البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : أحاديث الوطن والزمن المتحول    قيّم
التقييم :
( من قبل 39 أعضاء )

رأي الوراق :

 ضياء  
11 - يونيو - 2006
كان الأستاذ السعدي قد طرح ذات مرة تساؤلاً حول علاقة التاريخ بالسيرة الذاتية . حيرني بوقتها ذلك السؤال لأن المسألة تبدت لي بديهية ، ولما فكرت فيها ، استنتجت بأن التنظير لها صعب للغاية . فالسيرة الذاتية هي تاريخ شخصي تتقاطع أحداثة مع مجريات الحدث العام ، بالصدفة يحدث هذا التلاقي في الزمان والمكان ، هكذا يبدو ......  إنما مقاصد السؤال الذي طرحه كانت ربما : كيف تحكي السيرة الذاتية التاريخ العام ?

عندي مثال ساطع على هذا تعلمت منه أكثر مما تعلمت من كتب التاريخ . فجدتي ، رحمها الله ، كانت تقص على مسامعنا سيرة عمرها الطويل وتعيد تردادها بدون كلل أو ملل . منها تعلمت تاريخ طرابلس ، تقصه مشفوعاً بأخبار الذين كانوا من حولها ممن مات ، أو عاش ، أو ولد ،  قبل " الطوفة " مثلاً( طوفان نهر أبو علي ) أوبعدها ، ومن كسر يده في الزحام ، أيام ثورة القاووقجي ، أو عندما جاء ابراهيم هنانو إلى طرابلس ، وأين اختبأوا أيام " ثورة شمعون " . وتحكي أيام الأنكليز وكيف انتشروا بوقتها على شاطىء البحر ، وكيف جاء الفرنسيون بعسكر السنغال ، وعن أيام السفر برلك ورحلتهم مع الجوع والعذاب والجراد والمرض آنذاك ، وعن جيرانها اليهود وعاداتهم ، وكيف كانت طرابلس في ذلك الحين : الأحياء ، البيوت ، الطرقات ، النهر ، السوق ، القلعة ........ تاريخاً موثقاً بالأسماء والأرقام والوقائع من ذاكرة نبيهة صاحية ، ظلت طوال حياتها تنظم وتؤطر وتسلسل تلك المعلومات وتعيدها على مسامعنا على شكل حكايا ، تاريخاً متماسكاً كانت وحدها تعرف سره ، وتعرف كيف تمسك به بقبضتها الواثقة . كيف لا وهي من كان يعرف كيف يحصي ويحفظ كل شيء : الأرقام ، التواريخ ، الأعمار ، و عدد درجات السلالم التي تطلع عليها ، أو عدد حبات الزيتون التي تأكلها في كل وجبة ، ومواقيت الفصول والأعياد والزراعة في الحساب الشرقي وبحسب هلة القمر ، وحتى لو قامت بحشو الكوسى فإنها ستضع فيه " الحبة فوق الحبة ، والرزة فوق الرزة " تحسبها بالمثقال .

 ولطالما تساءلت عن سبب إصرارها على إعادة تلك القصص التي كنا نتذمر منها ونتأفف لها أحياناً . وفهمت بأن الزمن قد تحول وتبدل كثيراً من حولها ، وأنها تحاول ان تمسك بماضيها ، ان تستعيده على طريقتها . وبالرغم من أنها كانت تروي حياتها كأمتداد لحياة من سبقها أو تلاها من الأجيال ، بدون إسراف أو بطولة ، أو حتى خيال ، سرد مجرد سرد واقعي يسجل الوقائع ويثبتها في الذاكرة ، إلا ان تلك الذاكرة كانت تغربل وتنقح وتختار لحظتها وموضوعها ، وهي بالتالي إنتقائية . فالذاكرة هي إعادة إنتاج للواقع بحسب فهمنا للذات وللآخر .

هكذا خطرت لي فكرة هذا الموضوع ، إعادة إنتاج التاريخ من خلال السيرة الذاتية . وهذا ما سأحاول الكتابة فيه ، لكن ليس لوحدي : أدعو الجميع للمشاركة في هذا الملف من منطلق إعادة كتابة تواريخنا الشخصية : عبرها ، ستتبدى لنا أشياء كثيرة كانت مطوية في غياهب النسيان ، وستفتح لنا ربما شبابيك على الحاضر لو استطعنا أن نمسك بتلابيب الماضي ونستقرأ أبعاده .

اعتبروا هذا الملف كأنه صندوق تبرعات ، وليتبرع لنا كل واحد بحكاية من طفولته أو تاريخه الحاضر ، أو حتى تاريخ عائلته . كل المطلوب هو أن تكون هذه القصة واقعية ومختصرة ، وأن يجهد قليلاً في جعلها ممتعة لدى قراءتها .

أتمنى لنا حظاً سعيداً .

 

 60  61  62  63  64 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
اللقاء الأول مع نابليون ( 13 )    كن أول من يقيّم
 
 
 
                                                     مقابلة مع بونابرت
 
بعد أن صادق المجلس التشريعي على معاهدة التطبيع (1) Le Concordat في العام 1802 ، أقام لوسيان (2) ، وكان وزيراً للداخلية ، حفلاً على شرف أخيه دُعيتُ إليه بصفة أنني عملت على حشد القوى المسيحية وأعادتها إلى موقع المشاركة في المسؤولية . كنت في الصالة الكبرى عندما دخل نابليون وربت على كتفي بتحبب . حتى ذلك الحين ، لم أكن قد لمحته سوى من بعيد . كانت بسمته رقيقة وساحرة وفي نظرته الكثير من الغواية خصوصاً بالطريقة التي يعلوها جبينه وهي من تحته محاطة بالحاجبين (3) . حتى ذلك الحين ، لم يكن لديه بعد أي خبث ظاهر في عينيه أو شيء من الحقد أو الادعاء . " عبقرية المسيحية " (4) الذي كان قد أثار من حوله الكثير من الضجة في حينها ، كان قد أثر على نابليون . ذلك السياسي البارد كانت تحركه مخيلة خارقة ولولا وجود هذه الملهمة لديه لما استطاع أن يكون ما هو عليه ، فالعقل يحقق ما لدى الشاعر من أفكار . كل هؤلاء الرجال العظام  يوجد لديهم مركب من طبيعتين لأنه يتوجب عليهم امتلاك القدرة على الابتكار ، والقدرة على العمل . الأولى تخلق الخطط ، والثانية تنفذها .
 
لا أعلم كيف لمحني بونابرت وتعرف إلي ، وعندما توجه نحوي لم يكن من الواضح معرفة الشخص الذي كان يبحث عنه ، فكانت الصفوف تفسح الطريق من أمامه ، وكل واحد من الحضور كان يتمنى لو أن القنصل الأول يتوقف عنده بينما كان يبدو على نابليون التأفف من هذه المراعاة لشخصه التي كان يحظى بها . كنت أحاول الإختفاء خلف من هم بجواري حين علا بصوته قائلاً : " سيد شاتوبريان ! " فبقيت وحدي عندها في المقدمة بينما تحلق الجمع من حولنا بما يشبه الدائرة . كان بونابرت يتكلم ببساطة شديدة ودون مجاملة ، ودون أن يطرح علي أسئلة فضولية . وبدون مقدمات ، حدثني رأساً عن العرب والمصريين ، كما لو أننا كنا معرفة قديمة ، وكما لو انه يكمل معي حديثاً كنا قد بدأناه سابقاً :
 
" لشدة ما كان يثير عجبي رؤية " المشايخ " وهم يخرون ساجدين في وسط الصحراء ، وجوههم متجهة صوب الشرق ، وجباههم تلامس التراب ، فما هو هذا المجهول الذي كانوا يعبدونه لجهة الشرق ? " .
 
