البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : أحاديث الوطن والزمن المتحول    قيّم
التقييم :
( من قبل 39 أعضاء )

رأي الوراق :

 ضياء  
11 - يونيو - 2006
كان الأستاذ السعدي قد طرح ذات مرة تساؤلاً حول علاقة التاريخ بالسيرة الذاتية . حيرني بوقتها ذلك السؤال لأن المسألة تبدت لي بديهية ، ولما فكرت فيها ، استنتجت بأن التنظير لها صعب للغاية . فالسيرة الذاتية هي تاريخ شخصي تتقاطع أحداثة مع مجريات الحدث العام ، بالصدفة يحدث هذا التلاقي في الزمان والمكان ، هكذا يبدو ......  إنما مقاصد السؤال الذي طرحه كانت ربما : كيف تحكي السيرة الذاتية التاريخ العام ?

عندي مثال ساطع على هذا تعلمت منه أكثر مما تعلمت من كتب التاريخ . فجدتي ، رحمها الله ، كانت تقص على مسامعنا سيرة عمرها الطويل وتعيد تردادها بدون كلل أو ملل . منها تعلمت تاريخ طرابلس ، تقصه مشفوعاً بأخبار الذين كانوا من حولها ممن مات ، أو عاش ، أو ولد ،  قبل " الطوفة " مثلاً( طوفان نهر أبو علي ) أوبعدها ، ومن كسر يده في الزحام ، أيام ثورة القاووقجي ، أو عندما جاء ابراهيم هنانو إلى طرابلس ، وأين اختبأوا أيام " ثورة شمعون " . وتحكي أيام الأنكليز وكيف انتشروا بوقتها على شاطىء البحر ، وكيف جاء الفرنسيون بعسكر السنغال ، وعن أيام السفر برلك ورحلتهم مع الجوع والعذاب والجراد والمرض آنذاك ، وعن جيرانها اليهود وعاداتهم ، وكيف كانت طرابلس في ذلك الحين : الأحياء ، البيوت ، الطرقات ، النهر ، السوق ، القلعة ........ تاريخاً موثقاً بالأسماء والأرقام والوقائع من ذاكرة نبيهة صاحية ، ظلت طوال حياتها تنظم وتؤطر وتسلسل تلك المعلومات وتعيدها على مسامعنا على شكل حكايا ، تاريخاً متماسكاً كانت وحدها تعرف سره ، وتعرف كيف تمسك به بقبضتها الواثقة . كيف لا وهي من كان يعرف كيف يحصي ويحفظ كل شيء : الأرقام ، التواريخ ، الأعمار ، و عدد درجات السلالم التي تطلع عليها ، أو عدد حبات الزيتون التي تأكلها في كل وجبة ، ومواقيت الفصول والأعياد والزراعة في الحساب الشرقي وبحسب هلة القمر ، وحتى لو قامت بحشو الكوسى فإنها ستضع فيه " الحبة فوق الحبة ، والرزة فوق الرزة " تحسبها بالمثقال .

 ولطالما تساءلت عن سبب إصرارها على إعادة تلك القصص التي كنا نتذمر منها ونتأفف لها أحياناً . وفهمت بأن الزمن قد تحول وتبدل كثيراً من حولها ، وأنها تحاول ان تمسك بماضيها ، ان تستعيده على طريقتها . وبالرغم من أنها كانت تروي حياتها كأمتداد لحياة من سبقها أو تلاها من الأجيال ، بدون إسراف أو بطولة ، أو حتى خيال ، سرد مجرد سرد واقعي يسجل الوقائع ويثبتها في الذاكرة ، إلا ان تلك الذاكرة كانت تغربل وتنقح وتختار لحظتها وموضوعها ، وهي بالتالي إنتقائية . فالذاكرة هي إعادة إنتاج للواقع بحسب فهمنا للذات وللآخر .

هكذا خطرت لي فكرة هذا الموضوع ، إعادة إنتاج التاريخ من خلال السيرة الذاتية . وهذا ما سأحاول الكتابة فيه ، لكن ليس لوحدي : أدعو الجميع للمشاركة في هذا الملف من منطلق إعادة كتابة تواريخنا الشخصية : عبرها ، ستتبدى لنا أشياء كثيرة كانت مطوية في غياهب النسيان ، وستفتح لنا ربما شبابيك على الحاضر لو استطعنا أن نمسك بتلابيب الماضي ونستقرأ أبعاده .

