البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : أحاديث الوطن والزمن المتحول    قيّم
التقييم :
( من قبل 39 أعضاء )

رأي الوراق :

 ضياء  
11 - يونيو - 2006
كان الأستاذ السعدي قد طرح ذات مرة تساؤلاً حول علاقة التاريخ بالسيرة الذاتية . حيرني بوقتها ذلك السؤال لأن المسألة تبدت لي بديهية ، ولما فكرت فيها ، استنتجت بأن التنظير لها صعب للغاية . فالسيرة الذاتية هي تاريخ شخصي تتقاطع أحداثة مع مجريات الحدث العام ، بالصدفة يحدث هذا التلاقي في الزمان والمكان ، هكذا يبدو ......  إنما مقاصد السؤال الذي طرحه كانت ربما : كيف تحكي السيرة الذاتية التاريخ العام ?

عندي مثال ساطع على هذا تعلمت منه أكثر مما تعلمت من كتب التاريخ . فجدتي ، رحمها الله ، كانت تقص على مسامعنا سيرة عمرها الطويل وتعيد تردادها بدون كلل أو ملل . منها تعلمت تاريخ طرابلس ، تقصه مشفوعاً بأخبار الذين كانوا من حولها ممن مات ، أو عاش ، أو ولد ،  قبل " الطوفة " مثلاً( طوفان نهر أبو علي ) أوبعدها ، ومن كسر يده في الزحام ، أيام ثورة القاووقجي ، أو عندما جاء ابراهيم هنانو إلى طرابلس ، وأين اختبأوا أيام " ثورة شمعون " . وتحكي أيام الأنكليز وكيف انتشروا بوقتها على شاطىء البحر ، وكيف جاء الفرنسيون بعسكر السنغال ، وعن أيام السفر برلك ورحلتهم مع الجوع والعذاب والجراد والمرض آنذاك ، وعن جيرانها اليهود وعاداتهم ، وكيف كانت طرابلس في ذلك الحين : الأحياء ، البيوت ، الطرقات ، النهر ، السوق ، القلعة ........ تاريخاً موثقاً بالأسماء والأرقام والوقائع من ذاكرة نبيهة صاحية ، ظلت طوال حياتها تنظم وتؤطر وتسلسل تلك المعلومات وتعيدها على مسامعنا على شكل حكايا ، تاريخاً متماسكاً كانت وحدها تعرف سره ، وتعرف كيف تمسك به بقبضتها الواثقة . كيف لا وهي من كان يعرف كيف يحصي ويحفظ كل شيء : الأرقام ، التواريخ ، الأعمار ، و عدد درجات السلالم التي تطلع عليها ، أو عدد حبات الزيتون التي تأكلها في كل وجبة ، ومواقيت الفصول والأعياد والزراعة في الحساب الشرقي وبحسب هلة القمر ، وحتى لو قامت بحشو الكوسى فإنها ستضع فيه " الحبة فوق الحبة ، والرزة فوق الرزة " تحسبها بالمثقال .

 ولطالما تساءلت عن سبب إصرارها على إعادة تلك القصص التي كنا نتذمر منها ونتأفف لها أحياناً . وفهمت بأن الزمن قد تحول وتبدل كثيراً من حولها ، وأنها تحاول ان تمسك بماضيها ، ان تستعيده على طريقتها . وبالرغم من أنها كانت تروي حياتها كأمتداد لحياة من سبقها أو تلاها من الأجيال ، بدون إسراف أو بطولة ، أو حتى خيال ، سرد مجرد سرد واقعي يسجل الوقائع ويثبتها في الذاكرة ، إلا ان تلك الذاكرة كانت تغربل وتنقح وتختار لحظتها وموضوعها ، وهي بالتالي إنتقائية . فالذاكرة هي إعادة إنتاج للواقع بحسب فهمنا للذات وللآخر .

هكذا خطرت لي فكرة هذا الموضوع ، إعادة إنتاج التاريخ من خلال السيرة الذاتية . وهذا ما سأحاول الكتابة فيه ، لكن ليس لوحدي : أدعو الجميع للمشاركة في هذا الملف من منطلق إعادة كتابة تواريخنا الشخصية : عبرها ، ستتبدى لنا أشياء كثيرة كانت مطوية في غياهب النسيان ، وستفتح لنا ربما شبابيك على الحاضر لو استطعنا أن نمسك بتلابيب الماضي ونستقرأ أبعاده .

اعتبروا هذا الملف كأنه صندوق تبرعات ، وليتبرع لنا كل واحد بحكاية من طفولته أو تاريخه الحاضر ، أو حتى تاريخ عائلته . كل المطلوب هو أن تكون هذه القصة واقعية ومختصرة ، وأن يجهد قليلاً في جعلها ممتعة لدى قراءتها .

أتمنى لنا حظاً سعيداً .

 

 59  60  61  62  63 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
المعايير البسيطة    كن أول من يقيّم
 
 (نحن البشر نعاني من محدودية في قدرتنا على التفكير المنطقي تسبب لنا مشكلات لا تنتهي:
حين نفكر في شخص ما ، او بشيء ما حدث لنا، نميل إلى التفسير الأبسط والأيسر هضما، فنحكم على شخص نعرفه بانه طيب أو شرير، لطيف أو لئيم، ونحكم على نواياه بانها نبيلة او شيطانية، وعلى حدث ما بانه إيجابي او سلبي، مفيد ام مضر، وعلى مزاجنا بأنه حزين أو سعيد: الحقيقة هي ان لا شيء في الحياة على هذا القدر من البساطة، فالناس هم مزيج من الصفات الجيدة والسيئة، ونقاط الضعف والقوة، والنوايا التي تدفعهم لفعل شيء ما يمكن ان يكون مفيدا ومضرا لنا في آن معا نتيجة لمشاعرهم المتناقضة تجاهنا. وحتى أكثر الأحداث إيجابية تحتوي على جانب سلبي، وغالبا ما نشعر بالسعادة والحزن في آن، لكن اختصار الأمور إلى معايير بسيطة يسهل علينا التعامل معها... لكن لأنه غير واقعي فهذا يعني اننا نسيء الفهم والتحليل باستمرار، وبالتالي: فمن المفيد لنا أن تتضمن أحكامنا على الآخرين وعلى الأحداث مستويات عدة تولي اهتماما أكبر بالتفاصيل لا الخطوط العريضة فقط.. نستطيع أن نفهم فكرة ان يكون شخص لطيفا اليوم ولئيما أو شريرا في اليوم التالي ونسمي هذا مزاجية، لكن أن يجتمع اللطف واللؤم في وقت واحد فإن هذا يربكنا
                           (الحرب ثلاث وثلاثون استراتيجية: ص 835)
*زهير
19 - سبتمبر - 2007
الحقيقة المؤثرة    كن أول من يقيّم
 