يقاطع بونابرت نفسه وينتقل بدون أي تمهيد إلى فكرة أخرى : " المسيحية ! ألم يشأ الإيديولوجيون أن يجعلوا منها منظومة فلكية ? وحتى لو فعلوا فهل يظنون بأنهم سيقنعونني بأن المسيحية هي بالشيء القليل ? لو كانت المسيحية هي تأويل لحركة الدوائر ، فإن هندسة الفلك ، وأصحاب العقول الفذة قد احسنوا صنعاً ، فرغماً عنهم ، بقي الكثير من العظمة لهذا " الشيء الشائن " (5 ) .
 
بكل سلاسة يبتعد ، كأنه " أيوب " قد مرَّ في ليل وحشتي ، كأن شبحاً قد مرَّ من امامي فاقشعر له بدني : لقد وقف هنا ، ولم أعد أذكر وجهه ، لكن صوته أتاني وكانه من نفح الروح .
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
(1) Le Concordat هي معاهدة وقعها نابليون ( القنصل الأول ) في العام 1802 مع الكنيسة الكاثوليكية ممثلة بالبابا بي السابع ، وتنص على أن الديانة المسيحية الكاثوليكية هي دين الغالبية الساحقة من الفرنسيين مقابل أن تعترف الكنيسة بالجمهورية الفرنسية .
(2) Lucien Bonaparte شقيق القنصل الأول ووزير الداخلية آنذاك
(3 ) كانت ابتسامة نابليون الساحرة ونظرة عيونه الشديدة الزرقة بلونها الداكن قد أثارت إعجاب جميع معاصريه .
(4) عبقرية المسيحية Génie du Christianisme كتاب ألفه شاتوبريان وعمل صديقه فونتان على نشره في نفس الفترة التي تم فيها التوقيع على المعاهدة مع الفاتيكان وكان ذلك التخطيط قد تم من نابليون نفسه بما يخدم مصلحته السياسية .
(5 ) في هذه الجملة إشارة غير مباشرة للدور الذي لعبه شاتوبريان وكتابه في عبقرية المسيحية بالرد على " الإيديولوجيين " ( الذين كانوا ينادون بحرية الفكر وهي حركة فكرية بدأت مع فولتير وأشهر من يمثلها لوك وكوندياك ... ) .
*ضياء
4 - أكتوبر - 2007
شاتوبريان والمجتمع الجديد (14 )    كن أول من يقيّم
 
 
كان شاتوبريان يشعر بأنه ينتمي إلى عالم قد مضى وانقضى وكان هذا يعزز لديه الشعور بالغربة دون أن يمده بأدنى دافع لمحاولة التكيف أو الإنضواء تحت هذه الأفكار الجديدة التي كان يقرؤها بامتياز ويستشف من خلالها ملامح الزمن القادم فيزداد خوفاً وابتعاداً . وسأحاول هنا أن ألخص ما جاء في آخر كتابه من آراء وتساؤلات تشبه التنبؤات : حول العولمة والاشتراكية وسلطة الإعلام  وأشياء أخرى حميمة خاصة بالإنسان وعالمه الداخلي ، ساطعة الوضوح في رؤيتها للمستقبل ، ومدهشة بكل المقاييس لو أخذنا بعين الإعتبار التاريخ الذي كُتِبَتْ فيه ( 1840 ) . الفقرة بعنوان :
 
المجتمع الجديد
 La société de L'Avenir  
 
كان شاتوبريان قد بدأ يشعر باقتراب هذا العالم الذي لا يأبه للثقافات والجنسيات والحدود بين البلدان ، وكانت هذه الأفكار الجديدة قد غزت المجتمع الفرنسي خصوصاً بعدما انتشار كتابات سان - سيمون الذي أسس للإتجاه الأنسي الديموقراطي ، ودعا إلى توزيع أكثر عدلاً للثروات وإلغاء حق الإرث ( نشرت كتاباته ما بين عام 1813 - 1829 ) . في هذه المعمعة من الطروحات الجديدة أخذ شاتوبريان يتساءل عن طبيعة المجتمع الذي بدأ يلوح في الأفق : كيف ستوزع هذه الثروات وعلى أي أساس ? وكيف ستكون حسابات تقييم الأجور مقابل العمل المبذول ? وهل ستتمكن المرأة من تحقيق تغييرات قانونية تحررها من القيود ? . " لا أعلم ، يقول شاتوبريان ، يبدو بأن النوع الإنساني سوف يكبر ، لكن ماذا عن الإنسان نفسه ?  أخشى بأنه سوف يتضاءل وأنه سيخسر من أجل هذا قدراته الإبداعية . ماذا سيحل إذاً بالمتخيلة ، والشعر ، والفن الذي سوف يموت في جحر هذا المجتمع الجديد  ? هذا المجتمع سيكون كالخلية ، وسيكون الإنسان فيه كالنحلة ، أو سيكون مجرد عجلة في مكنة كبيرة تدور باستمرار ، أو ذرة من ذرات المادة التي يجري جمعها وتنطيمها .. "
 
" ولكي لا أتطرق سوى إلى نقطة واحدة من آلاف الأسئلة ، لنأخذ المُلكية مثلاً : هل ستبقى موزعة بالشكل القائم حالياً ? كان عصر المَلََكية قد نجح بالتخفيف من سطوتها بنشر القوانين الأخلاقية ، كما كان قد حول الأنسنة إلى نوع من الإحسان " ليتساءل بعدها إذا كان من الممكن تخيل وجود كيان سياسي يمتلك بعض الأشخاص فيه الملايين بينما يتضور الآخرون جوعاً ، ويقصد بهذا النظام الرأسمالي ، ودون أن يكون الدين من دعائم المجتمع لكي يمنح للبشر تلك الصور المطلقة التي تتعدى حدود العالم المعاش وتجعل فكرة " التضحية " بالزمني الأرضي شيئاً مقبولاً .
 
" وكلما امتد التعليم ليطال فئات أدنى في السلم الإجتماعي ، كلما وعى هؤلاء فداحة الجرح الذي ينهش هذا التنظيم الإجتماعي الغير عادل ، هذه الفروقات كانت موجودة لكنها لم تكن مدركة ، لكن ، وبمجرد أن تنكشف هذه الفروق للبشر فستكون الضربة القاضية ( وهنا أنا ضياء أحب أن أذكر بما قاله فيكتور هيجو بنفس المعنى بعد شاتوبريان ببضع سنوات في العام 1846 وعبر عنه بصورة أدبية رائعة وترجمته في الصفحة54 من أحاديث الوطن والزمن المتحول في الفقرة التي تحمل عنوان : مشاهدات Victor Hugo : Choses vues  ) فالبائس الذي فقد إيمانه ، وأصبح مساوياً للغني بالثقافة ، كيف سيتم إقناعه بالرضوخ والقبول بالحرمان ? أخشى بأن يكون الحل الأخير هو وجوب قتله " .
 
عندما سوف يتطور استعمال المحركات البخارية ، وسيترافق ذلك مع تعميم التلغراف وسكك الحديد ، فإن الأفكار سوف تتجول بها وتنتقل تماماً كما تنتقل البضائع . وعندما سيتم إلغاء الحواجز الجمركية والتجارية بين البلدان ، على الشكل الذي هو حاصل فيه حالياً بين المناطق ، وعندما ستتطلع الدول إلى توحيد الشعوب بهذه الطريقة فبأي طريقة سوف تعيد تفريقها ?
 