اعتبروا هذا الملف كأنه صندوق تبرعات ، وليتبرع لنا كل واحد بحكاية من طفولته أو تاريخه الحاضر ، أو حتى تاريخ عائلته . كل المطلوب هو أن تكون هذه القصة واقعية ومختصرة ، وأن يجهد قليلاً في جعلها ممتعة لدى قراءتها .

أتمنى لنا حظاً سعيداً .

 

 57  58  59  60  61 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
" كابــوس " تحت المـجهر"    كن أول من يقيّم
 
*abdelhafid
27 - أغسطس - 2007
عبوديتي وحريتي    كن أول من يقيّم
 
في العام 1833 قام السيد توماس أولد (مالك مزرعة من العبيد في الشاطئ الشرقي لماريلاند باستدعاء عبده فريدريك دوغلاس الذي كان وقتذاك في الخامسة عشرة من عمره، وكان يخدم منذ سبع سنوات شقيق أولد في بالتيمور وطلب منه العمل في أرض المزرعة. لكن الحياة في المدينة كانت قد غيرت دوغلاس بشتى الطرق، وساءه عدم قدرته على إخفاء ذلك عن أولد، فقد نجح سرا في بالتيمور بتعلم القراءة والكتابة، وهو أمر لم يكن مسموحا به للعبيد، لأنه من شأنه أن يثير في عقولهم افكارا خطيرة.
في المزرعة حاول دوغلاس أن يعلم القراءة لأكبر عدد ممكن من العبيد، لكن جهوده هذه سحقت بسرعة.
غير أن الأسوأ هو أنه أصبح لديه موقف عصياني، أو ما كان يسميه مالك العبيد بالصفاقة، فكان يرد على أولد ويناقش بعض أوامره ويمارس كل أنواع الحيل للحصول على مزيد من الطعام (كان أولد شهيرا بتجويع عبيده)
ذات يوم أخبر أولد دوغلاس بأنه سيؤجره للعمل مدة سنة لدى السيد إدوارد كوفي الذي يستأجر مزرعة قريبة منه، وكان شهيرا بأنه أستاذ في كسر شوكة العبيد الشبان، وكان مالكو العبيد يرسلون إليه أصعب الحالات لديهم ومقابل عملهم لديه مجانا كان يحطم كل ذرة تمرد داخلهم.
أدخل كوفي دوغلاس في دورة من العمل الشاق، وبعد بضعة أشهر أصبح الأخير مدمرا جسديا وروحيا.
لم يعد يرغب بقراءة الكتب أو خوض نقاشات مع زملائه العبيد. وفي يوم عطلته كان يزحف ويجلس في ظل شجرة وينام من شدة اليأس والإنهاك.
ذات يوم حار من اغسطس (1834) مرض دوغلاس بشدة وأغمي عليه، فراح كوفي يضربه بالسوط ويأمره بالعودة إلى العمل. لكنه كان هزيلا جدا ولم يستطع الاستجابة للأوامر.
ضربه كوفي على رأسه محدثا فيه جرحا عميقا، وركله بضع مرات، لكن دوغلاس لم يكن قادرا على الحراك.
 أخيرا تركه كوفي وقرر التعامل معه لاحقا
.
نجح دوغلاس في الوقوف على رجليه، وزحف نحو الغابات، وتمكن بطريقة ما من العودة إلى مزرعة أولد.
وهناك راح يتوسل السيد أولد أن يبقيه هناك شارحا له وحشية كوفي.
لم يتاثر أولد وقال له: إنه يستطيع مبيت ليلته هناك لكن في الصباح عليه العودة إلى مزرعة كوفي.
في طريق عودته إلى المزرعة كان دوغلاس يخشى حدوث الأسوأ.
 قال لنفسه: إنه من الأفضل له إطاعة كوفي والنجاة بحياته خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
حين وصل إلى الاصطبلات حيث كان يفترض به العمل في ذلك اليوم بدأ بالقيام بواجباته، حين خرج له كوفي فجأة وبيده حبل، وانقض عليه محاولا توثيق رجله، وبدا واضحا أن هذه ستكون عملية الجلد الأقسى التي سيتعرض لها.
قام دوغلاس مخاطرا بالتعرض للمزيد من الضرب بدفع كوفي عنه، ومن دون أن يضربه لم يمكنه من توثيق رجله.
في تلك اللحظة لمعت فكرة في رأس دوغلاس. كل فكرة تمرد كان يكتبها عبر الأشهر الفائتة من الكدح عادت إليه. لم يعد خائفا. يستطيع كوفي قتله، لكن من الأفضل ان يموت وهو يدافع عن نفسه.
فجأة جاء ابن عم كوفي. وإذ وجد دوغلاس نفسه محاصرا قام بما لا يخطر على بال.
ضرب الرجل بعنف وأوقعه أرضا، علما أن ضرب رجل أبيض سيؤدي به على الأرجح إلى الموت شنقا.
استولى جنون قتالي على دوغلاس وراح يرد ضربات كوفي في صراع استمر ساعتين، اضطر بعدها السيد المدمى ومنقطع النفس إلى التوقف عن القتال وعاد إلى بيته.
لم يكن في وسع دوغلاس سوى افتراض أن كوفي سيعود بعد قليل حاملا سلاحا أو أي وسيلة أخرى يقتله بها.
لم يحدث هذا إطلاقا. وشيئا فشيئا فهم دوغلاس المعادلة: (أن يقوم كوفي بقتله أو معاقبته بطريقة قوية تنطوي على خطر كبير. فستشيع الأخبار عندها أن كوفي فشل في كسر شوكة عبد. ومجرد الإشارة إلى ذلك كانت ستدمر سمعته وتقضي على أعماله).
اكتشف دوغلاس أن مالكي العبيد يفضلون جلد أولئك الذين يسهل جلدهم.
متذكرا تلك اللحظة بعد سنوات في كتابه (عبوديتي وحريتي) كتب دوغلاس: (كانت تلك المعركة مع السيد كوفي نقطة تحول في حياتي كعبد .. أصبحت كائنا آخر بعد ذلك القتال.. وصلت إلى مرحلة لم اعد أخشى فيها الموت. وهذه الروحية التي جعلتني حرا في الواقع بينما كنت شكليا ما أزال عبدا)
(روبرت غرين: الحرب ثلاث وثلاثون استراتيجية، ترجمة سامر أبو هواش : ص 397 ـ 400)

