البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : أحاديث الوطن والزمن المتحول    قيّم
التقييم :
( من قبل 39 أعضاء )

رأي الوراق :

 ضياء  
11 - يونيو - 2006
كان الأستاذ السعدي قد طرح ذات مرة تساؤلاً حول علاقة التاريخ بالسيرة الذاتية . حيرني بوقتها ذلك السؤال لأن المسألة تبدت لي بديهية ، ولما فكرت فيها ، استنتجت بأن التنظير لها صعب للغاية . فالسيرة الذاتية هي تاريخ شخصي تتقاطع أحداثة مع مجريات الحدث العام ، بالصدفة يحدث هذا التلاقي في الزمان والمكان ، هكذا يبدو ......  إنما مقاصد السؤال الذي طرحه كانت ربما : كيف تحكي السيرة الذاتية التاريخ العام ?

عندي مثال ساطع على هذا تعلمت منه أكثر مما تعلمت من كتب التاريخ . فجدتي ، رحمها الله ، كانت تقص على مسامعنا سيرة عمرها الطويل وتعيد تردادها بدون كلل أو ملل . منها تعلمت تاريخ طرابلس ، تقصه مشفوعاً بأخبار الذين كانوا من حولها ممن مات ، أو عاش ، أو ولد ،  قبل " الطوفة " مثلاً( طوفان نهر أبو علي ) أوبعدها ، ومن كسر يده في الزحام ، أيام ثورة القاووقجي ، أو عندما جاء ابراهيم هنانو إلى طرابلس ، وأين اختبأوا أيام " ثورة شمعون " . وتحكي أيام الأنكليز وكيف انتشروا بوقتها على شاطىء البحر ، وكيف جاء الفرنسيون بعسكر السنغال ، وعن أيام السفر برلك ورحلتهم مع الجوع والعذاب والجراد والمرض آنذاك ، وعن جيرانها اليهود وعاداتهم ، وكيف كانت طرابلس في ذلك الحين : الأحياء ، البيوت ، الطرقات ، النهر ، السوق ، القلعة ........ تاريخاً موثقاً بالأسماء والأرقام والوقائع من ذاكرة نبيهة صاحية ، ظلت طوال حياتها تنظم وتؤطر وتسلسل تلك المعلومات وتعيدها على مسامعنا على شكل حكايا ، تاريخاً متماسكاً كانت وحدها تعرف سره ، وتعرف كيف تمسك به بقبضتها الواثقة . كيف لا وهي من كان يعرف كيف يحصي ويحفظ كل شيء : الأرقام ، التواريخ ، الأعمار ، و عدد درجات السلالم التي تطلع عليها ، أو عدد حبات الزيتون التي تأكلها في كل وجبة ، ومواقيت الفصول والأعياد والزراعة في الحساب الشرقي وبحسب هلة القمر ، وحتى لو قامت بحشو الكوسى فإنها ستضع فيه " الحبة فوق الحبة ، والرزة فوق الرزة " تحسبها بالمثقال .

 ولطالما تساءلت عن سبب إصرارها على إعادة تلك القصص التي كنا نتذمر منها ونتأفف لها أحياناً . وفهمت بأن الزمن قد تحول وتبدل كثيراً من حولها ، وأنها تحاول ان تمسك بماضيها ، ان تستعيده على طريقتها . وبالرغم من أنها كانت تروي حياتها كأمتداد لحياة من سبقها أو تلاها من الأجيال ، بدون إسراف أو بطولة ، أو حتى خيال ، سرد مجرد سرد واقعي يسجل الوقائع ويثبتها في الذاكرة ، إلا ان تلك الذاكرة كانت تغربل وتنقح وتختار لحظتها وموضوعها ، وهي بالتالي إنتقائية . فالذاكرة هي إعادة إنتاج للواقع بحسب فهمنا للذات وللآخر .