يقال بأن المدينة التي تساوي بين أفرادها في التعليم وتوزيع الثروة سيكون لها نظرة اعتبار أرقى في عين الذات الإلهية من المدينة التي بناها آباؤنا . وجنون هذا العالم الذي نعيش فيه هو أنه يريد التوصل إلى صنع إنسان موحد في كل مكان . فلتفترض هذا ! إنما باكتسابه تلك الصفات العامة الموحدة ، ماذا سوف يحل بمشاعرنا الخاصة ? ألن يكون مصيرها الموت إذاً . سوف نقول وداعاً للطمأنينة داخل البيت ، ونقول وداعاً لدفء الحياة العائلية ، وضمن هذا الخليط من البشر ، الأبيض منهم والأصفر والأسود ، كيف ستجد أخاك الذي تحبه لكي تلقي بنفسك في احضانه ? هل كانت الحياة الماضية فارغة ? هل كان فراغاً ذلك الماضي الذي تنظرون إليه من نافذتكم المحاطة بورق اللبلاب ? كنتم تحلمون ببلاد وراء الأفق كنتم بالكاد تلمحون منها طيراً مهاجراً أتى في الخريف الماضي . وهي سعادة كبرى أنْ تعرفوا أنَّ هذه التلال المحيطة بكم اليوم لن تختفي من أمام أعينكم ، وأنها سوف تحتفظ بصداقتكم وحبكم ، وأن أنات ليل عزلتكم هو الصوت الوحيد الممكن أن تسمعوه لتناموا على هدهداته ، وبأن غربة الروح التي تحسونها لن يكدرها شيء ، وبأنكم ستستعيدون دائماً ذات الأفكار التي اعتدتم على صحبتها وأصبحت هي عالمكم . كنتم تعلمون أين ولدتم وأين سوف تموتون ، وعند توغلكم في الغابة كان بإمكانكم ان تنشدوا :
 
أيتها الأشجار التي شهدت ولادتي
قريباً سوف تشهدين موتي
 
...................................
 
لا حاجة بالإنسان للسفر لكي يتوسع أفقه فهو يحمل الشساعة في ذاته . وهذا النغم الذي يخرج من صدوركم ، سوف يجد صداه في صدور آلاف البشر : ومن لا يملك هذا اللحن سوف يبحث عنه في هذا الكون الواسع بدون جدوى .
 
*ضياء
7 - أكتوبر - 2007
بدون تعليق !!    كن أول من يقيّم
 
*abdelhafid
8 - أكتوبر - 2007
الصفحة الأخيرة من مذكرات شاتوبريان (15)    كن أول من يقيّم
 
الصفحة الأخيرة
Dernière page
 
لقد تمَّ هذا الأثر ، وذلك بفضل ما عشته في حياتي من اضطراب . أشعر بالارتياح الكبير لأن الإحساس الذي كان يتملكني هو بأن هناك من كان يستعجلني : قبطان المركب الذي حجزت عليه رحلتي الأخيرة كان ينبهني إلى أنه لم يتبق الكثير من الوقت قبل الإبحار . لوكنت سيد روما ، لكنت قلت ، كما قال " سيللا "(1) ، ولكنت أنهيت مذكراتي عشية موتي . غير أنني لا أستطيع ان أنهي كتابي كما أنهى هو كتابه : " رأيت في الحلم ، واحداً من أولادي ، وكان يحثني ، وهويشير إلى أمه " ميتيللا " ، على المجيء لكي أتنعم بالراحة في حضن السعادة الأبدية . " لو كنت " سيللا " لما استطاع المجد أبداً بأن يمنحني الراحة الأبدية .
 
عواصف جديدة سوف تتكون . لدي شعور مضمر بأن المصائب الآتية سوف تطغَى على هذا الإحساس المضني بالحزن الذي ألمَّ بنا . وقبل أن نعود إلى ساحة المعركة ، علينا تضميد الجراحات القديمة . بيد أنني لا أظن بأن حوادث مؤلمة سوف تنفجر قريباً : فالملك والشعب كلاهما منهك . ولن تخيّم على فرنسا كوارث جديدة : إن ما يشغلني هو نتائج هذا التغيير الشامل وما سوف يتمخض عنه . سوف نمر بدون شك بمراحل صعبة ، إلا أنه ليس بمقدور العالم تغيير وجهته بدون ألم . لن يكون هناك بعد اليوم ثورات على حدة ، بل ستكون الثورة الشاملة التي تريد أن تبلغ غايتها القصوى . غير أن مشاهد الغد لم تعد تعنيني ، إنها تنادي رسامين جددا : فلتتفضلوا سادتي !
 
عندما سطرت كلماتي الأخيرة هذه ، في السادس عشر من شهر تشرين الثاني للعام 1841 ، كان شباكي الغربي المطل على حديقة " البعثات الخارجية " ( Missions Etrangères ) مفتوحاً : إنها السادسة صباحاً . ألمح القمر الواسع بلونه الشاحب وهو يهبط على سهم " مبنى المقعدين " ( Les Invalides )(2) الذي بالكاد نلمحه تحت ضوء الشعاع الذهبي الآتي من الشرق : يتهيأ لي بأن العالم القديم قد ولَّى ، وأن عالماً جديداً قد بدأ بالظهور . ألمح ظلالاً لفجر جديد لن أرى شروقه . لم يتبق لي سوى الجلوس على حافة حفرتي ، حيث سوف أهبط بكل شجاعة ، وبيدي صليبي ، نحو الأبدية .
 
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ سيلللا ( Sylla ) : هو أحد جنرالات روما القديمة الذين نجحوا في إحداث تغييرات كبيرة في بنية المجتمع وكان قد أصبح سيد روما بلا منازع عندما قرر فجأة بأن يتخلى عن المجد الذي توصل إليه وأن ينسحب من الحياة السياسية .
2 ـ HÔtel Des Invalides : هو المبنى الذي بناه لويس الرابع عشر في باريس العام 1670 لكي يأوي فيه الجنود الجرحى ومعوقي الحرب الذين حاربوا في جيشه . 
 
*ضياء
14 - أكتوبر - 2007
كتاب : أصوات الحرية .(1)    كن أول من يقيّم
 
الكتاب الملتزمون في القرن التاسع عشر
 
هاشم صالح
مؤلف هذا الكتاب هو المؤرخ الفرنسي المعروف ميشيل وينوك. وهو أستاذ التاريخ المعاصر في معهد العلوم السياسية في باريس. كما أنه عضو في هيئة تحرير المجلة الشهرية الفرنسية: مجلة "التاريخ". وكان قد نشر سابقا عدة كتب أصبحت مراجع هامة. نذكر من بينها: قرن المثقفين (1997، وقد حاز على جائزة ميديسيس)، وفرنسا السياسية في القرنين التاسع عشر والعشرين (2000). وقد شارك في تأليف عدة كتب جماعية هامة كتاريخ اليمين المتطرف في فرنسا (1994)، وقاموس المثقفين الفرنسيين (بالتعاون مع جاك جوليار 1996)، الخ.
وفي هذا الكتاب الضخم الذي بين أيدينا اليوم يتحدث المؤلف عن موقف كبار المثقفين الفرنسيين من الأحداث الجارية في عصرهم: أي في القرن التاسع عشر. وهو القرن الذي تلى اندلاع الثورة الفرنسية وشهد خضات ثورية عديدة وصراعات حامية بين شقي فرنسا الأساسيين: الملكي الكاثوليكي من جهة، والجمهوري العلماني من جهة أخرى، أو بين الجناح المحافظ، والجناح الليبرالي المتعلق بالليبرالية، أي بفلسفة الحرية في المجال الديني والسياسي والاقتصادي.
ويرى المؤلف أن فرنسا شهدت بين عامي 1815 تاريخ سقوط نابليون، و1885 تاريخ إعلان الجمهورية الثالثة، تتابع عدة أنظمة سياسية. فقد كانت فترة مضطربة جدا ومليئة بالأحداث لأن القديم لم يمت بعد والجديد لم يولد فعلا بعد. كانت فترة متأرجحة قبل أن ينتصر النظام الجمهوري نهائيا على النظام الملكي وتترسخ أقدام الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال ديغول عام 1958 والتي لا يزال الفرنسيون يعيشون في ظلها حتى الآن، وإن كان بعضهم أصبح يدعو إلى تأسيس نظام جديد هو: الجمهورية السادسة، أي جمهورية ما بعد ديغول.
لكن لنتوقف عند القرن التاسع عشر الذي شكل فرنسا الحديثة. ففي ذلك العصر جرت المعارك الفكرية والسياسية الأكثر ضراوة حول مسائل أساسية: كعلاقة الدين بالدولة، وحرية الصحافة، والتعددية الحزبية والسياسية، وحق التصويت العام، وسوى ذلك. هذا دون أن ننسى كومونة باريس وبدايات الحركة الاشتراكية الفرنسية عام 1871، حيث اندلع صراع طويل وعنيف بين القوى العمالية والبروليتارية من جهة، والقوى البورجوازية والرأسمالية من جهة أخرى.
 
