البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : البنت التي تبلبلت    قيّم
التقييم :
( من قبل 12 أعضاء )

رأي الوراق :

 ضياء  
6 - مارس - 2006

شاعرنا الكبير ، الأستاذ زهير:

ما قرأته في مداخلتك الأخيرة أفرحني، لجهة أنني شعرت بأن غلاظتي قد أثمرت ، هي عكرت ماء اليقين، الذي لا بد من تعكيره من وقت لآخر لكي نزداد يقيناً . وجاء دفاعك على أحلى ما يكون ، بل ليكون مناسبة نتعرف من خلالها على الوجه الآخر للباحث زهير ظاظا ، ونلامس وجوده الإنساني ، وما زادنا هذا إلا تقديراً .

وجودك اليوم في المكان الصحيح يعني الكثير للكثيرين منا الذين تزخر بهم أمتنا ولم يجدوا مكانهم بعد .

نتشوق لمعرفة المزيد والمزيد ، لكني ارتأيت بأن نترك ساحة الفلسفة لكي لا ينقطع حبل النقاش فيها ، ونفتح ملفاً آخراً ، وهذا متروك لتقديرك وما تظنه مناسباً   

 

 كنت قد كتبت رواية صغيرة الحجم ، تحكي قصة بنت مراهقة في زمن الحرب الأهلية اللبنانية . أراها في صميم موضوعنا الفلسفي الذي نتناقش فيه ، لأنها ترمز إلى صراع الإنسان مع أهوائه وانشطاره بين رغبتين . وهي تبرز أيضاً مقاومة الموروث الثقافي ، عندما يكون عميقاً ومتأصلاً ، مع الفكر المكتسب بمظهره الحضاري " التحرري " وما يخفيه من طموحات .   

الرواية اخترت لها عنوان " البنت التي تبلبلت ... " . الحدث ، الذي هو قصة حب فاشلة ، المغرق في عاديته ، اتخذته ذريعة للتوغل إلى الداخلي ، والحميم ، لفهم ما كان يعتمل من نوازع و تغيرات في نفس تلك البنت وعالمها المحيط  من : عائلة ووطن وأصدقاء . هذه البنت كانت تتنازعها رغبتان ، الأولى: الحفاظ على نقائها الفطري، وهو ما نقلته إليها تربيتها وما تشعره في ذاتها  السحيقة . والثانية: رغبتها في الحياة والتكيف مع زمنها ومحيطها وما كانت تدعيه من أفكار عصرية وما يستلزم كل ذلك من تنازلات لا بد منها 

الحكاية تبدأ هكذا :

 

 "البنت تحدث نفسها "

أتذكرين ? تلك البنت التي كنت أعرفها ! ... كانت رقيقة ، نقية ، دمثة الأخلاق ومنذورة لأن تكون أماً مثالية !... هكذا عرفتك ! فما الذي جرى لك ، لكي تتبدلي ? ما الذي حدث لك ، لكي تتبلبلي كالريح ... ? أهو الزمان من أشقاك وغير ألوانك ? وما الذي فعلتِه أنت بنفسك ، لكي أراك ، كأنك القطيع الشاردة : مشتتة ، مبعثرة ، ومنزوعة الروح  ............. ?
 
ستقولين : " ربما هي الحرب التي داهمتني باكراً ، أعدمتني ماء الحياة  ... أربعة عشر عاماً ،  هي عمر الورود ، إعصار الطفولة اللجوجة ، ودفق الشباب الذي لا يطيق الانتظار ... لم   أرها ، ضيعتها بالانتظار ...
 كان العمرجميلاً ، والوقت كان ودوداً : الوطن كان فيروز ، والحب كان فيروز ... . الأهل والأصدقاء ? كانوا بسطاء ، لا يعدون الأيام . حتى حدثت الزلزلة .... ! " .
 
لكني أنا رأيتها لما أقبلت ! هدية الزمان إليك ، لما أقبلت ، كما المهرجان ! كزهوة البستان أشرقت ، فرحت لها بذاك الزمان . ألا تذكرينها كما أذكرها أنا ? أم أنك تتناسين ?
أتذكرين ? جدتك ، لما كانت تغرس شتولها بقرب باب الحديقة ? تضع بذور الحبق =الريحان= في باطن الأرض ، ثم تهيل عليها التراب بكفيها وهي تتمتم :
" بحق الخضرأبو العباس ، تعيش زريعتي وما تيبس ..."
ترددها ثلاث مرات ، تزرعها عند بزوغ هلال القمر ، وتسقيها من بعد الغروب ،  ... كنت تضحكين في سرك وتقولين : " جدتي ، تعيش في الأساطير ! الماضي حكايات ، والحاضر ، دعاء وصلوات .... " . أتذكرين كيف كانت  شتولها بهجة للروح ? مساكب الفل والنرجس ، وأحواض البنفسج والمنتور ، كانت بهجة للروح !.... كانت تشبه أعوامك الأربعة عشرة . أفلا تذكرين ?
 
"الحرب استدامت حروباً " ، تقولين ، " هدمتنا الحرب ! أعادتنا إلى مهدنا الأول ، العراء ! " .
  صحيح ، عزيزتي ، الحرب استطالت ، وعبثاً بحثنا لها عن أسباب ، لكي نحتويها ، لكي نعقلها  . قالوا بأنها كانت حرباً طائفية . قلنا : بأننا انتفضنا  ضد مشروع الانعزالية والصهيونية ....... أبي أقنعنا وقتذاك  بأنها كانت أيضاً (حرب الرأسمالية ضد الطبقات  الكادحة)  وأنها حرب تحرير وثورة اجتماعية ! كان يردد : بأنها تحالف البورجوازية مع الفاشية ، والامبريالية العالمية ضد مصالح الشعوب الفقيرة ، من أندونيسيا ، إلى كوبا وفيتنام ، حتى الجزائر والصحراء الغربية ............  وكان يحفظ اسم لوركا وإلليندي إلى جانب المتنبي وأبي العلاء المعري ويتحدث عنهم بشيء من القدسية ........ هو كان أممياً ، ويحلم بالعدل الاجتماعي والمساواة بين البشر ..........
" يا الله ! كم أحبه أبي ! أمير طفولتي ، وملهم سنواتي الأربعة عشرة . سيبقى لغزاً أبي : كان عروبياً ، لكنه كان لا يكف عن انتقاد عبد الناصر الذي" نكل بالشيوعيين " ، على حد قوله،   "مع أنهم بنوا له السد العالي " ، ........... لكنه بكاه بحرقة شديدة يوم مات !
 
