عصر الكابوي والباربي     ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
لن أعيد على مسامعكم تذكار ودي الذي تعرفونه ولا تذكار ودادكم الذي تعودته منكم وكل الكلام الجميل الذي ذكره الأستاذ زهير في رسالته التي من فوق الموج ، ودعوني أرحب اليوم بشكل خاص بأم جميل وأشكرها عني وعن أمي وجواد على تحيتها اللطيفة وأدعوها ، لو سنحت لها الظروف ، إلى زيارة الوالدة حيث تسكن اليوم في بلاد العم سام . سأعطيك ، سيدتي الفاضلة ، فكرة عن بيت أمي بقصد تشجيعك لأنني أعلم كم ستفرح أمي بزيارتك لها .
يقع بيت أمي على التخوم الشمالية لصحراء تكساس وليس في ربعها الخالي ، بين مزرعة الكابوي الحقيقي جورج دابليو بوش ومزرعة الكابوي التجريدي ، أسطورة مسلسل دالاس ، جي آر يوونغ ولا فرق في المخيال بين المزرعتين . تسكن أمي في حي جميل ، طرقاته واسعة ونظيفة وكل شيء فيه جديد ومنسق ومرسوم بذوق وعناية فائقة : البيوت والعشب الذي أمامها ، الشجر ، أحواض الزهر ، حوض السباحة ، السيارات كلها جديدة والنوافذ كلها بستائر جميلة ، الأولاد والجيران تظنين بأنهم قد خرجوا جميعهم للتو من كاتالوج لبيع الألبسة الجاهزة وحتى الكلاب والقطط هناك نظيفة ومهذبة لا أظنها تعض أو تخرمش أحداً كأنها للزينة فقط . أول مرة ذهبت إلى هناك أحسست كأنني " أليس في بلاد العجائب " ثم صار يتضح لي بأنني دخلت خيال عالم الدمية " باربي " بكل أبعاده .
من الواجهة الأمامية ، يبدو بيتنا ككل بيوت الحي الأخرى بالعشب الأخضر المقصوص ومساكب الزهور ونبات الزينة ( الذي لا يؤكل ) تماماً كما رسمها وصممها المهندس في الخريطة الأصلية للبيت والذي هو نسخة تختلف قليلاً أو لا تختلف أبداً عن بقية البيوت المحيطة ، وبالعلم الأميركي الذي نصبه جميع سكان الحي أمام بيوتهم بعد حادثة الحادي عشر من أيلول ( أيلول الأسود ? ) ، فما كان من أمي إلا أن نصبت هي أيضاً علماً أميركياً كانت قد تلقته هدية من إحدى شركات الدعاية أمام البيت ، هو أصغر من بقية الأعلام الأخرى ، بل ربما يكون أصغرها على الإطلاق وبالكاد ينتبه إليه أحد لكنه يفي بالحاجة كما تقول ، ولقد غرسته في إناء الزهور الأقرب إلى الشارع لكي يراه الجيران رغم اعتراض أخوتي عليه إلا أنها لم تأبه لاعتراضاتهم وقالت لهم : " لم لا ? ما حدا أحسن من حدا ! " .
في حديقتها الخلفية ، زرعت أمي كل لوازم الفتوش والتبولة من : نعناع وبقدونس وخس وبصل أخضر ........وزرعت الخيار البلدي واللوبياء والباذنجان ، وغرست رمانتين واحدة حلوة والثانية حامضة وشجرة سفرجل لم تحمل بعد . بقرب الطاولة في الحديقة ، وضعت أصص الزهور التي نعرفها نحن ، والبعض منها يؤكل كالحبق والورد البلدي ، والبعض الآخر ينفع لصنع الزهورات كاللويزة والختمية ، وزرعت الفل والمنتور وحلق الست والأهوان والكثير من الزنبق ....... وأما الياسمينة فلقد غرستها بقرب الحائط ووضعت لها سقالة لتمتد عليها وغرست بقربها دالية عنب .
ولا تزال أمي ، رغم تقدمها في السن ، تربي وتعتني بأولاد أختي التي جاءت لتسكن بقربها في الحي نفسه لتتمكن هي من الذهاب إلى عملها براحة بال ، ولم أسمع طوال إقامتي هناك في ذلك الحي الأنيق صوتاً عالياً غير صوت أمي عندما تجري وراء الصغيرين أولاد أختي : ناصر ونور وتلعب معهم .
لن تري عند أمي تلفزيوناً آخراً غير " الجزيرة " والفضائيات العربية الأخرى بلهجاتها المختلفة ولن تسمعي بناء عليه كلمة واحدة بالإنكليزي ، وربما ذهبتما للتسوق ، بل هذا شبه مؤكد ، في المراكز والمجمعات التجارية الكبيرة والكثيرة المنتشرة هناك والتي تدهش الأبصار ، لأن أكثر ما تحبه أمي في أميركا هو : التسوق !
