سعيد الإنسان كن أول من يقيّم
كنت ذات يوم برفقة والدتي في منطقة ساحة النجمة نتسوق هناك . كانت أمي قد عادت من أميركا ، في أثناء عطلة الصيف ، بعد غياب عشر سنوات . كنت أنا هنالك أيضاً في نفس الفترة ، أي في طرابلس ، لقضاء العطلة وتحين اللقاء .
وصادف أن دخلنا محلاً لبيع الأجهزة الإلكترونية والكهربائية لأن أمي كانت قد قررت تغيير هوائي التلفزيون في البيت ........
صاحب المكان كان شاباً ملتحياً وعلى عينيه نظارات طبية تخفي أكثر وجهه . عند دخولنا ، كان وصديق له ، يتحادثان حول " بضاعة " يزمع شراءها منه ويتناقشان في التفاصيل ، فلم ينتبه إلينا ........ صرنا ، أنا وأمي ، نتشاغل بالنظر إلى البضائع المعروضة في ذلك الدكان الصغير ريثما ينتهي من حديثه ، ويتفرغ لنا .
فجأة ، نراه يتوقف عن الكلام لينظر إلينا بتعجب وهو يهتف :
ـ خالتي " أم علي ? " ( وهو اسم والدتي ) ، أنت " أم علي ! " .....
نظرت إليه أمي باستغراب ، ثم نظرت إلي كأنها تسألني إذا كنت قد تعرفت إليه أم لا ? ، لكن ما ظهر على وجهي كان يقول بأنني لم أعرفه . ثم
لأسمع والدتي تسأله ببساطتها المعهودة :
ـ " مين حضرتك يا خواجة ? " . وهي تقول عادة " يا خواجة " لكل رجل تجاوز العشرين من العمر بغض النظر عن طوله أو عرضه أو مركزه الاجتماعي . فلكزتها لكي تصحح ، فتابعت :
ـ " مين حضرتك بلا زغرة " .
ـ " أنا سعيد ، أفلا تذكريني ? أنا سعيد ابن أبو سعيد رفيق علي ، كنا جيرانكم بالبعل ( بعل الدقور ، من حارات منطقة التبانة ) ...... " أضاف بحماس بالغ .
ـ " ياه ، لا تواخذني ، تغيرت كثيراً منذ تلك الأيام ( كان عمره بوقتها ربما سبع أو ثمان سنوات ) . كيف أهللك ، انشالله مناح ، لكن كيف عرفتنا يا خواجة سعيد ? "
ولما لكزتها مرة أخرى صار يضحك ، وهو يقول : " ضياء ، أنت ضياء !" ، ثم أضاف :
ـ " ومن ينساك يا أم علي ? لو عشت عمري كله فلن أنساك لأنك صاحبة فضل علي لن أنساه أبداً ! "
عادت لتنظر إلي باستغراب ، لتسألني بعينيها إذا كنت قد فهمت شيئاً من حديثه . لكن لا شيء ! ثم لتقول :
ـ " والله لم أعد أتذكر ، فماذا فعلت ? خير انشالله ? "
صار يتكلم ، بكل لهفة كان يتكلم ويقول :
ـ " كنا صغاراً ، وكان علي قد أنزل عجلته من البيت إلى الحارة ، فصرنا نلعب بها ، أنا وهو ومحمود ابن الأسمر إذا كنت تذكرينه . بيومها دهسته السيارة وأخذتوه إلى المستشفى ، فجبروا له رجله لأنها كانت مكسورة ثم أعدتموه في نفس اليوم إلى البيت . كنت أنا ومحمود في بالغ القلق والخوف ولم نكن نعرف ماذا جرى له ، فأتينا لعندكم ، وطرقنا على الباب ، وكنا بمنتهى الخجل والخوف من ردة الفعل ، لنسأل عن علي ونتفقده . لكنك أدخلتينا بيومها إلى غرفته ، ووضعت لنا كرسيين بقرب السرير لنجلس عليهما ، ثم أحضرت لنا كوبين من العصير البارد على صينية كما نفعل مع الضيوف الكبار تماماً . "
أمي تقول باستغراب شديد :
ـ " والله معقول ، لا أذكر ، وبعدين ? " .
ـ " هذا كل شيء ! هذا هو المعروف " ، يقول وهو يضحك وهي تتفرس في وجهه بكل تعجب ، فيضيف :
ـ " المعروف يا أم علي هو أنك احترمتينا ! لن تصدقيني ربما لو قلت لك ذلك وأفهم بأنك ستستغربين ، لكنها المرة الأولى في حياتي التي شعرت فيها بأنني أنسان وبأنني أستحق الإحترام مثلي كباقي البشر . كان أهلنا وكل المحيط الذي كنا نعيش فيه يتعاملون معنا بطريقة مختلفة ، لم أكن أشعر بأنني إنسان ، كنت أظن بأن الإحترام للكبار فقط ، أي لفئة أخرى لا أنتمي إليها ، والمرة الأولى التي شعرت فيها بإنسانيتي هي في ذلك اليوم الذي قدمت فيه إلينا كوب العصير على صينية ، وقلت لي تفضل . هذا فضل كبير يا أم علي ، فضل كبير غير لي حياتي ، فضل كبير لن انساه لك ما حييت " .
|