إذا قال رجل أو كتب شيئا يعتبره ثوريا ويأمل أنه سيغير العالم ويحسّن الجنس البشري، لكن في نهاية المطاف لم يتأثر أحد بأقواله، فعندها لا يعد ثوريا ولا تقدميا على الإطلاق. التواصل الذي لا يساعد قضيته على التقدم أو ينتج النتيجة المرجوة ليس إلا ثرثرة وانغماسا في الذات ، لا يعكس سوى رغبة قائله بسماع صوته ولعب دور الرسول الأخلاقي. الحقيقة المؤثرة هنا حول ما كتبه أو قاله هي انه لم يتغير أي شيء ) (الحرب 33 استراتيجة: ص 789)
*زهير
19 - سبتمبر - 2007
المقامرة والمجازفة    كن أول من يقيّم
 
 ميز الجنرال رومل ذات مرة بين المقامرة والمجازفة قائلا إن كليهما يتعلقان بعمل ما ينطوي على فرصة للربح، وهي فرصة تتعزز بالتصرف بجرأة.
أما الفرق فيكمن في أنه إذا خسرت في المجازفة فيمكنك التعافي: لن تعاني سمعتك من ضرر طويل الأمد، ولن تستنزف مواردك ويمكنك العودة إلى وضعك الأصلي بخسائر مقبولة. اما في المقامرة فإن الهزيمة يمكن ان تؤدي إلى سلسلة من المشكلات التي من المرجح أن تخرج عن السيطرة. ففي المقامرة هناك الكثير من التقلبات التي يمكن أن تعقد الصورة أكثر إذا ما ساءت الأمور، ويصبح التراجع صعبا حين تدرك أن الأمور التي على المحك كثيرة، وأنك لا تحتمل الخسارة، فتسعى بكل جهدك لإنقاذ الوضع جاعلا إياه أسوأ وغارقا أعمق في حفرة لا يسعك الخروج منها.
إن عواطف الناس تدفعهم إلى المقامرة، وهم لا يرون سوى الاحتمالات الرائعة للربح ويتجاهلون العواقب المشئومة لخسارتهم، وفي حين أن المجازفة مطلوبة فإن المقامرة ضرب من الحماقة قد تحتاج إلى سنوات لتتعافى منها إذا ما تعافيت أصلا (الحرب 33 استراتيجية ص563)
*زهير
19 - سبتمبر - 2007
فرانسوا شاتوبريان ..مبدعاً ومتسكعاً.    كن أول من يقيّم
 
* تحية رمضانية طيبة.
وأكرر شكري للأستاذة ضـياء والأستاذ النويهي على دعواتهما..
الحالة الآن في تحسن..ربما عدت إليها في مشاركة مستقلة.. *
******************************************************************
يشغل فرانسوا شاتوبريان مكانة غامضة في خريطة الأدب الفرنسي, فهو أقل شهرة من فيكتور هيجو, وأقل عمقا وتعقيداً من لامارتين وديموسيه, لكنه مع ذلك يعد أحد أبرز رواد المدرسة الرومنطيقية في النصف الأول من القرن التاسع عشر, وقد كان رومانسيا على طريقته الخاصة, رومانسيا حمل جميع قسمات هذه الحقبة, من التعطش الى جمال الشرق وسحره, الى الحلم الجامح بالعودة الى أحضان الطبيعة والمصالحة معها.
وقد دفعه ذلك مثل روسو للبحث عن (المتوحش النبيل) فسافر لمعاينة مجتمع الهنود الحمر الامريكيين, لمشاهدة عفوية الحياة وفطريتها وسذاجتها الأخاذة, لكن حياته هو مع ذلك كانت سلسلة مغامرات واخفاقات, عاش نهاية حلم الأنوار, بقيام الثورة الفرنسية المغدورة, الثورة التي أكلت أبناءها بسادية عن بكرة أبيهم, التي خلطت كل خيرات وشرور, نجاحات وإخفاقات العصرين الكلاسيكي والعقلاني, الثورة التي فتحت النار على شاتوبريان من جميع الجهات, وسمحت له بصياغة كل تجاربه المريرة في الحياة, صياغة رسخت التقاليد الرومانسية في الأدب الفرنسي, على نحو ما نشير الى ذلك في هذا التصنيف المبسط.
ولد شاتوبريان يوم 4 سبتمبر 1768م بسان مالو, وسط عائلة لفها الحزن فقد كان أصغر اخوته الستة, إلا أن أربعة منهم ماتوا تباعا, وكان والده رينيه أوجست مثالا لأرستقراطية القرن الثامن عشر, فقد جاب البحار وسافر كالمستكشفين الى أمريكا, وحمل أنواط سلاح البحرية, وجمع ثروة كبيرة من التجارة عبر المحيطات, ومن ضمنها ــ طبعا ــ تجارة الزنوج الأفارقة, وقد أثرت توجهات هذا الوالد على ابنه شاتوبريان أبلغ تأثير, كما أثر عليه الجو المحموم العام في فرنسا النصف الثاني من القرن الثامن عشر, حين كان مخاض الثورة الفرنسية, والغليان (الثوري) يسيطران على المشهد الاجتماعي والحياتي العام.
وقد عاش طفولة منعمة ومتقلبة أيضا بين مسقط رأسه ومدن مختلفة, وبفعل انتمائه الارستقراطي بدأت اهتماماته السياسية تتنامى مع اندلاع الثورة الفرنسية يوم 14 يوليو 1789م, وقد صور سقوط سجن الباستيل حين تحدث عن الغوغائيين الذين مروا من تحت شرفته وهو يتلقفون رأس وزير المالية فولون (لنتوقف هنا مليا أيها القارىء, كان علي ان أشهد على زخات الدم الأولى التي ستتحول إلى أنهار بفعل الثورة, كانت هذه الرؤوس, ورؤوس أخرى سأصادفها فيما بعد تدفعني دفعا الى التفكير لأول مرة, بمغادرة فرنسا, بحثا عن بلاد قصية, بلاد بدأت الان ترتسم في مخيلتي), وقبل تنفيذ هذه الرغبة نشر أول نصوصه (حب الريف) وقد جاء نصا كلاسيكيا, وتعمد نشره باسم مستعار هو (شفالييه), وإن لم تكن هذه المحاولة هي أول ما كتب في الحقيقة, فقد أفاد في مقدمة مجموعة شعرية 1829م أنه يكتب الشعر منذ أيام المدرسة الإعدادية.
ووقع اختيار شاتوبريان على أمريكا لتنفيذ هجرته الاختيارية, وأعلن انه يسعى من وراء هذه الرحلة لتحقيق غايتين علمية وشعرية, اما العلمية فهي البحث عن استكشاف طريق ممكن بين المحيطين الأطلسي والهادىء من جهة الشمال الشرقي, وأما الشعرية فهي الوقوف عن كثب على حياة الانسان الطبيعي ممثلا في الهنود الحمر, الانسان البعيد عن صخب وانحطاط وظلامية الحضارة, المتصالح مع الطبيعة, البسيط الشاعري الشفاف, بكلمة واحدة الانسان الملهم الذي أيقظ نيام اوروبا من سباتهم العميق, فانطلقوا ينادون بالحرية والتنوير والمحبة بعدما عاينوا مجتمع الهنود الحمر الفطري المتصالح مع ذاته البعيد كل البعد عن الجشع والاستحواذ ومذابح ومسالخ الحضارة الغربية وبعدها عن الانسانية.
وفي يوم 8 ابريل 1791م أبحر من سان مالو بفرنسا ووصل بالتيمور في أمريكا 9 يوليو من ذات السنة وقد طاف بجميع أنحاء القارة الأمريكية الشمالية, من فيلادلفيا الى بوسطن ونيويورك ومنطقة البحيرات, ثم اتجه لأوهايو, ولنتذكر ان مثل هذه الأسفار وقتها كانت مغامرة حقيقية, لصعوبة المواصلات, ما صوره مستكشفا وبطلا في نظر الكثيرين, وهذا ما جعل الرئيس جورج واشنطن يستقبله بحفاوة.
كما استقبل ايضا في بلاده بالقدر نفسه من التشجيع حين عاد يوم 2 يناير 1792م, الا أن موقفه المناصر للملكية جعل رجال الثورة الفرنسية يطاردونه فهرب لبلجيكا وتطوع للمقاومة ضد الثورة وجرح, واضطر للهروب الى انجلترا 1793م التي عاش فيها سبع سنوات عجاف لفه الفقر والحزن والفاقة والمرض المرير, ووسط هذه المعاناة الأليمة شحذت نوائب الدهر عبقريته فكتب مخطوطات أثمن أعماله الأدبية, ويصف فاقته اللندنية بقوله (كنت أمضغ العشب والورق لفرط معاناتي ولضيق ذات اليد) ولكنه في هذه الظروف, أو لهذه الظروف بدأ في كتابة (مساهمة حول الثورات المقارنة), وما لبثت اخبار باريس ان حملت اليه انتقام رعاع الثورة منه, إذ أعدموا أخاه 22 ابريل 1794م, وسجنوا أمه وزوجته وأختيه.
وهنا يمكننا ان نتوقع بيسر موقفه من الثورة الفرنسية وهو يكتب تحت كل هذه الضغوط, ولكنه مع ذلك قدم محاولة لا تعدم حسا تاريخيا أصيلا, مع مسحة دينية مسيحية لا تخلو من تعصب.
وفي سنة 1800م عاد لباريس متخفيا عن خصومه (الثوار) باسم مستعار هو دي لاسان: (طلعت عليهم أنا والقرن الجديد معا), وبسرعة أصبحت حاميته أليزا شقيقة بونابرت, ومن أجلها نشر دراسة عن مدام دي ستايل صديقتها والمنظرة الرومانسية الشهيرة, وقد سمح له الاستقرار النسبي بنشر أول أعماله الملفتة (أتالا) 1801م, ثم نشره مع آخر في طبعة (آتالاورينيه) وقد لقيت تجربته القصصية قبولا عاما, كما صادفت توجهاته ضد الثورية هوى في نفس بونابرت الذي عينه مستشارا اول في السفارة الفرنسية بروما.
وكان هذا الموقع هاما بالنسبة لشاتوبريان فقد كان يسمح له بالعمل تحت امرة (فرش) خال بونابرت, وأيضا لان ايطاليا تعتبر وقتها نافذة مشرعة على الشرق الذي كان الشغف به وبسحره يأكل شاتوبريان من الداخل, وحين شن نابليون حملة لتصفية أنصار الملكية السابقة استقال هو وعاد لباريس متفرغا مؤقتا للكتابة مجتهدا في عدم الاصطدام بديكتاتور الثورة الجديد.
ومع مطلع سنة 1806م انطلق فرانسوا شاتوبريان في رحلته الى الشرق التي كانت تخامره منذ زمن الصبا, (لقد طفت ودرت دورة كاملة حول البحر المتوسط, دون مخاطر تذكر, ومثل القدامى زرت اسبرطة, مررت بأثينا, حللت بالقدس, رسوت بالاسكندرية, تفرجت على آثار قرطاج, وأخيرا استسلمت لجمال قصر الحمراء بالاندلس, دورة كاملة حول المتوسط), وقد دفعه الشعور بأنه أصبح بطلا اسطوريا على شاكلة أبطال هوميروس الى أن يشرع في كتابة سيرته الذاتية سنة 1808م.