ويرى البروفيسور ميشيل وينوك أن الأدباء والمفكرين انخرطوا في كل هذه المعارك التي هزّت فرنسا على مدار القرن التاسع عشر ولم يعيشوا منعزلين في برجهم العاجي. فقد شاركوا في الاجتماعات السياسية إما في هذا التيار أو ذاك، وأسسوا الجرائد والمجلات للدفاع عن أفكارهم، وخاضوا المعارك الثقافية ضد بعضهم البعض عندما انقسموا إلى يمينيين ويساريين أو قبل ذلك إلى ملكيين وجمهوريين، أي كاثوليكيين وعلمانيين.
وكانوا ينخرطون سياسيا عن طريق مقالاتهم الحامية التي ينشرونها في الصحف. وكثيرا ما أدت مقالة واحدة إلى إيداع صاحبها في السجن، أو إجباره على المنفى ومغادرة البلاد. ففي ذلك الوقت لم تكن حرية الثقافة قد ترسخت بعد. ومن أشهر المنفيين فيكتور هوغو الذي غاب عن باريس مدة خمسة عشر عاما أو يزيد بسبب معارضته لحكم الإمبراطور نابليون الثالث. ومعلوم أنه هجاه بكتاب عنيف يدعى: نابليون الصغير! وذلك تمييزا له عن عمه نابليون الكبير، أي نابليون الحقيقي صاحب الأمجاد والمعارك الشهيرة.
وقد صودر الكتاب في بلجيكا حيث نشر وذلك بعد أن مارست الحكومة الفرنسية ضغوطها على بروكسل. ولم يتجرأ فيكتور هوغو على وضع قدمه في فرنسا إلا بعد سقوط نابليون الثالث. عندئذ عاد ظافرا مظفرا إلى باريس حيث احتفل به الفرنسيون بصفته رمزا على أمجادهم الأدبية والفكرية.
وأحيانا كان الأدباء ينخرطون في معترك السياسة فيصبحون نوابا أو وزراء كما حصل للشاعر الرومانطيقي الكبير لامارتين صديق فيكتور هوغو ومن أبناء جيله أو أكبر منه بقليل. بل وكما حصل لفيكتور هوغو نفسه.
ومن أشهر الكتاب الذين يتوقف عندهم المؤلف: ستندال الذي أصبح قنصلا لفرنسا في إيطاليا. وهو من أشهر الروائيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر. وتعتبر روايته "الأحمر والأسود" من روائع الأدب العالمي.
كما ويتوقف عند بلزاك عملاق الرواية الفرنسية والذي انخرط في الأحداث الجارية عن طريق تأسيسه "للمجلة الباريسية" التي لم تدم طويلا. كما ويتحدث عن الألمان الكبار الذين استقروا في باريس لفترة من الزمن من أمثا ل كارل ماركس، والشاعر الألماني الكبير هنريش هاينه، وكذلك يتحدث عن مواقف الحكومة الرجعية من ديوان بودلير "أزهار الشر" ورواية فلوبير "مدام بوفاري".
ومعلوم أن كلا الكاتبين قُدما للمحاكمة في باريس بتهمة الخروج على الأخلاق الحميدة والإساءة إلى الدين في هذين الكتابين اللذين أصبحا فيما بعد مفخرة الآداب الفرنسية. وقد اضطر بودلير إلى دفع غرامة مالية وسحب بعض القصائد من ديوانه وبالأخص تلك التي يسخر فيها من القديس بطرس وبعض العقائد المسيحية الأكثر شعبية. وأما فلوبير فقد توسطت له "ماتيلد"، أخت الإمبراطور، فنجا بجلده من المعاقبة. وكان حظه أفضل من حظ بودلير. ولكنه اضطر إلى حذف بعض المقاطع من روايته أيضا، ثم أعيدت إليها لاحقا كما حصل لديوان بودلير.
ويتحدث المؤلف عن فيكتور هوغو في ثلاثة أو أربعة فصول. ومعلوم أن صاحب كتاب "البؤساء" شغل القرن التاسع عشر كله، مثلما شغل فولتير القرن الثامن عشر، ومثلما سيشغل سارتر القرن العشرين. وهؤلاء هم أشهر أدباء فرنسا على مدار القرون الثلاثة المنصرمة. نقول ذلك على الرغم من كثرة ما أنجبته فرنسا من عبقريات أدبية أو فلسفية.
ثم يتوقف البروفيسور ميشيل وينوك عند الفيلسوف أوغست كونت مؤسس الفلسفة الوضعية التي انتشرت في فرنسا وكل أنحاء أوروبا وسيطرت على الجامعات لفترة طويلة. ويتوقف أيضا عند ارنست رينان والضجة الكبيرة التي أحدثها بعد أن نشر كتابه عن "يسوع المسيح" من وجهة نظر تاريخية محضة. فقد صدم المؤمنين المحافظين كثيرا عندئذ واضطر إلى تعليق دروسه في الكوليج دو فرانس بل والاختفاء عن الأنظار لفترة من الزمن بعد أن أصبح مهددا بالقتل من قبل الأصوليين الكاثوليكيين.
وهناك وقفات أخرى عديدة وممتعة عند كبير أدباء فرنسا: شاتوبريان الذي كان بمثابة المثال الأعلى لفيكتور هوغو. ومعلوم أنه سبقه بجيل واحد. وكان فيكتور هوغو معجبا به جدا في شبابه الأول. ومعلوم أنه قال عندئذ جملته الشهيرة: إما أن أكون شاتوبريان أو لا شيء!! وقد كان. (شاتوبريان ولد عام 1768 وفيكتور هيغو عام 1802).
لكن لنتوقف الآن عند المقدمة العامة للكتاب حيث يبلور المؤلف مشروعه الكبير ويقول: من المعلوم أن الثورة الفرنسية جعلت من الحرية أول حق من حقوق الإنسان. فشعارها الذي لا يزال منقوشا على المباني الرسمية الفرنسية يقول: حرية، مساواة، إخاء. ولكن الثورة فشلت في تجسيد هذه الحرية بشكل مؤسساتي أو ترسيخها في العادات والتقاليد الفرنسية. ولولا سيف بونابرت لربما ضاعت الثورة كليا. ولكن بونابرت الذي أنقذ الثورة من انقلاب أنصار النظام الملكي السابق راح يصادرها لنفسه ويشكل نظاما دكتاتوريا ينتهك أول مبدأ من مبادئ هذه الثورة: الحرية!
وبعد سقوط "النسر" كما يلقبونه وعودة النظام الملكي إلى البلاد بمساعدة كل عروش أوروبا وملوكها الحاقدين على نابليون والثورة الفرنسية لم تمت فكرة الحرية. صحيح أنه لم يكن لها زعيم يتحدث باسمها، ولكنها كانت تشكل حركة سرية متفشية بشكل ضمني داخل أوساط الشعب والمثقفين على وجه الخصوص. ولم يعد أحد يستطيع أن يقتلعها من جذورها بعد أن زُرعت بذرتها في الأرض الفرنسية عام 1789.
وحزب الحرية لم يكن منظما على طريقة الأحزاب التقليدية، وإنما كان مشكّلا من خليط من البشر والشخصيات. وأولئك الذين يشكلونه ما كانوا سياسيين محترفين وإنما أدباء وشعراء وفلاسفة وصحفيين ومبدعين: أي خيرة عقول فرنسا في ذلك الزمان. وهؤلاء هم أحوج الناس إلى حرية التعبير. ولذلك دافعوا عن الحرية وخاطروا أحيانا بأنفسهم من أجلها. وذلك لأن الحرية شرط ضروري لتفتح الإبداع والمواهب.
فما معنى الكتابة بدون حرية? ما معنى الصحافة إذا كان سيف الرقابة مسلطا على رأسك? وهل تستطيع أن تبدع بدون حرية? ولكن بعض الكتاب المحافظين إن لم نقل الرجعيين ما كانوا بحاجة إلى حرية في الواقع. فقد كانوا يدافعون عن النظام الملكي القديم القائم على الهيبة والطاعة لا على التمرد والحرية. وكانوا يكرسون أقلامهم لخدمته وتبجيله بالإضافة إلى تبجيل العقائد التقليدية المسيحية المرتبطة به.
والصراع بين هذين التيارين هو الذي يشكل لحمة هذا الكتاب. وعندما استلم نابليون بونابرت السلطة عام 1800 حاول أن يجذب المثقفين الكبار إليه لأنه كان يعرف أن أقلامهم لا تقل أهمية عن سيوف جنرالاته وقادة جيشه. فالكلمة أخطر من الرصاصة إذا ما صدرت عن كاتب موهوب يعرف كيف يكتب. وكان يعلم انهم إذا ما كتبوا ضده فإنهم يهدمون مشروعيته ويشوهون سمعته في أوساط عديدة راقية، بل وحتى في أوساط الشعب.
وقد عرف نابليون كيف يستخدم معهم العصا والجزرة لكي يظلوا تحت طاعته. ولكن بعضهم بعد أن تقرب منه تمرد عليه. نذكر من بينهم شاتوبريان، ومدام دوستال، وبنيامين كونستان وآخرين. وهنا تطرح مشكلة العلاقة بين المثقف والسلطة بكل أبعادها. وهي مشكلة معقدة وليست بسيطة.
ثم تمردوا بشكل أكثر على النظام الرجعي الذي حل محله بعد سقوطه عام 1815 في معركة واترلو الشهيرة وأسر الانجليز له وإرساله إلى جزيرة القديسة هيلانة. وعندئذ عاد الملك لويس الثامن عشر إلى حكم فرنسا. والتفّ حوله كل الكتّاب الرجعيين والأصوليين المسيحيين المعادين للثورة الفرنسية ومبادئها.
ولكنه لم يستطع أن يعود بفرنسا إلى العهد القديم بشكل كامل. لماذا? لأن الفرنسيين بعد أن تعودوا على بعض المكتسبات وذاقوا طعم الحريات ودفعوا ثمنها من دمائهم أثناء الثورة الفرنسية ما كانوا مستعدين للتراجع عنها. ومن أهم هذه المكتسبات المساواة الرسمية بين المواطنين، كل المواطنين. فلم يعد هناك ابن ست وابن جارية أو ابن الشعب وابن الباشوات والنبلاء الإقطاعيين. الجميع أصبحوا فرنسيين متساوين في الحقوق والواجبات أمام مؤسسات الدولة.
ثم يردف المؤلف قائلا: وبالتالي فالعودة إلى النظام الملكي السابق ذي الحق الإلهي والمطلق الصلاحيات أصبحت مستحيلة بعد أن ذاق الشعب الفرنسي طعم المساواة والحرية وبعد أن دفع ثمنها غاليا وخضّب شوارع باريس بدمه من أجلهما.
هذا يعني أن الفرنسيين إذا كانوا قد قبلوا بعودة الملك لويس الثامن عشر إلى الحكم فإن ذلك كان على أساس أنه حكم ملكي دستوري لا ملكي إطلاقي أو استبدادي كما كان عليه الحال في السابق. والسلطة الملكية أصبحت محصورة ومحددة صلاحياتها جيدا في وثيقة الدستور. وهذه الوثيقة تنص على المساواة بين الفرنسيين أمام القانون، وعلى الحرية الفردية، ثم بالأخص الحرية الدينية. فبعد اليوم يحق لك أن تؤمن أو لا تؤمن، أن تمارس الطقوس والشعائر أو لا تمارسها على الاطلاق. والكاثوليكي لم يعد مواطنا من الدرجة الأولى وبقية الناس مواطنين من الدرجة الثانية. هذا عهد مضى وانقضى. الجميع أصبحوا مواطنين بنفس الدرجة سواء أكانوا ينتمون إلى مذهب الأغلبية (الكاثوليكي) أم إلى مذهب الأقلية (البروتستانتي) أم حتى إلى أديان أخرى غير مسيحية كاليهود مثلا. فالاعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن ساوى بين الناس بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم وذلك على عكس النظام القديم.
وهذا الإنجاز الذي حققته الثورة الفرنسية لا يمكن التراجع عنه. هذا من حيث المبدأ ولكن في الواقع حصل بعض التراجع. فحتى في زمن نابليون حصل تراجع بسيط عندما اضطر الإمبراطور إلى أن يسجل في الدستور العبارة التالية: إن المذهب الكاثوليكي هو دين أغلبية الفرنسيين. وقد اعترض البروتستانتيون على ذلك ولكنه لم يستمع إليهم. فضغط الحزب الكاثوليكي كان كبيرا. ولكنه لم يقل دين الدولة وانما فقط دين الاغلبية.
ثم ازداد التراجع درجة إضافية في عهد الملك لويس الثامن عشر عندما قالوا في الدستور بأن المسيحية في مذهبها الكاثوليكي هي دين الدولة! ولكن يسمح لجميع المواطنين الآخرين بأن يمارسوا طقوسهم وشعائرهم إذا لم يكونوا كاثوليكيين. ولم يعودوا يلاحقونهم كما كانوا يفعلون أثناء النظام الملكي القديم السابق على الثورة الفرنسية.
إرنست رينانوسوف تظل فرنسا متذبذبة حول هذه النقطة حتى يتم فصل الكنيسة عن الدولة عام 1905: أي قبل مائة سنة بالضبط او اكثر قليلا. ومعلوم أن الفرنسيين احتفلوا العام الماضي او حتى قبل بضعة اشهر بالذكرى المئوية الاولى لتأسيس العلمانية في بلادهم. وعندئذ ما عاد الدستور ينص على أن دين الدولة هو الدين المسيحي أو المذهب الكاثوليكي. ولم يعد دين رئيس الدولة مذكورا في الدستور. عندئذ أصبح الانفصال كاملا بين الدين والدولة. بمعنى آخر فإن الدولة العلمانية أصبحت تعامل جميع الأديان والمذاهب الموجودة في البلاد على قدم المساواة سواء أكانت أكثرية أم أقلية. واصبحت تنظر الى جميع المواطنين بصفتهم متساوين تماما أيا تكن أصولهم العقائدية او المذهبية.
ولكن قبل أن يتحقق ذلك، كم خاض الفرنسيون من معارك هائجة ضد بعضهم البعض! وهذه المعارك هي التي سجلتها لنا كتب فيكتور هوغو وأشعاره، وكذلك كتب إرنست رينان، وإميل زولا، وأوغست كونت، وعشرات غيرهم.
بالإضافة إلى المشكلة الدينية او الطائفية كانت هناك مادة في الدستور تنص على ما يلي: حرية التعبير مضمونة للشعب الفرنسي. بمعنى أنه يحق لأي فرنسي أن ينشر أفكاره ويطبعها بشرط ألا ينتهك القوانين وألا يتجاوز الحدود في ممارسة حريته.
وهنا حصلت معركة بين الكتّاب والصحفيين الليبراليين من جهة، وبين الكتّاب المحافظين والسلطة الحاكمة من جهة أخرى. والتحق بالصحفيين كل الكتاب والشعراء الرومانطقيين الذين تحرروا من أصولهم الكاثوليكية وولاءاتهم الملكية.
وقد اندلعت ثورة 1830 التي أطاحت بحكم الملك شارل العاشر من أجل الدفاع عن حرية الصحافة بالدرجة الأولى. فهذا الملك كان محافظا جدا إن لم نقل رجعيا. وقد أراد تسليط سيف الرقابة على كل الجرائد والمطبوعات. فاندلعت ثورة عارمة في وجهه اضطرته إلى الهرب من البلاد ...
*abdelhafid
19 - أكتوبر - 2007
كتاب : أصوات الحرية (2)    كن أول من يقيّم
 
