ضربني وبكى .....     ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
سأعود اليوم إلى موضوع الملف الرئيسي ، ليس لأننا أهملناه ، إنما كوننا أرهقناه بمزاجنا المتكدر ، ولم يك القصد منه أن يكون مرآة لمزاجنا بقدر ما تمنيت له بأن يكون سجلاً للذاكرة والحدث . وأنا أشكر سلوى والأستاذ زهير على فضيلة الصبر التي تحليا بها ، وأشكر عبد الحفيظ على إثراء هذا الملف بالصور الملونة والطريفة والمعبرة . ضربني وبكى كانت أختي الصغيرة هلا ، التي حدثتكم عنها ذات مرة في ملف الفلسفة ( الصفحة 9 بتاريخ 25 فبراير 2006 وتحت عنوان : حكاية من الذاكرة ) إلى جانب شراستها وحدة طبعها ، شديدة الحساسية والزعل . كانت تضرب أخاها الأصغر منها ، وأختها الأكبر منها ، بل وكل من تسول له نفسه بمخالفة قوانين لعبتها من أبناء عمتها وعمها ، ثم تبكي وتشتكي للظلم الذي ألحقوه بها . وعندما كانت أمي تجري وراءها أحياناً لتؤدبها ، كانت تهرب منها وتصعد الدرج إلى الطابق الثاني ، وهي تعلم بأنها لا تستطيع اللحاق بها ـ لا أذكر أمي في تلك الأيام إلا حاملاً أو على يدها طفل صغير ـ فتقف لها هناك على رأس السلم وتبدأ بالبكاء والصياح على أنها مظلومة ، وأن الجميع يضطهدها ، وأنه لا يوجد عدل في هذا البيت ، ثم تختم مرافعتها بمجموعة من الأدعية كانت تحفظها عن ظهر قلب وترددها تقريباً في كل يوم ومنها أنها تتمنى أن " يقصف الله عمرها " لترتاح منا ومن هذه " العيشة " ...... ثم تقول لأمي : ـ " يا ليتني ولدت في البرية ولم أولد عندك ، يا ليتني ولدت في مضارب النور ( الغجر ) ولم أولد في هذا البيت ". كان تقول هذا كله بشكل مؤثر وبحماس بالغ وهي تهدر الدموع المدرارة ، لدرجة كانت تجعل أمي تتراخى في النهاية وتغرق في الضحك ، ثم تتراجع عن مطاردتها . أحياناً أخرى ، حين يكون الذنب الذي اقترفته كبيراً ، كانت تخاف من القصاص فتهرب إلى بيت عمتها ، وتبقى هناك حتى المساء ، موعد رجوع والدي إلى البيت ، حيث هي تعلم بأنه لن يضربها أحد في حضوره ، ولكن أيضاً لأنها جاعت ولم تجرؤ على طلب الطعام في بيت عمتها . عند رجوعها ، كانت أمي تسألها : ـ " لماذا عدت ? لماذا لم تبق عند عمتك ? " . فكانت تقول بحدة ، وبشيء من الإتهام : ـ " جئت لأتفقد أبي وأطمئن عليه ، أم تريديني أن أنام هناك لكي يقرصني البرغش ? " . ثم تأتي لتحتمي بأبيها ، فينهرها قليلاً ثم يقول وهو يضحك : ـ " متل العادة ضربني وبكى سبقني واشتكى ! " . وهلا كانت الصغرى المدللة عند أبي خصوصاً لما كان لها من ذكاء وفطنة عجيبين ، تكلمت في سن باكرة جداً . فكانت تأتي إليه تسامره وتحادثه بما يثير إعجابه الشديد بها ومحبته ، فلا يرد لها طلباً . ولقد طال زمن السعادة هذا سنتين ، حتى ذلك المساء الذي ولدت فيه أمي بأخي الذي يليها ، محمد . وكان أبي لشدة فرحه هي أول من أراد إخباره بالموضوع وكانت نائمة ، فأيقظها وحملها على راحتيه وراح يطيرها في الهواء ويقول لها : ـ " نزلت جزمتك عن الرف ، نزلت جزمتك عن الرف ..... " . أظن بأن مشوار العناء والقلق الذي تحولت بفضله إلى ما كانت عليه من عدوانية ، كان قد بدأ بلحظتها ، في تلك اللحظة التي شعرت فيها بأن هناك من ينافسها على موقعها ، وبأن عليها إعادة " جزمتها إلى الرف " ، بأي ثمن . كان ثمن كل هذا ، قلق وإضطراب وإحساس دائم بالتوتر ، لعبت فيه شخصية أمي أيضاً ، الحاضنة دائماً للأصغرسناً ، دوراً مهماً . لكنه أدى أيضاً إلى تفوق دراسي غير مسبوق ، وتميز كانت ولا زالت عليه في كل عمل تقوم به . الثمن كان فادحاً ولا زال ، ومن يراها اليوم مع أولادها بحنانها البالغ ، لا يظن بأنها كانت بهذه الشراسة مع إخوتها وأترابها ، فهم ينقدون اليوم حباب عيونها ، بمناقيرهم الصغيرة ، وهي لا تقول لهم شيئاً . |