هكذا خطرت لي فكرة هذا الموضوع ، إعادة إنتاج التاريخ من خلال السيرة الذاتية . وهذا ما سأحاول الكتابة فيه ، لكن ليس لوحدي : أدعو الجميع للمشاركة في هذا الملف من منطلق إعادة كتابة تواريخنا الشخصية : عبرها ، ستتبدى لنا أشياء كثيرة كانت مطوية في غياهب النسيان ، وستفتح لنا ربما شبابيك على الحاضر لو استطعنا أن نمسك بتلابيب الماضي ونستقرأ أبعاده .

اعتبروا هذا الملف كأنه صندوق تبرعات ، وليتبرع لنا كل واحد بحكاية من طفولته أو تاريخه الحاضر ، أو حتى تاريخ عائلته . كل المطلوب هو أن تكون هذه القصة واقعية ومختصرة ، وأن يجهد قليلاً في جعلها ممتعة لدى قراءتها .

أتمنى لنا حظاً سعيداً .

 

 58  59  60  61  62 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
أستاذة    كن أول من يقيّم
 
أستاذة ضياء :        سلمت أناملك !
*محمد هشام
9 - سبتمبر - 2007
كل الشكر للأستاذ هشام    كن أول من يقيّم
 
كل الشكر لك أستاذ هشام ومرحباً بعودتك إلى المجالس .
 
سوف تستغرب أوجه الشبه العديدة والمدهشة أحياناً بين الفترة التي عاش فيها شاتوبريان وعصرنا الحالي وهو السبب الذي دفعني إلى الخوض في هذا الموضوع لأنني أجد في هذا النوع من المقارنات ما يساعد على الفهم وتقريب وجهات النظر التي تبدو شديدة التباعد لو نظرنا إليها على المدى القريب والمباشر ، غير أننا لو ابتعدنا عنها المسافة الكافية ، كما لو أننا كنا نعيش في عصر شاتوبريان ، فستبدو لنا أوجه التشابه جلية واضحة ، وسيمكننا ذلك من فهم آلية التغير الاجتماعي رغم اختلاف عناصره ، وسيساعدنا ذلك على فهم طبيعة البشر ، والشعراء الذين ينتمي إليهم شاتوبريان لأنهم مرآة لعصرهم ، ولأنهم نموذج للإنسان العالمي الخالد الذي يستعصي على التصنيف .
*ضياء
9 - سبتمبر - 2007
شاتوبريان000والنبش فى الذاكرة0    كن أول من يقيّم
 
إستوقفنى طويلاً وطويلاً جداً ما كتبته الأستاذة /ضياء عن الروائى الفرنسى فرنسوادى شاتوبريان000وكنت سابقاً ،وقبل ربع قرن من الزمن ،قد قرأت له رواية الناتشز،والتى يقول عنها(كنت لا أزال فتيا غض الإهاب يوم فكرت فى أن أضع ملحمة عن رجل الطبيعة أو أرسم صورة لأخلاق المتوحشين،على أن أصلها بحادث من الحوادث المعروفة ،وبعد اكتشاف أمريكا لم أجد موضوعا أكثر إثارة لاهتمام القراء ولاسيما الفرنسيين ،من مذبحة مستعمرة الناتشز _تلك التى وقعت فى لويزيانا سنة 1727م،فإن إجماع القبائل الهندية على التآمر _بعد قرنين من كبت وعسف_لكى يعيدوا الحرية إلى العالم الجديد،بدا لى موضوعا يقابل بالارتياح ما قوبل به موضوع فتح المكسيك،فبدأت أخط على الورق بعض عناصر هذا الكتاب)0
 