وكانت سنة 1811م أهم سني حياة شاتوبريان الأدبية كما صرح بذلك في مقدمة (الرحلة من باريس الى القدس) التي نشرها في السنة نفسها, وفيها بدأ كتابة الكتاب الذي سيشتهر به حتى الان (مذكرات ما وراء القبر) كما عين عضوا بالأكاديمية, وقد جرت العادة ان يلقي كل عضو جديد خطابا يقدم فيه أفكاره وأطروحاته التي أهلته لهذا المنصب العلمي الرفيع, وكان خطاب شاتوبريان مكرسا كله للدفاع عن الحرية في السياسة وأيضا في الفن والإبداع, مما أثار نابليون ضده فقرر استرضاءه بنشر أعمال متتالية (الى بونابرت) (عن آل بوربون) (ضرورة ان نتعلق بحكامنا الشرعيين) وهي نصوص أدت مع سقوط بونابرت في واترلو 1815م الى أن يتخذ الجميع مواقف منه, وأن يعتبروه منتهي الصلاحية,
لكن سمعته كأديب كبير جعلتهم يعينونه سفيرا بالسويد وكان هذا نوعا من النفي وقتها, آثر هو تجنبه فرفض السفر وبقي حتى 1823م منشغلا بمستنقع باريس السياسي, حينا وزير دولة وحينا اخر مطاردا مطلوب رأسه, ومنذ سنة 1924م اتجه للصحافة فنشر أعمالا كثيرة منها (مات الملك: عاش الملك) ودافع بحماس شديد عن حرية النشر التي أسس من أجلها (جمعية أنصار الصحافة) 1827م.
ومع مجيء حكومة بولينياك ـ التي تورطت في غزو الجزائر ـ استقال من أية مناصب وتقاعس عن العمل سفيرا بروما, وبسرعة بدأت مصاعبه من جديد مع السلطة, فآثر الفرار الى سويسرا ثم الى براغ والبندقية, كما نشر مذكراته و(محاولة عن الأدب الانجليزي) وهي دراسة نشرت كمقدمة لعمل ميلتون (الفردوس المفقود), ومع تقدمه في السن فإنه عاد طرفا في صراعات باريس السياسية حتى يوم موته 4 يوليو 1848م عن عمر يناهز الثمانين عاما.
نص متجدد:
رغم مرور أكثر من قرن ونصف على موت شاتوبريان فإن أعماله مازالت تنشر باستمرار, ومازالت الدراسات عن مكانته في الحقبة الرومانسية الفرنسية تتوالى, وهي مكانة مميزة مهدت بصدق لرومانسية القرن التاسع عشر التي عمت الأدب والفن وانسربت الى عتبات المسرح والحياة أيضا, وسط واقع بالغ المأساوية, ألقت عليه إخفاقات الثورة الفرنسية, وخيبات عصر الأنوار بظلالها.
وقد شهدت السنوات الماضية ليس فقط ظهور طبعات منقحة من أعمال شاتوبريان الكاملة, بل دفقا من الدراسات عنه, بعضها سعى لإعادة تصنيف ونقد كتبه, سواء رواياته (آتالا ورينيه) و(مغامرات اخر بني سراج) أو مسرحه كمأساة (موسيى: تراجيديا شعرية في خمسة مشاهد), وأيضا دراساته (محاولة عن الثورات المقارنة) و(جمعية فيرون) و(حياة رانسي) ثم (الأعمال السياسية) و(أفق الرسم عبر الزمن), أم ما نشر عنه من دراسات متميزة قديما وحديثا ابتداء منها (عوالم شاتوبريان لجان ريشار, ودراسة جان مورو حول (عبقرية الاسلوب عن شاتوبريان من خلال مذكراته) وأيضا (البحث الكتابة) لبيير بربريس, و(شاتوبريان الرد على الحداثة) ثم (الكتابة من شاتوبريان لرامبو) لايف فاديه, وأخيرا (المنفي والمجد: شاتوبريان ورواية العائلة) لجان رولين, و(شعرية شاتوبريان) لفابيان بارسيجول, و(أدب الرحلة عند شاتوبريان: مساهمة في دراسة جنس أدبي) لفيليب أنطوان, وغيرها من الدراسات المعمقة التي ظهرت اخيرا لترسيخ مكانة هذا المبدع فيما يبدو وأنه ليس فقط حنينا الى العصر الرومانسي, وإنما محاولة نفض غبار عن رموزه التاريخيين في الأدب الفرنسي.
تصنيف:
لعل محاولة تصنيف مكانة شاتوبريان في الخريطة الرومانسية تقتضي أولا ــ لكي نبسّط الأمور ــ ابداء ملاحظة حول الرومانسية نفسها, فقد ظهرت نهاية القرن الثامن عشر وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر, وجاءت كرد فعل على الكلاسيكية والعقلانية اللتين بلغتا ذروتهما في عصر الأنوار, فقد قدم عصر العقل خاصة أدبا منمطا عقلانيا جافا رغم عمقه خاصة عند فولتير وروسو, لم يكن فيه للعاطفة والحياة النابضة مكان واضح, وهذا ما أدى لثورة الرومانسيين على العقلانية ومن ورائها الكلاسيكية.
وباختصار, فقد كانت الرومانسية من الناحية النسقية عودة للماضي, رجوعا للقرون الوسطى, وتمجيدا للعاطفة على حساب العقل, للخيال في مقابل العلم, أو لنقل (للظلامية) في وجه الأنوار, وقد ازدهرت في انجلترا مع ولترسكوت وأيضا في ألمانيا واسبانيا قبل فرنسا, ويمكن ان نلحظ تباشيرها في أعمال جان جاك روسو الذي كان يعلي من شأن العاطفة ويتغنى بالعفوية, وكان أسلوبه غنائيا مشبوبا بأعقد العواطف وأكثرها عذرية وغجرية, كما أدخل الحب الجياش والإحساس بالجمال والتذاوب والفناء في روعة الطبيعة في الأدب الروائي الفرنسي لأول مرة, وعلى نحو مؤثر.
غير أن المؤسس الحقيقي للرومانسية الفرنسية كان بالفعل شاتوبريان, فقد أهلته تجربته مع الحياة, التي أفضنا في الحديث عنها ـ وفاء للتقليد الرومانسي ـ لان يكون رومانسيا من الصنف الأول, فقد كانت قصصه وكتاباته تعكس واقع حياته, تدور أحداثها في تضاعيف من مشاعر الملل والوحدة والحزن العميق, كما ابتكر شخصية محورية في الأدب الرومانسي (هي شخصية البطل العاطفي الذي لا يجد في العالم من يفهمه ولا يجد أنيسا في وحدته) فيتجه لاجترار آلامه, واختلاق عوالمه الخيالية, وابتداع عالم من السحر والأحلام بديل لكل ما هو قائم.
وبالتالي كان تأثير شاتوبريان محوريا على جميع الرومانسيين الفرنسيين اللاحقين, سواء مدام دي ستايل مؤلفة الكتاب الشهير (عن الأدب) 1800م أو في الشعر الرومنطيقي مع ألفونس لامارتين صاحب (تأملات شعرية) وفيكتور هيجو في (أوراق الخريف) وأيضا ألفرد دي فينيه مؤلف (قصائد قديمة وجديدة) وألفرد ديموسيه صاحب المراثى الشهيرة لحبيبته في (الأمسيات).
وسواء أيضا على المسرح الرومانسي مع هيجو (هرنان), وفينيه (شاترتون) التي رسخت شخصية ستلعب دورا كبيرا في خيال الرومانسيين هي شخصية الفنان الحالم الأثيرة عندهم, وأخيرا اثر قصص شاتوبريان ايضا على القصة والأدب الروائي خاصة عند ديماس الاب صاحب الرواية التاريخية الشهيرة (الفرسان الثلاثة) وفيكتور هيجو في رواية (أحدب نوتردام) 1831م, التي تعكس بشكل خاص حنينا للعودة الى القرون الوسطى, وأملا في الخلاص من قبضة عصر العقلانية.
وهذا يصدق ايضا على رومانسيين اخرين في الرواية الفرنسية, مثل ستاندال وبلزاك وجورج ساند الذين بدأت تظهر في اعمالهم الملامح الاولى للواقعية, لكنهم حملوا قسمات واضحة من رومانسية شاتوبريان, الذي يستدعى الان, مثلما استدعي طيلة القرن التاسع عشر, ليثبت انه كان بحق رجل كل الأزمنة, مثلما كان برحلاته رجل كل الأمكنة...
 
