الوحى، وجاء الوحى متجادلاً معها على سبيل التلبية والموائمة مع وضع قائم، أحدث فيها القرآن تحولاً عرضياً، وهو بصدد الجدل على نحو أوسع مع الثقافة ككل، فأصبحت شهادة الشهود، من قبيل التراث الثقافى لمن هم معاصرون للوحى، واستخدام الكتابة فى الإثبات، كدخولنا اليوم عصر الميديا الثانية، بما يحمله هذا الدخول من كل مفردات الحداثة وقتها.
تجديد الخطبة
سخط "أبو زيد" الخطاب الدينى، وتجديده فى الخطبة!!، وارتكب ما حذر هو نفسه منه، بأن أعاد تعبئة الأفكار القديمة، فى عبوات جديدة، حتى لم يعرضها عبر فلسفة تساؤلية تفتح باب النقاش حول أمور عدها من المسلمات مثل تطوير رسم المصحف العثمانى بلا تنقيط أول أمره، إن النظرية التى يدعيها لا تملك الإجابة على ما يطرحه من أسئلة، بينما النظرية الشفاهية توضح أسباب ذلك التطور فى شكل المصحف، فقد كانت الكتابة فى أول أمرها فى المجتمع الشفاهىّ الثقافة الداخل تواً الى الكتابية، من وسائل التذكر، وليست كما هى الآن تحمل خطاباً على فراغ لا يعرف المتلقى شيئاً عنه، فقد كانت الكلمات غير المنقوطة لتعين القارىء على إدراك النص من ذاكرته، ولما أمعن العرب فى الثقافة الكتابية، أصبحت النصوص المكتوبة خارج الذاكرة، وتحتاج لتحديد أكثر وضوحاً للدلالة، فكان تنقيط الحروف، لإزالة اللبس بين النون، والياء، والتاء، والثاء، والباء، على سبيل المثال، إن فهم صدر الإسلام عبر نموذج الشفاهية والكتابية هو المجال المنتظر لحل مشاكل تجديد الخطاب، وتطوير الثقافة المعاصرة، عموماً، تطويراً يستوعب الخطاب الجديد أياً كان شكله، وصاحبه، دون مشاكل مع السلفيين، أو مع النص ذاته، فان الحديث عن تطوير الخطاب الدينى فقط، دون الثقافة، هو حديث أحادى الاتجاه به عوراً.
عمرو على بركات |