*زهير
30 - أغسطس - 2007
الكتابة والذاكرة    كن أول من يقيّم
 
 
كل التحية والسلام لكم مجدداً ورجائي أن تكونوا بأحسن حال .
 
عدنا من ديارنا إلى ديارنا ونحن لا ندري أي الدارين أهنأ وأهدأ بالاً . هي دوامة بدون شك يا أستاذ عبد الحفيظ ونحن منذ وقفنا على الأطلال في غابر الزمن لا نزال نبحث عن وطن .
 
أستهل هذا التعليق متوجهة بالتحية والشكر لأستاذي زهير ظاظا على الشهادة القيمة التي أدلى بها لهذا الملف وأعني بها تعليقه الأخير بعنوان : " عبوديتي وحريتي " والتي نلمح فيها معاناة إنسان يحاول رفع الظلم عن نفسه ، حتى يجد في داخله القوة اللازمة لهذا : " وهذه الروحية التي جعلتني حرا في الواقع بينما كنت شكليا ما أزال عبدا " وبحيث : " اكتشف دوغلاس أن مالكي العبيد يفضلون جلد أولئك الذين يسهل جلدهم " . التي تلخص كيف جعلته معاناته يكتشف ما هو بحاجة إليه من معارف عن عالمه الذاتي الذي كان يجهله ، وعن العالم الآخر الخارج عن ذاته والذي يشعر حياله بغربة تامة وعداء تام . إلا أن التواصل بين هذين العالمين هو ما مكنه من رفع الظلم عن نفسه وذلك بتشريح هويته الاجتماعية وبتحديد موقفه منها .
 
فكل منا يحمل في داخله عالماً مركباً يشبه البيت الذي لا نراه ، يسكن فيه ، ويلجأ إليه ، في الوقت الذي يجتاز فيه ، ويبدو بأنه يسكن ، عالماً غريباً عنه . وهذا العالم مؤلف من كل ما أحبه وشاهده : هي " الأنا " الحميمة التي لا يمكن لأي عالم خارجي عنها قهرها ، وهي تتألف من ذكريات لها لحمتها الداخلية الخاصة بها والتي هي ، في الغالب ، مجموعة من المشاهد والصور التي سجلتها الذاكرة المرئية ، ومجموعة من " التواريخ " أو القصص ، انتقتها الذاكرة الحافظة بعناية وأعادت توليفها وتوضيبها بما يشبه عملية المونتاج السينمائي .
 