لقد أعادتنى الأستاذة /ضياء إلى النبش فى الذاكرة والبحث فى المكتبة عن هذا الكتاب الذى يصفه مؤلفه(إن وصف أمريكا المتوحشة يستدعى بالطبع رسم صورة لأمريكا المتحضرة ،لكن رسم مثل هذه اللوحة يبدو فى غير محله،فى مقدمة كتاب هو من نسج الخيال 0وفى الكتاب المتضمن ذكريات أسفارى إلى أمريكا سأبين _بعد أن أصف القفار _ما صار إليه العالم الجديد وما يمكن أن ينتظره من المستقبل ،00) 
 
  
 
*عبدالرؤوف النويهى
14 - سبتمبر - 2007
شاتوبريان وأستاذ الرقص ( 4 )    كن أول من يقيّم
 
 
نعم أستاذ عبد الرؤوف ، كتب شاتوبريان الكثير في وصف رحلاته إلى العالم الجديد وكان يظن أحياناً بانه كريستوف كولمبوس وهذه التجربة هي من أقوى التجارب التي عاشها وأثرت على تكوينه لأن أميركا كانت بالنسبة له : المنفى ، والرحلة ، والطبيعة البدائية ، وكانت العالم الجديد . وكلنا يعلم شدة تعلق شاتوبريان بالطبيعة وتأثره الكبير بجان جاك روسو . ومن طرائف مذكرات ما وراء اللحد ما ذكره في الكتاب السابع في فقرة بعنوان : " أستاذ للرقص عند الإيروكوا " ( من قبائل الهنود الحمر الأميركيين ) بعد أن عاد من بلتيمور متوجهاً إلى فيلادلفيا ، وبعد أن زار نيويورك وبوسطن ، إتجه نحو شلالات النياغارا ليصف هناك الطبيعة الوحشية للمكان ، ويعلن سعادته البالغة لوجوده في هذا الموقع البديع حيث " لا طرقات ، لا مدن ، لا ملكية ، ولا جمهورية ، لا رئيس ولا ملك ، حيث لا أنسان ..... " لكن سعادته الغامرة تلك تصطدم سريعاً بعنبر لمجموعة من البدائيين الذين كانوا يسكنون تلك الغابة التي ظن للوهلة الأولى بأنها عذراء ولم تطرقها رجل إنسان بعد ، ويجد معهم فرنسياً يعزف على الكمان ألحاناً فرنسية شعبية ويعلم هؤلاء " المتوحشين " الرقص ويتقاضى على ذلك أجره مدفوعاً على شكل فراء قندس أو لحم دب مقددة .
 
" أليست هي تجربة دامغة لمن كان مثلي تلميذاً لروسو أن تكون بداية معرفته بالطبيعة البدائية حفل راقص يقيمه الطباخ السابق ( هو نفسه عازف الكمان ) للجنرال روشمبو على شرف الإيروكوا ? كان لدي رغبة عارمة بالضحك لكنني شعرت بخيبة قاسية  " يقول شاتوبريان .
 
وكل هذه التجارب التي عاشها سوف تولد لديه إحساساً مضاعفاً بالغربة يتجلى من خلال موقفه النقدي الصارم حيال عصره مما نراه واضحاً في مذكراته وهو الموضوع الذي سأحاول الخوض فيه في مقالتي اللاحقة .
 
*ضياء
14 - سبتمبر - 2007
شاتوبريان000وأخلاق أكثر شعوب الأرض حضارة (2)    كن أول من يقيّم
 
               شاتوبريان 000وكتابه الناتشز0
 
فعلاً وكما تؤكد الأستاذة /ضياء ،فإن شاتوبريان ظن نفسه أحد الرحالة العظام بل كان يقول ( أنه لامفر من أن أزور الشعوب التى أعتزم تصويرها إذا كنت أريد أن أرسم منها صورة صادقة أمينة ، مقتدياً فى ذلك بمثل هوميروس)0
 