أتذكرين !
يوم استفقت بالصدفة ، ذات صباح ماطر، لتري ذلك المشهد الخيالي : كان الجبل يبكي ! يخفي وجهه بيده ويشهق بقوة ! يستمع إلى المذيع في الراديو الذي كان يبكي بدوره ، ويشهق هو أيضاً .... باليد الأخرى ، كان يحمل سيكارة تكاد تحرق أصابعه ....... اليد التي كان يلبس فيها ساعته الفاخرة التي طالما أثارت إعجابك ! أتذكرين ?
" لن أفهمه أبداً أبي ! لن أفهمه " .
عشرة أعوام مرت بعدها ......... رأيتِه مرة أخرى يتنقل، كالحجل ، بين ركام بيتكم الذي هدمته الحرب . يبحث عن بعض الصور ينتشلها من بين الأنقاض :
" أوف ، أوف ، ولَكْ معَوَّدْ على الفجعات قلبي ... " ، كان يغني !
" يبدو أنها طقوس يا أبي ! طقوس اخترعناها ونعيد تمثيلها في كل مرة لنستعيد بها الفاجعة . طقوس ، نهدي فيها القرابين إلى آلهة الموت والدمار ! "
..............................................................................
 
لن تذكري رائدة الفضاء السوفياتية . لكن أمك سوف تذكرها لك بنشوة لو سألتِها عن الرفيقة ذات العيون الزرقاء الباردة التي صعدت إلى سطح القمر .
" آه يا جدتي ، لو تعلمين ، بأنهم في بلاد الرفيقة ذات العيون الزرقاء، قد أنبتوا القطن ملوناً في سفوح " التوندرا "على اسم " لينين العظيم " ، وأن تقريرها عن زيارتها للقمر يفيد بأنه كومة أحجار لا تنفع ولا تضر ."

يومها ، كان أبوك قد اصطحب أمك معه لاستقبال الزائرة الاستثنائية . كل الرفاق كانوا قد اصطحبوا زوجاتهم ......... يومها ، قال أبوك لأمك ، باستحياء شديد ، وبعد تردد طويل :
" بإمكانك أن تنزعي الغطاء عن رأسك لو أردت " .
لم يكررها مرتين . ورغم أن أمك لا تعرف شيئاً عن الاضطهاد الطبقي ، ورغم أنها لم تعد تذكر شيئاً مما قالته الرفيقة عن دور المرأة في حركة التحرر العالمي ، إلا أنها انتزعته إلى غير رجعة ، همها كان ، أن تشبه " أسمهان " و " ليلى مراد " بتسريحتها الجديدة .

 5  6  7  8  9 
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
على قبة الكنزة 2    كن أول من يقيّم
 
قـلـبي ومهوى أدمعي iiوصباكِ لـعـداكِ  مـا فعلت بهنَّ iiعداكِ
راودتـهُ  جريَ النسيم فما جرى ردي الـسـلام فـإنـه iiحـياكِ
أتـراهنين  على هواي iiوحكمها مـا أوحـش الـدنيا وما iiأقساك
عرفت ضرائرك العذارى أن من سـمـروا  بـأعينهن من قتلاك
إن  قيل ما احتملوا فراقك iiساعة أو  قـيل عادوا يطلبون iiرضاك
أنا من حرقت الوجد في iiمحرابها مـا بـين دمع شجٍ وعبرة iiشاك
وسـماح  من جاروا عليَّ iiوكلِّما غرسوه  في عمري من iiالأشواك
وأكـابـر الـنـساك تعلم iiأنني أسـتـاذهـم  وأكـابـر iiالفتاك
يا  طالما استيقظت أحسب واهماً أنـي سـأفـتـح أعيني iiوأراك
فـمتى يساعدني الزمان iiوأشتفي مـن نـثـر أحزاني ومن ريّاك
أصـبحتُ  في يده وليس iiبجائز أن  لا أراك بـه وأن iiأنـسـاك
حـتـى  كأني عشت ظلك iiيافعا وشـربت  ماءك من عقيق iiلماك
وخـلـعت فاتحة الصبا iiوهديره بـيـن الـحنين لصوته iiوهواك
أهـفـو  إلـيه وأنت فيه iiكأنني أغـفـو  بـجـانبه على iiيمناك
وضـياء حين تقوم بين iiورودها عـبق الورود ينوب عن iiذكراك
وضـياء  حين تطل من iiشباكها أحـلـى  النساء تطل من iiشباك
لـن يـقـدروا والله لن iiيتمكنوا أن يـحـرموني من لقاء iiملاكي
*زهير
8 - أبريل - 2006
لغز : 6    كن أول من يقيّم
 
سـألتُ الفيلسوف فقال أحلى وأجملَ ما سمعتُ من الرجال
إذا  كُـتبَ الشقاء على iiدميم تصدى  للحديث عن iiالجمال
*زهير
8 - أبريل - 2006
ابتهالات راهب    كن أول من يقيّم
 

 والله يا ذا الطلة البهيـّه

يا باقـةً بألف مزهريّه

وعنفوان الزهرة البريّه

ليس اعتقادى مبدأ التقيّه

فليجعلوها قصة مرويـّه

لهم خطاياهم ولا سويّـه   

سواد فهم و بياض نيّـه 

لزمتُ محرابى وليس ليّه

إجابة الأوديةِ العصيّه

دقّت على بابى فيا (هوليّه)

إعصار أُنثى وهوى جنيّـه

فقلتُ: لي يارب أم علـيّه

ضاعت مفاتيحى وذا ُقفليـّه

يبحثُ عن ُرقيتـه السريّـه

تُعيدُ لى ماضاع من عُمريّـه

 

                                 

                                 

alsaadi
9 - أبريل - 2006
قطعة من (بنبوك بابا)    كن أول من يقيّم
 

يراجع بخصوص هذه القصيدة بطاقة سابقة بعنون (بنبوك بابا والبنت التي تبلبلت)

