الانتماء إلى الأرض (2) كن أول من يقيّم
=- ((لِمَاذَا كُلُّ هَذِهِ الْعُيُونِ مُعَلَّقَةٌ بِي ، وَكَأَنَّهَا تُفَتِّشُ فِيَّ عَنْ شَيْءٍ ضَائِعٍ ?!)) : سُؤَالٌ طَرَحَتْهُ نَفْسِي وَأَجَابَتْ عَنْهُ سَرِيعًا عِنْدَمَا كُنْتُ أَجُوبُ طُرَقَاتِ الْقَرْيَةِ ، إِذْ لَمْ أَكُنْ - فِي وَاقِعِ الأَمْرِ - مُسْتَغْرِبًا لِهَذِهِ الْحَالِ ؛ لأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الطَّارِئِ غَيْرِ الْمَأْلُوفِ أَنْ يَكُونَ مَحَطَّ الْفُضُولِ مِن نَّظَرَاتِ النَّاسِ وَأَحَادِيثِهِمْ ، مَعَ أَنِّي - فِي وَاقِعِ الأَمْرِ أَيْضًا - فَرْعٌ مُمْتَدٌّ مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ، وَلَكِنَّهُ فَرْعٌ قَصِيٌّ ، فَهُوَ لَمْ يَنْشَأْ بِهَا ، وَلا قَضَى الشَّطْرَ الأَكْبَرَ مِنْ عُمُرِهِ فِيهَا ، كَانَ يَشِي بِهَذَا - فِي جَلاءٍ - زِيُّ الْبَنْدَرِ وَهَيْأَةُ الْمَدِينَةِ . وَصَلْتُ إِلَى بَيْتِي ، فَتَحْتُهُ ، كَانَ الأَثَاثُ مُغَطًى بِغُبَارٍ كَثِيفٍ ، فَبَدَأْتُ بِمَسْحِهِ ، وَبَدَأَ لَمَعَانُهُ وَبَرِيقُهُ فِي الظُّهُورِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا ، كَذَلِكَ أَخَذْتُ أَنْفُضُ غُبَارَ الأَيَّامِ الْمُتَلاحِقَةِ عَنِ الذِّكْرَيَاتِ الْبَعِيدَةِ ، فَأَخَذَت تُّطِلُّ بِرَأْسِهَا مِنْ وَرَاءِ سُجُفِ الْمَاضِي ، وَتُثِيرُ كَثِيرًا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْخَوَاطِرِ . فِي غَابِرٍ مِنَ الأَيَّامِ ؛ كَانَتْ جَمِيعُ بُيُوتَاتِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَجَمِيعُ مَا حَوْلَهَا مِنْ أَرَاضٍ زِرَاعِيَّةٍ تَبْلُغُ آلافَ الأَفْدِنَةِ = مِلْكًا لِلْعَائِلَةِ ، الْعَائِلَةِ الشَّرِيفَةِ النَّسَبِ ، الرَّفِيعَةِ الْحَسَبِ ، الطَّائِلَةِ الثَّرْوَةِ ، فِيهَا الْبَاشَوَاتُ وَالْبَكَوَاتُ ، مِنْ ذَوِي الطَّرَابِيشِ الْحُمْرِ ، وَذَوِي الْعَمَائِمِ الْبِيضِ ، أَمَّا هَؤُلاءِ ((الأَنْفَارُ)) فَلا يَمْلِكُونَ شَيْئًا ، هُمْ يَسْكُنُونَ بُيُوتَنَا وَيَزْرَعُونَ أَرْضَنَا ، مُقَابِلَ رَمَقٍ مِنَ الْقُوتِ . نَتَخَيَّلُ أَحْيَانًا أَنَّ لِلنَّسَبِ وَالْحَسَبِ بَرِيقًا سَاطِعًا يَمْنَحُنَا الْوَجَاهَةَ وَالْعَظَمَةَ فِي أَعْيُنِ الرَّائِينَ ، وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ أَنَّ مَانِحَ هَذِهِ الْوَجَاهَةِ وَالْعَظَمَةِ هُوَ الْمَالُ فَقَطْ ، وَقَدَّرَ اللهُ لِهَذَا الْمَالِ أَنْ يَذْهَبَ ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَافِظٌ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَالتَّقْوَى ، فَبَعَدَ الْقِمَارِ ، وَبُورْصَاتِ الْقُطْنِ ، وَالإِصْلاحِ الزِّرَاعِيِّ ؛ حَيْثُ تَمَلَّكَ ((الأَنْفَارُ)) الْبُيُوتَ الَّتِي يَسْكُنُونَ فِيهَا وَتَمَلَّكُوا الأَرْضَ ، = ذَهَبَ الْمَالُ ، وَذَهَبَتْ مَعَهُ الْوَجَاهَةُ وَالْعَظَمَةُ ، وَأَصْبَحَ ذِكْرُ الْحَسَبِ وَالنَّسَبِ مَبْعَثًا لِلتَّنَدُّرِ وَالسُّخْرِيَةِ ظَاهِرَةً أَوْ مَكْتُومَةً ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَنَاصٍ عَنِ الرَّحِيلِ ، حَتَّى تَذُوبَ هَذِهِ الْعَائِلَةُ الْكَبِيرَةُ وَيَذُوبَ مَعَهَا مَاضِيهَا فِي أَعْمَاقِ الْمَدِينَةِ بِضَجِيجِهَا وَحَيَاتِهَا اللاهِثَةِ الَّتِي لا تَقِفُ عِنْدَ هُمُومِ فَرْدٍ . عَائِلَتِي الآنَ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَشْبَهُ مَا تَكُونُ بِالْجَالِيَةِ الصَّغِيرَةِ مِنَ الأَجَانِبِ فِي بَلِدٍ مَّا ، إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبْنَاءِ الْوَطَنِ مِنْ رَابِطَةٍ فَهِيَ خَيْطٌ ضَعِيفٌ وَاهِنٌ ، وَهَذَا الْخَيْطُ فِيمَا بَيْنَ عَائِلَتِي وَهَذِهِ الْقَرْيَةِ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ تَحْصِيلِ إِيجَارِ بَعْضِ الأَفْدِنَةِ لِمَنْ بَقِيَ مُحْتَفِظًا مِنَ الْعَائِلَةِ بِأَرْضِهِ الَّتِي وَرِثَهَا ، وَلَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ تَلاقٍ - تَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ الْمُجَامَلَةُ - فِي بَعْضِ مُنَاسَبَاتِ الْمِيلادِ وَالْمَوْتِ وَمَا بَيْنَهُمَا ، عَلَى أَنَّ الْمُمْسِكِينَ بِطَرَفَيِ الْخَيْطِ هُم مِّمَّنْ عَلَى مَدْرَجَةِ الزَّوَالِ مِنَ الْكُهُولِ وَالطَّاعِنِينَ فِي السِّنِّ ، أَمَّا الشَّبَابُ فَلَمْ تَعُدْ بَيْنَهُمْ وَشِيجَةٌ إِلا أَمْرٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ ، فَنَحْنُ طَارِؤُونَ وَافِدُونَ إِلَيْهَا ، وَمَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِنَا فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ شَأْنِ عَابِرِ السَّبِيلِ : يُلِمُّ كَمَا يُلِمُّ النَّسِيمُ بِالرَّوْضِ وَيَمْضِي . إِنَّهُمْ يُبَادِلُونَنَا الْبَسَمَاتِ بِالْبَسَمَاتِ ، وَيَنْتَحِلُونَ الْوُدَّ الْمَنْخُولَ ، وَلَكِنَّهُمْ يُضْمِرُونَ لَنَا الْكَرَاهِيَةَ ، وَتَعْتَمِلُ فِي صُدُورِهِم مَّشَاعِرُ الْحِقْدِ ، رُبَّمَا يَعْرِفُ كِبَارُ السِّنِّ مِنْهُم مَّنْ كَانَ مِنْ أََجْدَادِنَا عَادِلاً مَّعَهُمْ رَحِيمًا بِهِمْ ، وَمَنْ كَانَ قَاسِيًا ظَالِمًا يَرْكَبُ ظُهُورَهُمْ كَالدَّوَابِّ ، وَيَصْفَعُ الشَّيْخَ أَمَامَ أَبْنَائِهِ - ذَوِي الشَّنَبَاتِ - وَقَدْ جَلَّلَهُمُ الْخُنُوعُ وَالْمَهَانَةُ وَالْكَرَامَةُ الْمَهْدُورَةُ ، وَلَكِنَّ شَبَابَهُمْ لا يَعْرِفُونَ وَلا يُفَرِّقُونَ ، كُلُّنَا عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ ، لأَنَّنَا نُمَثِّلُ - بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ - بَقَايَا مَاضٍ بَشِعٍ لا يَقْبَلُ الازْدِرَادَ . كَمْ كُنْتُ أَوَدُّ تَحْسِينَ هَذِهِ الصُّورَةِ ! ، وَكَمْ كُنْتُ أُحَاوِلُ تَلْطِيفَ هَذَا الْجَوِّ الْمُكَهْرَبِ الْمُتَوَتِّرِ ! ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ ! ، إِنَّهُ إِرْثُ الْمَاضِي الَّذِي لا بُدَّ أَن نَّحْمِلَ تَبِعَاتِهِ ؛ مَهْمَا حَاوَلْنَا الْفِرَارَ مِنْهُ ، لَنْ يَشْفَعَ لِي حُسْنُ النِّيَّةِ وَنَبَالَةُ الْقَصْدِ وَسَلامَةُ الطَّوِيَّةِ ؛ لأَنَّ الطَّرَفَ الآخَرَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، كَيْفَ ذَلِكَ ?! ... لَمْ يَعُدِ الرِّيفُ كَمَا كَانَ مَهْدَ الْفِطْرَةِ ، أَيْنَ الْفَلاحُونَ ?! ؛ أُولِئَكَ النَّاسُ الْبُسَطَاءُ السُّعَدَاءُ ، الَّذِينَ يُقَابِلُونَ الْحَيَاةَ بِابْتِسَامَةٍ رَاضِيَةٍ مُطْمَئِنَّةٍ ، أَيْنَ الْفَلاحُونَ ?! ، الَّذِينَ لا تَسْرِي إِلَى قُلُوبِهِمْ سُمُومُ الضَّغِينَةِ وَالْحِقْدِ ، الَّذِينَ لا يَلْمَعُ فِي أَعْيُنِهِمْ بَرِيقُ الْمَالِ ، الَّذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلاةِ ، الَّذِينَ لا يَأْكُلُونَ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ ، الَّذِينَ تَلْمَحُ فِي وُجُوهِهِمْ طِيبَةَ النِّيلِ ، وَسَذَاجَةَ الطَّبِيعَةِ الْبَرِيئَةِ ، أَيْنَ الشَّبَابُ الْمُكَافِحُ الَّذِي تَقْرَأُ فِي أَسَارِيرِهِ سِيمَا الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ ?! ، أَنَا لا أَرَى إِلا عُيُونًا مِلْؤُهَا الْمَكْرُ ، وَقُلُوبًا تَتَعَبَّدُهَا الْمَادَّةُ ، وَضَمَائِرَ مَدْخُولَةً ، وَذِمَمًا ((أَوْسَعْ مِنْ رَحْمِتْ رَبَِّنَا)) ، وَأَصْبَحَ مِنَ الأَوْصَافِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلُهُمْ : (( خَبَاثْةِ الْفَلاحِينْ )) . عَلَى أَيَّةِ حَالٍ ؛ مُعْظَمُنَا لا يَأْتِي إِلَى الْقَرْيَةِ إِلا مَرَّةً فِي الشَّهْرِ ، وَرُبَّمَا مَرَّةً فِي السَّنَةِ ، فَسُيُرَحِّبُونَ بِنَا - عَلَى امْتِعَاضٍ - تَرْحِيبِ الْمُتَكَلِّفِ الْمُتَجَمِّلِ ، أَمَّا الْمَعْدُودُونَ عَلَى الأَصَابِعِ مِمَّنْ بَقِيَ سَاكِنًا فِيهَا ؛ فَهُمْ أَوْرَامٌ خَبِيثَةٌ ، وَلِسَانُ الْحَالِ يَقُولُ : إِنَّ فِي الْعَيْنِ لَقَذًى ، وَإِنَّ فِي الْحَلْقِ لَشَجًا . عَلَى أَنِّي لا أَغْمِطُهُمُ الْحَقَّ فِي فَضِيلَةٍ وَحِيدَةٍ مِنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مَفْقُودَةٍ ؛ فَمَعَ أَنَّ الْبَعْضَ - مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا أَطْفَالاً يَتَمَرَّغُونَ فِي الطِّينِ بِشَعْرِهِمُ الْمَنْفُوشِ وَأَعْيُنِهِمُ الْمَِعَمَّصَهْ - قَدْ حَمَلَ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْعَالِيَةِ مَا لَمْ يَحْمِلْهُ أَبْنَاءُ الْعَائِلَةِ الْعَرِيقَةِ ؛= إِلا أَنَّ حُلُمًا بَعِيدًا لا يَزَالُ يُرَاوِدُهُمْ ، وَرَغْبَةً عَارِمَةً تُلِحُّ عَلَيْهِمْ ، كُلُّ شَيْءٍ أَصْبَحُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِعَيْنٍ مَادِّيَّةٍ تَحْسِبُ الأَرْقَامَ بِالْجَمْعِ وَالطَّرْحِ ؛ = إِلا فِي هَذَا الْحُلُمِ وَفِي سِوَى هَذِهِ الرَّغْبَةِ فِي امْتِلاكِ جَمِيعِ الأَرْضِ ؛ لَقَدْ قَفَزَ سِعْرُ الْفَدَّانِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَضْعَافٍ فِي غُضُونِ أَرْبَعَةِ سَنَوَاتٍ لا أَكْثَرَ ، وَالرِّيعُ الْعَائِدُ مِنْهُ - مَهْمَا يَكُنْ - يَحْتَاجُ عِشْرِينَ سَنَةً لِتَغْطِيَةِ الثَّمَنِ الْمَدْفُوعِ فِيهِ ؛ وَمَعَ ذَلِكَ ؛ فَهُمْ يَتَرَبَّصُونَ وَيَتَحَيَّنُونَ فُرْصَةَ عَرْضِ أَحَدِ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ رَغْبَتَهُ فِي أَنْ يَبِيعَ وَلَوْ قِيرَاطًا وَاحِدًا ، أَمَّا نَحْنُ ؛ فلا مَانِعَ عِنْدَنَا ؛ لأَنَّنَا لَمْ نُمْسِكْ طِينَهَا بِأَيْدِينَا ، أَمَّا هُمْ ؛ فَمَعَ أَنَّ الأَرْضَ لَمْ تَعُد تُّوحِي لَهُمْ بِتَلْكَ الْمَعَانِي وَالْمَشَاعِرِ ؛= إِلا أَنَّ ثَمَّةَ سِرٌّ أَوْ قُوَّةٌ خَفِيَّةٌ وَرَاءَ حِسَابَاتِ الْعَقْلِ تَدْفَعُهُمْ إِلَى هَذَا ؛ لأَنَّهُمْ أَمْسَكُوا طِينَهَا بِأَيْدِيهِمْ . =- هَمَسَتْ إِلَيَّ جَدَّةٌ عَجُوزٌ عَنْ أَحَدِ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ وَالْفَلاحِيَن : (( دَا مْوَالِسْ مَعَاهُمْ ! )) ... =- سَأَلَ أَحَدُهُمْ ((نَفَرًا)) عَنِ الْفَرِيقِ الَّذِي أَنْجَبَهُ : ((اِنْتَ مْجَهِّزْهُمْ لِلْحَرْبْ ?!)) ، فَرَدَّ عَلَيْهِ : ((اُسْكُتْ ! ؛ دَا انَا شُفْتْ أَيَّامْ صَعْبَهْ)) ... =- مَا الَّذِي حَدَثَ عِنْدَمَا بَاعَ ((عَوَّادٌ)) أَرْضَهُ ?! ؛ ... قَبْلَ أَسَابِيعَ : ضَرَبَ الْعَبِيدُ أَسْيَادَهُمْ ... [بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي أَقُولُ : ضَرَبَ الأَسْيَادُ عَبِيدَهُمْ ...] يَبْدُو أَنَّ الْغُبَارَ سَيُكَوِّنُ تِلالاً صَغِيرَةً رَيْثَمَا تَتِمُّ الْمُفَاوَضَاتُ وَيَنْعَقِدُ الصُّلْحُ ... **************************************************** |