ويستطرد أنه فى سنة 1789م قد أفضى إلى السيد"ماليزرب(محام نابغة استوزره الملك لويس السادس عشر،وقد أعدمته الثورة الفرنسية )بعزمه على ارتياد ربوع أمريكا ، بل يقول أنه عقد النية على الإستفادة من هذه الرحلة من اكتشاف وبطريق البر الممر القطبى الى طالما بحث عنه رواد البحار والذى قدر المكتشف كوك إمكان وجوده ،ونحقق عزمه وتمت الموافقة على طلبه فسافر ورأى الغرلات الأمريكية ، وعاد من سفره واضعاً خططه00 العودة مرة ثانية فى رحلة تستغرق تسع سنين يعتزم فيها اجتياز القارة الشمالية كلها 000
 
وفى هذه الأثناء شبت الثورة الفرنسية التى قضت على كل مشروعات شاتوبريان الاكتشافية فراح يهيم فى بلاد الغربة ، بعد ما شاهد مصرع أخيه الوحيد وأخته ووالدهما الشيخ الجليل وموت والدته وشقيقةأخرى تحظى بمواهب عدة ، قد تعجلهم الموت من جراء ما قاستاه من شقاء وعذاب فى ظلمات السجون0
 
ويصف كتابه الناتشز بقوله(وهكذا فن القارىء يجد فى الجزء الأول من التاشز كل عجيب مدهش 00فى كل نوع ومن كل جنس؛فالمسيحى المدهش وسرد الأساطير المدهش والهندى العجيب ،كمايلتقى بآلهة الوح وعرائس الشعر والفنون وبالملائكة والشياطين والعباقرة والمعارك ويلم بالأشخاص الرمزية كمثل الشهرة والوقت والليل والنهار والموت والصداقة ،كما يستعرض من هذا الجزء مناشدة الأرواح وذبائح الهنود والأعاجيب 0ويتضمن التشبيهات الكثيرة والموازنات العديدة ،من قصيرة موجزة وطويلة مسهبة،فتكون صوراًً قلمية ولوحات صغيرة ،على طريقة هوميروس0
وفى الجزء الثانى  يختفى العجيب المدهش ،ولكن حبكة الرواية تزداد تعقداًوتتكاثر أشخاصها،وبعضها مأخوذ من طبقات الشعب الدنيا ،وهكذا فإن الرواية تحل محل القصيدة ،دون أن ينحط الأسلوب ،عن مستوى روايتى رنيه وأتالا، بل إن الانشاء قد يعلو أحياناً إلى درجة إ نشاء الملاحم وفقاً لطبيعة الموضوع ،أو طابع الأشخاص أو وصف الأماكن 0
ويتضمن الجزء الأول تتمة حديث شكتاس وفره إلى باريس 0والغرض الذى نوخيته من الحديث إظهار التناقض بين أخلاق الشعوب التى تعتمد فى معيشتها على صيدالطيور والأسماك والحيوان ورعى السائمة ،وبين أخلاق أكثر شعوب الأرض حضارة وفى هذا،وفى وقت واحد،نقد لعصر لويس الربع عشر وثناء عليه،ومناظرة بين حال الحضارة وحال الطبيعة ،سنرى من يكون الحكم فى هذه القضية ???)
 
نلاحظ فيما يقوله شاتوبريان 00نزعة التعصب الأعمى لحضارة الرجل الأبيض، (أكثر شعوب الأرض حضارةً) وماعداهم شعوب همجية !!!!!!
 
بل نلاحظ أن شاتوبريان00 لايتذكر سوى هوميروس أبو الملاحم (الإلياذة والأوديسا )ويسير على نهجه ويحتذى خطاه00
 
سأحاول وفى أقرب فرصة استعراض هذا الكتاب الضخم وتقديم مقتطفات منه والتعليق عليه00
 
 
*عبدالرؤوف النويهى
14 - سبتمبر - 2007
رومانسية شاتوبريان وشفافيته ( 5 )    كن أول من يقيّم
 
 
كانت حياة شاتوبريان سلسلة من المغامرات والإخفاقات ، وكان هو شخصية رومانسية حاولت التعبير عن تلك التجارب وتلك الإخفاقات بصدق وحسن طوية ، وما رغبته في نشر مذكراته بعد موته بخمسين سنة إلا دليل على حرصه الشديد على أن يكون شفافاً إلى أبعد درجات الصدق والشفافية ، وبأنه على وعي تام بعدم إمكانية الالتزام بهذه الأمانة طالما أنه يعيش بين بني البشر لأنه منتم رغماً عنه ، وبأن صداقاته وعداواته الكثيرة سوف ترغمه على طمس أو تحريف بعض الحقائق . من هنا ، ومن هذا الموقع ، كان اختياري ل" مذكرات ما وراء  اللحد " لأنها آخر ما كتبه ، ولأنها الأكثر التزاماً بهذا الهدف النبيل الذي حدده لنفسه حتى ولو بدا نجاحه نسبياً ، كونه بقي أسير تجربته وعذاباته المريرة ، إلا أن محاولته جديرة بالاهتمام لأننا نلمح فيها تلك الإرادة التي تحاول تكوين رؤية جديدة للذات وللآخر ، إلى جانب ما تحمله إلينا من الجمال والمتعة . وما اهتمامه ومعاينته لتلك المجتمعات البدائية إلا جزء من بحثه عن " المتوحش النبيل " الذي كان يؤمن به على طريقة جان جاك روسو ، ولأن رومانسيته كانت تدفعه إلى الحلم بالعودة إلى أحضان الطبيعة والتصالح معها .
*ضياء
15 - سبتمبر - 2007
أوجه الشبه والإختلاف    كن أول من يقيّم
 
أوجه الشبه بين العصر الذي عاش فيه شاتوبريان وعصرنا الذي نعيشه كثيرة , ( كما قالت الأستاذة ضياء ) , ذلك أن الآليات التي تدور فيها الأحداث هي نفسها , أما نحن المتحركون ضمن هذه الآليات فما زلنا عاجزين عن ( كسر الطوق ) , وتغيير المعادلات التي استمرت نفسها , والتي أنتجت كل هذه الغربة بين الإنسان العادي والفعل المؤثر , وبين الثورة والتغيير الحقيقي , , , لقد فكرتُ طويلا خلال الأيام الماضية فيما قالته الأستاذة ضياء من أوجه الشبه , وكلما أردتُ أن أكتب عن أوجه الإختلاف تضيع مني الفكرة ,, لكني الآن أعرف وجه اختلاف واحد , وهو أننا في عصرنا هذا لا نعلم على وجه اليقين حقيقة الحوادث التي تدور حولنا , فلا نستطيع الكتابة عنها , فمن نظنه زعيما وطنيا , نخاف أن يكون خائنا كبيرا , ومن نظنه عميلا وفاسدا قد يكون ثائرا مخلصا , لقد ألقوا أغطيتهم على عيوننا , حتى لم نعد نميز أحيانا بين أيدينا وأيديهم !!  
*محمد هشام
16 - سبتمبر - 2007
ما نعرف وما لا نعرف    كن أول من يقيّم
 
