الحريةالمتلونة     ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
" تسللوا مع أطياف الفجر مُدنسين طهارة نوره ومُختلسين حُرمَة نورُكُما يا من كنتما قلب القضية و ضميرها"
الطفلين محمد الدرة و هدى أبو غالية
إذا كانت الحرية هي من اسمى المقدسات في التكوين الإجتماعي و الأخلاقي و التطويري لأية أمة، و لا تختلف بذلك عن قدسية الدين و تعاليمه أو عن قدسية العائلة و مبادئها، و إذا كان وجود و إزدهار الأمم يعتمد على هذه الأركان الثلاث، الدين ( بجميع طوائفه و مذاهبه) الذي يرشدنا إلى الصواب و يردعنا عن الخطيئة، العائلة التي تجمعنا و تضمنا بطوق من المبادىء التي هي بدورها، كالدين، تأخذنا نحو الصواب بعيداً عن الخطيئة، الحرية التي تؤمن لنا المناخ لننمو و نتأقلم و نتفاعل، و ثلاثتهم يعززون الإنسانية و العدالة و المساواة، فما هو الدافع إذاً وراء التفرقة العنصرية و الدينية والإجتماعية التي تعمل على تفكيك كل هذه المبادىء المثالية و تعمل بالتالي على تحطيمها بإسم الإنسانية و العدالة و المساواة? هذا التناقض في الشعارات التي تُطلق بإسم الحرية إنما تدل على أن مفهوم الحرية مرهون بالفائدة الفردية لأمة واحدة، لمجتمع واحد، لعائلة واحدة أو لفرد واحد. و اللاعب الأول في تلون "مفهوم الحرية" هي المصالح الذاتية المحكومة بالطبيعة البشرية (بكل مزاياها) الحسنة و الشريرة.
الحرية التي لا يفتأ "مثقفو" العالم العربي "بالتشدق"بها في الآونة الأخيرة هي مجرد إصطلاح لمفهوم لم يعد يمت بصلة إلى المعنى الحقيقي للحرية المنشودة. لقد تغير هذا المفهوم من كونه منبع للإصلاح و النهضة الثقافية و التألق الفكري و الفني إلى الجري وراء حرية ملونة و متلونة، تابعة و متطبعة بمن يُصَدِِّرها إلى مجتمعنا للحفاظ على "حريته في إستعبادنا" فيها. الحرية التي يريدونها لمجتمعنا هي ليست حرية الفكر الحر الذي يعمل على التشبث بأمجاد التاريخ، بثقافته و حضارته و إنجازاته كحافز للإصلاح و الإبداع و التجديد بما يواكب العصر الحالي من تطور في العلم و التكنولوجيا، ما يدعو إليه "مثقفو" العالم العربي (للإنصاف، يجب أن أقول بعض المثقفين)، ما يدعون إليه هو ممارسة حرية الإنفلات الفكري و الإجتماعي و الأخلاقي و السياسي و التنصل من الماضي و التاريخ لأنهما (برأيهم) يعملان على تكبيلنا و على الحد من تطورنا، بينما نرى الأمم التي تريد تحريرنا من أكبال ماضينا، تُنعش ماضيها و تُنمقه و تتباهى به.
و يعود السؤال ليطرح نفسه.. لماذا??? لماذا نُعاني من هذه الظاهرة المخيفة? أن يكون الجواب إتهاماً لحكومات الأغبياء و عروش الغلمان و صبيان الأكثرية، هذا ليس بالجواب الشافي... الثورة الفرنسية تأججت بسبب وجود بعض من الأغبياء و الغلمان و الصبيان في "الملكية الفرنسية الحاكمة"، و تمكنت الثورة الفرنسية من إسقاط النظام الملكي الذي كان مدعوماً من الحكومات الملكية الأوروبية. إذاً نستطيع أن نجادل بأن فساد الحكم لا يستطيع أن يسلب الفرد من الإحساس المفرط بالظلم و الغبن و بالتالي لا يستطيع أن يكبت توقه للخلاص من هذا الظلم و التمرد عليه و كسب حريته بأية وسيلة يراها بناءة للوطن و للمجموعة.