ألم نقل بأن الشعب الفرنسي بعد أن ذاق طعم الحرية ما عاد قادرا على التخلي عنها أو التضحية بها?
ويردف البروفيسور ميشيل وينوك قائلا: بعدئذ حصل انقسام جديد داخل المجتمع الفرنسي. في السابق كان الانقسام الأساسي هو بين الملكيين الكاثوليكيين، والجمهوريين العلمانيين. هذا هو الانقسام العريض والاساسي بعد الثورة الفرنسية. وقد ظل مستمرا. ولكن انضاف إليه انقسام جديد داخل التيار الليبرالي أو الجمهوري نفسه بين البورجوازيين من جهة، والاشتراكيين من جهة اخرى.
وبدءًا من تلك اللحظة، سوف يندلع صراع عنيف يخترق كل تاريخ فرنسا الحديث حتى وصول متيران والاشتراكيين مع الشيوعيين إلى السلطة عام 1981. ومعلوم أن السلطة قبل ذلك كانت دائما في يد اليمين ما عدا فاصل قصير: الجبهة الشعبية عام 1936.
والواقع أن التصنيع الذي انتشر في فرنسا إبان القرن التاسع عشر أدى إلى ظهور طبقة بروليتارية رثة وشبه معدمة. وكان أرباب العمل يعاملونها كالعبيد. فساعات العمل الأسبوعي كانت تتجاوز الثمانين ساعة! الآن لا تتجاوز الخمس وثلاثين ساعة. ولم يكن هناك يوم عطلة واحد. كل هذا الاستغلال أدى إلى ظهور الحركات الاشتراكية التي حاولت الدفاع عن العمال والمصالحة بين العدالة والحرية كما فعل برودون مثلا. ومعلوم أن ماركس اعتمد عليه لاحقا واستفاد من أفكاره على الرغم من أنه انتقده وأراد تجاوز نواقص نظريته.
وبالتالي فالمسألة الثانية التي سيطرت على مفكري فرنسا كانت هي التالية: كيف يمكن أن نصالح بين النظام الجمهوري الجديد والحركة الاشتراكية? أو كيف نصالح بين العدالة والحرية? أو كيف نحقق العدالة بدون أن نضحي بالحرية. أما المسألة الأولى فهي تخص كما اشرنا الى ذلك مرارا وتكرارا: مسألة الصراع بين الكاثوليكيين والعلمانيين، أو بين الجمهوريين والملكيين، أي باختصار فصل الدين عن الدولة ومعاملة جميع المواطنين على قدم المساواة أيا يكن أصلهم وفصلهم أو دينهم ومذهبهم، ثم السماح بوجود مواطنين غير مؤمنين على الإطلاق ولا يؤدون أية طقوس أو شعائر ومع ذلك فهم يتمتعون بكافة حقوق المواطنية. وهكذا اصبح كل متدين مواطنا بالضرورة ولكن ليس كل مواطن متدينا يؤدي الطقوس والشعائر بالضرورة. اصبحت مسالة التدين مسالة شخصية تخص العلاقة بين الانسان وربه فقط ولا علاقة للآخرين بها. وهذه هي أكبر قطيعة روحية وفكرية جاءت بها الحداثة. فلم يعد سيف الأصوليين المسيحيين مسلطا على رؤوس الناس كما كان يحصل طيلة القرون السابقة.
أوغست كونت فيما بعد سوف تتغلب المسألة الاجتماعية أو الطبقية على المسألة الدينية بعد أن وجدت هذه الأخيرة لها حلا نهائيا عام 1905 عندما تم فصل الدين عن الدولة رسميا. أما مسألة الصراع بين الأحزاب البورجوازية والأحزاب الاشتراكية أو الشيوعية فلن تجد لها حلا قبل وقت طويل. بل ولم تجد لها حلا مرضيا حتى الآن على الرغم من أن التوترات الإيديولوجية خفّت في فرنسا مؤخرا بسبب ارتفاع مستوى معيشة الطبقة العاملة والطبقات الوسطى. وبالتالي فلم يعد الحزب الشيوعي قويا لكي يهدد الرأسمالية الفرنسية بالانهيار.
وأما الاشتراكيون فأصبحوا اشتراكيين ديمقراطيين لا يختلفون عن أحزاب اليمين (أي حزبي شيراك وفرانسوا بايرو) إلا في بعض النقاط.
ثم يضيف المؤلف قائلا: ولكننا نتحدث الان عن القرن التاسع عشر لا عن القرن العشرين. وفي ذلك الوقت كان التفاوت الطبقي صارخا بين من يملكون ومن لا يملكون. وكان الجوع من نصيب العمال وعائلاتهم.
ويقال بأن فيكتور هوغو تحول من يميني إلى يساري أو بالأحرى من ملكي إلى جمهوري إذا ما استخدمنا لغة ذلك الزمان عام 1948. وقد طرأ عليه هذا التحول بعد أن رأى مصانع العمال -عمال المناجم- في شمال فرنسا. ورأى كيف تعيش عائلاتهم فأصيب بصدمة. وراح يحقد منذ ذلك الوقت على الطبقة البورجوازية الفرنسية التي تستغلهم. وبعدئذ، ألف روايته الشهيرة: البؤساء.
في ذلك الوقت ما كان العامل الفرنسي يحظى بالضمان الاجتماعي أو الضمان الصحي كما هو عليه الحال الآن. وكان يفقد كل شيء ويموت من الجوع هو وعائلته إذا ما أصيب بحادث في العمل، أو إذا ما سرحوه من وظيفته. وما كان يتمتع بيومي عطلة في الأسبوع السبت والاحد ولا كذلك بعطلة مدفوعة سنويا لمدة شهر كما هو حاصل الآن. وما كان هناك تقاعد ولا من يحزنون.
كل هذه المكتسبات التي نذكرها تحققت بفضل النضال النقابي والشيوعي والاشتراكي والعمالي على مدار المائة سنة الماضية.
ولكن لنعد الآن إلى القرن التاسع عشر فلا ينبغي أن نستبق الأمور. لنعد إلى نضالات الكتّاب والصحفيين من أجل حرية التعبير والنشر، ومن أجل حقوق العمال والمضطهدين. لنعد بشكل خاص إلى تلك المعركة الأولى التي لا ينبغي أن ننساها بين الملكيين والجمهوريين، أو بين المحافظين والليبراليين. فعندما وصل نابليون الثالث إلى سدّة الحكم عام 1851 علّق الحريات مباشرة وأعلن النظام الإمبراطوري الاستبدادي وأقام تحالفا جديدا بين السلطة السياسية والسلطة الدينية عن طريق استمالة الكنيسة الكاثوليكية إلى صفه. وكان يعلم أن وزنها لا يزال كبيرا وتأثيرها على عامة الشعب لا يزال ضخما.
ثم يردف المؤلف قائلا: صحيح أنه كان يوجد تيار ليبرالي داخل الكنيسة الكاثوليكية. ولكنه كان أقلية بالقياس إلى التيار الأصولي. والمقصود بالتيار الليبرالي المسيحيين العقلانيين والمستنيرين الذين لا يؤمنون بشكل أعمى كالعامة والأميين والجهلة وإنما عن بصيرة وفهم.
أما الأصوليون فكانوا هم الأكثرية. وكانوا يحقدون على العالم الحديث وعلى الليبرالية أو الحرية ويطلقون الفتاوى الدينية بإدانتهما. ولذلك انخرط فيكتور هوغو في معركته ضد رجال الدين. وظل يحقد عليهم حتى مات. وعندما فتحوا وصيته بعد موته وجدوا فيها العبارة التالية: أؤمن بالله لا بالمذاهب المتناحرة ولا برجال الدين! وعندما جاء مطران باريس للتعزية بوفاته ردوه عن الباب تنفيذا لوصية الشاعر الكبير. ولم يسمحوا له بالدخول. ومعلوم أنه جرت له جنازة وطنية كبرى شاركت فيها فرنسا بالملايين.
لقد ظل يكره رجال الدين ويعتبرهم سبب تخلف فرنسا وانقسامها ومصائبها. فقد كانوا متصلبين في تفسيرهم للعقيدة المسيحية ولا يسمحون بأي تطوير أو تفسير جديد لها.
ثم يردف البروفيسور ميشيل وينوك قائلا: ينبغي العلم بأن المسألة الدينية كانت مشكلة المشاكل بالنسبة للقرن التاسع عشر. وكانت في صلب كل المناقشات الفلسفية والسياسية. ونادرا أن يجتمع مثقفان فرنسيان آنذاك دون أن يتحدثا عنها أو يخوضا النقاش فيها.
صحيح أن العلم انتصر في ذلك العصر على الدين. وصحيح أن نيتشه أعلن موت التدين المسيحي التقليدي في تلك الفترة بالذات. وصحيح أن تقدم الصناعة والتكنولوجيا أقنع الناس بالتخلي عن الدين وإعطاء ثقتهم للعلم القادر على حل كل مشاكلهم وتحسين أوضاعهم المعيشية.
ولكن ينبغي العلم بأن الدين كان لا يزال موجودا في الساحة، وأن رجال الدين ما كانوا قد فقدوا كل تأثيرهم على الشعب. والدليل على ذلك أن المرشحين للانتخابات كانوا يتوسلون إليهم ويطلبون تأييدهم أو الظهور معهم علنيا في الشارع لكي يصوّت الناس لهم.
فالدين لم يكن يقدم فقط تفسيرا للعالم ولغاياته النهائية، ولم يكن فقط عزاءً لأولئك الذين يقتربون من حافة الموت. وإنما كان أيضا الأساس الصلب للهوية الجماعية الفرنسية. وكان جامع وحدتها. ثم جاء التنوير والثورة الفرنسية لكي يدمرا أسس الأصولية المسيحية بدون أن يتوصلا إلى بلورة عقيدة جديدة قادرة على الحلول محلها.
ثم إنه ليس من السهل أن ينسى الناس عقيدة آبائهم وأجدادهم المتوارثة منذ مئات السنين. ولذلك فإن المثقفين أحسوا بالفراغ الروحي بعد انحسار المسيحية وحلول فلسفة التنوير والعلم والعقلانية محلها. وحاول بعضهم أن يبلور بديلا عنها. وهكذا كثرت المشاريع الدينية أو الروحية.
 