فكيف نكتب  "بالأنا " ، توجهاً تاريخياً ، وتوجهاً حميماً ??? هو السؤال الذي طرحه شاتوبريان على نفسه ، وسأحاول أن أفند وجهة نظره في المقالات الللاحقة .
 
*ضياء
31 - أغسطس - 2007
عودة الأستاذة    كن أول من يقيّم
 
أرحب باسم أسرة الوراق وإدارته بعودة الأستاذة ضياء خانم إلى إدارة هذه المجالس، بعد قضائها العطلة الصيفية في بلدها لبنان الجريح،  وكانت قد شاركت في هذه المجالس غير مرة أثناء هذه الزيارة، ووعدتنا بمشروعها الجديد عن شاتوبريان وذكريات ما وراء اللحد فور عودتها إلى باريس، فماذا في جعبتك يا أستاذتنا وما الذي حملته إلينا من لبنان الحبيب... ولست أنا وحدي بل كل سراة الوراق يتشوفون إلى جديد الأستاذة، وأما دوامة الأستاذ عبد الحفيظ فهي كما فهمتها ترحيب على طريقة الفن التجريدي بعودة الأستاذة. وأشكر الأستاذة شكرا خاصا على تعليقها الرفيع حول حياة دوغلاس وكتابه (عبوديتي وحريتي) وشكرا لكل الأساتذة الأكارم المشاركين في هذا الملف وغيره من زوايا ومجالس الوراق.
*زهير
31 - أغسطس - 2007
هذا معدنك يا أستاذي    كن أول من يقيّم
 
أستاذي الحميم ( زهير ظاظا ) :
       
لو  كنت أعرف فوق الشكر iiمنزلة أوفى  من الشكر عند الله في الثمن
أخـلـصـتها لك من قلبي iiمهذبة حذواً على مثل ما أوليت من حسن
   إنّ الكلام الذي يخرج من القلب ، فإنه لا يرضى سكناً له إلا القلب ، فأعْزِزْ علي ّ أبا الفداء أن أراك صادقاً في أحاسيسك التي تنبض بالذوق الرفيع دائماً ، ومع ( الست الأديبة ضياء خانم )  خاصةً . نعم ، لقد سعدت َ أنت بحلاوة قربها  بعد مرارة بعدها ، متشوّفاً قراءة دررها  المبثوثة في موضوعاتها . حقاً إن الحمد لله على سلامة أختنا الرصينة ، واحترامي لك يا أستاذي زهير ، داعياً لكم يا سيدي بالعون ولإمداد والصحة والإسعاد ، والسلام عليكم في الأولى والآخرة .    
*د يحيى
1 - سبتمبر - 2007
كشكول يحيى 5    كن أول من يقيّم
 
وعـلـيك  أجل سلام والـرحـمة iiوالإكرام
وضـيـاء iiمـجالسنا فـي عودة ست iiالشام
يـا مـال الـشام iiأخا طـوقـت أجل iiوسام
كـالـشوق إلى iiحلب وهـواك مـدى iiالأيام
الـعـلامـة  يـحيى في الحب وفي الإسلام
والله يـمـن عـلـى كـشـكـولك iiبالإتمام
*زهير
1 - سبتمبر - 2007
تحية للأستاذ يحي    كن أول من يقيّم
 
تحيتي وشكري للأستاذ يحي الذي يخرج من كناشته للمرة الأولى : أود قبل كل شيء أن أقول بأنني أحرص على متابعة ما تقدمه في كناشتك من طرائف وفوائد وأن أشكرك على مجهودك الثمين في تقديم هذه المادة العلمية الصعبة بطريقة جميلة وجذابة ، وخصوصاً على مثابرتك الدؤوبة وحرصك على وصل هذا الحبل الشيق ورفده في كل يوم بمعارف جديدة رغم دقة المادة وصعوبتها . وأما دماثة الأستاذ زهير وكياسته وصدق مشاعره التي تظلل سماء هذا المكان ، فهي خبزنا اليومي ، نقتات منه تماماً كما يقتات العصفور بنقد الحب من اليد الكريمة المبسوطة أمامه بنبل وسخاء . وأما شاتوبريان ، فسأجد له وقتاً قريباً جداً إن شاء الله . 
*ضياء
2 - سبتمبر - 2007
( 1 ) كما الغيمة ، كإبحار السفينة ، أو كما الظل العابر    كن أول من يقيّم
 