اعداد: الحسن المختار - بيان الثقافة
 
*abdelhafid
20 - سبتمبر - 2007
استراتيجية العدوانية المستكينة    كن أول من يقيّم
 
 (ليس من الحكمة أبدا أن تبدو تواقا للسلطة أو الثروة أو الشهرة.. قد يقودك طموحك إلى القمة، لكنك لن تكون محبوبا، وستشكل هذه اللاشعبية مشكلة لك. من الأفضل أن تخفي مناوراتك الساعية إلى السلطة فأنت لا تريدها لكنها فرضت عليك. حين تكون مستكينا وتجعل الآخرين يأتون إليك هو شكل رائع من العدوانية... عليك أن تفهم لماذا أصبحت العدوانية المستكينة منتشرة إلى هذا الحد. في عالم اليوم التعبير عن النقد الجارح أو المشاعر السلبية تجاه الآخرين أصبح أمرا غير مقبول، فالناس باتوا يأخذون النقد على محمل شخصي جدا، أكثر من ذلك ينبغي تجنب النزاع بأي ثمن كان..يمكنك التعرف على أنماط العدوانية المستكينة المؤذية من خلال قوة العواطف التي ولدتها لديك والتي لا تتمثل في الانزعاج السطحي فحسب بل بمشاعر الارتباك والارتياب وعدم الأمان والغضب، وحين تدرك أنك تتعامل مع شكل خطر من هذه الاستراتيجية فإن الحركة الأذكى التي يمكنك القيام بها هي فك الارتباط .. النهر أحيانا يتدفق بقوة عظيمة ويتسبب بأضرار غير متوقعة. محاولتك أن تقيم سدا في وجهه ستضاف إلى خطره وزخمه، بدلا من ذلك حول مساره واجعل قوته تخدم أهدافك) (الحرب 33 استراتيجية : ص 843)
*زهير
20 - سبتمبر - 2007
لمحة تاريخية ( 8 )    كن أول من يقيّم
 
 
أشكر الأستاذ عبد الحفيظ عرضه للمقالة : " فرنسوا شاتوبريان ... مبدعاً ومتسكعاً " لأنها تشكل توطئة تاريخية مهمة لما أنوي ترجمته من فقرات " مذكرات ما وراء اللحد " ( لي اعتراض صغير على لفظة المتسكع التي اختارها كاتب المقالة لعنوانه لأنها تنطوي على دلالات لا تنطبق على شاتوبريان ) . وأشكر الأستاذ زهير على إضافاته لهذه المقتطفات القيمة من كتاب : " الحرب 33 استراتيجية " لما تحتويه من الفائدة الأكيدة .
 
