 | تابع تنقية المشكلة الفلسفية 33 كن أول من يقيّم
".... لكن يا أخ يحيي ألا يؤدي إحياء التراث إلى الانغلاق على الذات ? والانغلاق على الذات يؤدي في النهاية إلى مرض ( الإِسْتِبِِِِِحْسِْ ) ?" ...ما هو مرض الإِسْتِبِحْسْ ? ... لا أدري لكنه شيء سيء على أي حال ... من هذا الذي يتساءل ?... لا أعلم لكن من المؤكد أن شخصا ما يتساءل ... ما هي إجابة السؤال ?... لا أعرف . لكن من الممكن أن نصل إلى نتيجة في نهاية المقال .
فكرة "الانفتاح على الآخر" كوسيلة لتجنب مرض (الإِسْتِبِحْسْ) هي الأخت التوأم لفكرة "الموضوعية" , كلا منهما لا يتعرض لمحتوى الفكر , بل يعبث في علاقة الفكر بالذات المفكرة . "الموضوعية" تبتر الفكر عن الذات , النتيجة هي عدم التعاطف مع الأفكار, و "الانفتاح على الآخر" هي طمس للذات المفكرة من الأساس , قبول الآخر أيا كانت أفكاره . تجاهل الذات من حيث هي أفكار مشحونة وجدانيا .
مصطلح "الانفتاح على الآخر " أو نقيضه "الانغلاق على الذات" نموذجان لظاهرة عبث المصطلحات بالأفكار , ونعني بهذه الظاهرة : الانسياق وراء الفكرة لا لشيء إلا لأن المصطلح المعبر عنها يحمل دلالة نفسية إيجابية . وذلك بدلا من الوضع الأمثل , حيث الأفكار هي التي تصوغ المصطلحات . معنى ذلك أنني أزعم أن الموضوعيون يفرون من فكرة "الانغلاق على الذات" فرارهم من المجزوم دون تحليل لمحتوى المصطلح . كيف ذلك ? نحن نعلم أن "الشعور بالذات" شيء جميل , لكن سيشعر بالارتباك من يتصدي للتمييز النظري بين "الشعور" بالذات و بين "الانغلاق" على الذات , معنى ذلك أننا نفر من مصطلح ونحكم على مصطلح آخر بأنه جميل دون أن نستطيع التمييز بينهما .... كارثة !
لكن ربما أكون قد تسرعت في حكمي بعدم أمكان التمييز بينهما , ربما لا يعكس هذا الحكم سوى جهلي بالفرق , وهذه هي فائدة الدردشة الفلسفية , اختبار الأحكام , علينا إذا اختبار هذا الحكم أو تلك القضية الغريبة و المركبة :
- أي ذات .. منغلقة على نفسها .. وتسعى لمزيد من الانغلاق.
- المتعصبين الإسلاميين ( الفاناتيك ) منغلقين على نفسهم بشكل سوي .
- الموضوعيين منغلقين على نفسهم بشكل غير سوي .
-المدهش في الموضوع أن موضوع انفتاح الذات على الآخر أو انغلاقها على نفسها محسوم من البداية , ليس لنا اختيار في هذا الشأن , إننا عندما نتحدث عن الذات فنحن نتحدث عن تلك النقطة التي لا تأبه لاختيارات العقل وقراراته بل تسخر تلك القرارات لها .
