عبقرية المكان في لبنان تختزل كل حضارات العالم في ذلك البلد الصغير مساحة والعملاق ثقافة وإنساناً.
حوار حضارة :
الحياة في الداخلية تصبح ممتعة إذا تمكّنت من عقد صداقات وطوعت نفسك على ان لا استراحة سوى في عطلة نهاية الأسبوع وهي يوما السبت والأحد هناك. ويبدو لي أنني كنت نهماً في القراءة حتى أنني كنت أقتني كتب جبران خليل جبران وقصص مارون عبود وأتلذذ بقراءتها، إضافة الى المنهج الدراسي المتنوع باللغات العربية والانكليزية والفرنسية. أما التلفزيون فلم يكن يسمح لنا بمشاهدته إلا ليلة السبت، وكان البرنامج المقدم من بطولة دريد لحام واسمه (غوار الطوشه). ومثلما كان المدرسون من مختلف الطوائف اللبنانية بل وبعض الأفغان، فقد كان الطلبة من كل الفسيفساء اللبنانية والعربية لا سيما الخليجية. مدرسة الجامعة الوطنية بعاليه كانت أشبه بكوكتيل من الأديان والأعراق، وهكذا يتعلم المرء الدرس اللبناني الاول ألا وهو »عش ودع غيرك يعش«. ويعزز هذا الشعور أنه لا تكاد تجد لبنانيا ليس له بعض من أسرته تعيش في المهجر الافريقي والاسترالي والأميركي وهلم جراً. واللبنانيون مارسوا العولمة والحوار الحضاري قبل باقي العرب بكثير، ولذا ينسب الأدب المهجري اليهم. وأذكر أنني فيما بعد زرت مدينة بوسطن الاميركية وكنت أتساءل ان كان بالإمكان ان أرى مقر الرابطة القلمية التي كان جبران من أهم اعضائها ذات يوم هناك. وهذا الوله برومانسية جبران دفعني الى زيارة قبره في بشري في المرتفعات الشمالية من لبنان ذات يوم غطى فيه الثلج وجه الأرض. وفي فترة قياسية انطلق لساني باللهجة اللبنانية وصرت محل تشجيع معظم أساتذتي كعامر صعب وأنطوان عاصي وعكيف السبع ووليد أبو شقرا، لا سيما مدرس اللغة الفرنسية الذي كان على مسيحيته يتردد على المساجد الإسلامية والأضرحة الدرزية ربما تحقيقاً لمقولة ابن عربي) ـ: ادين بدين الحب. (...).
وقيض الله لي صديقين الأول سعيد فرحات الذي لم يكن يسكن معنا في الداخلية، إلا أنه كان يبقى ليقضي معي عطلة نهاية الأسبوع فنتناقش في كل شيء بما فيه المعتقد الدرزي الباطني ومعتقدات اخرى كالبهائية وشهود يهوه، وكنا نستمع بالكاسيت لأغنيات المطرب الايرلندي توم جونز الذي يغني بإحساس شرقي، وطبعاً نفاضل بين جمال الزميلة فلانة والزميلة علانة وينتهي بنا الأمر الى سوق عاليه لمشاهدة أفلام الكراتيه الشائعة يومئذ، وكذا أكل الكنافة بالجبنة، هروباً من مائدة الداخلية الروتينية!
وكان تفوقي في الدراسة سبباً لكثير من الغيرة المهنية اذا صح القول بين الزملاء الذكور ومنهم ريمون طوق وعبد الكريم حدرج أما الزميلات ومنهن ريما نطفجي وندى قشوع، فقد كنت ايضاً فاقد الشعبية بينهن، وكن يعقدن المقارنة بيني وبين الزميل السنيدار الذي كان أنيق الملبس لبق الحديث مع الجنس الآخر، ويصرف الكثير على تسريحة شعره، لكن الحقيقة بقيت أن اسمي واسم زميلي فيصل لم يغادر لائحة الشرف منذ أن دخلها، وهذا تحديداً ما فرض وجودي.
