رفيـقـي في الحافلة كن أول من يقيّم
استمتعت كثيرا بقراءة الأقصوصة العجيبة الغريبة عن " الحلزون في الطائرة ". و المنشورة من طرف الأستاذة ضياء بملف { نباتات بلادي }، لأنها تحتوي على أسماء نباتات مثل السماق والزعتر ........ والهندباء والخبيزة والدويك والقرصعنة والمسيكة والحرتمنة ...... .
و هذه واقعة عشتها منذ سنين ، في يوم من أيام الصيف الحار بمدينة مراكش ... يسعدني أن أنشرها في هذا الملف الرائد ... لأنها تحمل عبق الوطن و الزمن المتحول .... بما لها و ما عليها ... و ما هي سوى محاولة مبتدئ في كتابة السرد ، شجعه نبل و كرم صاحبة الملف ، و ترحيبها اللامشروط بقرائه و زواره ... فإليكموها...
عزمت على السفر إلى عزبتنا الموجودة بقرية على بعد خمسين كيلومتر من مدينة مراكش ... كان سفر صلة رحم و تفقد حال الأهل و الممتلكات ... و كنت مضطرا إلى السفرفي يوم حار مشمس للتأكد من صحة خبر طارئ جاءني عن العزبة ... قصدت المحطة الطرقية ... و بعد أداء ثمن تذكرة السفر صعدت إلى الحافلة فوجدتها قد امتلأت عن آخرها بالمسافرين و لم يبق إلا المقعد الخلفي الموالي مباشرة لزجاجة النافذة الخلفية للحافلة ....
و ما إن جلست بالمقعد الخلفي حتى تعرَّفَ علي الجالس قبلي في المقعد ، و هو صديق عزيز لم أره منذ ما يقارب العقد من الزمن ، و هو الصديق الذي احتفظ بأقدم صورة لي في سن الطفولة ، و قدمها لي بعد أن صرت شيخا... و هي صورة الصبي المنشورة في ملف فنون بصفحة الصور ... و هذه الإشار تكفي للتعريف بصلته بي و صلتي به ... و هو من عائلة صديقة لعائلتي أيام كانت تعيش في العزبة ، في بداية القرن الماضي ...
و بعد سلام حار و عناق و سؤال عن الأحوال ... جلسنا نتبادل أطراف الحديث و نسترجع الذكريات ... ثم إذا بي ألاحظ وجود كيس من الثوب الأبيض ، أُحْكِم َغلق فتحته بخيط غليظ ، و موضوع بيني و بين صديقي
!!!...
و بالرغم من حرارة الجو يومه ، فقد كان وقوف الحافلة بالظل في المحطة يخفف شيئا ما من شدة الحر ... ثم تحركت الحافلة و خرجت في اتجاه القرية ... ثم غادرت الحافلة المدينة ، فإذا بأشعة الشمس الداخلة من النافذة الخلفية تتسلط على ظهورنا و على الكيس الموجود بييننا ...
و ما إن شعرت بحرارة الشمس تحرق ظهري ... حتى بدأتْ تسيطر علي ظنون بالنسبة لمحتوى الكيس الموضوع بيننا ، أشد و اخطر من ظنون الأستاذة ضياء اتجاه الحقيبة في الطائرة ... لأني أعرف صديقي تمام المعرفة ... و أعرف جيدا نوع السلع التي يحملها في مثل هذه الأكياس ، و هو يتنقل بين القرى في قبيلتنا .... بل من إقليم لإقليم ، و يقضي الشهور في تنقلاته تلك ، بأكياسه و صناديقه ... في السهول و أعالي الجبال .... و كانت أغلى أمنيتي لما بدأت دراسة النبات ، أن يتيسر لي مرافقته في تجواله في أعالي جبال الأطلس لأتعرف على نباتاتها ... و سبق أن طلبت منه ذلك و رحب بالفكرة و قبل العرض و فرح به ، إلا أن هذا الحلم لم يتحقق ....
و بما أنى أكاد أجزم بأني أعرف ما بالكيس ، و لكي أتيقن من إصاية ظني ، توجهت إلى صديقي بسؤال يفهم جيدا المقصود منه ..
قلت لصديقي: ألا ترى أن شدة حراة الشمس قد تؤثر على محتوى الكيس هذا ?? ...
فرد قائلا : تبارك الله ... و ما شاء الله ... فهمتها يا سيدي حسن ...