الحديث عن انغلاق الذات على نفسها كأمر واقع و كهدف للذات له منطلقان : أحدهما سمج و الآخر أكثر سماجة , لن ننطلق من المنطلق الأكثر سماجة لأنه أكثر سماجة , لماذا هو أكثر سماجة ? لأنه مُمِلّ ويدور حول " تشريح النفس الإنسانية , و الحديث عن البداية الجنينية لها , و التي تتميز بالانغلاق التام لدرجة عدم الوعي بأي شيء , و الحديث عن السلوك الإنساني من المهد إلى اللحد , و إدراك طبيعته العامة من حيث هو محاولة مستميتة من الذات للعودة إلى المرحلة الجنينية مرة أخرى , وهي حالة السعادة , أي عدم التفكير في شيء آخر , أو انتظار شيء آخر , أي مجرد التلذذ و الشعور بالخلود " هذا الحديث "الأكثر سماجة" مُمِل أيضا لأنه يتضمن أن "العلاقة بالموضوعات ( الموضوعية ) ليست على الحقيقة موضوعية , العلاقة بالموضوع ليست نزيهة كما نتصور, إنها تتأرجح بين كونها صورة مقنعة من صور العلاقة بالذات أو محاولة لإستدماج هذا الموضوع لتفقده الذات استقلاله عنها و يصبح جزء من الذات , فتصبح الذات منغلقة حتى في العلاقة به أي تنغلق عليه " هذا التنظير "الأكثر سماجة" عن خرافية فكرة الموضوعية يتضمن نموذج بسيط تتضح به معالم السلوك الإنساني وخلوه من الموضوعية كما يفهمها البعض أي التحرر من عقد الولاء و البراء على أساس المعتقد , هذا هو مثال : "الجنين و الملك المتسلط" وأوجه الشبه الكثيرة و الجوهرية بينهما , الحنينية هي البداية المشتركة لجميع أفراد الإنسانية وهي كما ذكرنا نموذج للانغلاق على الذات و الاستغراق في اللذة , و التسلط (بصورته الفجة) كدافع إنساني مشترك
و الذي يتضمن نوع من الانغلاق على الذات . (حتى الرغبة في الخضوع تتضمن رغبة معكوسة في التسلط)
سنقتصر إذا على الطريقة السمجة وهي تدور حول التفتيش في الواقع الإنساني على أي أثر للموضوعية أو أي تطبيق فعلي لشعار " أعطني حريتي " تجاه الأفكار , التفتيش في الواقع أسهل من التجريد النظري , ( لا تتعصب حتى لا تنغلق ذاتك على نفسها ) هذا هو ملخص الفكرة , و السؤال الآن : هل الآخر ( الغرب ) الذي هو العالم الحر , الذي ضرب أروع الأمثلة في الموضوعية و التخلص من آثار عصبية العصور الوسطي , هل هذا الآخر غير منغلق على ذاته ? هل أمريكا غير منغلقة على ذاتها ? الشعب الأمريكي هو أجهل شعب بمحيطه , ليس ذلك فقط بل هو يتجاهل عن عمد ذلك المحيط , ليس ذلك فقط بل هو عازم على عدم الخروج من حالة الجهل هذه , ويعتبرها إحدى معالم الشخصية الأمريكية , هل هذا انفتاح ? أمريكا لم تهتم بدراسة اللغة العربية إلا بعد أن أرغمت من قبل (الفاناتيك) على النزول للميدان و الكف عن غطرسة الاكتفاء بإصدار الأوامر من البرج العاجي . غالبية الشعب الأمريكي لم يكن يستطيع الإشارة إلى المنطقة العربية على الخريطة حتى فترة بسيطة . الإعلام الأمريكي يسمي نشرة الأخبار الخاصة بأمريكا " نشر أخبار العالم " , أي أن العالم هو أمريكا . ليس هناك خبر في الإعلام الأمريكي في أي منطقة في العالم إلا من حيث أن ذلك الخبر يخص أمريكا .هل هذا انفتاح ? هل يعرف الغرب عنا شيئا آخر سوى الزي الخليجي و الصحراء و الجمال , أرجو أن لا يتسرع أحد ويقول أن هذا خطؤنا نحن فلم نعرفهم بأنفسنا على الوجه الصحيح , أنا أتحدث عن (انفتاحهم) علينا , أي أبحث عن (الدافع المتوفر لديهم) من الناحية المبدئية ليعرفونا , بغض النظر عن مجهودنا في هذا الصدد , و لنتذكر أن معرفتي بكيفية تربية النعاج ليست معرفة بالآخر لأنني ما عرفت سوى سيء أمتلكه و أستفيد منه , هذا هو فقط طبيعة معرفة الغرب بنا . هل هذه المعرفة هي انفتاح ? العقل الغربي أيضا لا يعرف إلا العقل الغربي , العقل الغربي يبحث عن أي بداية لأي فكرة فقط في التراث اليوناني أو الروماني , فكرة البيعة هي أرقى أنواع نظريات العقد الاجتماعي , والأساس الشرعي للخلافة الإسلامية , كانت تمارس على نصف المعمورة ( وقت أن كانت معمورة ) , ولم يراها الغرب الأعمى إلا عندما جاءت له مشوهة على يد أبناؤه ( بتوع عصر النهضة ) ... قمة الانفتاح ! ( قد تأتي مناسبة للمقارنة بين فكرة البيعة و فكرة العقد الاجتماعي كما عرفها الغرب ). ... آسف ... نسيت أن أذكر شيئا من باب الأمانة , الغرب يستكشف أفكار الآخر أحيانا ليسرقها منه وينسبها له , وهذا ملف آخر سيتورط فيه كثير من الأسماء اللامعة , ولا مجال لفتحه الآن .