فـرهـاد أيـن أبوك في iiلاهوره لـيـراك  كـيف صدقته iiالإنجابا
سـمـاك  فـرهـادا لتحفر iiمثله فـحـفـرت في أحسابنا iiالأعقابا
قـدم الـولـي وقد عرفت حديثها قـدم بـلا جـسـد تـعوم iiخلابا
قـال ابـن سادنها الكبير وقد خلا بـأبـيـه  يـمسح شمعها iiالخلّابا
ويـلاه مـا هذي النهاية? دمية وأبٌ إذا عُـدّ الـرجـال iiذنـابى
شـرفٌ  عـلـيك تكسرت مرآته فـي يـوم أسـتحيي بك iiالأترابا
الـيـوم أنـصفك العقوق غرسته بـيـديـك إثـما في بنيك iiوحابا
فـأجـاب  رفـقـا أي بني iiفإنما ربـيـتُ  فيك مقاسمي iiالأوصابا
مـا  كنت عارك في السماء iiفخلّه شـرفـا بـآلام الـزمـان iiمشابا
أبـنـي  : مـا المجد اللباب iiبكائن في الأرض حرصَك أن يكون لبابا
أبـنـي : لا تـحزن فكل iiشيوخنا حضروا  على كدر الضريح iiغيابا
أبـنـي  : ألبابٌ يزلزل iiصرحها بـنـبـوك،  لـم تك ساعة iiألبابا
لـم تعمك الألقاب في الكهنوت iiلو جـاوزت  فـي كـهنوتها iiالألقابا
أبـنـي : ما سربي الذي iiأعتمته فـي  جـنب ما ساروا به iiأسرابا
وإذا  دسـسـتُ على العقيدة دميةً فـسـواي دس على الورى أربابا
كـم تـحت هاتيك القباب iiفضائحٌ كـانـت أئـمـتـنـا لها iiحجّابا
أبـنـي : بـيت الله ليس iiبسالم مـنـهـم،  فما لك تستشيط شبابا
لـم تـنـس كـعبته ولا iiحرماته دولا سـقـتـه من الجحيم iiوِطابا
أبـنـي : إنك  لا ترى أصنامهم لا أنـهـم دخـلـوا بـها سردابا
لـكـنـهـا غـطت سماءك كلها فـعـمـيت  وانتهبت هداك iiنهابا
والـجـور أعـلى أي بنيَّ iiمكانة مـن أن نـمـد إلـى أذاه iiحرابا
أبـصرتني  والدهر يسحب iiسيفه والـرأي  أطـوع ما يكون iiجنابا
لـو  مـات من داء الكلام iiمثرثرٌ فـأبـوك فـي جـلـباته iiصخّابا
لولا السكوت على الجراح iiفضيلة مـا كنت في الموتى أعيش iiغرابا
الـحـق آفـتـه السكوت، iiوكلنا فـي  جـور آفـته نذوق iiالصابا
أبـنـي:  أعدى الناس فيما iiبينهم بـدأوا الـحـيـاة أحبة iiوصحابا
لا  تـأمـنـن الـساجدين iiوداعة أن لا يـكـونوا في القصور iiذئابا
تـاريـخ  أمـتـك السحيق iiمعلّم أن  الـنـقـائـض يستوين iiمآبا
لـمـا  أراق الله صـبـغـة iiآدم أرغـت  عـلى دمه العداء iiحُبابا
أبـنـي :  خذ  بنبوك عني iiإنني أعـطيك  في صحرائنا iiاسطرلابا
مـا كـان أوحش هذه الساق iiالتي عـصـرت بكرم جدودك iiالأعنابا
سـيـجـيء يوم لا يصدق iiسامع أن  الـمـزار ضريح بنبوك iiبابا
الـدهـر  يـمحونا ويمحو iiبؤسه ونـمـر فـي ليل الوجود iiسحابا
أتـكـون  في هذا المساء iiمنادمي وأريـك  كـيـف أقرقع iiالأكوابا
وصـلـت إلينا هامسا عن هامس أشـيـاء  غـبّـب همسها iiإغبابا
جـيـلٌ يـراشفك الحديث iiوآخر فـوق الـمـنـابـر يكفأ iiالأقعابا
مـيـراث  أسـقام تريد معاشري فـي أن أورثـهـا بـنـيّ iiفآبى
اشـرب  بـنـخـب أبيك iiآبائية خـرسـت  وآبـائـيـة iiتتغابى
أوتـار  عـودك خـمسة أم iiستة تـسـتـل مـن ألحانها iiالإعرابا
لـمـا  تـولانـي حماسك رابني مـا  كـنت تفعل حين كان iiربابا
مـا لـي أطيل عليك قصة iiأرنب كـان الـشـيـوخ لصيدها iiنشّابا
ذهـب الـمـلوك بلحمها iiوفرائها ورمـوا لـنـا الأمـعاء iiوالأقتابا
وإذا تـأمـلـت الـحـياة iiرأيتها بـيـن الـديـانات الثلاث iiعذابا
فـرهـادُ أسـفارٌ أتت بك iiعالمي كـانـت  ركـائـبها عليك iiنجابا
لا  تـعـذل الـبنجاب في iiآلامها فـالـدهـر  أعـقم أمها iiالمنجابا
فـي الشام أم في الهند جنتنا iiالتي غـازلـت شـمـطاواتها iiأترابا?
قـلـنا: دمشق، وقلتمُ دلهي، iiوفي كـل سـمـعـتَ الـلغو والكذّابا
ذهب  الزمان مع المكان ولم iiتزل نـوّاب  بـنـبـوكٍ لـنـا iiنوّابا
وجـدت ضـفـادعه سواه iiبحيرة وتـبـدلـت أسـرابـه iiأسـرابا
صارت  قلاعا في الجحور iiمعاقل كـانـت  بـدولـة طينه iiأعشابا

*زهير
5 - أبريل - 2006
مذكرات 11    كن أول من يقيّم
 

 

  

 

في انتظار الموت ! 

 

 

  تعبت ، ........ مضت حوالي النصف ساعة ولم يحصل أي شيء ، ...... لا أشعر بأي تغيير . حتى الموت يجب أن أجهد في انتظاره ?

 

  ضجرت ، ثم تعبت .......... سأكتب قليلاً حتى لا أضجر كثيراً !

 

  إخوتي يتحدثون في الخارج ... أنا أحبهم ! نتعارك أحياناً لكني أحبهم . يضايقونني كثيراً لأنني أرغب بالعزلة فلا أجدها في بيتنا . يغيرون على عزلتي ، وعلى أشيائي الخاصة ، فلا تنجو منهم ثيابي ولا أدراجي ولا أقلامي ، وأحياناً لا أجد مكاناً أجلس فيه لأتفرج على التلفزيون  ........ لكنني أحبهم   وأجدهم رائعين ! كنت سأكون شيئاً حلواً مثلهم ، ربما ، لو كنت حييت ،  لكنني تعبت ! لم أعد أقوى على احتمال الألم ، وليس لي أمل بأية حياة طبيعية بعد اليوم .

 

  فكرت بالاتصال بصديقتي " أمال " لقتل الوقت . أحبها كثيراً وهي أول إنسان أشعر بصداقته فعلاً . لكني لن أفعل ! تأخر الوقت  .... أحب أمي كثيراً ، أمي امرأة شجاعة ! ........ هل تذكر يا أبي كيف  تتهكم عليها دائماً وتتهمها بالجهل والبساطة ? هي التي كانت معجبة بذكائك أيما إعجاب ، وهي من كانت تردد بتفاخر أنك : " تلمحها على الطاير !" ..... هل لمحت شجاعتها يا أبي ?  مسكين أنت فأنت لم تعد تلمح شيئاً ، حملك ثقيل وأنت مثلي لم تعد تحتمل ......... ما أشقانا  ! ما أشقى هذه الحياة التي نعيشها ! أنا حزينة يا أبي ، حزينة ولا أجرؤ على البوح بحزني لأحد ......... حزينة مثلك ولا أتكلم ، فأنا أحزن بصمت ، مثلك .......... لا أرغب بأن أسبب لكم الأذية لكنني عاجزة عن الاستمرار ....... عاجزة ، عاجزة مثلك تماماً على تغيير هذا القدر الملعون ..... ألهذا أنت حزين يا أبي ? ألهذا اخترت بأن تنتحر قليلاً في كل يوم ? ستموت بطيئاً بطيئاً ، وأنا أحسدك على صبرك هذا ! لن ينتبه إليك أحد ، ولن يعرفوا أنك قررت أن تغادر بطيئاً ! ليس لي صبرك يا أبي ......... كلنا مساكين ونداري ضعفنا ، ........ أكثر الناس مساكين ، حتى هؤلاء الذين يتحايلون على الحياة بخبث وشطارة ، حتى هؤلاء الذين يصبرون عليها  وينتظرون منها أن تنصفهم  يوماً ....... لن يحصل ، لن يحصل أبداً فهي " بنت كلب !" ...... لن يحصل وليس من عدل على الأرض ،  أكره هذا ولم أعد أحتمله ! أكره  كل ما أنا فيه وأريد أن اختفي عن هذا العالم ........