صحيح أستاذ هشام ، نحن لا نعرف الكثير عن عصرنا رغم أن كل الشبابيك تبدو اليوم مشرعة وتبدو المعرفة وكأنها بمتناول الجميع . هذا غير صحيح ، نحن لا نعرف إلا ما نلقن من المعلومات عبر وسائل الإعلام ، ولا يصلنا من الكتب والدراسات إلا ما تسمح بنشره المؤسسات الناشرة ، ولا نتعلم في المدارس والجامعات إلا ما يلزم الحكومات القائمة عليها من إعداد للكوادر اللازمة للعمل في إداراتها ومؤسساتها ومصانعها ومختبراتها إن وجدت ، ولا نعلم عن أنفسنا إلا ما تسمح به تجاربنا الشخصية المختلفة والتي غالباً ما نعيد حياكتها وترجمتها بما يخدم الدائرة الحميمة من القناعات والإعتقادات التي هي ثمرة ميولنا وعواطفنا ، ولو شئت قل ضعفنا ، التي اختزناها جيلاً بعد جيل وشكلنا منها تلك الدائرة من الأوهام الحميمة التي نشعر معها بالأمان . تقع الأزمة عندما يبدأ الإحساس بعدم الأمان يتسلل إلى نفوسنا ، ويبدأ معه الشعور بأن هذه القناعات لم تعد تشكل الدرع الواقي لحمايتنا من الخطر ، عندها ، وعندها فقط يبدأ التساؤل وإعادة النظر بكل ما نعرفه ، وكل ما ورثناه ، وكل ما تخيلنا بأنه واقع وحقيقة ، وتبدأ رحلة عبور أخرى وهي رحلة محفوفة دائماً بالعذاب والمخاطر ، رحلة البحث عن أوهام جديدة ، نبدل فيها الأبطال بالأبطال والقرابين بالقرابين ........ من هنا ، ومن هذا الموقع نسأل شاتوبريان وغيره وغيره وغيره ، لكي يكشف لنا عن تجربته ويساعدنا في رحلة عبورنا
 
مع هذا ، يوجد لحظات من السعادة في رحلة الألم تلك تشدك إليها بوثاق من حرير ، مساحات من الجمال مركونة هنا وهناك في الطبيعة ، في الأدب ، في الشعر ، في الموسيقى ، في المدن والأسواق والمتاجر والساحات ، في تفاصيل الحياة الصغيرة ، في الإنسان الذي يسعى دائماً لتجميل العالم من حوله وفي نفس الوقت الذي يسعى فيه لتدميره .
 
ولقد اخترت من كتابات شاتوبريان فقرة هي أنشودته في وداع الشباب سوف أترجمها لكم لأنني أرى فيها الكثير من الجمال ، وأهديها لمولانا لحسن بنلفقيه عرفاناً مني بجميله .
 
*ضياء
16 - سبتمبر - 2007
أنشودة شاتوبريان في وداع الشباب ( 6 )    كن أول من يقيّم
 
 
الشباب
 
 ساحر هو الشباب ، ينطلق في بداية الحياة متوجاً بأكاليل الورود ، كما أنطلقت أساطيل أثينا المبحرة لغزو " صقلية " والضياع الوادعة المحيطة بجبل " إينا " . حين ترفع الصلوات عالياً ، يتلوها كاهن معبد " نبتون " ، وتهرق النذور من الكؤووس المذهبة . الجموع المكتظة على حافة الماء تتضرع إلى السماء ليتوحد دعاؤها بدعوات قبطان الرحلة ، وتصدح أنشودة الابتهالات المقدسة في الوقت الذي تفرد فيه الأشرعة على ضوء إشراقة الصباح الأولى وفي عبق أنفاسه . على ناصية السفينة ، فخوراً بالعربات السبع التي كان قد أطلقها في الألمبياد ، يختال " ألسيبياد " متلفحاً بثوب أرجواني ، بهي الطلعة كأنه الحب . لكن ، وبالكاد كان قد تخطى جزيرة " ألسينوس " حتى تبددت أوهامه : " ألسيبياد " المبارك سوف يشيخ بعيداً عن وطنه ، مخترقاً بالسهام ، على صدر " تيماندرا " . أصدقاؤه وطموح شبابه ، عبيد لدى " سيراكوس " ، وكل ما يملكونه هو بضع أبيات من " الملحمة " تخفف عنهم ثقل أغلالهم .
 
