حب الوطن كن أول من يقيّم
هذه الحكاية مهداة مني للسعدي المشتاق إلى أرض السواد التي آلمته ولا تزال بذكراها وحاضرها .
والحنين إلى الوطن شعور عجيب لا يعني الأرض ( بسوادها ) ولا الذكريات ( بجورها ) ولا الطفولة ( بحلوها ومرها ) ولا الطير والجدول ورائحة الطين المبلول . الوطن فينا ، هو ذلك الجزء المبتور ، الامتداد الطبيعي للجسد الذي تم قطعه والاستغناء عنه قسراً ، والذي سنظل من دونه شيئاً مشوهاً ، مهما كابرنا على أنفسنا .
فضلت كتابة هذه الحكاية هنا بدلاً من ملف الحرية لأنها ، وإن كانت في روحها تحمل من معاني الحرية ، إلا أنها حكاية بنت كانت قد أتت من دفء هذا الشرق الكبير ، ثم بلبلها الحنين إلى الجذور ، بعد أن كانت قد استقرت بها الرحال ، زمناً طويلاً ، في أصقاع باردة ، حتى أنها ظنت بأنها قد نسيته تماماً .
هي قصة حقيقية ، لكنها وردت في سياق رواية ، كتبها الجزائري : "واسيني الأعرج" ، تحت عنوان : " شرفات بحر الشمال " وصدرت في بيروت عن دار الآداب عام 2002
البنت اسمها "كنزة"، اقتلعها الفقر من "بجاية " ، في الجزائر ، ورماها في مقاهي باريس لتعزف البيانو للساهرين .
كانت عازفة استثنائية ، وكما في حكايات الحب والأساطير ، يسمعها الأمير ، وهو أمير حقيقي من العائلة المالكة في هولندا ، فيهيم بها ويتزوجها ، ويحط بها في أمستردام في شتاء العام 1946 مخالفاً قواعد البروتوكولات الملكية وواضعاً لقبه الملكي قيد المراهنة . إلا أن تلك البنت سحرت الناس ، والعائلة المالكة ، بروحها وفنها ، وعزفها للسمفونيات الأكثر صعوبة بإبداع يفوق كل تصور ، حتى صارت عضواً في الفرقة الكلاسيكية الملكية ، وصار الناس يتدافعون إلى دار الأوبرا لسماع فنها المميز
حصلت على كل شيء : المجد والثروة والشهرة ، وحب الناس وتقديرهم ، والزوج الذي تطمح له أي فتاة ، والحياة الكريمة المطمئنة ....... إلا شيئاً واحداً ! وكانت قد نسيته .
يقال: إنه ، وفي إحدى جولاتها في المدينة ، تعرفت إلى رجل غامض . مجرد عابر طريق ، مغامر قذفته الأقدار إليها ..... رجل قادم من نفس المدينة التي أتت منها ، تعرفت إليه بالصدفة .
ثم ، التقته في حياتها ، بضع مرات ، جلسا فيها معاً أمام طاولة ، في مقهى بقرب الميناء ، في أمستردام ، كانت تستمع فيها إلى حكاياته . حضوره ، كان قد أشعل في نفسها الشوق إلى ذلك الجزء المبتور من ذاتها ، هز يقينها وقوض كل قمم المجد التي كانت قد بلغتها وظنت بأنها قد استقرت فيها . لم يكن ذلك الرجل نصاباً ، ولا محتالاً ، ولم يطلب منها شيئاً آخراً ، سوى الرحيل معه ! لكنها أبت وعاندت رغبتها الجارفة ، خوفاً من الخيانة . إلا أنها ، ومنذ ذلك الحين ، انشطرت بين شيئين .
وفي ذلك المساء الأخير ، وفي سطوة الحنين ، قامت إلى بيانو قديم كان مركوناً في زاوية من زوايا المقهى ، وعزفت لحناً لا يعرفه الحاضرون ، فانبهروا ، وبكوا وصفقوا حتى إن منهم من تعرف إليها وأتى ليصافحها أو يقبل يدها .
بعد أن عادت إليه سألته :
ـ " هل تعرف لمن هذه المقطوعة ? "
قال : " لا "
قالت : " أنت لا تعرف إذاً أرضك ، هذه المعزوفة ألفها رجل من طينتك كان في الكونسرفتوار الملكي ، اسمه ايقربوشن " ثم ودعته وانصرفت .
كانت العودة إلى زوجها بنظرها مستحيلة بعد أن سرقها منه الحنين إلى غير رجعة . زوجها الذي أنقذها من الموت البطىء والتسكع في مقاهي باريس القاسية ، زوجها الذي وهبها المجد والأمن والطمأنينة ووهبها كل ما تحلم به الأميرات . أما ذلك الشريد ، فلقد أعاد إليها ذاكرة الحب المفقود ، ودون أن يكون قادراً على إدراك معانيه .
وفي ذلك المساء ، توجهت إلى الميناء القديم ، ورمت بنفسها إلى البحر . ولا يزال على حافة الميناء هناك ، في أمستردام ، تمثال صغير من الرخام ، باسم الأميرة" كنزة " عازفة البيانو الشهيرة ، شيده لذكراها ذلك الأمير الهولندي الحالم .
|