خطوط نقدية حمراء
(2) تجليات المعرفة الباطنية في [ سيميائي ] " باولو كويلهو "
الأداة السحرية كمحرك لفعل الإشراق
______________________________________
(أ?) ? مفتتح الدائرة : من الحلم إلى الحجرين عبر الساحرة و الملك .
الراصد لسيرة الأديب البرازيلي " باولو كويلهو " و تقلباته الحياتية خلال مشواره السابق على تفرغه التام للإبداع الروائي لابد و أن تستوقفه ملاحظة انخراط الأديب المذكور في نشاطات تتعلق بممارسة السحر و محاولة استرفاد القوى الغيبية ، عن طريق انضمامه لإحدى الجماعات المشتغلة بهذا المجال في إنجلترا .
و الحقيقة أن هذا التوجه له ما يبرره على مستويين :
الأول : تلك الصبغة النفسية التي تسود كنمط عام يميز سلوك المبدعين بصفة عامة في انكبابهم الزائد على سبر أغوار الخفي و اقتفائه و امتياح رموزه و مجاليه في نواتج إبداعاتهم الخاصة .
الثاني : هذه التركيبة شديدة الخصوصية التي تطبع بميسمها نفسية " باولو كويلهو " و التي أفرزت تناقضا على المستوى الظاهري لسلوكه الخاص و الذي يصفه بنفسه على أنه : ( ربما حار أهله بسلوكه غير المعتاد ، نصف خجول ، نصف استعراضي ، و رغبته في أن يكون " فنانا " ، شئ اعتبره كل فرد في عائلته وصفة تامة للانتهاء إلى منبوذ اجتماعي أو الموت بؤسا ) (1) .
و برغم وقوعه فريسة للأزمات النفسية ، مما استدعى علاجه في " مستشفى الدكتور إيراس في ريو دي جانيرو " لثلاث مرات متعاقبة خلال الأعوام 1965 ، 1966 ، 1967 على التوالي ، فإن أديبنا فيما يبدو كان أصلب عودا من المعتاد ، بل و مقاتلا من الدرجة الأولى ، حيث لم تكل يداه ? برغم ما هو متوقع ? من توالي الطرق على أبواب المجهول الكوني ، علها تجود بما يبل صدى نفسه الحائرة ، فكان أن انضم كما سبق إلى إحدى الجمعيات الإنجليزية المشتغلة بفنون السحر و منتميا إلى جماعات " الهيبيز " ، ثم منتهيا إلى مؤمن كاثوليكي متفرغ لإبداعاته الأدبية .
هذا الزخم من الخبرة الحياتية مضافا إليه عقلية طلعة منفتحة على ثقافات العالم جعلت من مفردات العالم الغيبي في بعده السحري أدوات مطواعة في متناول قلم " باولو كويلهو " ، مفجرة سياقات جمالية و معرفية تحيل إلى فضاء الأسطورة و الخرافة و الحكمة القديمة ، مما يثير عبقا دسما لا يخطئه المتذوق لفن " كويلهو " .
إلا أنني في طرحي هذا أسمح لنفسي بالذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك ، فأنا أزعم أن هذه المفردات الغيبية ? خاصة ما كان منها منتميا إلى فضاء السحر بمعناه الطقسي ? تلعب دورا أساسيا بوصفها دوافع أولية محركة لفعل السرد في أعمال " كويلهو " ، بل و مطورة لذات الفعل ، مما يسمح بإمكانية استخلاص نسق بنائي كامل يتحكم في تطور السرد و تتابع الحدث و نمو الشخصيات .
و كنموذج تطبيقي فقد آثرت أن أنطلق من النص الشهير [ السيميائي ] The Alchemist و ذلك لعدة أسباب : أولها و أظهرها ، ارتباط النص في نسقه الحكائي بشخصية الخيميائي / السيميائي . ثانيها إسهاب " كويلهو " في استرفاد الممارسات السحرية و السيميائية بمحمولاتها المادية و المعرفية مستعينا بمحورية المعرفة السيميائية و صياغتها لعوالم أبطال النص .
و ربما يكون من المنطق أن نبدأ بمدخل ذي صلة بمفهوم السيمياء كما يفهمها المعنيون بالغيبيات و كما صاغ " كويلهو " نصه على هدي هذا المفهوم :
( تعني كلمة " شم " أو " كم " اللون الأسود في الهيروغليفية ، و لأن مصر أرضها سوداء فقد جرت العادة على استعمال الكلمة حين وصف مصر . و يذهب كثير من العلماء إلى أن مصر مهد الكيمياء ، و لهذا أطلقت الكلمة اشتقاقا من كلمة " كم " أو نسبة إليها . و يتبع رأي آخر ما كتبه " تزوسيموس " Zosimus ، و هو كاتب من " بانوبوليس " عاش في القرن الرابع الميلادي ، و يقول الكاتب المذكور أن مخترع الكيمياء كان رجلا يدعى " شيمس " Chemes و أنه ألف كتابا أسماه " شما " أو " كما " منذ عهد سحيق ، ساعدته فيه بنات الناس اللائى تزاوجن من الملائكة الذين هووا ) (2) .