 
باريس ، الأول من كانون الأول 1833:
 
" يأتي الموت مسرعاً " يقول شاتوبريان ( François René De Chateaubriand 1768- 1848 ) في مقدمة مذكراته التي تشبه الوصية . " طلب مني الكثير من الأصدقاء نشر قسم من مذكراتي حالياً ولم أستطع تلبية رغبتهم . سأكون عندها رغماً عني ، وقبل كل شيء أقل صدقاً وأٌقل مصداقية ولأنني كنت دائماً أعتقد بأنني سأكتبها وأنا جالس في قبري  ... " ، " أستطيع اليوم وفي ظل الضوء المنبعث من جادة الشانزليزيه والذي يسقط على آخر مشهد في حياتي وبحيث تبدو أخطاء هذه اللوحة أقل نفوراً أن أقول : بأن الحياة لم تناسبني ، وبأن الموت سيلائمني أكثر ، ربما... " .
 
كان شاتوبريان قد أمضى قرابة الأربعين سنة في كتابة مذكراته ، وكان قد أختار لها عنوان : " مذكرات حياتي " " Mémoires de ma vie " وكان طيلة هذه السنوات يعيد تصحيحها بدون توقف ، غير أنه لم يكن راغباً بنشرها إلا بعد موته بخمسين سنة ، وهذا ما دعاه إلى تسميتها ، فيما بعد ، ب " مذكرات ما وراء اللحد  " Mémoires D'outre _ tombe ". "
 
لكن الحاجة كانت قد ألحت عليه في حياته فاضطر إلى بيعها في العام 1836 مقابل ريع سنوي يعطى له مدى الحياة على أن تنشر بعد موته ، لكنها نشرت في العام 1844 على شكل فقرات أسبوعية في إحدى الصحف رغم اعتراض شاتوبريان الصاخب وشعوره بالمهانة وبأنه قد " رهن قبره " وذلك قبل أن يغيبه الموت في العام 1848 .
 
وكان شاتوبريان قد أرخ من خلال مذكراته للحياة السياسية لعصره ، أي عصر الثورة الفرنسية ومن ثم امبراطورية نابليون بونابرت وعودة الملكية ، وهي فترة تاريخية بالغة الصعوبة ، تقلبت فيه الظروف خلالها مرات عديدة فعرف الهجرة والنفي ، وأطاحت الثورة برأس أخيه وعائلته كما أودعت أمه وأختيه السجن ، وشغل في حياته أيضاً مناصب سياسية ودبلوماسية عديدة ومهمة ، لكنه ظل متعلقاً بالشرعية المسيحية والنظام الملكي القديم الذي أطاحت به الثورة الفرنسية . والواقع أن شاتوبريان عاش ممزقاً بين عصرين : عصر الملكية الذي مضى وانقضى ودون أن يموت نهائياً وهو العصر الذي ينتمي إليه بصفته أرستقراطياً ومن طبقة النبلاء ، وعصر الثورة وإرهاصاتها العنيفة وملامحها التي لم تتبلور بعد وهي فترة تعج بالفوضى والعذاب لكنها تحمل أفكاراً جذابة ، ومن هنا كان تمزقه وانقسامه على نفسه وكأنه شخصان يدين كل واحد منهما الآخر مما أعطى لمذكراته هذه النكهة المريرة المفعمة بالعذاب والحنين إلى ماض لن يعود أبداً .
 
*ضياء
4 - سبتمبر - 2007
(2) سفينة نوح او طقوس العبور    كن أول من يقيّم
 
 
" إذا كان قدري هو أن أحيا ، فلقد كنت أجسد في شخصي الممثل في مذكراتي ، المبادىء والأفكار والأحداث والكوارث وملحمة عصري . بالإضافة لكل هذه ، شاهدت نهاية عالم ، وبداية عالم ، وكانت الصفات المتناقضة لهذه البداية وهذه النهاية متشابكة جميعها في قناعاتي ... التقيت بنفسي بين عصرين كما لوكنت عند ملتقى نهرين ، فغرقت في مياههما المضطربة وأنا أسبح بقلب ملؤه الندم ، مبتعداً عن الشطآن التي شهدت ولادتي ، متوجهاً بكل أمل نحو شطآن مجهولة سوف ترسو عليها الأجيال القادمة ... " . ( من المقدمة الوصية )
 
