البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : التاريخ

 موضوع النقاش : أحاديث الوطن والزمن المتحول    قيّم
التقييم :
( من قبل 39 أعضاء )

رأي الوراق :

 ضياء  
11 - يونيو - 2006
كان الأستاذ السعدي قد طرح ذات مرة تساؤلاً حول علاقة التاريخ بالسيرة الذاتية . حيرني بوقتها ذلك السؤال لأن المسألة تبدت لي بديهية ، ولما فكرت فيها ، استنتجت بأن التنظير لها صعب للغاية . فالسيرة الذاتية هي تاريخ شخصي تتقاطع أحداثة مع مجريات الحدث العام ، بالصدفة يحدث هذا التلاقي في الزمان والمكان ، هكذا يبدو ......  إنما مقاصد السؤال الذي طرحه كانت ربما : كيف تحكي السيرة الذاتية التاريخ العام ?

عندي مثال ساطع على هذا تعلمت منه أكثر مما تعلمت من كتب التاريخ . فجدتي ، رحمها الله ، كانت تقص على مسامعنا سيرة عمرها الطويل وتعيد تردادها بدون كلل أو ملل . منها تعلمت تاريخ طرابلس ، تقصه مشفوعاً بأخبار الذين كانوا من حولها ممن مات ، أو عاش ، أو ولد ،  قبل " الطوفة " مثلاً( طوفان نهر أبو علي ) أوبعدها ، ومن كسر يده في الزحام ، أيام ثورة القاووقجي ، أو عندما جاء ابراهيم هنانو إلى طرابلس ، وأين اختبأوا أيام " ثورة شمعون " . وتحكي أيام الأنكليز وكيف انتشروا بوقتها على شاطىء البحر ، وكيف جاء الفرنسيون بعسكر السنغال ، وعن أيام السفر برلك ورحلتهم مع الجوع والعذاب والجراد والمرض آنذاك ، وعن جيرانها اليهود وعاداتهم ، وكيف كانت طرابلس في ذلك الحين : الأحياء ، البيوت ، الطرقات ، النهر ، السوق ، القلعة ........ تاريخاً موثقاً بالأسماء والأرقام والوقائع من ذاكرة نبيهة صاحية ، ظلت طوال حياتها تنظم وتؤطر وتسلسل تلك المعلومات وتعيدها على مسامعنا على شكل حكايا ، تاريخاً متماسكاً كانت وحدها تعرف سره ، وتعرف كيف تمسك به بقبضتها الواثقة . كيف لا وهي من كان يعرف كيف يحصي ويحفظ كل شيء : الأرقام ، التواريخ ، الأعمار ، و عدد درجات السلالم التي تطلع عليها ، أو عدد حبات الزيتون التي تأكلها في كل وجبة ، ومواقيت الفصول والأعياد والزراعة في الحساب الشرقي وبحسب هلة القمر ، وحتى لو قامت بحشو الكوسى فإنها ستضع فيه " الحبة فوق الحبة ، والرزة فوق الرزة " تحسبها بالمثقال .

 ولطالما تساءلت عن سبب إصرارها على إعادة تلك القصص التي كنا نتذمر منها ونتأفف لها أحياناً . وفهمت بأن الزمن قد تحول وتبدل كثيراً من حولها ، وأنها تحاول ان تمسك بماضيها ، ان تستعيده على طريقتها . وبالرغم من أنها كانت تروي حياتها كأمتداد لحياة من سبقها أو تلاها من الأجيال ، بدون إسراف أو بطولة ، أو حتى خيال ، سرد مجرد سرد واقعي يسجل الوقائع ويثبتها في الذاكرة ، إلا ان تلك الذاكرة كانت تغربل وتنقح وتختار لحظتها وموضوعها ، وهي بالتالي إنتقائية . فالذاكرة هي إعادة إنتاج للواقع بحسب فهمنا للذات وللآخر .

هكذا خطرت لي فكرة هذا الموضوع ، إعادة إنتاج التاريخ من خلال السيرة الذاتية . وهذا ما سأحاول الكتابة فيه ، لكن ليس لوحدي : أدعو الجميع للمشاركة في هذا الملف من منطلق إعادة كتابة تواريخنا الشخصية : عبرها ، ستتبدى لنا أشياء كثيرة كانت مطوية في غياهب النسيان ، وستفتح لنا ربما شبابيك على الحاضر لو استطعنا أن نمسك بتلابيب الماضي ونستقرأ أبعاده .