أجبته قائلا : " و هل من الصعب على مثلي أن يصيب التخمين في محتوى أكياسك ? ...
عندها أخذ الكيس بخفة و وضعه في الظل بين قدميه ثم قال : أصبت و الله ...
ثم قلت له :" فعرفني بهذا الصاحب بالجنب ... الساكن في الكيس "...
أجابني قائلا :" إنه من نوع " بوسكا " ، اشتريته بما يساوي أربعين دولارا من مُـرَبِّي مشهور بمدينة مراكش " ....
قلت له و أنا أفهم جيدا ما يقول :" و لماذا صرت مضطرا إلى شراء هذه الأنواع الغالية ، و قد كنت أرافقك مرات و مرات و انت " تأخذ " الأنواع البرية الموجودة في بستاننا ... و لا يكلفك ذلك و لو سنتا أو قرشا واحدا ... و صرت الآن تشتري الواحد بعشرات الدولارات ...
سمعته يتنهد و هو يسترجع ذكريات الأيام الخوالي ...
ثم أجاب : " إنه ذوق السواح الأجانب نزلاء الفنادق الفخمة التى صرت أعمل فيها بمراكش ... فمثل هذا النوع الموجود في الكيس هو المحبوب عندهم ، و لا يقنعون بنوع غيره ....
و بما أنني تكلمت عن السواح و الفنادق الراقية في مدينة سياحية كمراكش ، فقد يظن القارئ الكريم أن الموجود بالكيس هو نوع من الطعام أو الفاكهة أو الشراب خشيت أن تصيبه أشعة الشمس و حرارتها فيتغير طعمه ... إن الأمر أخطر من هذا بكثير ... لأن صديقي هذا مروض للثعابين السامة القاتلة ، يرث هذا التخصص أبا عن جد ... و أعرف والديه رحمهما الله ... و زرت دارهم مرات عديدة ... و رايت فيها غرفة غاصة بصناديق خشبية تربى فيها أنواع كثيرة من الثعابين ... بل و كنت أرافقه أيام عطلتي المدرسية الصيفية أثناء عملية صيد الثعابين ببستاننا في القرية ... ليملأبها صناديقه قبل بداية ترحاله و تنقلاته بين القرى في السهول و قمم الجبال ، يقضي أيامه في الضرب على الدف ، و النفخ في الناي في أبواب البيوتات ، ليخرج أصحاب البيت فيتفرجوا على ألعابه البهلوانية مع الثعابين ... و كانت الثعابين البرية البلدية الموجودة في قبيلتنا و نواحيها و على اختلاف أنواعها تفي بما يطلبه هذا النشاط المحلي ... أما و قد ترقى و أصبح مروضا يعرض فنه في الفنادق ذات النجوم الكثيرة ، فإن المقام و الجمهور يشترط ثعابين أكبر حجما و أكثر خطرا ليشعروا بمتعتهم المنشودة أكثر وهم يرون صديقي يتعرض ويلاعب خطر الموت في كل لحظة أمام أعينهم ... و ليدفعوا بدورهم ثمنا باهظا يضاعف مرات كثيرة ما كان يدفعه المتفرجون البسطاء في القرى و المداشر ... أما النوع " بوسكا " الموجود في الكيس ، فهو أسود اللون ، يعرف باسم " أ بونفاخ " و" أبو درقة " ، لأنه متى استشاط غضبا و نوى شرا ، انتفخ رأسه على شكل " درقة " ، و وقف على ذيله ، و أخرج لسانه ، و نفخ و أخرج فحيحا مخيفا مرهبا ... و لسع لسعته المميتة ... و من المعلوم أن حرارة الشمس تهيج هذه الثعابين و تزيد من هيجانها و استعدادها الفطري لمهاجمة أي جنس غريب بجوارها ... لذا زاد خوفي من تأثير أشعة الشمس المحرقة على ثعبان لم أكن أعرف أنه أسود ، و لا أشك في أنه سام و خطير ، في كيس مغلق ، تحت أشعة الشمس المحرقة ، و في حافلة غاصة بالمسافرين في عز الصيف ... إن هذا شيء لا يصدق ... و لكن ثقتي بصديقي كانت أكبر من كل هذا ... و مع مرور الوقت ، نسيت تماما وجود الكيس و ساكن الكيس ...
و لما وقفت الحافلة بباب القرية أخذ صديقي الكيس و نزل و كأنه يحمل كيس بطاطس ...
|