  

*ضياء
12 - أبريل - 2006
الرسالة الحادية عشرة    كن أول من يقيّم
 

 

 

 

طقوس الاغتسال الأخير

 

 

   عزيزتي صفاء :

 

  عندما رجعت إلى البيت من ذلك اللقاء الأخير ، كنت في حالة يرثى لها . تعمدت أن لا يراني أحد ، وتوجهت مباشرة إلى الحمام ، لأنه الملجأ الوحيد  " الآمن " في بيتنا .

 

  أول ما فعلته ، بعد أن أحكمت إغلاق الباب على نفسي ، هو أنني نظرت إلى وجهي في المرآة .......... رأيتني مرعبة ! لم يكن شكلاً آدمياً ما رأيته ، بل شيئاً أقرب إلى التوحش والبدائية .... شيء يشبه اختلاط الأضداد في مزيج متنافر . يا إلهي ، لم كل هذا ? ما الذي أنا فاعلته بنفسي ? أأدمر ذاتي وأغير معالمها ? من أين أتيت بكل هذا العناد يا ربي !???  ولماذا أصر على الاعتقاد بأن العالم هو أنا وما أبتغيه ? .......  

 

  صرت أحدق بذلك المشهد الذي راعني : عيناي الحمراوان المنفوختان ، ووجهي المخضب كحقل تم حرثه حديثاً ، ولم تعد تستوي فيه أية معالم ... عيناي ، كانتا مهدودتين ، ولا قرار لهما ! ولما حاولت أن احدق فيهما ، ظلتا تراوغان وتتهربان من محاولاتي . لم تشاءا أن تنظرا إلي أبداً ، عيناي ،  كأنهما تتمنعان على النظر في وجهي ، كأنهما تخجلان من أن أرى فيهما قرارتي السحيقة .

 

  نزعت عني ثيابي لأغسلها . قلت في نفسي : " سأشغل روحي بهذا ، لعلني أستطيع ! " . ثم رحت أكومها أمامي في الوعاء الكبير ، قطعة فقطعة ، مددتها فوق بعضها ، كأنها أشلاء ميتة ، حتى صارت بارتفاع القبر . رششت فوقها مسحوق الغسيل بكثرة ، ولما فتحت حنفية الماء فوقها ، صارت الرغوة ترتفع ، ثم تتدفق وتفيض من حول الوعاء .......... رحت أنظر بنهم شديد إلى تلك الرغوة الكثيفة اللامعة . شيء ما تحرك داخل صدري ، وتذكرت بركان الألعاب النارية الذي كنا نشعله في عيد المولد النبوي(*) ، عندما كنا صغاراً . كان الضوء المنبعث منه  يبهرني ، والحرارة المثيرة التي كانت تتولد من ذلك الضوء ، كانت تحرك في داخلي فيضاً من الانفعالات التي طفقت تعاودني بإلحاح ، بينما كنت أحدق في تلك الرغوة التي كانت تفيض أمامي . صرت أقول في نفسي :

 

  " غريب الإنسان ، كيف يمكن لي أن أنسى همي بسرعة، هكذا بمجرد أن ألتهي بهذه الأشياء الصغيرة ? " .

 

  عبثاً اقتنعت بهذا الهراء ، لأنني وفي الوقت الذي كنت أردد فيه هذه المقولة الساذجة ، كنت أشعر بما يشبه الفيضان الآخذ بالاقتراب ......  أمواه البحر الهادرة صارت تحرث في صدري .... زبد مالح ، كما أكمة الموج المتصاعد راح يندفع بقوة وإلحاح ، نحو رقبتي  وبلعومي ، ولما لامست رغوته الكثيفة ، حلقي الناشفة ، صرت أختنق .... تقلصات وارتجاجات تشبه التعرض للصدمة الكهربائية ، أخذت تجتاحني بعنف مخيف ، كنت أرتجف له بكليتي . هذا الاهتزاز الجائر ، كان مدمراً ! ذلك الارتجاج الجائر ، كان يتحرك داخل نفسي فيدفع بالألم الكامن من جوفي ، نحو خلايا جسمي  كلها، بما يشبه المد والجزر ، بما يشبه حركة البحر في تقدمه وارتداده  ............. خيبة بعمق المحيط كانت تتقلص  في داخلي ، ثم تنجبل بذلك الشيء الذي نسميه : القهر القاتل ، لتثير من حولها رياحا لها قوة عاتية ، رغبة مستبدة تسعى لتدمير وتفتيت كل ما عداها . شيئاً فشيئاً ، تمكن مني ذلك الشعور بالقهر ، واستحال في تفجراً ، ثم عويلاً يشبه النباح ...... بكاء وعويل ، تخالطه سوائل مقرفة صارت تخرج من حلقي بما يشبه التقيؤ .... ذلك التفجر صار يستطيل ويتواصل حتى استملك بي تماماً ، فاستسلمت له طائعة ، ووجدتني ألوذ به ، وأنا منطوية فوق ذلك الوعاء الذي كان يفور أمامي  كالبركان ، أجعر كالممسوسة ... 

 

  " يا الله ، يا الله ، لم كل هذا يا ربي ? لما كل هذه الخيبة ، لم كل هذا القهر ? لماذا أشعر بهذا الذل كله ? شعور من داسوا على رأسه بالجزم ? شعور من سحقوه ذلاً وعاراً ? متى أرتاح من هذا الألم  ? متى سيتوقف هذا العذاب ? ما أهون الموت !  ما أهون الموت ! ما أهون الموت ....... "

 

   في تلك اللحظة القصوى من الألم ، لم أعد أريد أن أوقف الانحدار نحو الهاوية . أحببت التوغل فيه حتى النهاية ، وصرت أدفعه دفعاً نحو قراره الأقصى .... كنت أريد التخلص من شحنات الألم الضاغطة فوق ضلوعي ، وذلك بتفجيرها كلها دفعة واحدة ، تماماً كما نحب أن نضغط على الضرس المؤلم ليتضاعف وجعنا لحظتها ، ثم يستكين لبرهة وكأننا نطارد بهذه الحركة تلك الشحنات الخبيثة الضاغطة على أعصابنا .

 

  بت لا أرى إلا الرغوة ، وصرت أشعر بالقرف من حالتي إلا أن هذا القرف كان شافياً ،  ذلك القرف كان محرراً ? ........