( و كانت صناعة الكيمياء قديما تقوم على أساسين ، البحث عن شجرة الحياة أو شجرة المعرفة ، و قد مزجوهما في شجرة واحدة ، ثم حجر الفلاسفة ) (3) .
تلك الإحالة إلى المنشأ المصري للكيمياء القديمة " السيمياء " ، و هذا الحصر في سعي علم قديم إلى حيازة منبعي الخلود و الثروة ? شجرة الحياة و حجر الفلاسفة ? يجدان صداهما في دوافع الرحلة التي خاضها الراعي الشاب " سانتياجو " بطل [ السيميائي ] ، و التي بشروعه فيها فإن فعل السرد يبدأ في الانفجار مفتتحا دائرة عودها على بدئها في ذات نقطة الانطلاق ? مدينته الوطن ? و لكن شتان ما بين البدء و العودة ، فبدء الرحلة يتم و البطل لما يتفتح وعيه بعد ، فهو ما زال في طوره الغفل ، فما أشبهه بالمادة الغفل لمعدن اعتيادي يوشك أن ينصهر في بوتقة سيميائي محنك يروضه عبر سلسلة من الأحوال و الأفعال حتى تتوهج طينته و تتخلص من خبثها و تصل إلى فورانها الأقصى ، فما يعتم أن يلقي إليها بنفحة محسوبة من سر حجر الفلاسفة ، فتشهق الروح في غمرة المشاهدة و يتسلخ الفؤاد عن طوره الغشيم إلى كينونته العارفة بالفعل بعد أن كانت قيد المعرفة بالإمكان .
إلا أن " كويلهو " لا يقنع فقط بالإطار المعرفي الدال و الموحي لنسق الرحلة / الطواف في الحج / المعرفة الباطنية الذوقية / التحول السيميائي من الخبيث إلى النفيس ، لكنه و بقوة يشرع في اتخاذ تدابير إجرائية تضمن دوام و استمرار فعلي التدفق / التطور لكل من الشخوص و الأحداث على حد سواء ، و هو ما يمكن تتبعه فيما يلي :
1- إدراك الراعي الشاب ? على المستوى الحدسي ? أن وعيه ما زال مدرجا في أكفان الغفلة ، هذا الإدراك يأتي مشفوعا بنزوع لاستكناه الدلالة السحرية للأحلام كعامل للتفسير و الإيعاز بالفعل معا ، و هو ما تسوقه الجمل الدالة : ( كانت العتمة لا تزال سائدة عندما استيقظ ، تطلع إلى أعلى ورأى من خلال السقف نصف المحطم نجوما تتلألأ . و فكر لنفسه : " كنت أود أن أنام فترة أطول " كان قد عاوده نفس الحلم الذي رآه في الأسبوع السابق ، و مرة أخرى استيقظ قبل نهاية الحلم ) (4) .
(و بدأ الشاب يدهش للأفكار التي تنتابه ، و اكتشف أنها غريبة . ربما كانت الكنيسة التي تنمو في داخلها شجرة الجميز مسكونة بالأشباح . أيكون هذا هو السبب في أنه قد رأى ذلك الحلم نفسه مرة أخرى ) (5) .
و أتوقف هنا للحظة عند دلالة رمز الشجرة النابتة فوق هيكل الكنيسة ، و ما يتضمنه من مزاوجة بين شجرة الخطيئة المسيحية و هي ذات الشجرة التي تتخذ مظهرا معرفيا و سرمديا في المفهوم السيميائي ، و التي بعد أن يتم تفتح الوعي في ختام رحلة " سانتياجو " تكون هي ذاتها مناط الرحلة و مخبأ الكنز .