" مذكرات ما وراء اللحد " هي سيرة حياة شاتوبريان والتي تبدأ بمرحلة الطفولة ، لكنها تبدو متجهة منذ بدايتها نحو الكهولة يربط بينها خيط زمني يمتد بها من المهد إلى اللحد وكأن الموت هو وجهتها الوحيدة . وهذا المصير الشخصي لشاتوبريان الذي لا يمكن فصله في المذكرات عن مصير فرنسا والعالم المنخرط آنذاك في رحلة عبور خطرة وذلك منذ العام 1789 تاريخ اندلاع الثورة الفرنسية . كنا قد تركنا شطآن العالم القديم حيث كانت تسود قناعات إيمانية رزينة وثابتة يسير فيها الزمن ببطء وحذر نحو شطآن مجهولة لعهد الثورة . فكيف نعبر بلغة أدبية عن هذه التحولات وهذه القطيعة التاريخية ?
 
كان على شاتوبريان أن يتقمص هذه التحولات في حياته الشخصية وأن يعطيها طابع الرمز . ضمن هذا التوجه ، كان عليه أن يكتشف في قلب تجربته الخاصة بنية قادرة على الإبحار به إلى عمق هذه التجربة ، بنية صالحة للجميع تمكنه من " العبور " في هذه " الرحلة " التي كان يعيشها كأنها كارثة طوفان نوح وكأن العالم يعاد خلقه من جديد .... وكما فعل نوح ، فإن شاتوبريان سيحاول بأن يحمل معه إلى العالم الجديد ما أمكن إنقاذه من العالم البائد نحو مستقبل من التآخي بين الإثنين . وكما نبي التوراة ، موسى عليه السلام ، يبدأ رحلة عبوره نحو الأرض الموعودة التي لن يراها أبداً لكن يلمحها ، ويحييها من بعيد .
 
كان شاتوبريان يعيش في عالمه الخاص الذي تقمصه في داخله فأعطى لحياته طابع الأسطورة . فهو كان قد غادر سان - مالو ( الغرب الفرنسي على شاطىء الأطلسي ) مهد طفولته المستقرة في عهد الملكية ، ليؤسس ، كما أبطال الأساطير الأغريقية ، أو كما كريستوف كولومبس ، على نهر السين في باريس ، بعد الثورة ، " المدينة الجديدة " . وكما بطل طروادة ، كاد يحيد عن مهمته بسبب مغامراته العاطفية ، وكان عليه أيضاً مجابهة ما أثاره في نفسه إرهاب الثورة من خوف وانفعالات ....... لكننا نلمح في كل مكان معاناة إنسان يحدث نفسه ، فيشرد فكره من مكان لآخر ، ومن ذكرى لأخرى ، بحيث لا يبدو بنيته تأليف كتاب ، بل كأنه يحاول فقط الإمساك بدفتر مذكرات يومي يدون فيه مغامرات فكره ، ويكون سجلاً لعاطفته وآرائه . غير هذه الفوضى الظاهرة والمهيمنة التي تبرز دواخل الإنسان هي تعبير عن الألم ، وهي لا تخلو من السحر وهي تذكرني بما قاله نيتشه وذكرته في مقالة سابقة : " لولا أنك تحوي جحيم الفوضى والعدم ، لما أتيت بالنجمة التي تتراقص " .
 
 
*ضياء
5 - سبتمبر - 2007
ترجمة فقرة من مذكرات ما وراء اللحد ل( Chateaubriand( 3    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
مرأى باريس في العام 1789 - 1790
 