تحب أمي أميركا لأنها " نظيفة وفيها خير كتير " رغم أنها تعترف بأن سياستها معنا غيرعادلة فهي تتألم لرؤية ما يجري في العراق وفلسطين وما جرى ويجري في بلدنا الذبيح المهان ولكنها تستنتج بأنه على أية حال فإن الإنسان في أميركا له قيمة أكثر من الإنسان في بلدنا . فماذا أقول لأمي يا أم جميل ? وكيف أشرح لها معنى أن نعيش كالكابوي في عصر الباربي ?
أأقول بأنه ، وبناء على دراسات جدية قام بها مجموعة من العلماء قرأت عنها في ملحق جريدة اللوموند الفرنسية السنة الماضية فإنه لو أخذنا مستوى حياة رجل أميركي عادي من طبقة متوسطة يعيش في مدينة متوسطة كسان فرانسيسكو مثلاً ، ونظرنا إلى ما يستهلكه هذا الرجل من وقود وماء ومواد غذائية وما يدفعه من مال لتغطية نفقات حياته المختلفة واعتبرنا ذلك معدلاً عاماً لسكان الكرة الأرضية ، لاكتشفنا بأنه يلزمنا أربع كرات أرضية إضافية للإيفاء بحاجات هذا المستهلك ?
لكن البشر جميعهم لا يعيشون بمستوى الأميركي المتوسط ومن المستحيل إذاً بناء على عملية حسابية بسيطة أن يحصل لأنه لا يوجد لدينا على الأرض ما يكفي من مواد أولية ضرورية لكي نعيش جميعاً بهذا المستوى .
بالمقابل فإن ما تنتجه الكرة الأرضية حالياً من مواد غذائية كاف لإطعام 12 مليار إنسان ، يعني ضعف الرقم الحالي لسكان الأرض . السؤال هو : كيف تتوزع هذه الثروة ?
كل خمس ثوان ، هناك إنسان يموت من الجوع على سطح الكرة الأرضية ، نعم كل خمس ثوان يموت طفل من الجوع في العالم الثالث بينما هناك آلاف الوجبات تلقى في القمامة في المطاعم والبيوت والمطاعم المدرسية ، وهناك الأطنان من المواد الزراعية التي تتلف سنوياً بسبب زيادة المحصول وبغاية أن لا يؤدي فائض الإنتاج إلى تخفيض السعر .
إن الطبقة التي تقود العالم اليوم قد وضعتنا أمام تحديات مصيرية ليس لها حل إلا بالمنطق الأناني الذي نعيش به اليوم : أنا ومن بعدي الطوفان ........ كيف سيحل كبار العالم مشكلة الطاقة ( الهيدرو - كاربور ) التي متوقعا لها أن تنضب خلال خمسين سنة ? وكيف سيحلون مشاكل التلوث البيئي الذي تتسبب به البلدان الصناعية الكبرى وتؤدي بنا إلى كوارث أبسط مظاهرها زحف الماء على اليابسة بما يعني اختفاء جزر وبلدان قريبة من الشواطىء وتهجير سكانها ? ومن سيحل مشاكل توزيع المياه وكم سيصبح ثمن ليتر الماء الصالحة للشرب قريباً ? متى تلغى ديون البلدان الفقيرة التي تستهلك كل فائض الإنتاج لديها لايفاء الديون المترتبة عليها للبنوك العالمية بدلاً من أن تصرفها على مشاريع التنمية وبناء البنية التحتية ? وهل التجويع هو سلاح أقل فتكاً من أسلحة الدمار الشامل ?
الحروب تخاض من أجل البترول والماء وللسيطرة على الطرق الدولية وخيرات الأرض وأسواق المال واحتكار التقنيات المنتجة للطاقة ، كالطاقة الذرية ، ولا يمكن لإقطاعيي العالم الحديث المتحضر التنازل عن هذه المقدرات أبداً لو أرادوا الاحتفاظ بامتيازاتهم .
نحن أمام مشاكل حقيقية تتعلق بوجودنا ومصيرنا على سطح الكرة الأرضية وهي مشاكل تتعلق بالأمن الصحي والغذائي والأمن المادي والبيئي ، ونحن في حيرة أمام مصيرنا ومستقبل أولادنا وفي حيرة أمام أسئلة كبرى أخلاقية تتعلق بوجودنا الأنساني : هذا لأن الظلم واقع ! والظلم نكون أحياناً شركاء فيه وهنا الأزمة ! فأين يبدأ الظلم ? وأين ينتهي ? وكيف أشرح لأمي كل هذا ?
|