ذات الكنز الذي اختتم فعل القص ? و المكون من عملات ذهبية أسبانية قديم و أقنعة ذهبية توحي بغزوة أسبانية لإحدى حضارات أمريكا الوسطى ? يحيل إلى بداية القصة حين يحكي الفتى كيف بدأ كراع : ( لم يضف الأب شيئا إلى ما قاله ، و في اليوم التالي أعطى ابنه صندوقا يضم ثلاث عملات ذهبية أسبانية قديمة . قال لولده : هي عملات وجدتها ذات يوم في أحد الحقول ) (6) . ها نحن أولاء أما دائرة أخرى تبتدئ بذهب من نفس نوعية الذهب الذي تختتم به ، الذهب الذي صاغ " سانتياجو " راعيا ، هو ذاته الذي توج نجاحاته طوافا في الآفاق و مطمئنا بالمعرفة ، و هو ذاته المعدن الذي ينتظم جهود السيميائيين في سعيهم لإتقان حرفة [ التحولات ] . ثم تأتي هذه الإحالة العرضية إلى مصدر الذهب في كل من عطية الأب و لقية الكنز ، فكلاهما يحيل إلى حضارات أمريكا الوسطى التي ألهبت خيال الفاتح الأسباني " كورتيز " لغزو " مونتيزوما " في عقر ما تبقى من مجد مهيض لنهب ذهب حضارات السحر و الأسطورة ، حضارات الضحايا البشرية و الثعبان الريشي ، حضارات " إنكا " ، " أزتك " و " مايا " .
هذا الوعي الحدسي الذي يدغدغ رغبة الرحلة في نفس " سانتياجو " كان من الطبيعي أن ينتهي إلى محض خاطر من الخواطر التي تجوس بخيالات الشباب المبكر ما لم يعمل " كويلهو " على تطويره إلى حيز الاستشراف :
2- و ذلك بدفعه إلى سياق القصة بشخصية ذات صلة بعين الوجود الغيبي ممثلة في عجوز غجرية قارئة للكف ، تكفل هي الأخرى استمرار النسق الدائري للأفعال ، فهي تظهر في بداية القصة بوصفها مفسرة للحلم و محرضة على الإخلاص للرؤيا ، و تظل كامنة في الوعي حتى تطل برأسها مرة أخرى في مختتم الدائرة مطالبة بحصتها الضمنية في كنز " سانتياجو " . إن هويتها السحرية تطفر عبر المونولوج الذي يسوقه " سانتياجو " في جلسته قبالتها ليحكي حلمه : ( و كانت الشائعة الرائجة أن الغجري شخص يقضي حياته في خداع البشر ، و قيل أيضا أن بينهم و بين الشيطان عهدا ) (7) .
إن العجوز في ظلال هذا المفهوم تعمل في اتجاهين متعاكسين : فهي من جهة عامل مثير للفضول بوكزه للوعي في اتجاه الحلم ، و من جهة أخرى هي عامل مثبط نظرا لسوء السمعة اللصيقة بها . هذا التعارض يلقي بالتبعة كاملة على الاختيار الحر للشخصية المنوطة بالصراع ? " سانتياجو " ? و في ذات الوقت يدفع بالبطل إلى معاناة إدراكه لإمكانية تطوير الذات بخوض رحلة مجهولة المعالم .
3- ثم يعمق " كويلهو " من الدلالة السحرية في اختياره لوجهة الرحلة ? أهرام مصر ? بكل ما تمثله مصر و أهرامها من تداعيات سحرية و غيبية في العقلية الأوربية ، ترتبط بسحرة مصر القديمة و التراث الغيبي الذي يحوم حول علم الهرميات Pyramidology . و لكي يحافظ " كويلهو " على شحنة الغموض المفترضة في مثل هذه الإحالة فإنه لم يتطرق طوال تدفق السرد في الرحلة إلى استقصاء العنصر المكاني بتفصيلاته و إنما ظل المكان بمثابة حضور لفظي لا يتعدى ذكر الاسم ? مصر ، الأهرام ، أهرام مصر ? فالمراد هنا هو الإيعاز لا التقرير .