لمحة تاريخية موجزة : كان شاتوبريان ، كما علمنا، من مناصري الملكية لكنه خدم في السلك الدبلوماسي في عهد نابليون بونابرت وكانت علاقته به في غاية التعقيد ، تتراوح بين العداء الشديد إلى الإعجاب الشديد . وكان التحالف الدولي ما بين : روسيا ، انجلترا ، بروسيا ، النمسا ، السويد وبافاريا قد أنتصر على نابليون في " معركة الأمم " ( Bataille des Nations ) في العام 1813 فأجبر نابليون على الاستقالة ومن ثم تم نفيه إلى جزيرة " إلبا " الإيطالية حيث أقام هناك مئة يوم ، لكنه نجح في الهروب منها وعاد للزحف على باريس في العام 1815 . لم يغامر الملك لويس الثامن عشر برأسه وفضل مغادرة باريس والإقامة في بلجيكا في مدينة " غاند " ريثما تهدأ الأمور ويتم القضاء على نابليون ، وكان شاتوبريان من ضمن الحاشية التي رافقت الملك إلى منفاه في بلجيكا وكان من ضمن مستشاريه رغم أنه كان قد عارض خطة الملك واقترح عليه تنظيم المقاومة ضد نابليون ، لكن الملك آثر طريق السلامة والاعتماد على قوات التحالف الأجنبية للقضاء على خصمه ، بل أنه أصدر أمراً ملكياً ب " ملاحقة " نابليون ، وهو أمر صوري الغاية منه إذلاله وتحطيم صورته ومعاملته كأي قاطع طريق .
 
في هذا الأمر الملكي كتب شاتوبريان :
 
القرار الكبير الذي صدر بحق نابليون كان " الملاحقة ( courir sus ) . لويس الثامن عشر ، الأعرج ، سوف يلاحق بونابرت الذي كان يخطو من فوق الكرة الأرضية ! طريقة العهود البائدة هذه ، التي أعيد إحياؤها لهذه المناسبة ، كافية للدلالة على عمق تفكير رجالات دولة هذا العهد . " أمر ملاحقة " صادر في العام 1815 ! ملاحقة ! ملاحقة من ? ملاحقة ذئب ? ملاحقة قاطع طريق ? ملاحقة إقطاعي خائن ? لا : ملاحقة نابليون الذي كان يلاحق الملوك ويصادر أملاكهم قبل أن يدمغ على جلودهم توقيعه الذي لا يمحى .
 
 
 
 
*ضياء
21 - سبتمبر - 2007
بوح عن الذات خلال إقامته في المنفى ( 9 )    كن أول من يقيّم
 
 
 مئة يوم في " غاند " ( Gand ) :
 
كانت أفكاري قد استعادت ذكريات هجرتي الأولى بكل ما فيها من شقاء وسعادة . وكنت قد استرجعت صور بريطانيا ورفاق الفاقة وتلك " الشارلوت " التي كنت لا أزال ألمحها . لا يوجد من هو قادر مثلي على اختراع عالم حقيقي باستحضاره لأشباح الماضي لدرجة أن حياتي الماضية تطغي على إحساسي بالحياة الواقعية . هناك أشخاص ممن لم أكن أهتم بهم مطلقاً ، فإذا ماتوا ، استولوا على ذاكرتي . ويبدو بأن من يريد صحبتي عليه بأن يموت أولاً . كل هذا يجعلني أشعر وكأنني مت فعلاً . وفي الوقت الذي يجد فيه الآخرون ( في فقدان من يحبونهم ) فراقاً نهائياً ، أجد أنا فيه اجتماعاً أبدياً . فلو فارق الحياة واحد من أصدقائي فكأنه بهذا قد جاء ليسكن معي فلا يتركني بعدها أبداً . وبقدر ما يتراجع من أمامي هذا الزمن الحاضر ، بقدر ما يعود إلي الزمن الماضي . وإذا كانت الأجيال الحالية تحتقر الجيل الماضي فإن موقفها هذا ليس له أية قيمة إزائي : أنا لا أشعر بوجودها أصلاً !
 
*ضياء
21 - سبتمبر - 2007
تاليران وفوشيه ( 10 )    كن أول من يقيّم
 
بعد هزيمة نابليون في معركة " واترلو " عاد لويس الثامن عشر إلى باريس بمساندة تحالف القوات الأجنبية ومن تآمر معهم من الفرنسيين ، ومن هؤلاء : تاليران وفوشيه . وكان الملك قد توقف في ضاحية سان - دنيز ( Saint - Denis ) قبل الدخول إلى باريس وأقام مدة في كاتدرائيتها حيث يوجد قبر أخيه الملك لويس السادس عشر الذي أطاحت الثورة برأسه في العام 1793 . وكان على شاتوبريان أن يزوره في ذلك المكان فكان أن ترك لنا هذه الشهادة التاريخية الثمينة معززة بوصفه لما كان يعتمل في نفسه من مشاعر متناقضة :
 
    
                                                                           تاليران وفوشيه
 
في حوالي الساعة التاسعة مساء ، كنت قد توجهت لزيارة الملك لتقديم الطاعة . كان سعادته مقيماً في الأبرشية وحيث كان من الصعوبة بمكان منع بنات حراس جوقة الشرف الصغيرات من أن تهتفن : " عاش نابليون " . دخلت إلى الكنيسة أولاً ، جانب من الحائط الملاصق للدير كان قد تهاوى ولم يكن هناك سوى مصباح واحد مضاء في مقر راعي الأبرشية . صليت على مدخل المدفن الذي كنت قد رأيت فيه لويس السادس عشر وهو يوارى . كان الخوف من الآتي يستولي علي ، لا أدري إذا كنت في حياتي كلها قد شعرت بمثل هذا الخشوع والحزن العميق . بعدها ذهبت لمقابلة جلالته ، فأدخلت إلى إحدى الغرف الملاصقة للديوان وكانت خالية تماماً ، هناك جلست في ركن أنتظر . فجأة ، يفتح الباب ، وتدخل منه بصمت الرذيلة متكأة على ذراع الجريمة ، السيد تاليران (1) يمشي مستنداً إلى السيد فوشيه (2) . هذه الصورة الجهنمية كانت تمر من أمامي ببطء شديد قبل أن تدخل إلى ديوان الملك وتختفي . كان فوشيه قد جاء ليقسم يمين الطاعة أمام مليكه . قاتل الملك المطيع ، جاثياً على ركبتيه ، يداه المجرمتان اللتان قامتا بقطع رأس لويس السادس عشر بين يدي أخي الملك الشهيد . المطران الرسولي صادق على القسم .
 