فالفيلسوف سان سيمون دعا إلى بلورة مسيحية جديدة تنهض على أنقاض المسيحية القديمة التي لم تعد تقنع المثقفين كثيرا.
وأما تلميذه الفيلسوف أوغست كونت فقد دعا إلى تشكيل دين جديد للبشرية: أي دين فلسفي يتجاوز المسيحية ويكون صالحا لكل البشر وليس فقط للمسيحيين. وأما الشاعر لامارتين فقد دعا إلى تشكيل كاثوليكية جديدة غير الكاثوليكية السابقة المتعصبة والمنغلقة على ذاتها أكثر من اللزوم (أصولية). وأما فيكتور هوغو فدعا إلى تشكيل دين روحاني وعقلاني ولكن بدون رجال دين! وربما بدون طقوس أو شعائر...
هذا لا يعني بالطبع أن الأصولية المسيحية كانت قد انتهت أو زالت! على العكس. لقد كانت لا تزال قوية وتستطيع أن تضرب إذا ما أتاحت لها الظروف ذلك. وأكبر دليل على ما نقول ما حصل للفيلسوف إرنست رينان صاحب كتاب "مستقبل العلم" والشخص الذي خاض مناظرة شهيرة مع جمال الدين الأفغاني عن الإسلام والعلم.
ففي عام 1862، وبالتحديد في 22 فبراير، ألقى البروفيسور ارنست رينان درسه الافتتاحي في الكوليج دو فرانس. وكان ذلك أمام شخصيات فرنسية كبرى بالإضافة إلى الطلبة والجمهور العام. وفجأة لفظ رينان هذه العبارة: "يسوع، هذا الإنسان العظيم الذي لا يضاهى". وكانت بمثابة القنبلة الموقوتة التي أشعلت القاعة كلها. فقد نهضت الشخصيات الدينية محتجة على ما قاله رينان. فالمسيح في نظر المسيحيين ليس إنسانا وإنما هو إله أو تجسيد لله على الارض.
ومباشرة بعد انتهاء الدرس خرجت مظاهرة كبيرة في منطقة الحي اللاتيني ونزلت إلى شارع السان ميشيل مهددة ومتوعدة. إذ اعتبرت أن كلام رينان هو كفر وزندقة وخروج على الدين المسيحي لأنه لا يعترف بألوهية المسيح. وصحيح أنه يعترف بعظمته بل وأنه أعظم شخص على وجه الأرض ولكنه يقول بأنه بشر. ويقال بأن بعض الأصوليين مروا على بيته وسألوا عنه. وكان ذلك إيذانا بنيّتهم اغتياله.
وعندئذ علقت الحكومة فورا دروسه في الجامعة إلى أجل غير مسمى وإختفى ارنست رينان عن الأنظار لفترة من الزمن. وهذا هو جزاء كل من تسول له نفسه أن يناقش العقائد الدينية المسلّم بها أو يضعها على محك التساؤل والنقد التاريخي. والشيء الذي أزعج رجال الدين المسيحيين أكثر من غيره هو أن رينان كان من جماعتهم، بل ودرس علم اللاهوت في الأديرة لكي يصبح راهبا مثلهم! ولكنه تخلى عن ذلك فيما بعد عندما اكتشف العلم الحديث والفلسفة وشغف بهما.
 
