كونداليسا رايس تخطب آريان كن أول من يقيّم
حدث منذ حوالي السنتين أن كنت قد جلست لتناول قهوة الصباح ، عندما جاء ابني آريان ليجلس بقربي ممازحاً على غير عادة وقائلاً :
ـ " ماما ألا تريدين بأن تضحكي قليلاً ? "
ـ " ليس اليوم ، اليوم ( ما فيه نصيب ) ، ألا ترى هذا الزكام الذي أنا فيه فأنا بالكاد أتنفس أو أستطيع فتح عيوني " أجبت .
ـ " مع هذا اسمعي ما حدث معي بالأمس وستضحكين ، لن تصدقي أبداً بأنه أنا من فعل كل هذا ، بل أنا نفسي لا أصدق :
بالأمس كان لدينا درس لغة عربية عند الساعة الثامنة مساء بعد دوام المدرسة ، وبعد المسبح ، وكنت قد وصلت إلى هناك منهكاً متعباً لدرجة أنني ما أن استقريت في مقعدي حتى رحت في نصف إغفاءة بينما كانوا يقرأون نصاً سخيفاً بالعربية مترجم عن الإنكليزية ، هو قصة حب بين "علي " السوداني و " سوزان " الإنكليزية . علي وسوزان متحابان ولكن علي لا يستطيع الزواج بسوزان لأن تقاليد بلده وعائلته تحول دون ذلك . وهذا هو نمط النصوص الذي تختاره لنا أستاذة العربية ( الفرنسية ) ظناً منها بأنها تقوم بتطوير وتحديث أفكارنا على طريقتها .
أما الزميلة التي كانت تقرأ الحوار فهي " سميرة " ومن الضروري أن أصفها لك لكي تفهمي ما أعنيه :
سميرة , طويلة وعريضة الأكتاف , ضخمة الجثة وسمراء تشبه كوندليسا رايس قبل ان تلبس الميني _ جوب , وهي لو ظهرت لنا مثلاً في الممر المؤدي إلى الصف على حين غرة , توقفنا عن الضحك وصرنا نمشي بقرب الحائط ، نلوذ به بكل هدوء حتى نصل لمحاذاتها فنقول لها بكل احترام : " بونجور سميرررة " ثم نحث الخطى مسرعين بالابتعاد عن مصدر الخطر .
وإذا حدث أن ضحكت إحدى البنات في الصف أو تمايست في مشيتها قليلا تريد لفت النظر، انبرت لها سميرة ووجهت إليها نظرة من عينيها الحادقتين سوف تسمرها في أرضها لتعود بعدها إلى مقعدها ورأسها مدلدلة إلى الأسفل من الندم ، فنظرات سميرة كلها ملامة واتهام كأنها تقول لها بأننا عربيات ومسلمات ويجب أن نكون هنا بمنتهى الجد والصرامة . وإذا حدث أن أحد الشبان تودد إلى بنت أو حاول المزاح معها أو التعليق على موضوع ما خارج الإطار التقليدي ، داخل الصف أو خارجه ورأته سميرة ، حدجته بنظرة متوعدة ليصرف النظر بعدها عن الموضوع برمته . المهم أنها بينها وبين نفسها كانت قد قررت تأديبنا ووضعنا على الخط الذي تراه هي مناسباً فكانت تقوم بدور ناظرة المدرسة أكثر من كونها زميلة لنا في الصف . لكل هذه الأسباب أسميناها : " كونداليسا رايس " .
وكانت سميرة تقرأ بصوتها الجهوري المقاتل نص الحوار الدائر بين علي وسوزان :
ـ هل تتزوجني يا علي ?
ـ لا , لا أستطيع
ـ ولكني أحبك يا علي
ـ وأنا أيضا أحبك يا سوزان ولكني لا أستطيع ...
قال لي آريان: ماما لا أعرف لماذا وأنا نصف نائم ، تخيلتها بأنها تتحدث معي وأنها عندما قرأت "هل تتزوجني يا علي " تخيلت شيئا كالكابوس كأنها تقول لي أنا بالذات : " هل تتزوجني يا آريان ? " .
كنت غافلاً ، فاستفقت مذعورا على وقع هذه الجملة وتخيلت كوندليسا رايس تطلبني للزواج لأجد نفسي أنتفض بقوة وأضرب بيدي على رأسي بتفجع قائلا : " أوف ! " .
سكتت سميرة , فالتفت ورائي ليقع نظري على نظر البنت التي تجلس خلفي والتي ما إن رأتني حتى انفجرت بضحك أعمى كأنها قرأت أفكاري وفهمت كل ما خطر ببالي .......
الصف كله من حولي أخذ يضحك ومعهم المعلمة أيضاً : الوحيدة المفجوعة كانت سميرة و..... أنا !
لم أدر ماذا أفعل فأنا لم أكن أقصد إحراجها كما أنني أحسست بنفسي بالإحراج ، وبسرعة تركت مقعدي ، وانبريت لها وأخذت الورقة من يدها وقلت :
ـ " ليس هكذا يا سميرة ، هذا نص حب وغرام يا عزيزتي ولا يمكن أن نقرأه بهذه اللهجة ، أعطيه اللحن المناسب ، دلّليه قليلا هذا العلي لتشجعيه ، خفضي صوتك معه هذا المسكين , قولي له : "هل تتزوجني يا علي ? " بغنج , بشيء من الحنان ، يعني عندما تقرأين يجب أن نشعر في صوتك بأنك تحبينه وترغبين في الزواج منه : سميرة ! هذا ليس طلب كرت للإقامة تتقدمين به عند البوليس . هاتي اعطيني الورقة .....
وصرت أقرأ النص بحركات تمثيلية فيها الكثير من المبالغة لتغيير الجو وتخفيف وقع الصدمة حتى صار الصف في هرج ومرج والمعلمة الفرنسية كاد يغمى عليها ، خصوصاً بعد أن حللتُ محلها في تقديم النصائح ولم تعد قادرة على ضبط القاعة وهي تردد : " كفى آريان , اجلس آريان " وهي تبكي من شدة الضحك .
المشكلة هي أنه لم يعد أحد في الصف يقبل بعدها بأن يقرأ النص لأنهم خافوا من التعليقات والانتقادات ، فاضطررت لقراءته بنفسي والتهريج حتى آخر الساعة رغم تعبي الشديد .
بعد أن ضحكنا طويلا قلت له :
ـ " بما أنك مهضوم وبتعرف تمزح فلماذا لا تضحك معنا هنا في البيت ? فأنت هنا تدخل علينا أميراً ثم تخرج وزيراً ولا نعرف كيف نحكي معك ? " .
قال لي :
ـ " لا ، لا هذا شيء آخر . أنتم هنا شيء آخر ، ثم إن هذه الحادثة حصلت مرة والسلام ولا أنوي بأن أعيدها في كل يوم " .
|