الصديق الآخر كان محمد خير، وكان يأنس لرفقتي كما كنت أساعده في الدراسة، وظل محمد هذا يراسلني حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية ويقول لي إنني نسيت العشرة وتركتهم يواجهون حرباً ضروساً. وكنا جميعا نعرف ما معنى الحرب على الأقل في الجو، اذ ان الصراع بين الطائرات السورية والإسرائيلية خلال حرب اكتوبر ١٩٧٣ م كان يجري أمامنا في السماء وكنا نرى الصواريخ المضادة للطائرات التي زودت أميركا بها الجيش الإسرائيلي فغيرت من موازين القوى.
الحمرا
كنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع في بيروت، وكانت المنطقة المفضلة لي هي شارع الحمراء، حيث أتجوّل بين السينمات والمكتبات وهناك مثلاً قرأت كتباً كان دخولها إلى عدن ممنوعاً مثل (تحطمت الطائرات عند الفجر) للجاسوس الإسرائيلي باروخ نادل وكتاب (لعبة الأمم) وكتاب (العرب ظاهرة صوتية) للسعودي عبد الله القصيمي الذي تزوّج شاعرنا محمد أنعم غالب بكريمته، ولا أنسى ان أستمتع بوجبة الدجاج البروست مع الثوم في مطعم مروش كما أتذكر، ثم أتجول ماشياً بين صخرة الروشة وساحة الشهداء وتسمى البرج او البلد، لأنها قلب بيروت وكركون الدروز وشارع المكحول قرب الجامعة الاميركية، حيث يدرس أقربائي زهير شهاب وعصام لقمان، وحيث انظر بحنين الى الحجرة التي كان يتقاسمها والدي مع المرحوم عبد الله بلخير في الثلاثينيات داخل حرم الجامعة، وفي هذا يقول:
يذكرنا بعهد قد تولى بأثواب الشباب وبالشباب
ببيروت الجميلة حيث كنا رفاق العلم ندأب في الطلاب
وبعض الناس قد أفنى الليالي هياماً بالمدامة والكعاب
وأقضي الليل في شقة قريبي قيصر عبد المجيد لقمان. أحياناً كنت أغامر فأذهب الى زحلة لأكل المازة اللبنانية او الى صيدا حيث أزور رجل الأعمال اللبناني الذي عاش طويلاً في عدن المرحوم عدنان هيماني والذي حللت ضيفا على ابنته الدكتورة ميادة هيماني في محطة أم بي سي بلندن فيما بعد.
لكن التغيير الاجتماعي الأكبر كان حينما لحق بي شقيقي المهندس الشاعر شهاب غانم ليعمل مديراً هندسياً بمصنع أترنيت للأسبست في مدينة شكا شمال لبنان، وكان هذا مدعاة لي لأزوره هناك وخاصة في القرية التي سكنها واسمها أنفة، وكان حضور الحزب القومي السوري قوياً فيها وقد كتب شقيقي شهاب بعضاً من أجمل شعره عن لبنان في تلك الحقبة.
ويكاد لا يوجد لبناني لا يفهم في الفن، وأذكر أن نقاشاً حاداً جرى بيني وبين المعلم او سائق التاكسي ذات يوم كنت متجهاً فيه الى طرابلس حول من هي مطربة لبنان الاولى صباح ام فيروز، وكنت كما هو الحال مع الدكتور عبد العزيز المقالح أرى ان فيروز هي الأفضل عربيا، فاستل المعلم مسدساً وهددني بالقتل اذا عدت وبخست صباح امام فيروز. لقد كانت تجربة مرعبة.
كانت صلتي باليمن لا تنقطع فهناك الصحف التي تتشيّع للجنوب ومنها (المحرر) وهناك الصحف التي تبايع الشمال ومنها (الحياة). والصحف والمجلات اللبنانية أحد أهم المنتجات الفكرية لذلك البلد. كذلك سمح لي التجول المستمر أن أشاهد الممثلة مريم فخر الدين والممثل نهاد قلعي والسيدة فيروز في شارع الحمراء ثم أحضر مسرحيتها (المحطة) التي غنت فيها لأول مرة دون أن يكون الى جوارها زوجها عاصي الرحباني الذي غادر للعلاج من جلطة دماغية، وهي تذكر ذلك في أغنيتها (سألوني الناس عنك يا حبيبي)، ومن الافلام التي أتيحت لي مشاهدتها هناك الفيلم الكويتي (بس يا بحر)، وفيلم (خلي بالك من زوزو) الذي غنت فيه الممثلة سعاد حسني وفيلم (حبيبتي) الذي يحكي قصة حب بين فاتن حمامة ومحمود يس في لبنان وقد وضع موسيقاه منصور الرحباني، والفيلمان الأخيران لفريد الأطرش (زمان يا حب) و(نغم في حياتي). وكان لفريد كازينو يحمل اسمه في بيروت في فترة لم يكن فيها على وفاق مع البعض في مصر ففضل أن يستقر بلبنان وفيها لحن أغنية (يا حلوة لبنان) و(كلمة عتاب يا حب) التي لم يكملها، وإنما غنتها بعده وردة الجزائرية فشوّهتها. وفريد هو الفنان العربي الوحيد الذي كان يحمل أربع جنسيات عربية هي المصرية والسورية واللبنانية والسودانية.