الصورة التي نواجهها اليوم في المشرق العربي و شعبه المقموع تختلف عن الصورة التي رسمها هذا الشعب لنفسه خلال الإحتلال العثماني والإحتلال الإنكليزي و الإحتلال الفرنسي. بينما كان الإستعمار بأشكاله الثلاثة يستعبد و يُجَوّْع و يُدمر البنية التحتية في البلاد المُسْتعمرة لتثبيت إتكاليتها و تبعيتها و تبنيها لقيم و ثقافة المُسْتعمٍر "بمساعدة الحكومات المحلية الموالية للإستعمار"، أخفق هذا الإستعمار في سحق الروح الوطنية و أخفق في زعزعة الإيمان بالتراث وحضارته و لذلك رأينا شيوع التصدي للإستعمار و مناصريه من حكومات، كما رأينا مُثقفي تلك الحقبات تحث الشعوب على النهضة و على المقاومة من خلال الأحاديث و الكتابات الإجتماعية و الثقافية و الإدبية و السياسية و من خلال تمجيد تاريخ الأمة و أمجادها. أما اليوم فإننا نرى أن مجرد التلميح عن الماضي العربي يدفع بمثقفينا إلى حالة من الهيجان المسعور و أصبحت "موضة" التعري من العروبة و تاريخها هي قمة الحضارة و الرقي و الطريق المفضل إلى الحرية المنشودة.
منذ الحادي عشر من سبتمبر بدأنا نرى أن مفهوم الحرية في العالم الغربي قد بدأ بالتلون تماشياً مع التطورات الجديدة التي إجتاحت العالم. و أصبحت بلاد الحريات تلاحق الحريات بحجة الأمن القومي تماماً كالحجج التي وُلٍدنا و تربينا معها. أصبحت أجهزة المخابرات ضرورة و التنصت على المكالمات الشخصية ضرورة و مراقبة حسابات البنوك لأفراد الشعب ضرورة و التجسس الشامل على حياة الفرد ضرورة و التصدي للإعلام الحر ضرورة. و مع ذلك لا يزالون يتبجحون بأن إحتلالهم لأوطاننا إنما هو تحرير هذه الأوطان من قمع الحريات و الحقوق الإنسانية، أما سجن "أبو غريب" و معتقل "غوانتنامو" و عمليات التعذيب و الإرهاب و الإعتداءات المتكررة إنما هي الثمن الباهظ الذي يجب أن يدفعه المعتقلون لتأمين الحرية و الأمن لشعوبهم. و مع ذلك نجد "مثقفينا" الداعين إلى إعتناق الحرية المستوردة ماضين على الترويج لها بغض النظر عن نوعية هذه الحرية.
الحرية الخالدة هي توأم الكرامة القومية، هي إمتداد لتاريخ غني و ثمين يستأهل الحفاظ عليه تماماً كما الحفاظ على الآثار النادرة في المتاحف.
الحرية المفروضة علينا اليوم هي حرية رخاء الإنفلات، حرية الملذات الآنية، حرية الترف المادي الذي يعمل على بتر الوصال مع الماضي و ينأى عما سيأتي به المستقبل...هي حرية العيش كالغريب في مجتمع لا وصال بين أفراده سوى المساحة الجغرافية التي يسكنونها، كل إنسان لنفسه...
الحرية الحقيقية وجدت نفسها نتيجة الإنتخابات الأخيرة في فلسطين.
شعب جائع، مقهور، مشرد، مُحاصر و مستهدف. يحمل كفنه على ذراعه كلما غادر عتبة بيته، لأنه يعلم أن عودته مرهونة بمزاج رصاصة صهيونية.
هذا الشعب المولود في الحروب و تحت قمع الإحتلال... إختار الحرية الخالدة فوق حرية الرخاء المفروضة، لأنه يعلم أن (هذا) الرخاء هو خنوع و تطبع، و أن الخلود... هي كرامته أبدية............
...... لقد رأينا كيف قُمِعت الحرية من قبل المتشدقين بإسمها (داخلياً و خارجياً)، فقط لأنها إمتداد لنضالٍ جذوره مزروعة في الماضي العريق و فروعه ملهوفة للوصول إلى مستقبل أفضل........ |