 | المختار من الطبائع 2     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
المُستبدُّ والعلم ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن القوي, يتصرف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافا قاصرين, فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم, كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم. لا يخفى على المستبد, مهما كان غبيا, أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء, فلو كان المستبد طيراً لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل, ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل, ولكنه هو الإنسان يصيد عالمَهُ جاهلُه. العلم قبسة من نور الله وقد خلق الله النور كشافا مبصراً, ولاّداً للحرارة والقوة, وحعل العلم مثله وضَّاحاً للخير فضَّاحاً للشر, يولِّد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة, العلم نور والظلم ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام, والمتأمل في حالة كل رئيس ومرؤوس يرى كل سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته. المستبد لا يخشى علوم اللغة, تلك العلوم التي بعضها يقوّم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان, نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكمن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية, وأو سحر بيان يحل عقد الجيوش, لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيراً من أمثال الكميت وحسان أو مونتيسكيو وشيللارا. وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه, لاعتقاده أن لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة, وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيها عمرهم وامتلأتها أدمغتهم, وأخذ منهم الغرور ما أخذ, فصاروا لا يرون علما غير علمهم, فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر. على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم, ويسدُّ أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد, وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضاً لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس, صغار الهمم, يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز, ولا يخاف من الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس, ولا من الرياضيين لأن أغلبهم قصار النظر. ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية, والفلسفة العقلية, وحقوق الأمم, وطبائع الاجتماع, والسياسة المدنية, والتاريخ المفصل, والخطابة الأدبية, ونحو ذلك من العلوم التي تكبّر النفوس وتوسع العقول وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها, وكيف الطلب, وكيف النوال, وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: أن الارض يرثها عبادي الصالحون), وفي قوله: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون), وإن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد, كما حوّلوا معنى مادة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدّين. والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين, لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسَهم محفوظاتٌ كثيرة كأنها مكتبات مقفلة. | *طه أحمد | 1 - أغسطس - 2007 |
 | المختار من الطبائع3 كن أول من يقيّم
الاستبداد والإنسان عاش الإنسان دهرا طويلاً يتلذذ بلحم الإنسان ويتلمظ بدمائه, إلى أن تمكن الحكماء في الصين ثم الهند من إبطال أكل اللحم كلياً سداً للباب, كما هو دأبهم إلى الآن. ثم جاءت الشرائع الدينية الأولى في غربي آسيا بتخصيص ما يؤكل من الإنسان بأسير الحرب ثم بالقربان ينذر للمعبود ويذبح على يد الكهان. ثم أبطل أكل لحم القربان وجعل طعمة للنيران, وهكذا تدرج الإنسان إلى نسيان لذة لحم إخوانه, وما كان لينسى عبادة إهراق الدماء لولا أن إبراهيم, شيخ الأنبياء, استبدل قربان البشر بالحيوان واتبعه موسى عليه السلام وبه جاء الإسلام. وهكذا بطل هذا العدوان بهذا الشكل إلا في أواسط أفريقيا عند (النامنام). الاستبداد المشؤوم لم يرضَ أن يقتل الإنسان الإنسان ذبحاً ليأكل لحمه, أكلاً كما كان يفعل الهمج الأوّلون, بل تفنّن في الظلم, ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم, ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم, أو بغصب ثمرات أتعابهم. وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل. إن بحث الاستبداد والمال بحث قوي العلاقة بالظلم القائم في فطرة الإنسان, ولهذا رأيتُ أن لا بأس في الاستطراد لمقدمات تتعلّق نتائجها بالاستبداد الاجتماعي المحميِّ بقلاع الاستبداد السياسي, فمن ذلك: إن البشر المقدّر مجموعهم بألف وخمسمائة مليون (لعهد الكواكبي) نصفهم كَلٌّ على النصف الآخر, ويشكل أكثرية هذا النصف الكَلِّ نساء المدن. ومَن النساء? النساء هنَّ النوع الذي عرف مقامه في الطبيعة بأنه هو الحافظ لبقاء الجنس, وأنه يكفي للألف منه ملقح واحد, وأن باقي الذكور حظهم أن يساقوا للمخاطر والمشاق أو هم يستحقون ما يستحقه ذكر النحل, وبهذا النظر اقتسمت النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى, وتحكمن بسن قانون عام به جعلن نصيبهن هين الأشغال بدعوى الضعف, وجعلن نوعهن مطلوباً عزيزاً بإيهام العفة, وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن مَحمدتين في الرجال, وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ويظلم أو يظلم فيعان, وعلى هذا القانون يربين البنات والبنين, ويتلاعبن بعقول الرجال كما يشأن حتى أنهن جعلن الذكور يتوهمون أنهن أجمل منهم صورة. والحاصل أنه قد أصاب من سماهن بالنصف المضر, ومن المشاهد أن ضرر النساء بالرجال يترقى مع الحضارة والمدنية على نسبة الترقي المضاعف. فالبدوية تشارك الرجل مناصفة في الأعمال والثمرات فتعيش كما يعيش, والحضرية تسلب الرجل لأجل معيشتها وزينتها اثنين من ثلاث وتعينه في أعمال البيت, والمدنية تسلب ثلاثة من أربعة وتود أن لا تخرج من الفراش, وهكذا تترقى بنات العواصم في أسر الرجال. وما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبا أن تسمى المدنية النسائية لأن الرجال فيها صاروا أنعاما للنساء. ثم إن الرجال تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة أيضا, فإن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة, يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة, ينفقون ذلك في الرفه والإسراف, مثال ذلك أنهم يزينون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحياناً متراوحين بين الملاهي والمواخير, ولا يفكرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام. ثم أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون والمحتكرون وأمثال هذه الطبقة, ويقدرون كذلك بخمسة في المائة, يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع. وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظالمة هي الاستبداد لا غيره. وهناك أصناف من الناس لا يعملون إلا قليلاً, إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة و المشعوذين باسم الأدب أو الدين, وهؤلاء يقدرون بخمسة عشر في المائة أو يزيدون على أولئك. نعم لا يقتضي أن يتساوى العالمُ الذي صرف زهرة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم في ظل الحائط, ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل, ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت, بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته ويقاربه في معيشته ويعينه على الاستقلال في حياته. لا, لا, لا يطلب الفقير معاونة الغني, إنما يرجوه أن لا يظلمه, ولا يلتمس منه الرحمة, إنما يلتمس العدالة, لا يؤمّل منه الإنصاف, إنما يسأله أن لا يميته في ميدان مزاحمة الحياة. بسط المولى, جلّت حكمته, سلطان الإنسان على الأكوان فطغى وبغى ونسي ربه وعبد المال والجمال وجعلهما منيته ومبتغاه, كأنه خُلق خادماً لبطنه وعضوه فقط, لا شأن له غير الغذاء والتحاكّ, وبالنظر إلى أن المال هو الوسيلة الموصلة للجمال كاد ينحصر أكبر همّ للإنسان في جمع المال, ولهذا يُكنى عنه بمعبود الأمم وبسرِّ الوجود, وروى (كريسكوا), المؤرخ الروسي, أن كاترينا شكت كسل رعيتها فأرشدها شيطانها إلى حمل النساء على الخلاعة ففعلت وأحدثت كسوة المراقص, فهب الشبان للعمل وكسب المال لصرفه على ربات الجمال, وفي ظرف خمس سنين تضاعف دخل خزينتها فاتسع لها مجال الإسراف. وهكذا المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال. | *طه أحمد | 15 - أغسطس - 2007 |