أعلام كبار
أما عندما كان والدي يحضر من جيبوتي لزيارتي في عطلة الصيف في لبنان فقد كانت تتاح لي الفرصة لأن أقابل بمعيته أعلاماً كباراً مثل منير او زهير البعلبكي والبير أديب صاحب مجلة (الأديب) وسهيل ادريس صاحب مجلة (الآداب) ويوسف ابش ومحمود الغول وإحسان عباس في الجامعة الأميركية. وقد قامت مجلة (الأبحاث) الصادرة عن الجامعة الأميركية بنشر النص الانكليزي لأطروحة شعر الغناء الصنعائي ثم قام الوالد بترجمته إلى العربية، حيث قام بنشره الفقيد النعمان الابن وكذا الشاعر الكويتي ـ الوهطي الأصل ـ أحمد السقاف، ومن اليمنيين السفير الشاعر احمد محمد الشامي الذي تكرم بمنحنا جوازات سفر للجمهورية العربية اليمنية، والمفكر الأديب زيد الوزير ونجله طارق وعرفت أنهم يمتّون بالقرابة إلى الزميل فيصل امين، والصحافي الفقيد محمد ناصر محمد صاحب جريدة (الطريق) العدنية وكان حينها يصدر مجلة ملونة في بيروت اسمها (اليمن الديموقراطية) ثم قضى في حادثة طائرة الموت بحضرموت، وكذا قابلت مع والدي الفقيد محمد احمد محمد نعمان وفيما بعد ذهبت الى مأتمه عند اغتياله في بيروت، ولا شك في أن سماعي باقتناص اليمنيين المعارضين للحكم بدءاً بمحمد علي الشعيبي صاحب كتاب (اليمن الجنوبية خلف الستار الحديدي) ثم رجل الأعمال الحروي والنعمان الابن ومحاولة اغتيال الشاعر الشامي جميعها أساء الى العلاقات اللبنانية ـ اليمنية. فحتى الصحفي اللبناني ميشيل ابو جودة الذي كتب محذراً من الغرباء القادمين من عدن ما لبثت قوى الظلام ان اختطفته لعدة أيام، وأذكر عند مقابلتي المرحوم احمد محمد نعمان والذي كان يحب أن يتكلم العربية الفصحى انه قال: (الموت شيء طبيعي، لكن طريقة الموت هي التي تهم)!
ومن الطريف أن أذكر أن والدتي، رعاها الله، منيرة محمد علي ابراهيم لقمان كتبت الشعر للمرة الأولى، في مفارقتي لها حيث تقول:
(عاليه) يحميك العزيز العالي فلقد أقام بك الحبيب الغالي
لولا طموح العلم ما فارقته والنفس قد ضاقت بذي الأحوال
لم يبق لي من بعده أمل سوى لقيا أبيه محقق الآمال.
وإذا كتب لي أن أزور لبنان وهو يخرج من محنته الحالية فلا شك في أن (عاليه) ستكون محطتي، ولم لا فان حاجتي الى البكاء لا تضاهيها حاجة الشاعر الجميل احمد العواضي، لكنه الدمع يستعصي عليّ او كما قال الشاعر الطبيب ابراهيم ناجي في قصيدته (ختام الليالي) التي لحنها الفنان اليمني الراحل احمد قاسم:
غير أني أني/استنجد الدمع لا لا/ألقى مكان الدموع الا نحيــبا/جــفّ دمعـي دمعي فلست أبكي حبيبا/وبحبك يا لبنان!