 

   تلك الأحاسيس ، كانت قد بدأت بالتسلل إلى منطقة الوعي في رأسي التي كانت هي ، لا زالت منطوية فوق بركان الدمار ... رأسي المقطوعة فوق سماء الجحيم والمعزولة عن العالم ، إلا عن عالمها  هي ، المتزلزل في داخلها ...........  رأسي المقطوعة ، بدأت تتحرك وبدأت تعقل بمجرد أن خف عنها بخار الحموضة القاتل ، المنبعث من جيشان صدري الذبيحة .... رأسي الخبيثة بدأت توسوس لي بأن الآتي أعظم ، وبأن ما أنا فيه من عويل لن يريحني إلا إلى حين ....  هذه الفكرة المرعبة ، بدأت تحفر لها مكاناً في قعر الهاوية ، في موطن اليأس المسيطر ،  لتؤسس فيه بؤرة للخوف ، أكبر وأعمق وأكثر ديمومة ، من هذا الارتجاج الهستيري المتفجر .... شيئاً فشيئاً ، بدأت أفهم مرارة ما كان ينتظرني من عذاب ، وبدت لي تلك المسؤولية مرعبة وفوق طاقتي على الاحتمال .........

 

  عدت لا أرى إلا تلك الفقاقيع المثيرة  تمتزج بما كان يسيل من رأسي المنحنية فوقها بيأس واستسلام .......

 

  بحقد شديد ، صرت أدلق تلك الرغوة الفائضة من فوق الوعاء الكبير . وبنزق كبير صرت أعيد وأزيد من فوقها الماء .... الماء ، كان عزيزاً جداً تلك الأيام، إلا أنني بددته برعونة ! كل ما كان يخرج مني  ويسيل على وجهي  كان يدخل في دورة المياه الجارية ويختلط معها  وكنت أعود لأدلقه بشراسة في أرض المغطس . عشرات المرات كررت فيها ذلك الطقس المطهر . عشرات المرات دلقت عنها الماء العقوق حتى عاد بنظري إلى المياه لونها الطاهر الرقراق ، لون البراءة ........

 

  ثم أنهيت حمامي بماء يجلو ماء ......  ثلاث مرات غسلت رأسي ، ثلاث مرات غسلت جسمي ...... كل ما كان من حولي كان يعبق بالسخونة واحتقان عيوني كان يمنع عني الرؤية . كنت أتلمس الأشياء بأحشائي ونبضي وأنجبل معها بكياني كله .

 

  عندما خرجت إلى الغرفة ، كنت لا زلت أشعر بالبلل الكثيف وبالحاجة  إلى التنفس . لبست يومها بيجاما كحلية اللون لم ألبسها من سنين ، ونظرت إلى نفسي في المرآة ووجدت أنني أشبه ختم الحكومة .

 

  على الشرفة ، صرت ألقي بقطع الثياب التي كنت ألبسها على الحبال ، ثم أشبكها بالملاقط ...... أرقبها تتدلى وهي تنزف ماء ....  ولما ابتعدت لأنظر إليها وأنا أهم بالدخول ، تهيأ لي بأنني قد نشرت نفسي على حبل الغسيل .

 

  أصوات مواء هرة  ينبعث من معمل البلاط خلف المبنى . الحارس المراهق يستعين على الوقت ، بتعذيب قطة صغيرة ساقتها إليه الأقدار ، لتسلي ليله الضجر . شاءت هي بأن تتسلل إلى الجرن الكبير الذي يتوسط الباحة ، وشاء هو أن يحبسها فيه بأن يلقي عليها بحصوات صغيرة صائبة ، كلما حاولت الاقتراب من الحافة للخروج من الدائرة . كانت تئن وتزأر بألم ،  كلما مسها منها حجر ..... هو ، كان يستدير من حولها بخفة ومهارة ، ويصوب حصواته بمتعة وبراعة ، أذهلتني ! إلا أن ما أثار عجبي يومها ، هو صوتها المؤثر والمروع ...... كان صوتها ينطق بإشارات غريبة ، وينم عن سطوة جائرة ، تتجاوز حجمها وقوتها بكثير ، حتى خيل إلي بوقتها ، بأنه قد عاد إليها ، تحت وطأة الخوف ، خصال من ذاكرة النمر البعيدة التي لا تزال كامنة فيها  .

 

  تعبت من النظر إليهما ، وتعبت من وجعي ، وتعبت من انتظار أي أمل جديد يمكنه أن يغير ما أنا فيه ........ علبة الدواء المهدئ لآلام العادة الشهرية كانت في الخزانة الصغيرة التي بجانب السرير ....... أخذتها كلها ، بلعتها على دفعات  ، ثم جلست في السرير ، أنتظر الموت ............

 

  سأتركك الآن عزيزتي ، وسأعود لأحكي لك الفصل الأخير في رسالتي القادمة فإلى اللقاء .


* كنا نطلق الإسهم  النارية والمفرقعات في ليلة المولد احتفالاً بالمناسبة : والبركان هو أحد هذه الألعاب النارية وهو كرة صغيرة كنا نشعلها فتفور منها النيران كالبركان الحقيقي وينطلق شررها عالياً من فوهته وهي ترسل أشعة فضية لامعة متشظية في كل اتجاه تبهر النظر وتشيع من حولها حرارة قوية يصاحبها انفجارات متقطعة تدفع بهذا النور الذي يشبه الحمم في كل مرة إلى  الأعلى من جديد ليصبح فورانه أقوى وأشد اشتعالاً .

 