قبل أن أغادر سان - دنيز استقبلني الملك وكان لي معه هذا الحوار :
 
ــ إذاً ? قال لي لويس الثامن عشر مفتتحاً الحوار بهذا التساؤل .
 
ــ إذاً سعادتكم سوف تعينون دوق أوترانت ( فوشيه ) .
 
ــ هذا لا بد منه : منذ عهد أخي ، وحتى ولاية كروسول ( Crussol ) كل شيء يشير على أننا لن نستطيع شيئاً غير هذا ، ما رأيكم ?
 
ــ سعادتكم ، بما أن الموضوع منته ، أرجو من فخامتكم أن تعفوني من الإجابة .
 
ــ لا ، لا تكلم : أنتم على علم كم قاومت من الضغوط عندما كنت في " غاند " .
 
ــ سعادتكم ، أنا لم أكن يوماً سوى خادمكم المطيع ، فاعذروا لي شدة إخلاصي : أظن بأن عهد الملكية قد انتهى !
 
لاذ الملك بالصمت ، وبدأت أنا أرتجف من الخوف على جسارتي تلك عندما استعاد جلالته طرف الحديث ليقول :
 
ــ في الحقيقة ، سيد شاتوبريان ، أنا رأيي من رأيك !
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
1- تاليران :  ( 1754 - 1838 ) Talleyrandرجل سياسي وشخصية محيرة تميزت بالدهاء وعدم الالتزام بأي من المعايير الأخلاقية التي حكمت عصره سواء في السياسة أم في حياته الخاصة . ينتمي إلى عائلة ارستقراطية عريقة القدم وكان والده في السلك العسكري إلا أنه وبسبب تشوه في رجله وعدم صلاحيته للمهن العسكرية تم توجيهه نحو الدين رغم عدم وجود أية قناعات دينية لديه فأصبح أسقفاً لأوتان ، ثم انحاز إلى الثورة الفرنسية وتآمر مع رجالاتها ضد مصلحة الكنيسة ورجال الدين فأصبح وزيراً للخارجية ، ثم تآمر على الثورة لإيصال نابليون بونابرت الطموح إلى الحكم بإنقلاب عسكري ليصبح كبير الوزراء وأميراً على مقاطعة بانيفان ، ثم تأمر ضد نابليون وحاول اغتياله وكان ممن تسببوا بسقوطه وعودة الملكية إلى فرنسا وكانت له شبكة علاقات دولية مع رجال السياسة المؤثرين في عصره ، فعينه الملك لويس الثامن عشر وزيراً للخارجية .
 
2 - فوشيه : ( 1759- 1820 ) Fouché كان تلميذاً ثم أستاذاً لدى " جماعة المصلى " Oratoriens  ( فرقة دينية ) ثم أصبح نائباً في البرلمان لدى جماعة الثورة وكان ممن صوتوا على القرار بقطع رأس الملك لويس السادس عشر ، وغالباً ما تولى قيادة الأمن وشارك بمذابح أيام الثورة ، ثم أصبح مديراً للأمن في عهد نابليون وحصل بعدها على لقب سيناتور ثم أصبح دوقاً لأوترانت ليخون بعدها نابليون ويساعد على عودة الملكية إلى فرنسا ممثلة بلويس الثامن عشر .
 
 
 
*ضياء
23 - سبتمبر - 2007
شاتوبريان وهزيمة نابليون (11 )    كن أول من يقيّم
 
 
                                                                        معركة " واترلو "
 
في الثامن عشر من شهر حزيران 1815 وكنا قريب الظهر ، كنت تركت " غاند " مغادراً من باب " بروكسل " . كنت أسير وحدي متنزهاً على الطريق الكبير وقد اصطحبت معي كتاب " شروحات يوليوس قيصر " ( Les commentaires de César ) . كنت أتمشى ببطء مستغرقاً في القراءة وكنت قد ابتعدت مسافة بضعة فراسخ عن المدينة عندما تهيأ لي أنني أسمع هديراً أصمّ : توقفت ثم نظرت إلى السماء فوجدتها ملبدة بالغيوم ، صرت أسأل نفسي إذا ما كنت سأتابع التقدم في طريقي أم أتراجع باتجاه " غاند " .أصغت السمع جيداً لكني لم أعد أتميز سوى صوت دجاجة ماء بين القصب ، وصوت ساعة القرية . تابعت متقدماً : وقبل أن أتم ثلاثين خطوة كان ذلك الهدير قد عاد إلى مسمعي ، متقطعاً ولبرهة وجيزة أحياناً ، ثم لبرهة أطول ، وعلى فترات غير متساوية في المدة . أحياناً لم أكن أشعر به سوى عبر اهتزازات الهواء التي كانت تأتي من ارتجاج الأرض المتصلة بتلك السهول  الشاسعة لأنه كان شديد البعد . هذه الانفجارات الصغيرة ، القليلة المدى والتموجات الغير مترابطة فيما بينها كصوت الرعد ، جعلتني أفكر بأنها معركة . وجدت نفسي مقابل شجرة حور تقع على زاوية حقل جنجل (1) ، اجتزت الطريق لأستند إلى جذع الشجرة ملتفتاً بوجهي ناحية " بروكسل " . هبوب هواء الجنوب مكنني من أن أتميز صوت المدفعية بشكل أوضح . هذه المعركة الكبرى التي لم تكن تحمل إسماً بعد ، والتي كنت أسمع صداها من على كعب شجرة حور ، والتي دقت لها ساعة القرية لحناً جنائزياً غامضاً ، كانت معركة " واترلو " .
 