اعتبروا هذا الملف كأنه صندوق تبرعات ، وليتبرع لنا كل واحد بحكاية من طفولته أو تاريخه الحاضر ، أو حتى تاريخ عائلته . كل المطلوب هو أن تكون هذه القصة واقعية ومختصرة ، وأن يجهد قليلاً في جعلها ممتعة لدى قراءتها .

أتمنى لنا حظاً سعيداً .

 

 21  22  23  24  25 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
عقد تشرين    كن أول من يقيّم
 
جلست  في iiعبّارتي أنظر  في iiصنّارتي
والموج  يعلو iiهائجا عـلى ذرى iiمنارتي
ونـجـمتي  iiخائفة تـكسرها  iiشرارتي
ولـيـس  كل iiمرة أربـح  في تجارتي
سـمـكـة  iiمختالة تـجاوزت  iiمهارتي
ولا أحـب أن iiأرى بـأعيني  iiخسارتي
أرغب أن iiتصحبني أمـيرتي في iiدارتي
لـكـي ترى iiبعينها شـوقي إلى iiبيارتي
وألـف  بـلبل iiبها يـأكل من iiصبارتي
وألـف إبـن iiاكوحٍ تـركتُهُ  في حارتي
أقـول عن iiجراحها وليس عن iiجسارتي
طـهـارة iiمـقتولة أكـثر من iiطهارتي
تـشرين  يا iiكنانتي أعـددتـها  لغارتي
وبـالورود  iiضاربا ولـيـس iiبالحجارة
مـن  لـيلة iiمطارة لـلـيـلـة iiمطارة
بـصـارتي هذا أنا أخطأت يا iiبصارتي
هـناك شيء iiغائب أثـمن  من iiسفارتي
أثـمـن مـا iiأملكه مـن  ألـق iiوشارة
أردت أروي iiجرحه فـقصرت  iiعبارتي
من الذي يكشف عن جـراحـه  iiالهدارة
ألـيـس عارا iiأنني أصـد عن iiمحارتي
أنـشرها من بعد iiما تـحطمت iiنضارتي
وصـدفـا مـكسرا تـجـمعه  iiبحّارتي
هذا  هو اللغز iiالذي جـرعني  iiمرارتي
إسـتـاذتـي  ذكية تـفـهـم  بالإشارة
كـم قـصة iiساحرة تـعـج بـالإثـارة
خـلف الستارة التي تـلـوح  لـلنظارة
وليس  في iiإخراجها ولـيس  في iiالإنارة
وصـدقـيـني إنها مـشـكلة iiالحضارة
شـجاعة  اليد iiالتي تـمـتـد لـلستارة
هـذي  زقاقي iiكلها وهـذه iiخـمّـارتي
خـطيئتي في iiحبها وحـبـهـا iiكفارتي
ومـرتين  iiانفجرت مـن  حبها مرارتي
تـشرين يا iiأميرتي صـومـعة iiالإمارة
وأنـت  كل iiشهدها يـقطر من iiجمّارتي
طـفولتي iiوعطرها تـنام  في iiسحارتي
تـشرين  يا iiبيارتي تـشرين يا iiقيثارتي
يا جارة الوادي iiالتي أعـطيتها  iiبشارتي
ألـم  تـزل iiمصرة تـخاف من زيارتي
رأيـت  حـيي كله ومـا رأيت iiجارتي
*زهير
1 - أكتوبر - 2006
ورد تشرين    كن أول من يقيّم
 
 
صباحنا خريفي ماطر هنا صبح تشرين . ليس في جعبتي إلا الانتظار . ثمة صور جميلة وحنين جارف معبأ في سحارات الزمن الجاحد . ثمة عصافير وشجيرات ورد وساقية . ثمة شاعر يتسلق شجر الحروف ويصطاد الحكاية . ثمة طفل يبحث عن محافير رماها في النهر ...... في جعبتي قطرة من نهر وانتظار أحمق .
ليس للشاعر إلا سلال الوقت ، ليس للوقت إلا الحكاية ، ليس للحكاية إلا الشجن ، ليس الشجن إلا انتظار الحكاية التي لم نحكها بعد .
عقد تشرين ، ورد تشرين ، أسفار الطريق المولع بالحكايا .
شكراً ، بيارة الورد ، وعقد تشرين ، وحكايا الطفولة تسبح فوق عبّارة الزمن .
*ضياء
2 - أكتوبر - 2006
صدفة حلوة    كن أول من يقيّم
 