*ضياء
12 - أبريل - 2006
عزمو    كن أول من يقيّم
 
          
وصـاحـب غجري عشتُ صحبته عـشرين  شهرا من الدنيا iiأساطيرا
كـم  مـرة لـصلاة الفجر iiرافقني ومـا  وجـدت له في الدين iiتفسيرا
إذا رجـعـنـا الـتقينا من حرائره غـيـد  المراقص يحملن iiالطنابيرا
راح الـشـقـي إلـى رب iiيسبحه ورحـن  يـلـهين عربيدا iiوسكيرا
سـألـتـه كـيف يحيا في iiعجائبه أرى الـمـسـاجد فيها iiوالمواخيرا
فـقـالـ:  ذلك  في الإسلام iiمذهبنا وعـادة قـد ألـفـنـاهـا iiأداهيرا
لـمّـا أتـيـنـا رسولَ الله iiأنكرَنا وقـالـ:  ما لي أرى غُلْظاً iiشناتيرا
قـالـوا: بنو مرةٍ هذي فقال: iiخذوا في  البابِ إسلامَكم وامْضُوا مغاميرا
فـلـم نـزلْ عـنده نبكي iiونعطفُهُ ونـسـألُ الله فـي الإسلامِ iiتيسيرا
حـتـى  تـهـلَّل للمرّارِ iiمشترطاً أن نلبسَ العُصْبَ حُمْراً والطراطيرا
وأن نـقـوم بـتـفريح العباد iiوأن تـكـون كـل لـيـالينا iiشحاريرا
فـنـحـنُ  من أوّلِ الإسلامِ فرحتُهُ نـسـقي الصنوجَ ونقتاتُ الشبابيرا
فـقـلت:  من هو يا (عزمو) iiنبيكمُ فـقـال، لـم أُجْرِ فيما قال iiتحويرا
نـبـيـنـا عـمر الخطاب iiأرسله مـحـمـد  بـكـتاب الله iiواختيرا
وكـان عـيسى مع البواب iiيحرسه وكـان  مـوسـى يغنيه iiالمزاميرا
هُـمْ عـلّموا سالما أن لا يرى iiأحداً وشـيخَ صنعاءَ أن يرعى الخنازيرا
وكانت لي مع (عزمو) أيام مليئة بالطرائف والنوادر، وأذكر منها أنني سألته يوما عما يحفظ من القرآن الكريم، فكان جوابه: أحفظ الكثير، وإلا كيف أصلي? فسألته أن يذكر لي شيئا من هذا الكثير، فبقي دقائق لا يحير جوابا، ثم تذكر سورة فقال (إنا أعطيناك الكرسي ...) واجتهد كثيرا فما أسعفته ذاكرته ببقية السورة ! وسألته عن (الفاتحة) فلما قرأها سمعت منه (فاتحة) غجرية بكل معنى الكلمة، حيث ذكر فيها (آدم) و(سليمان) و(عباد الله الصالحين) وقطعة من دعاء التشهد.
وأما ما ذكره (عزمو) عن وفود عشيرته على النبي (ص) فلا يمنع أن يكون له أصل في التاريخ الوسيط، ولكنه لا يرقى إلى ما بعد القرن السادس الهجري، وهو ينطبق تماما مع ما ذكره شرف الدين البدليسي عن وفود الكرد على النبي (ص) وقوله وقد استبشع غلاظتهم وقسوتهم: اللهم بدد شملهم، اللهم لا تجعل لهم دولة على رجل مسلم. انظر تفصيل ذلك في تاريخ الأكراد المسمى (شرفنامه) (ترجمة علي عوني، طبعة دار الزمان: دمشق 2006 ط2 ج1 ص62) والحديث بلا شك حديث موضوع، لا أصل له.
*زهير
12 - أبريل - 2006
جدتي: البنت التي تبلبلت    كن أول من يقيّم
 

هذا مقطع من (الدمع المدرار) تعرضت فيه لذكر جدتي لأبي (مريم الأيوبي) وأخويها، ورفيقها في الحج ملا عبد الجليل البوطي، والد زوجة شيخنا ملا عبد العزيز. وافتتحت هذا المقطع بذكر مولد شقيقيَّ محمد ومعتز، وهما  أصغر أشقائي، إذ أنجب أبواي ثمانية بنين، وبنتين، ماتت الكبرى منهما في صغرها، ومات أيضا أخي (فرزت) في حادث أليم، حيث تدحرج به أخوه الذي كان يحمله أمام درج البيت، فما زال يبكي طوال ليله حتى مات، وكان يصغرني بثلاث سنوات، ولا أذكر من أخباره إلا يوم وضعه أبي  ليغسله قبل تكفينه على طاولة من الخشب صغيرة، كانت تستعملها أمي في إعداد المكدوس. ولم يكن بكاء أمي المرير في تلك الساعة من الدهر هو السبب في رسوخ هذا المشهد في مخيلتي، بل كان سبب ذلك فيما أعتقد أنها كانت المرة الوحيدة التي أرى فيها أبي يقوم بتغسيل واحد منا. وأفتتح هذا المقطع بقطعة من صفحات طويلة حول ذكرياتي مع شقيقيَّ الصغيرين، وكنت أليهما في الترتيب. فلم أر أمي حاملا إلا فيهما، وأما البنت التي تبلبلت في هذا المقطع فهي جدتي التي طالما حدثتني عن العصي التي كانت تنزل على ظهرها وكتفيها في كل مرة تريد فيها أن تقبّل مشعرا من مشاعر الحرم:

مـحـمـدٌ إن وُضعَ الميزانُ لـم  يـبق في العالم طيلسانُ
ما زلت أذكر الترابَ iiوالحجرْ وكيف كان يوم وضعك iiالقمرْ
أركـض فـي زقاقنا iiالمؤدي مـن  بيت خالتي لبيت iiجدي
ثـم  أعـود ومـعـي لداتي يـقـاسـمـونـني iiمفاجآتي
يـزدحـمون  الباب والشباكا وكـلـهـم أتـى لكي iiيراكا
لا يـعـرفون في الحياة iiهمّا وكـل هـمـهـم ماذا تُسمّى
وجـاءت الخالات iiوالجاراتُ واخـتلفت  في أعيني iiالحياةُ
ولـم يـكـن عليك ما أعيبُ أنـي  أنـاغـيك فلا iiتجيبُ
وأمـك الـغـادة في iiالسرير تـرمـقـني  بطرفها iiالقرير
تـريـد تـخفي حبها iiأمامي خـائـفـة  تحتسب iiانتقامي
تـحضنني لصدرها iiوتشتمُكْ وتـسـتحين  غفلتي iiوتلثمُكْ
ولـم  تكن إن كنت في iiيديها تـنـيـمني إلا على iiرجليها
ما  كان أحناها على iiغدائري أيـام رأسـي ذهبُ iiالضفائرِ
قد  صار كالفضة ذلك iiالذهبْ وهـجـم الشيب عليه iiفهربْ
خـمـس سـنين كلها iiتجنّي أغـار مـنـك وتـغار iiمني
وكـيـف ما كنت أغار iiمنكَ أغـارُ  مـنـك وأغار iiعنكَ
يـحـدثون عن عظيم iiقدرك والخاتم الأخضر فوق صدركَ
والـبـرقـع الذي ولدتَ iiفيهِ نـخـاف  سـره iiونـتـقيهِ
في ذلك البيت الذي لم iiيختنقْ وكـلـما  مررت فيه iiأحترق
أهـيـل  فـي ترابه iiرمادي وأعصر  الأشواق من iiفؤادي
هـنـاك  كـنـا قطراً iiإوزّا وبـيـزرابـات iiوخـبزرزا