4- ثم ما يلبث عامل التحريض أن يتخذ تحققه الأقصى في الظهور المفاجئ للشيخ الغريب العربي ، و الذي يواصل طوال استمرار السرد اقتسام ملامحه و سماته مع شخصيات أخرى ? بائع الحلوى و السيميائي ? مواصلا دوره التحريضي و الإرشادي لضمان اكتمال الدائرة و من ثم اكتمال وعي الشخصية و اكتمال التفاعل من أجل الترقي . في البداية تعمل هذه الشخصية من خلال عامل تشكيك في المسلمات الاعتيادية التي اصطلح معظم البشر عليها في سياق علاقاتهم بمفاهيم كتبهم السماوية . فغالب الناس يمارسون كسلا فكريا بشكل لا يسمح حتى بالنظر من زوايا مغايرة ، مما انعكس بالسلب على الشروح الخاصة بالكتب المقدسة ، و التي تصر في غالبها على تقديم صور من الجبر و المصائر المقررة سلفا مقصية عامل الإرادة للأبد مما يكرس للقدرية و التواكل ، و هنا يظهر المفهوم المغاير للسحر في بعده الإجرائي ( السحر قائم على ثقة الإنسان بأنه يستطيع السيطرة على الطبيعة مباشرة ، إذا عرف فقط القوانين السحرية التي تحكمها ، هو في هذا قريب من العلم . الدين و الاعتراف بالعجز الإنساني في بعض الأمور ، يرفع الإنسان فوق المستوى السحري ، و فيما بعد يحتفظ باستقلاله جنبا إلى جنب مع العلم الذي انهزم أمامه السحر ) (8) . يجد هذا المفهوم تحققه فيما يلي : ( تفحص العجوز الكتاب من جميع جوانبه كما لو كان أعجوبة و هو يقول : هه هذا كتاب مهم و لكنه ممل للغاية ... واصل العجوز حديثه : هو كتاب يتكلم عن الأشياء نفسها التي تكاد تتكلم عنها كل الكتب الأخرى ، أي عن عجز البشر عن أن يختاروا مصائرهم بأنفسهم ، و في النهاية يحاول أن يقنعك بأكبر كذبة في العالم . سأله الشاب مدهوشا : و ما هي إذن أكبر كذبة في العالم ? - إليك هي : أننا في لحظة معينة من عمرنا نفقد السيطرة على حياتنا و من ثم يتحكم فيها القدر . تلك هي أكبر كذبة في العالم ) (9) . و كأن المفهوم الذي يقدمه " كويلهو " هنا لفعل السحر لا يتجاوز مفهوم الدين و لكن في كيانه الخالص المتخلص من إسقاطات البشر لمفاهيمهم القاصرة عنه و التي يحاولون فرضها على غيرهم بدعوى الوصاية و الهيمنة . كما يأتي هنا مفهوم دقيق ملتبس للوهلة الأولى ، هو ذلك المتمثل في وجوب اعتماد المرء على إرادته الخاصة لتحقيق " أسطورته الذاتية " من جهة ، و من جهة أخرى في وجوب اتباع المرء للعلامات و إخلاصه لحدسه دون تردد لنيل خلاصة ما خطته المقادير . إلا أن هذا الالتباس لا يلبث أن ينفك بالرجوع إلى التعريف السابق للسحر ، فالمرء بإدراكه لقوانين الكون الباطنية يلقي بنفسه في خضمها غير هياب من النزال و يخوض لجتها بكل تقلباتها واثقا من النتائج المقدرة سلفا و لكنه في ذات الوقت يكون مزاولا لفعل إرادي دفع به لاتخاذ القرار الذي أحجم عنه الكثيرون الذين فقدوا من ثم ما كان من الممكن أن ينالوه من خارطة القدر ? بائع الفشار كمثال ? و بذلك ندرك الالتباس في لفظة " مكتوب " التي يجب أن تكون قد ولدت عربيا لكي تدرك مغزاها . هذا التشابك يتعمق من خلال وصف شخصية الشيخ نفسها ، و التي تحمل في طياتها ذات التناقض و التنوع و الالتباس . فهو رث الهيئة الخارجية إلا أنه يرتدي درعا من الذهب السميك أسفل ملابسه الرثة ، و هو عربي الهيئة إلا أنه يصف نفسه بأنه " ملك سالم " في إحالة صريحة لمدينة " سالم " Salem الإنجليزية التي تعج بالساحرات و قرناء الشيطان في التراث الشعبي الإنجليزي الذي انتقل إلى صياغات السينما العالمية . و هو يعلم عن الشاب ما جعله يتخذ قراره النهائي باعتزال رعي الغنم استعدادا لخوض الرحلة ، و في ذات الوقت لا تمنعه حيازته للعلم و المال ? الدرع الذهبي و المعرفة / حجر الفلاسفة و شجرة المعرفة ? من طلب نسبة العشر في خراف الراعي كأجر للمساعدة .
و للحديث بقية .
ياسر منجي
القاهرة في 29/6/2005
Lucifer_yass@yahoo.com
الهوامش
1- باولو كويلهو ، فيرونيكا تقرر أن تموت ، ترجمة ظبية خميس، روايات الهلال ، العدد 627 ، مصر ، 2001 ، ص 20 .
2- إبراهيم أسعد محمد ، نظرات في تاريخ السحر ، مطبعة الأمانة ، مصر ، 1976 ، ص 473 .
3- المرجع السابق ، ص 475 .
4- باولو كويلهو ، ساحر الصحراء ، ترجمة بهاء طاهر ، روايات الهلال ، العدد 571 ، مصر ، 1996 ، ص 14 .
5- المرجع السابق ، ص 17 .
6- المرجع السابق ، ص 19 .
7- المرجع السابق ، ص 21 .
8- برنسلاو مالينوفسكي ، السحر و العلم و الدين عند الشعوب البدائية ، ترجمة فيليب عطية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، مصر ، 1995 ، ص 17 .
9- باولو كويلهو ، ساحر الصحراء ، مرجع سابق ، ص 26 . |