وبالتالي فالعدو منهم وفيهم. وهذا ما لا يمكن احتماله. فما الذي حصل حتى وصل رينان إلى هنا? ولماذا ترك الدير والمعاهد المسيحية التقليدية و رفض أن يصبح راهبا?
لسبب بسيط هو أنه اطلع على الفلسفة الحديثة وعلى منهجية النقد التاريخي التي كانت قد انتشرت في ذلك الزمان. وهي منهجية تعطي صورة أخرى عن بدايات المسيحية غير الصورة الشائعة في الكنائس والأوساط الشعبية والأصولية.
فالنقد التاريخي يفرّق بين المسيحية التاريخية، أي الواقعية والحقيقية، وبين الصورة المثالية أو الأسطورية التي شكّلها المؤمنون عنها لاحقا. كما ويفرق بين يسوع التاريخي، ويسوع الأسطوري ويكشف لنا عن الحياة الواقعية والحقيقية ليسوع الناصري، أي لعيسى بن مريم بحسب المصطلح الإسلامي. وهو إنسان من لحم ودم ولد في مكان معين وعاش فترة من الزمن وبشر برسالته كأي داعية. وبالتالي فكيف أصبح إلها فيما بعد وتغيرت صورته من بشرية إلى إلهية? هذا هو السؤال الذي يجيب عنه النقد التاريخي وعندئذ يكشف عن شخصيته البشرية أو عن بشريته بالكامل.
ولكن المؤمنين المتعودين على الصورة التبجيلية لدينهم وعقائدهم، أي الصورة التقديسية المثالية العذبة لا يستطيعون أن يتحملوا هذه الصورة الأرضية، أو الواقعية أكثر من اللزوم. فهم بحاجة إلى مثال أعلى، إلى معجزات تملأ عليهم أقطار نفسهم، لكي يستطيعوا أن يؤمنوا أو يعبدوا ويتعبّدوا.
وبالتالي فالمنهج العلمي أو التاريخي المطبّق على دراسة الأديان يصدم حساسية المؤمنين التقليديين كثيرا بل ويزعجهم ويجرح مشاعرهم إلى أقصى حد.
ولذلك يردون بعنف على كل من يحاول دراسة الدين من وجهة نظر علمية أو نقدية. وأحيانا قد يلجأون إلى اغتياله لأنه اغتال أجمل ما لديهم وأعظم ما عندهم: أي عقيدتهم الخيالية أو المثالية المقدسة.
عن موقع الأوان
*abdelhafid
19 - أكتوبر - 2007
صورة للمجموع    كن أول من يقيّم
 