كنت قد قررت الأمس قراءة كتاب (حياتي) للمرحوم أحمد أمين، مع أنني قرأته منذ ربع قرن، وسبب عودتي لقراءته مرة ثانية هو عادتي مع كل كتاب ترك بصماته في ثقافتي، أعود لأقرأه في مرات متباعدة: وقد صدف (والكلام هنا موجه للأستاذة ضياء خانم) أنني فتحت الكتاب على هذه الصفحة، وكأنني لم اقرأها من قبل أبدا، والسبب أنني أقرؤها الآن بعدما صار اسم (ضياء) يعني لي ويعني. قال (ص 280):
(إني أشعر شعورا غريبا بحب الضوء وكراهية الظلام، فأحب النهار وأكره الليل، وأحب من الألفاظ كل ما يدل على الضوء، وأكره منها كل ما يدل على الظلام، وأحب النهار تطلع شمسه، وأكره السحاب يغشى الشمس، ومن أجل ذلك وضعت بجانب سريري زراً، كلما شعرت بالظلام ضغطت عليه فأضاءت الحجرة)
*زهير
3 - أكتوبر - 2006
علي بك فوزي (الغريب التائه)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
قال المرحوم أحمد أمين في كتابه (حياتي) (طبعة مكتبة النهضة المصرية: الطبعة 6ص 236) أثناء حديثه عن زيارته استنبول في يونيو 1928م : (ومن خير المصادفات أن رأيت في الأستانة (علي بك فوزي) أستاذنا القديم في مدرسة القضاء (*) وكان قد استقال من منصبه الحكومي وخرج من مصر لأنه لم يطق أن يرى الجندي الإنجليزي يحتل بلاده والجرسون اليوناني في القهوة يتمتع بامتيازات لا يتمتع هو بها، فخرج من وطنه هاربا، وطوف بالبلاد وحط رحله في الأستانة، يقنع بخمسة وعشرين جنيها معاشا له، يصرف أقلها على نفسه وأكثرها على الفقراء من حوله. ظللت أبحث عنه في الأستانة طويلا حتى وجدته، فوجدت لقيتي، لأني أعلم أنه أقدر الناس على أن يشرح لي الانقلاب الحديث في تركيا ونتائجه وما فيه من خير وشر... وقال لي: لقد عشت في إنجلترا وفرنسا وألمانيا فلم أجد الصدر الرحب الحنون الذي أشعر به في إقامتي في تركيا. وسألته هل هو راض في خطته التي اختطها في الامتناع عن الزواج? فقال: إنه آسف على هذه الخطة، ويود لو عاد إلى الشباب فتزوج.. وأنه الآن من غير زواج في شيخوخة بائسة تنتظر الوفاة ... والرجل من غير شك شخصية غريبة لم أر مثلها، يحب بلده مصر من صميم قلبه، ويحب المسلمين ويرثي لحالهم، ويتدين تدينا مزيجا من قلبه وعقله، فيفطر على كوب من اللبن عند شروق الشمس، ولا يحرم عليه الماء، ويبقى على ذلك إلى موعد الإفطار فيفطر، ويعني بصيامه عدم كثرة الأكل، والامتناع عن أكل الأشياء الدسمة، ومما دعاه إلى ذلك أنه كان يسكن في استانبول فوق جماعة من الإفرنج، يخشى إن هو تسحر في رمضان أن يزعجهم بحركاته، فهو يصوم هذا الصيام الذي ذكرنا من غير سحور.
أهداني يوم وداعه مجلة إنجليزية كان يصدرها (عنايت خان) في سويسرة في التصوف، يدعو فيها إلى التصوف العام من غير تقيد بتفاصيل دين خاص، ولذلك كان من أعضائها المسلم واليهودي والنصراني. وأخبرني علي بك فوزي أنه عُرض عليه بعد وفاة (عنايت خان) أن يرأس هذه الجمعية فأبى، لأنه لا يحب أن يتقيد بالتقاليد والشعائر على أي شكل كانت. منشأ عذاب هذا الرجل وشقائه رقة إحساسه ودقة شعوره البالغ.
وفي يوم (5 يوليو) زرنا (فؤاد بك كوبرلي) تلبية لدعوته في منزله قرب مسجد السلطان أحمد، بيت قديم عظيم، يظهر أنه بيت الأسرة، في غاية النظافة والنظام فرشت سلالمه بالسجاد الفاخر، ووصلنا إلى حجرة كبيرة صففت في جوانبها دواليب الكتب على أجمل وضع، ووضعت في وسطها مائدة كبيرة للمطالعة. استقبلنا فؤاد بك وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره، مملوء نشاطا وأدبا، يلمع في عينه الذكاء، وقد كان يحضّر موضوعا لمؤتمر المستشرقين، تحدثنا عن جامعتنا وجامعتهم والنشرات والكتب التي تنشرها الجامعتان، ثم تكلمنا عن المستشرقين وما يؤدونه من خدمة للعلم لولا لعب السياسة بعقول بعضهم، وانتقلنا إلى الفرق الإسلامية وصعوبة الوصول فيها إلى حقيقة، لأن الذين يكتبون فيها إما مؤيد غال أو معارض قال، وسألني: هل الإسلام شجع الصوفية أو ناهضها ? وكان من رأيي أنه شجعها. وكنت أعلم أن فؤاد بك أحد دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي القائم الآن في تركيا، فأثرت هذا الموضوع مرتين لأعلم ما عنده وعند أصحابه من قواعد يبنون عليها إصلاحهم فكان في كل مرة يغلق هذا الباب بمهارة وينقل الحديث إلى موضوع آخر.
_____________
وفي الكتاب أيضا ص 103 تعريف بعلي بك فوزي، وأنه درس في مدرسة المعلمين وتخرج من معاهد أنجلترا، وكان يدرسنا التاريخ...وهو رجل غريب بديع ظريف المظهر قصير القامة، يخفي قصر قامته بطول طربوشه وعلو جزمته، يجيد الإنجليزية والفرنسية والفارسية والتركية، ويلتزم الكلام باللغة العربية الفصحى فلا يلحن، ويدخل علينا متأبطا كتبا في جانبيه لعلها تزن أكثر منه، ولا يدع الفرّاش يحملها له... ويخرج احيانا عن الدرس إلى آرائه في الحياة وفلسفته في المقارنة بين المدنية الشرقية والمدنية الغربية
*زهير
4 - أكتوبر - 2006
من تجارب أحمد أمين    كن أول من يقيّم
 