كنت المستمع الصامت والوحيد لخاتمة الأقدار الرهيبة هذه ، ولوكنت في غمار المعركة ، لكان انفعالي أقل مما كان عليه ، فالنار والخطر والخوف من الموت لم تكن لتترك لي الوقت للتأمل . إنما وحيد على جذع شجرة في ريف " غاند " كأنني راعي ، كانت الأفكار اللوامة تثقل كاهلي وترعى من حولى كأنها قطيع الماشية : ما هذه المعركة ? وهل ستكون الحاسمة ? وهل يحارب نابليون بنفسه فيها ? وهل تُرك هذا العالم لأقداره كما كان قد تُرك ثوب المسيح ? سواء كانت النتيجة الانتصار أو الهزيمة لهذه الفرقة أو تلك فماذا سيكون مصير الشعب : الحرية أم العبودية ? دم من هذا الذي يهرق ? وكل ضجة تطرق مسمعي الآن أليست هي حشرجة فرنسي آخر يطلق أنفاسه الأخيرة ? وهل هي " كريسي "(2 ) أخرى ، أم " بواتييه "(3) أخرى ، أم " أزنكور "(4) جديدة سيفرح لها قلب أشد أعداء فرنسا ضراوة ? لو انتصروا فيها أفليس هذا معناه بأن مجدنا قد زال ? ولو انتصر فيها نابليون أفليس معناه بأننا قد خسرنا حريتنا ? وبالرغم من أن انتصاراً لنابليون سوف يفتح من أمامي طريق المنفى وإلى الأبد ، لكن حب الوطن كان أقوى في قلبي في تلك اللحظة وكنت أتمنى انتصار الطاغية إذا كان لا بد منه لإنقاذ شرفنا وتخليصنا من سيطرة الغرباء .
 
هل سينتصر" ولنغتون "(5) ? وهل ستعود الشرعية ( الملكية ) إذاً إلى باريس وراء أصحاب البزات الحمر الذي صبغوا بدلاتهم من دماء الفرنسيين !  ستكون مراسم عودة الشرعية محمولة على نفس العربات التي امتلأت بجنودنا الذين شوهتهم الحرب ! وكيف ستكون هذه العودة التي تمت تحت الحماية الخارجية ?  هذا قليل من الأفكار التي كانت تعذبني ، ومع كل ضربة مدفع ، كنت أرتجف ويزداد خفقان قلبي . كنت على بعد بضعة فراسخ من كارثة عظيمة لم أكن أراها ، ولم أكن أستطيع لمس ذلك الجبل الهائل من الصرح الجنائزي الذي كان يتضخم من دقيقة لأخرى . في " واترلو " كما على شاطىء " بولاق "(6) ، على ضفاف النيل ، كنت ، بدون جدوى ، أمد بكلتا يدي نحو الهرم .
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
1 ـ  الجنجل Houblon ويقال له دينار أيضاً وحشيشة القزاز
Crécy(1346)  -2 
3 ـ Poitiers ( 1356
4 ـ (1415 ) Azincourt 
ثلاث معارك كبرى هزمت فيها فرنسا أمام بريطانيا خلال الحرب التي تُعرف بحرب المئة عام
5 ـ Wellington قائد القوات البريطانية آنذاك وقائد المعركة ضد نابليون
6 ـ  بولاق بالقرب من القاهرة ، وكان شاتوبريان قد زارها وهو يرمز هنا إلى الأهرامات كصرح جنائزي هائل لأنها قبور الفراعنة .
 
*ضياء
25 - سبتمبر - 2007
مقدمة تاريخية (12 )    كن أول من يقيّم
 
 كان شاتوبريان قد وضع أمله في نابليون ، وأخذ يعول عليه في إحداث التغيير الذي يتمناه لإعادة رقابة السلطة الدينية إلى مؤسسات الدولة ، فعمل في خدمته بعد أن أصبح القنصل الأول لفرنسا ، وهو منصب ابتدعه نابليون لنفسه ، بعد أن أجبر أعضاء المجلس النيابي على المصادقة عليه ، يعطيه السلطة المطلقة على البرلمان وذلك قبل أن يتوج نفسه أمبراطوراً . إلا أنه ، وبعد أن تمكن من السلطة ، قام بإبادة أنصار الملكية بحجة انهم كانوا يخططون للإطاحة به ، وقتل دوق كندة Duc D'Enghien صديق شاتوبريان ، فكانت هذه ضربة قاصمة ، وخيبة أمل كبرى عاشها شاتوبريان الذي كان قد تم تعيينه حديثاً قنصلاً في إيطاليا ذلك الحين ، فاستقال من منصبه ، وهجر الحياة السياسية .
 
النص الذي سأقوم بترجمته اليوم ، ينتمي إلى الفترة التي كان نجم نابليون فيها قد بدأ يسطع في سماء فرنسا والعالم ، كان شاتوبريان لا يزال شاباً مسكوناً بالطموح والأحلام الكبيرة ، وكان له صديق يدعى فونتان Fontanes  وهو من رجالات سياسة تلك الحقبة ، وكان شاعراً وأستاذاً جامعياً ونائباً في البرلمان وملكياً دون المجاهرة بانتمائه لأن كان من المقربين إلى نابليون ومن أصدقاء أخيه لوسيان بونابرت ، وكان قد لعب دوراً في تقريب شاتوبريان من تلك الدائرة في الوقت التي كان فيه نجم نابليون ، القنصل الأول ، في صعود مستمر :
*ضياء
4 - أكتوبر - 2007
 59  60  61  62  63