 
 أشكر الأستاذ عبد الحفيظ نقله هذه المقالة المهمة عن كتاب : " أصوات الحرية " للأستاذ هاشم صالح والتي تلخص لنا حقبة مفصلية من تاريخ الأدب والفكر الفرنسيين ، وتعطينا صورة إجمالية لمجموع الحركة الثقافية التي كانت دائرة آنذاك في قلب المجتمع الفرنسي ، وتقاطعها مع التاريخ السياسي لفرنسا ، وتمكننا من تمييز الموقع الذي شغله شاتوبريان في عصره كشاهد عليه ، وكلاعب مشارك فيما كان يجري من أحداث وتغيرات ، ولكن وقبل كل هذا ، كأديب شاعر يمتلك طاقة حيوية منفعلة تضيء في توهجها خفايا الذات القلقة ، وتشير بحساسيتها البالغة إلى معالم الطريق التي لا تدركها إلا النفس الصادقة ، والمتوثبة دوماً نحو الأعلى . 
 
 
*ضياء
19 - أكتوبر - 2007
ناجون    كن أول من يقيّم
 
 
هذه هدية  إلى ملف الوطن والزمن المتحول ، من صديقتي " أنطوانيت راديوس " أو  " Mademoiselle Radius " كما يناديها الجميع ، وهي في الثامنة والتسعين من العمر .
 
وأنطوانيت كان لها مهنة ، اندثرت حالياً ، هي إعادة نظم عقود اللؤلؤ ، وهي لا تملك تلفزيوناً حتى اليوم ، لديها فقط جهاز راديو ترانزستور قديم يعمل على البطارية ، والكثير الكثير من الجرائد والمجلات والدوريات التي لا تتعب من إعادة قراءتها . منذ مدة ، جاءتني بهذه المقالة التي كانت قد اقتطعتها من نشرة دار بلدية مدينة " شارتر " Chartres حيث تسكن ابنة أخيها ، لأن هذه المقالة لمست وجدانها ، واستطاعت أن تعبر بكلمات بسيطة عما لم تحسن هي التعبير عنه ، ووجدت بأنني معنية أنا أيضاً بهذا الكلام ، رغم فارق السن بيننا ، لأن جيل أنطوانيت اجتاز حاجز الزمن ، بينما اجتزت أنا حاجز المكان والزمان معاً ، فللجغرافيا فوارقها كما للتاريخ فوارقه ، وأظن بأن هناك من البشر من يعيشون اليوم في زمان غير الزمن الدائر بسبب أنهم ولدوا في مكان معين . وقررت أن أنقل هذه المقالة إليكم وإلى هذا المكان بالذات الذي أردناه مرصداً للزمن المتحول :
 
ناجون
 
ولدنا قبل أن يخترعوا التلفزيون ، وقبل البنسيلين ، قبل الطعام المجلد ، وقبل النسخ الإلكتروني ، قبل البلاستيك ، والعدسات اللاصقة ، قبل الفيديو وأشرطة التسجيل الممغنطة وحتى قبل حبوب منع الحمل . أتينا إلى هذا العالم قبل أن يخترعوا الرادار وبطاقات الإتمان ، القنبلة الذرية وأشعة اللايزر ، قبل قلم الحبر الناشف وقبل الجلاية الكهربائية ، قبل برادات التجليد ، البطانيات الكهربائية ، وقبل التكييف الإصطناعي ، قبل أن يخترعوا قمصاناً لا تحتاج للكي وحتى قبل أن يمشي الإنسان على سطح القمر . ولقد تزوجنا دون أن نعيش معاً قبل الزواج ، ولم يكن هناك زوج " ربة بيت " ولا عطلة للآباء بمناسبة الولادة ولم يكن هناك فاكسات ولا بريد إلكتروني .... نحن ننتمي إلى عصر ما قبل التجمعات السكنية الحكومية وعصر ما قبل البامبرز . لم نكن قد سمعنا سابقاً عن تغييرات الذبذبات الصوتية ولا عن القلب الإصطناعي أو زراعة الأعضاء ، ولا حتى عن الآلة الكاتبة الإلكترونية ......... بالنسبة لنا ، الكومبيوتر كان قسيساً ينتمي إلى المجمع الكنسي ، والفأرة حيوان قارض يتغذى به الهر . . الصحون اللاقطة تحدثت عنها التوراة ولم تكن على سطوح المنازل والمثلي الجنس شاب يحب الفكاهة ، و" صنع في تايوان " كانت عبارة سياحية مليئة بسحر الغرابة فإذا رشحت حنفية الماء غيرنا لها الجلدة فقط ... وعندما نفكر بكل هذه التغيرات التي طرأت على حياتنا وقلبتها رأساً على عقب ، وكل هذا العالم المتحول الذي طوعناه لنتكيف معه ، نقول : لكننا كنا ، على هذا الأساس ، عرقاً قوياً إذاً ! فنحن ما زلنا ننبض بالحياة .
Jean Borreye
Chartres
 
*ضياء
19 - أكتوبر - 2007
" منابع الكتاب "    كن أول من يقيّم
 
   
عمل إبداعي  متكامل لـ منعم الأزرق         * موقع المرساة .http://www.imezran.org/mountada/viewtopic.php?p=4542#4542
                                        
*abdelhafid
14 - نوفمبر - 2007
الكلمات التي تتراقص    كن أول من يقيّم
 
 شعر :منعم الأزرق ( موقع المرساة )
 
منابعُ الكلمات
 
كما في القصيدة
يحدث أن نلتقي كل ليل
وننسى ضفائرَ أيامنا
بين نهرين سالا
وما زال خلفهما
جسدٌ من ضبابْ
 
تحجر وقت البداية
من عدَمٍ
سألتني الطبيعة عني
قلت بأن المواثيق في
عصرنا انفرطَتْ
سال منها
غزيرُ الغيابْ
 
إلى أعمق الأرض
طارت قبيلة نملٍ من الكلمات
وأخفتْ ظنونَ السرابْ ...
 
العراك الوحيد مع النفس
كان كثيراً ، وزالَ ؟
وزاد
مع الحرف والحرف
وردُ الخرابْ
 
كما في الجنان القديمة
ترقص فيكَ الحواسُ
ويغسلُ إجاصَكَ الضوءُ
ينبع بين يديكَ الكتابْ
 
   كانت هذه محاولة مني للإمساك بالكلمات التي تتراقص في التصميم  الذي تطايرت منه القصيدة والذي يشبه علبة الباندور ( التعليق السابق ) ، وكل الشكر للأستاذ عبد الحفيظ .   
 
                   
*ضياء
15 - نوفمبر - 2007
 60  61  62  63  64