قال المرحوم أحمد أمين في كتابه حياتي (ص 287): (وكان من تجاربي أني رأيت أكثر الناس يسيرون مع العظماء في آرائهم وأفكارهم ولو اعتقدوا بطلانها، ولكن إذا تشجع أحد ودافع عن الحق وجهر به وصمم عليه تبعه هؤلاء وانضموا إلى جانبه ضد العظماء، فليس عندهم من الشجاعة ما يبدأون به قول الحق، ولكن ليس عندهم أيضا من السفالة ما يناهضون به قائل الحق)
*زهير
4 - أكتوبر - 2006
والد أحمد أمين    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
هذه صفحات مختارة من كتاب (حياتي) المذكور في البطاقات السابقة، وهي  من صميم هذا الملف (أحاديث الوطن والزمن المتحول) وكان المرحوم أحمد أمين قد خص والده بصفحات مطولة تحدث فيها عن جديته وصرامته وسيطرته على البيت، وجودة خطه، وعمله مصححا في المطبعة الأميرية، وما أثمر عمله فيها من مكتبة عامرة كانت في البيت بمثابة أزهر صغير، ونقتطف من حديثه عن أبيه هذه الكلمات قال: (وكان أبي مدرسا في الأزهر ومدرسا في مسجد الإمام الشافعي وإمام مسجد، ويتقاضى من كل ذلك نحو اثني عشر جنيها ذهبيا، وكان ثمن عشر بيضات قرشا، ورطل اللحم بثلاثة قروش أو أربعة.. ويغمر البيت شعور ديني، فأبي يؤدي الصلوات لأوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحا ومساء، ويصحو مع الفجر ليصلي ويبتهل، ويكثر من قراءة التفسير والحديث، ويكثر من ذكر الموت ويقلل من قيمة الدنيا وزخرفها، ويحكي حكايات الصالحين وأعمالهم وعباداتهم، ويؤدي الزكاة، يؤثر بها أقرباءه، ويحج، وتحج أمي معه.. ويوقظ أولاده لصلاة الفجر، ويراقبهم في أوقات الصلاة الأخرى، ويسائلهم متى صلوا وأين .. وبالجملة إذا فتحت بيتنا شممت منه رائحة الدين... فإذا رأيتَ دينا يسكن في أعماق قلبي، وإيمانا بالله لا تزلزله الفلسفة ولا تشكك فيه مطالعاتي في كتب الملحدين، أو رأيتني أكثر من ذكر الموت وأخافه، ولا أتطلع إلى ما يعده الناس مجدا، ولا أحاول شهرة... وإذا رأيت بساطتي في العيش وعدم احتفائي بمأكل أو مشرب أو ملبس، وبساطتي في حديثي ولقائي، وكراهيتي لكل تكلف وتصنع في أساليب الحياة، فمرجعه إلى تعاليم أبي وما شاهدته في بيتي)
                                  (أحمد أمين: "حياتي" نشرة مكتبة النهضة المصرية ط6 ص20 وص22 )
*زهير
5 - أكتوبر - 2006
حديث النرجس    كن أول من يقيّم
 