مـعـتـز  يا ذاك الرفيف iiالباقي فـي  خـفق أشواقي وفي أخلاقي
لـمـا ولـدتَ لـم أكـن iiمنهمكا وكـنـت فـي النهر أصيد iiسمكا
وعـنـدمـا  عـرفتُ من iiرفاقي تـركـتـهـم أركض في iiالزقاق
وقـطـرمـيز الصيد في iiحسابي يـطـيـر  مـنه الماء في iiثيابي
حـتى  وصلت البيت آخر iiالنفسْ وشـدنـي  صـوتك فيه iiفاحتبسْ
وقـفـتُ  لا أعـرف كيف iiأفعل أنـظـر مـن شـبـاكه أم أدخل
وكـنـتُ أدري أن أمـي iiسـتلدْ أعـلـل الـنـفس بما سوف أجدْ
مـسـتـفسراً  سؤال غير ضامنِ وقـد دخـلـت بحر عامي الثامنِ
أصـغـي  بسمعي ممسكاً iiوجيفي مـن  فـوق بـطن أمك iiالشريف
أَطـرقُ ظـهـر بـطـنها iiعليكا لـكـي  تـجـيـبَـني iiبراحتيكا
كـذاك  كـانـت جـدتـي iiتقولُ حـكـايـةً  تـأنـفـهـا العقولُ
مـعـتـز كـيـف تقفز iiالأعوامُ لا  بـد أن بـعـضـهـا حـمامُ
بـالأمـس  كـان عـامنا iiطويلا نـعـيـشـه مـذلـلاً iiتـذلـيلا
والـيـوم بـيـن سـمعنا iiثواني وبـيـن  أن نـبـصر عامٌ iiثاني
مـا بـين أن جئتَ وصحتَ iiماما وصــرتَ والـداً بـدا iiأيـامـا
فـي  ذلـك الـبيت جبال iiماضي مـمـا  رمـاه الدهر من أنقاضي
يـا حـلـمـنا الضائع من iiأيدينا جـارت عـواديـنـا على iiوادينا
عـمـاك فـي واد iiوعـمـتـاكا فـي أعـتـم الأيـام مـن iiدنياكا
يـا  ذلـك المنزل في تلك iiالربى لـم يـبق إلا أنت من دمع iiالصبا
مـا  كـان أحلى أن أرى iiمرقاها جـدتـنـا مـريـم فـي iiتـقاها
تـدخـلـنـي البيت لكي iiتنساني غـارقـة  فـي الـذكر iiوالقرآنِ
كـأنـنـي  مـن بـيتها في iiديرِ حـفـيـف  سـرٍّ وهـديل iiطير
آخـر مـن حـجت على iiالجمال راكـبـة  بـحـراً مـن iiالرمالِ
أيـام لا يـنفع في الخوف iiالهربْ ولـم تضع أوزارها حرب iiالعربْ
مـن أيـن يا ذات العيون iiالزرقِ والـغـرة  الـشقراء ذات iiالفرقِ
والـعارض الأزهر والكف الترِفْ تمشين  من حيث الرجال iiترتجفْ
يـا لـيـتـني كنت أرى iiالبقاعا تـربـط  فـي عـيدانها iiالرقاعا
والـجـلـنـار يـحذف iiالجمارا تـرمـي  بـه وتـصلحُ iiالخمارا
كـم شـدهـا عن ركنها المطوّفُ وبـالـعـصـا  أبـعدها المعنّفُ
بـاذلـة  فـي ديـنـها iiالبرطيلا فـي  أن يـغـضوا طرفهم iiقليلا
قـد ضـاع فـيهم حبها iiالمخرَّبُ تـريـد لـثـمَ أرضهم iiوتُضربُ
ولا تـحـس ضربهم من iiالطربْ ما أضيع الأكراد في أرض العربْ
وقـد تـوسـع الـهـوى دروبي فـي نـسـبـي لـمريم iiالأيوبي
آبـاؤهـا كـردٌ مـن الـعـراقِ وأمـهـا  شـامـيـة iiالأعـراقِ
والـسـكـر  لا يفعل في iiالندامى حـتـى  يشموا في العراق iiالشاما
قـضـيـةٌ  مـشهورة في iiالناسِ تُـعـرَفُ مـن عصر أبي iiنواس
ولـسـت أنـسـى إذ أتى أخوها مـسـتـصـفحاً  قطيعةً iiيمحوها
وكـان قـد قـاطـعها iiسنينا وجـاء  قـد تجاوز iiالسبعينا
يبكي كمثل الطفل وهي تَربتهْ يـمـدُّ  مـن نحيبه iiوتسكتُهْ
وكـان  فـي شـبـابه iiفتّاكا وفـي  خيالي طرفٌ من iiذاكا
قـضى  الحياة لا يريد iiينسى عـشـيـقةً  أحبَّ في فرنسا
وهـام فـيها مُلجماً iiومُسرِجا فـمـا بـنى بيتاً ولا iiتزوّجا
ولـم  يـزل لـهـا أخٌ iiآتيهِ قـد  جاوز التسعين من iiسنيهِ
عـداده  فـي الأتقياء iiالركّعِ ولم  يلن ولم يقف عن iiالسعي
أنفق  خمس حجج في iiنصبِ يـصـنع تمثالاً لمسجد النبي
لم ينسَ في استنساخه iiالسجادا ولا الـسـراديب ولا iiالعمادا
مـنـمـقـاً في بابه iiالنقوشا تـحـسبه  من ذهبٍ iiمنقوشا
تُـكـبـر فـي صنعته iiيديهِ ولا تـمـل نـاظـراً iiإلـيهِ
يا دارها كم غرني في الدارِ كـيـسٌ معلق على iiالجدارِ
قـد طرَّزته أحسنَ iiالطراز وأودعـتـه  تربة iiالحجازِ
وشاخ  والدي وشاب iiجيلي ولـم يزل يضيء iiكالقنديل
حـتـى  أضـافـوه إلى iiالحنوطِ كـمـا رأى عـبد الجليل البوطي
وكـان فـي الـحـج لـها iiرفيقا واتـخـذتـه  آلُـهـا iiصـديـقا
وصـحـبـة الحج كلحمة iiالنسبْ وذاك في الإسلام من أغلى الحسبْ
ما النحو يا نحو العيون السودِ = خرجتُ من (عِزّي) إلى (مقصود)
هل كانتا في النحو أم في الصرفِ = لقد شربتُ من عيونٍ صُرفِ
وربما تنسى معي الأيامُ = ما (قولُ أحمدٍ) وما (عصامُ)
فخلني والربعَ والكسورا = وأعطني شطرنجكَ المكسورا
ألغازنا أعيت مصحّفيها = وقد أضاعونا وضاعوا فيها