إن أفضل صورة أستطيع رسمها للمجتمع في العام 1789 - 1790 هي مقارنته بالهندسة المعمارية التي سادت في عصر لويس الثاني عشر وفرنسوا الأول(1)  حيث كان الطابع اليوناني يمتزج بالفن القوطي ، أو مقارنته بموقع أثري تتزاحم فيه بقايا قبور تنتمي إلى كل العصور وتمتزج بفوضى بعد الحوادث الرهيبة التي وقعت في دير الأوغسطين (2) : إنما الفرق هو أن هذه البقايا الرثة التي أتحدث عنها كانت حية وفي حركة مستمرة . في كل زاوية من باريس ، كانت هناك  لقاءات أدبية ، تجمعات سياسية ، وعروض مسرحية . وكان هؤلاء الذين سوف يشتهرون فيما بعد يهيمون وسط حشود الجماهير ودون أن يعرفهم أحد كأنهم الأرواح المتشردة بالقرب من نهر لاتيه (3) قبل أن تنعم بإشراقة الأنوار عليها . رأيت المارشال جوفيون سان - سير يؤدي دوراً على خشبة مسرح " الماريه " في مسرحية " الأمهات الخاطئات " من تأليف بومارشيه . كانوا يتنقلون من نادي " الفويان " ( Feuillants ) إلى نادي " اليعقوبيين " ( Jacobins ) ، من الحفلات الراقصة وملاهي القمار إلى جماعة " القصر الملكي " (4) ومن منصة المجلس النيابي إلى منصة أخرى منصوبة في الهواء الطلق  . في الشوارع ، كانت تغدو جيئة وذهاباً لجان جماهيرية ، وحدات من الخيالة ، دوريات للمشاة . بالقرب من رجل يرتدي الزي الفرنسي ، رأسه مليئة بالغبار ، يحمل على خصره سيفاً ، قبعته تحت إبطه ، وينتعل حذاء لامعاً وجوارب من حرير ، يمشي رجل شعره مقصوص ولا أثر عليه للغبار ، يرتدي البدلة الإنكليزية مع ربطة عنق أميركية . في المسرح ، كان الممثلون يذيعون الأخبار ، الجالسون في صالون القاعة كانوا ينشدون الأناشيد الوطنية . والمسرحيات التي كانت تكتب من وحي المناسبات كانت تجتذب إليها الجمهور : عندما كان يظهر القسيس على خشبة المسرح ، كان الجمهور يهتف به : " منافق ، منافق ! " فيجيب القسيس : " سيداتي ، سادتي ، فلتحيا الأمة .... " .
 
كان الإسكافي يأخذ قياس حذائك على ركبتيه ، مرتدياً زي ضابط من الحرس الوطني . الراهب الذي تراه يجر ثوبه الطويل الأبيض أو الأسود في أيام الجمعة ، ستراه في يوم الأحد مرتدياً الثوب البرجوازي والقبعة المستديرة . القسيس الحليق الرأس ، يقرأ جريدة أخبار الملاهي الليلية . وفي إحدي الحلقات ، وسط نساء قد فقدن عقولهن ، ترى خنثى أو ربما راهبة جالسة وقد بدت على وجهها ملامح الخطورة لأنه قد تم طردها مؤخراً من الدير  . وفي الأديرة التي قد تم فتحها للناس كانت الغوغاء تتزاحم للزيارة كما يفعل السياح الذين شاهدتهم يتجولون في قاعات قصر الحمراء الخالية أو كما يفعل أولئك الذين كانوا يتوقفون أمام أعمدة معبد سيبيلا في تيفولي .
 
عن الباقي ، كان هناك تلك القوة التي كنت أتبارز معها وتغالبني والحب . صداقات سجن أو أخوة سياسة . مواعيد غامضة بين الأنقاض  وتحت سماء صافية وسط هدوء الطبيعة وشاعريتها . نزهات متباعدة ، صامته ووحيدة ، تختلط بتلك الوعود الأبدية ، وذلك الحنان الذي لا يوصف ولا أستطيع تحديده ، على وقع قرقعات صاخبة لعالم كان يهرب ، وعلى الضجيج البعيد لمجتمع يتهاوى ويهدد بسقوطه كل تلك الغبطة المرهونة بمصير الحدث .
 
 
(1) بداية عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر التي أعقبت فترة ما يسمى بالقرون الوسطى .
  تقع حالياً في شارع بونابرت في الدائرة الرابعة من باريس وحصلت فيها مجازر رهيبة في تلك الفترة
les cloitres des petits August (2)     ins
 (3) Léthé هونهر النسيان الذي تهيم بقربه أرواح الموتى بحسب الأساطير اليونانية .
(4)  palais - Royal وهي المنطقة التي كانت مركزاً لتجمعات اللجان السياسية حيث كانت تقال الخطب الثورية الحماسية . والفويان واليعقوبيون هي أحزاب سياسية من إفرازات الثورة .
*ضياء
9 - سبتمبر - 2007
 57  58  59  60  61