(وبيتنا لم يكن يعنى بتربية الذوق أية عناية، فليس فيه لوحة جميلة، ولا صورة فنية، ولا أثاث منسق جميل، ولا زهرية ولا ازهار، وكل ما أذكره من هذا القبيل أن أبي كان يشتري في موسم النرجس بعضا من ازهاره، ويضعه في كوب منالماء على الشباك، ويشمه من حين لآخر. ولست أدري لماذا أعجب بالنرجس وحده، وموسمه قصير وليس أجمل الزهور? ولماذا لم يعجب بالورد والياسمين، وهما أجمل وأرخص وموسمهما أطول. وربما أن السبب في ميله إلى النرجس دون غيره ليس لذوق ولا حب الجمال، ولكن اظن أنه قرأ حديثا يمدح النرجس يأنه يمنع البرسام، والبرسام لوثة من الجنون، فظل الحديث يعمل في نفسه، ولذلك كان يشتريه)
                          (أحمد أمين: "حياتي" نشرة مكتبة النهضة المصرية ط6 ص 50)
*زهير
5 - أكتوبر - 2006
تحت السياط    كن أول من يقيّم
 
قال المرحوم أحمد أمين في مقدمة كتابه (حياتي) (ص 12):
(نظر مرة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم ? قلت: فيما أعتقد، ولم هذا السؤال ? قال: إن رأسك كما يدل عليه علم السلالات رأس كردي.
ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية، فأسرة أبي من بلدة (سمخراط) من أعماق البحيرة، أسرة فلاحة مصرية، ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى، فقد يكون جدي الأعلى كما يقول الأستاذ كرديا أو سوريا أو حجازيا، أو غير ذلك، ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين، من أفراد الشعب، لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم. ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي.
وهذه الأسرة كانت كسائر الفلاحين تعيش على الزرع، وحدثني أبي أنهم كانوا يملكون في بلدهم نحو اثني عشر فدانا، ولكن توالى عليهم ظلم (السخرة) وظلم (تحصيل الضرائب) فهجروها.
وكانت السخرة أشكالا وألوانا:
فسخرة المصالح العامة: كالمحافظة على جسور النيل أيام الفيضان، فعمدة البلدة يسخر الفلاحين ليحافظوا على الجسور حتى لا يطغى النيل فيغرق البلد. فإذا تخلف أحد ممن عين لهذه الحراسة عُذب وضُرب، وهو يعمل هذا العمل من غير أجر.
وسخرة المصالح الخاصة: فالغني الكبير والعمدة ونحوهما لهم الحق أن يحشدوا من شاءوا من الفلاحين المساكين ليعملوا في أرضهم الأيام والليالي من غير أجر. ولما أبطل رياض باشا السخرة والضرب بالكرباج في عهد الخديوي توفيق نقم عليه الوجوه والأعيان وعدوا ذلك من عيوبه، وقالوا إنه أفسد علينا الفلاحين.
وهكذا كان في كل ناحية من نواحي القطر عدد قليل من الوجود والأعيان هم السادة، وسواد الناس لهم عبيد، بل هؤلاء الوجوه والأعيان سادة على الفلاحين وعبيد للحكام.
وأما الضرائب فلم تكن منظمة ولا عادلة. فأحيانا يستطيع أن يهرب الغني الكبير من دفعها أو يدفع القليل مما يجب عليه منها، ويتخلص من الباقي بالرشوة أو التقرب إلى الحكام. ثم يطالب الفقراء والمساكين بأكثر مما يحتملون، فإن لم يدفعوا بيعت بهائمهم الهزيلة وأثاث بيوتهم الحقيرة، ثم ضربوا بالكرباج وعُذبوا عذابا أليما. فكان كثير منهم إذا أحس أنه سيقع في مثل هذا المأزق حمل أثاث منزله على بهائمه وخرج هو وأسرته هائمين على وجوههم في ظلمة الليل، وتركوا أراضيهم، ونزلوا على بعض أقاربهم أو على البدو في الخيام، أو حيثما اتفق.
فعلت ذلك أسرة علي باشا مبارك، وفعلته أسرتي، وأسر كثير من الناس.
وفي ليلة من الليالي خرج أبي الصغير وعمي الكبير من سمخراط يحملان معهما القليل من الزاد والأثاث، تاركين الأطيان حلا مباحا لمن يستولي عليها ويدفع ضرائبها، ونزلا في حي المنشية (بقسم الخليفة) ولا قريب ولا مأوى)
 