لقد شاهدتم صباي وهو مبحر . لم يكن لديه جمال " يتيم بيريكلس " ( ألسيبياد ) الذي ربته " أسبازي " في حضنها ، إنما كانت له ساعات إشراقه : طموحات وأحلام ، الله وحده عالم بها ! ولقد وصفتها لكم هذي الأحلام . اليوم ، وبعد عودتي من مناف عديدة إلى أرض اليابسة ، لم يعد لدي ما أرويه سوى حقائق حزينة تشبه العمر الذي بلغته . ولولا عزفت قيثارتي أحياناً بعض دندنات ، فإنها آخر نغمات الشاعر ، الذي يحاول أن يبرأ من سهام الزمن ، وأن ينسى عبودية السنين .
 
 
 
*ضياء
16 - سبتمبر - 2007
شاتوبريان الغريب عن عالمه ( 7 )    كن أول من يقيّم
 
 
 " عندما سيسدل الموت وشاحه ليفصل بيني وبين العالم سنجد بأن مأساة حياتي كانت تنقسم إلى ثلاثة أقسام : منذ الطفولة الأولى وحت العام 1800 كنت جندياً ورحالة ، ثم بين ال1800 وال1814 كنت مستشاراً وقنصلاً في عهد الأمبراطورية وكانت حياتي أدبية ، ثم منذ عودة الملكية وحتى اليوم كانت حياتي سياسية ....... "
 
" في تلك المهن المتعاقبة كنت أضع لنفسي هدفاً عظيماً : كرحالة كنت أطمح لاكتشاف العالم القطبي ، كأديب حاولت إعادة الاعتبار إلى الدين على أطلال الحاضر وبعد الخراب الذي حصل . كرجل دولة ، حاولت جهدي أن أعيد للشعب النظام الملكي الحقيقي الممثل له بكل تنوعات حرياته : حاولت الحفاظ على الحريات التي تستحق كحرية الصحافة وأنا أضع بعين الاعتبار كل التركيبة . إذا كنت قد فشلت غالباً في هذه المهام ، وإذا كان القدر قد انحرف بي عن إتمامها ، فلأن " الغرباء " الذين توالوا بخططهم ونجحوا قد أسعفتهم ثرواتهم ، أو كان وراءهم أصدقاء أقوياء ، وجزء من حياتهم كان مستقراً : أنا لم أحصل على كل هذه السعادة ........... "
 
 " هذه المذكرات المقسمة إلى كتب ومواضيع تمت كتابتها في مواضع وتواريخ مختلفة : هذا التقسيم يستدعي وبشكل طبيعي نوع من الديباجة تذكرنا بالحوادث التي حصلت منذ التواريخ الأخيرة والتي ترسم الأماكن التي تتيح لي إعادة الإمساك بالخيط الموجه لسردي . الأحداث المتنوعة والأشكال المتغيرة لحياتي تتداخل بعضها ببعض : يحدث مثلاً في لحظة معينة من أيام ثروتي أن أتكلم عن فترة البؤس والفاقة ، وأن أتكلم في فترة الاضطراب عن أيامي السعيدة . هذه العواطف المتغيرة لفترات عمري المختلفة ، شبابي الذي يقتحم كهولتي ، خطورة سنوات التجربة القاسية التي أثقلت عندي سنوات الفرح ، شعاع شمس حياتي منذ فجرها وحتى ساعة الغروب تتقاطع وتلتبس كما الظلال الهاربة لحياتي لتعطي نوعاً من الوحدة التي من الصعب تحديد هويتها لهذا العمل : مهدي فيه شيء من لحدي ، لحدي فيه شيء من مهدي ، عذاباتي تتحول إلى متعة ، متعتي إلى ألم ، ولا نعلم إذا كانت هذه مذكرات رأس شابة أم مكسوة بالشيب ......... " ( من المقدمة الوصية ) .
 
كيف نكتب إذاً ب " الأنا " توجهاً تاريخياً ، وتوجهاً حميماً ?
 
قبل أن يجيب شاتوبريان على هذا السؤال ، يبدأ بتشريح هويته الاجتماعية ، وبتحديد موقفه من التاريخ ، بحيث يضع نفسه سلفاً في منفى " موضوعي " ( هو الغريب عن عالمه ) وكأن هذا الغياب الطوعي عن العالم هو موقف نقدي أصيل يؤسس توطئة لكتابة أصيلة عن الذات .
 