*زهير
12 - أبريل - 2006
على قبة الكنزة 3    كن أول من يقيّم
 

أكـان وردكِ مـوعـودا iiبـلقيانا أحـلـى  معانيكِ يا أحلى iiهدايانا
سـهـما  بعثتِ إلى قلبي iiرسالته فـصـار  لي قبل أن ألقاه عنوانا
يا  غادة الشعر مكتوما ولو iiنشرت أعـلامـه سار فيها الدهر iiحيرانا
لـولا  مراعاتنا الأشواق ما iiعدلت نـريـدُهـا  وشـعارُ الود iiينهانا
وقـد  تـذوب حياء من iiمساءلتي وربـمـا تـجرح الأزهار أحيانا
جرت (ضياء) نسيما من iiطرابلس تـلمني  من حقول الشوك iiريحانا
فـسـار وادي شبابي في iiحدائقها وصـار  كـل مـكان فيه iiبستانا
لا  تـحـسبي كل عذالي بلا iiكبد إذ يـسـمـعون لشكوانا iiونجوانا
إنـي لأعـلـم أني في iiجوانحهم أسـيـر  مـا بين قتلانا iiوغرقانا
إن كـان أسهرنا ما لا يطيف iiبهم أو قـيـل أضحكهم ما كان iiأبكانا
أظـنـهـا كـالـضيائيات iiباقية هـواجس الظن في أرجاء iiذكرانا
ولا  أعـاتـب دهري في iiبراءته أراد  يـطـربنا من حيث iiأشجانا
ولـيـس  أول مـأمول نراع iiبه بـمـا نـؤمله في الوصل iiعزّانا
ضـيـاء  أنت شبابي في iiمتاعبه إذا تـذكـرت ما قاسى وما iiعانى
لـي فـي بـيانك أطماع iiمعظمة ومـا بـذلـت إليك الشعر iiمجّانا
ولا أريـد لأبـنـائـي إذا iiسألوا روايـة  عـن مـآسـينا iiوديوانا
فصوري  كيف فرساني تعيث iiبها سـنـابـك الخيل جثمانا iiفجثمانا
وصـوريها  لأولادي كما iiصهلت يـومـا  بـأكرم خلق الله iiفرسانا
هـلـمّ نـرسـم وجدا آخرا iiفلقد غـصت  بقصتنا في الدهر iiدنيانا
صـلابـة  الدهر مجلى ما iiنكابده فـكـلـما هي زادت زاد iiمجلانا
إنـي  لأذكـر مـلاحـا iiبزورقه في البحر من لحنه المحزون غنانا
إن  السفينة هذي بعض ما iiحملت أشـواق قـلبي إلى أعتاب iiمولانا
فـإن  أراد هـياج البحر يكسرها ركـبـته في سبيل الحب iiطوفانا
حـتـام آكـل نـيراني iiوتأكلني وأسـتـغـيث  بها صما iiوعميانا
نعم  أغاروا نعم خانوا نعم iiغدروا بـالحب حقدا وبالإخلاص iiعدوانا
ويـلـي  عـلى ولدي فيهم أقدّمُه هـديـة لـضـواريـهم iiوقربانا
صـلـى  ورائي فلما قام قلت iiله قـد  اقـتـديـت بعلم الله iiخوّانا
إن الـذيـن وهـبـناهم سرائرنا لـم يـتـركـوا أثرا فيها iiلمعنانا
إيـاك إيـاك مـن كهفي فإن iiبها فـي  كـل نـاحـيةٍ والله iiثعبانا
سـمـيـتـهـن ثعابينا iiلتحذرها وقـد  تـرى من يسميهن iiأحزانا

*زهير
12 - أبريل - 2006
مذكرات 12    كن أول من يقيّم
 

 

 

تهيؤات في لحظة اكتمال الدور

 

 

 

  أمشي في ذلك الليل الطويل .......... أمشي يكتنفني ذلك الألم الكبير أحس به في داخلي ومن 

حولي وأمشي ........... أهرب إلى تلة خضراء فسيحة كأنها صحراء ذات عشب ! ........ ليل أحمر يغطي المكان ، موسيقى حزينة تشبه أجراس النجوم ، أسمعها من البعيد ....... حفيف اهتزازات شفيفة يشق المدى ............ في الأفق ، ألمح حصاناً طائراً بجناحات بيضاء يتهلل في قبة السماء : الحصان الطائر يحوم فوق التلة فارداً ريشه الوثير مظللاً به عتمة الليل ........... قلبي يخفق بشدة ! قلبي يرتعد ويرفرف في صدري الذي يكاد أن ينشق عنه ، يريد أن يطير إليه ........ أمد كلتا يدي نحوه وبكل الرجاء الذي يعتريني تجاهه أستطيل ... أحاول أن أتشبث بجناحيه وأستطيل ...... لا أصل إليه ........... أراه يبتعد وحده . يضم جناحيه بانكسار وهو يحني رأسه بحزن ظاهر ، ويبتعد ......... قلبي ينخلع من مكانه ثم يهوي .......

 

  أسقط من الخيبة ، أتدحرج عن التلة لأتهاوى في الفضاء السحيق ولا شيء من حولي إلا العدم ....... لا نبي من حولي ، ولا أرض ، ولا سماء .......... النبي الذي كنت أعرفه وأحفظ كلماته ، مر من قربي ولم نلتق ! كنت أريد أن أسمعه يردد تلك الكلمات التي كنت أعرفها ،  لأعرف بأنه هو ! كنت تمنيت لو كان أخذ بيدي وسار بي ..... لكنه مر بقربي دون أن    يراني ، ورأيته يمشي متجهاً إلى عكس المكان .......  أسمع صوت الله يناديني قائلاً :

 

   " لقد ظلمت نفسك ! "  ......

 

  " ما أغناني عنه ما قلته يا ربي !  وسأدفع الثمن ! " ، أقول في نفسي ......... 

 

  أهوي وأهوي في عراء ذلك الفضاء اللامتناهي والخاوي إلا من خوفي القاتل .

 

   في لحظة ما ، أرتطم بذكرى ......... يوم قذفني أبي إلى العالم وصرت أتساقط في ذلك الفضاء  السحيق ، قبل ان أغرق في الملوحة !

 

  ووجدتني أسبح ، ثم أسبح ، بكل ما أوتيت من قوة نحو رغبة عمياء تدفعني إليها بصيرة لا أعرف لها قراراً ........... وحدي ، ولا ألوي .......... كيف وصلت إلى هنا ?

 

  أمشي أجر قدمي العاريتين ....... لغط كبير في سوق الخضار ، باعة ومشترون وسط أكوام من الزبالة والليمون المتعفن . مسلحون في لاند عسكري ، عليه مدفع "دكتاريوف" ، يجمعون التبرعات   للمقاتلين ، ويتخاطبون مع تجار السوق بصوت عال ........  رائحة التفاح تختلط برائحة النعناع والبصل الأخضر في تلك الصناديق المكدسة رتلاً طويلاً ومنفرجة عن ممرات ضيقة تمر فيها قدماي العاريتان .......... نسيم شجيرات الآس القادمة من المقابر المجاورة تملأ المكان ...... أشعر ببيت جدتي يقترب مني وأنا أقترب منه . أسمع أزيز المنشرة يصم الآذان ، كلما اقتربت أكثر ، ونشارة الخشب الناعمة بدأت تدفئ لي قدميَّ ........

 

  أمام باب الدار القديمة ، أجدني مبطوحة على بطني ، لأبدأ بصعود الدرج المظلم ، مستندة  إلى  أكواعي المرتجفة ! برودة درجاته الإسمنتية الناعمة صارت تمدني بخدر خفيف  . في البهو الكبير ، أمام البيت ، اجتمع الجيران من حولي :

 

 " الحمد لله على السلامة ! " ، سمعتهم يقولون . أبتسم ، أهز لهم برأسي ، " الحمد لله على السلامة ! " ، يزحفون نحوي بالعيون .......

 

  عيونهم تتفرس بفضول ، أسمع غوغاءهم وهم ينكبون فوقي ، ماذا يريدون أن يعرفوا ? أتساءل !

 

  أرفع إليهم ببصري وللمرة الأخيرة ، ينصرفون عني بصمت .......

 

  أمام العتبة التي تفصلني عن بيت جدتي ، أستجمع قواي الأخيرة لأدفع بنفسي إلى الداخل ........ كان صوت إغلاق الباب هو آخر ما سمعته ، ولم أعد أرى شيئاً ...........

 

 

 

*ضياء
15 - أبريل - 2006
 5  6  7  8  9