*زهير
5 - أكتوبر - 2006
رضيع الأحزان    كن أول من يقيّم
 
كان لي أخت في الثانية عشرة من عمرها شاء أبي ألا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها إلى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز، وقامت يوما تعد القهوة لضيوف المعلمة، فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها، وحاولت أن تطفئ نفسها أول الأمر فلم تنجح، فصرخت ولكن لم يدركوها إلا وهي شعلة نار، ثم فارقت الحياة بعد ساعات. وكان ذلك وأنا حمل في بطن امي، فتغذيت دما حزينا، واستقبلت عند ولادتي استقبالا حزينا، فهل كان لذلك أثر فيما غلب علي من الحزن في حياتي، فلا أفرح كما يفرح الناس، ولا أبتهج بالحياة كما يبتهجون ? علمُ ذلك عند الله والراسخين في العلم. (أحمد أمين: "حياتي" نشرة مكتبة النهضة المصرية ط6 ص 19) (وكان مولد أحمد أمين يوم 1/ اكتوبر/ 1886هـ) وهو يذكر في الكتاب أيضا (ص 122) قصة موت اخيه بحمى التوفوئيد وهو في السادسة عشرة من عمره، بعد إصرار أبيه على عدم إدخاله المشفى ?  ولم تمض إلا سنة وبضعة أشهر حتى توفي أخوه الثاني بعد شلل في المخ، وهو أيضا في الخامسة والثلاثين من عمره، وبقي أحمد أمين هو الشاب الوحيد لأبويه وأختيه.
*زهير
5 - أكتوبر - 2006
السقا    كن أول من يقيّم
 
لم تكن المدينة قد غزت البيوت، وخاصة بيوت الطبقة الوسطى أمثالنا، فلا ماء يجري في البيوت، وإنما هو سقاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت، تملأ منه القلل وتغسل المواعين، وكلما فرغت قربة احضر قربة. والسقا دائم المناداة في الحارة، وحسابه لكل بيت عسير، إذ هو يأخذ ثمن مائة قربة في كل أسبوع، فتارة يتبع طريقة أن يخط خطا على الباب كلما أحضر قربة، ولكن بعض الشياطين يغالطون فيمسحون خطا أو خطين، ولذلك لجأ السقا إلى طريقة (الخرز) فيعطي البيت عشرين خرزة، وكلما أحضر قربة أخذ خرزة، فإذا نفذت كلها حاسب أهل البيت. وأخيرا وأنا فتى رأيت الحارة تحفر والأنابيب تمد، والمواسير والحنفيات تركب في البيوت، وإذا الماء في متناولنا وتحت أمرنا، وإذا صوت السقا يختفي من الحارة. (أحمد أمين: "حياتي" نشرة مكتبة النهضة المصرية ط6 ص 22)
 
أقول أنا زهير: كلام أحمد أمين هذا أواخر القرن التاسع عشر، ولكنني أنا شهدت ذلك في دمشق عام 1963م وكنت أرى السقا إثر السقا يمشي من أمام بيتنا مائة مرة في اليوم، وسبب ذلك أن عددا هائلا من أهل فلسطين تديروا المنطقة الواقعة سفح جبل قاسيون، ولم تكن انابيب المياه قد وصلت إلى تلك المنطقة بعد، وكان الحمار الواحد يحمل قربتين فقط، بل كانت القربتان تتخذ شكل الخرج (الحمل).
*زهير
5 - أكتوبر - 2006
 21  22  23  24  25