ضمن هذا السياق ، يطرح شاتوبريان مشكلة الهوية ليتساءل بشيء من النبوة : " من أنا ? وما الذي جئت لأعلنه للبشر ?? " . ثم يحيد بالجواب قليلاً عن هذا السؤال ، ويتوجه إلى مواطنيه على أنه واحد منهم ولكن بما يشبه البوح قائلاً : " أنتم لاعبون ، وتعملون بألم ، أيها الفرنسيون التعساء . يا من رأيتم ثرواتكم وأصدقاءكم تبتلعهم الثورة . أخيراً ، ها أنتم الغرباء ! " . فيكون شاتوبريان قد اختار الغربة ، أو المنفى الطوعي ، كبداية لتأسيس معرفة جديدة بالعالم ، أوكأن هذه الغربة هي طريق الولوج الوحيدة إلى الذات .
 
وسأستعيد مجدداً جملته في وصف هذا العالم الداخلي فهو يقول : " يحمل كل إنسان في نفسه عالماً مركباً من كل ما أحبه وشاهده ، يعود إليه دائماً ، في الوقت الذي يجتاز فيه ويبدو بأنه يسكن في عالم غريب عنه " . ف " الأنا " الحميمة ، هي عالم قائم بذاته ، وهي الصدى الصامت لطفولة بعيدة الغور تطفو على سطح الذاكرة الواعية ، تستدعيها اللحظة الراهنة ....... ومن هذا التشتت ، ونتيجة لهذا التقاطع ، تتكشف حقيقة أخرى وهي : بأن " الأنا " الحميمة ، عالم مستقل بذاته ، ولا يمكن لأي عالم خارج عنه قهره ، أو اقتحام حصونه ، وهو مؤلف من ذكريات لها لحمتها الداخلية الخاصة بها ، وهي مجموعة من مشاهد وصور ، وتاريخ ورواية . وهكذا يكون الهم بالكشف عن الداخل شديد الالتصاق بحاجته للتأكد من صدق الموقع الذي اختاره لدعوته : الوعي بهذه المسألة هو موقف فلسفي ميز وطبع بطابعه العصر الذي ينتمي إليه شاتوبريان والذي يتضمن إعادة النظر بمفهوم الإنسان . فالإنسان لا يمتلك فقط تاريخه الخاص ، بل هو التاريخ بعينه . وبدلاً من النظرية الدينية التي تقول بأن الإنسان يمثل بذاته جوهراً متعالياً ( هو الروح ) ، فإن التقاليد الفلسفية لعصر شاتوبريان كانت قد تقبلت فكرة أن الإنسان هو محصلة لتاريخه وذلك من خلال تكيفه المستمر . ومن هنا يظهر جلياً التمزق الذي كان يعيشه شاتوبريان بين تاريخه وواقعه لأن في محاولته لتفسير الذات التي أصبحت موضوعاً للمعرفة قطيعة تاريخية مع إرثه الديني والثقافي يبدو فيه تأثره الكامل بموقف جيله ومنه روسو على وجه الخصوص .
 
تظهر هذه المذكرات وضعية شاتوبريان المتأرجحة بين عالم زائل يتعلق به وبتاريخه الشخصي ، وبين فهمه وإعجابه وتأثره بالأفكار الجديدة ، يضاف إلى هذا موقفه الرافض في الانضواء تحتها ، فظل وفياً للأصل الذي خرج منه ، ربما بسبب حرصه على الرمز الجمالي ورغبته في صياغة موقف متماسك ، لكنه ترك وراءه صفحات خالدة من الكتابة كان فيها أديباً مبدعاً ومؤرخاً رفيع المستوى .
 
*ضياء
17 - سبتمبر - 2007
 58  59  60  61  62