مرأى باريس في العام 1789 - 1790
إن أفضل صورة أستطيع رسمها للمجتمع في العام 1789 - 1790 هي مقارنته بالهندسة المعمارية التي سادت في عصر لويس الثاني عشر وفرنسوا الأول(1) حيث كان الطابع اليوناني يمتزج بالفن القوطي ، أو مقارنته بموقع أثري تتزاحم فيه بقايا قبور تنتمي إلى كل العصور وتمتزج بفوضى بعد الحوادث الرهيبة التي وقعت في دير الأوغسطين (2) : إنما الفرق هو أن هذه البقايا الرثة التي أتحدث عنها كانت حية وفي حركة مستمرة . في كل زاوية من باريس ، كانت هناك لقاءات أدبية ، تجمعات سياسية ، وعروض مسرحية . وكان هؤلاء الذين سوف يشتهرون فيما بعد يهيمون وسط حشود الجماهير ودون أن يعرفهم أحد كأنهم الأرواح المتشردة بالقرب من نهر لاتيه (3) قبل أن تنعم بإشراقة الأنوار عليها . رأيت المارشال جوفيون سان - سير يؤدي دوراً على خشبة مسرح " الماريه " في مسرحية " الأمهات الخاطئات " من تأليف بومارشيه . كانوا يتنقلون من نادي " الفويان " ( Feuillants ) إلى نادي " اليعقوبيين " ( Jacobins ) ، من الحفلات الراقصة وملاهي القمار إلى جماعة " القصر الملكي " (4) ومن منصة المجلس النيابي إلى منصة أخرى منصوبة في الهواء الطلق . في الشوارع ، كانت تغدو جيئة وذهاباً لجان جماهيرية ، وحدات من الخيالة ، دوريات للمشاة . بالقرب من رجل يرتدي الزي الفرنسي ، رأسه مليئة بالغبار ، يحمل على خصره سيفاً ، قبعته تحت إبطه ، وينتعل حذاء لامعاً وجوارب من حرير ، يمشي رجل شعره مقصوص ولا أثر عليه للغبار ، يرتدي البدلة الإنكليزية مع ربطة عنق أميركية . في المسرح ، كان الممثلون يذيعون الأخبار ، الجالسون في صالون القاعة كانوا ينشدون الأناشيد الوطنية . والمسرحيات التي كانت تكتب من وحي المناسبات كانت تجتذب إليها الجمهور : عندما كان يظهر القسيس على خشبة المسرح ، كان الجمهور يهتف به : " منافق ، منافق ! " فيجيب القسيس : " سيداتي ، سادتي ، فلتحيا الأمة .... " .
كان الإسكافي يأخذ قياس حذائك على ركبتيه ، مرتدياً زي ضابط من الحرس الوطني . الراهب الذي تراه يجر ثوبه الطويل الأبيض أو الأسود في أيام الجمعة ، ستراه في يوم الأحد مرتدياً الثوب البرجوازي والقبعة المستديرة . القسيس الحليق الرأس ، يقرأ جريدة أخبار الملاهي الليلية . وفي إحدي الحلقات ، وسط نساء قد فقدن عقولهن ، ترى خنثى أو ربما راهبة جالسة وقد بدت على وجهها ملامح الخطورة لأنه قد تم طردها مؤخراً من الدير . وفي الأديرة التي قد تم فتحها للناس كانت الغوغاء تتزاحم للزيارة كما يفعل السياح الذين شاهدتهم يتجولون في قاعات قصر الحمراء الخالية أو كما يفعل أولئك الذين كانوا يتوقفون أمام أعمدة معبد سيبيلا في تيفولي .
عن الباقي ، كان هناك تلك القوة التي كنت أتبارز معها وتغالبني والحب . صداقات سجن أو أخوة سياسة . مواعيد غامضة بين الأنقاض وتحت سماء صافية وسط هدوء الطبيعة وشاعريتها . نزهات متباعدة ، صامته ووحيدة ، تختلط بتلك الوعود الأبدية ، وذلك الحنان الذي لا يوصف ولا أستطيع تحديده ، على وقع قرقعات صاخبة لعالم كان يهرب ، وعلى الضجيج البعيد لمجتمع يتهاوى ويهدد بسقوطه كل تلك الغبطة المرهونة بمصير الحدث .
(1) بداية عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر التي أعقبت فترة ما يسمى بالقرون الوسطى .
تقع حالياً في شارع بونابرت في الدائرة الرابعة من باريس وحصلت فيها مجازر رهيبة في تلك الفترة
les cloitres des petits August (2) ins
(3) Léthé هونهر النسيان الذي تهيم بقربه أرواح الموتى بحسب الأساطير اليونانية .
(4) palais - Royal وهي المنطقة التي كانت مركزاً لتجمعات اللجان السياسية حيث كانت تقال الخطب الثورية الحماسية . والفويان واليعقوبيون هي أحزاب سياسية من إفرازات الثورة . |