ننتقل بعملية البحث عن الموضوعية , من الغرب إلى البلاد العربية , هل العلمانيين العرب موضوعيين في علاقتهم مع الغرب ? هل هم موضوعيين في موقفهم من الإسلاميين ? سأتجاهل تقييم الموقف من الإسلاميين وأسأل : هل يمكن تسمية علاقة العلمانيين بالغرب انفتاح على الآخر أم هو انغلاق غير مباشر على الذات.
عدة ملاحظات ستساعدنا في تفسير قولنا أن علاقة العلمانيين بالغرب ليست انفتاح على الآخر بل هي احدي الصور المتطرفة و المقنعة للانغلاق على الذات , أولا : ظاهرة الانبهار بالغرب , يعتبرها البعض تحصيل حاصل لا خطر منه , و الحقيقة أن الانبهار يقتل الموضوعية بالضربة القاضية , الموضوعية تفترض عدم التعاطف مع أي وعاء حضاري للفكر , و النظر فقط إلى الأفكار , الانبهار نوع من التعاطف , النتيجة : العلاقة بالغرب غير موضوعية .
ولكن تحديدنا للعلاقة بالغرب بأنها( غير) موضوعية هو تحديد سلبي , لأنه يعتمد على( نفي) علاقة ما دون (إثبات) علاقة فعلية فما هي العلاقة الفعلية بين العلمانيين و الغرب ? أو ما معنى الانبهار? . الانبهار بل الغرب ليس انفتاح على الآخر بل هو إسقاط صورة الذات على الآخر المنغلق على ذاته , أي أن العلاقة بالغرب هي انغلاق مقنع على الذات , انغلاق يقوم فيه الغرب بدور صورة الذات , أي دور المرآه التي ينظر إليها ليست على أنها ليست شيء آخر بل هي وسيط بيني و بين صورتي أنا , أنا لا أنظر إليها بل أنظر إلى نفسي فيها , أما الشواهد المؤكدة لهذا فهي متعددة , تبدأ بكون الغرب ليس فقط وعاء فكري محايد ( كما تفترض الموضوعية ) بل هو( رمز ) , سقراط رمز الحكمة , جيفارا رمز الثورة , نيرون رمز الاستبداد .. الخ . شاهد آخر : هو حالة التشبث بالغرب دون الجرأة على تحديد أفكار غربية معينة كمبرر ( موضوعي ) لهذا التشبث . الموضوعية تفترض أن الغرب ليس شيئا آخر سوي مجرد وعاء لمجموعة من الأفكار قابلة للقبول أو الرفض , وفي حالة قبولها تقبل مجرد من مصدرها الحضاري , هل هذه هي علاقتنا بالغرب ?
ثانيا : وعلى الجانب المناقض, علاقة الموضوعيين بالتراث ليست موضوعية , الموضوعية تفترض الفصل بين (تراثية الأفكار) وبين( الأفكار) نفسها , كما تفترض الفصل بين (الأفكار) الغربية و (الحضارة) الغربية , وهذا يتضمن ضرورة تحديد الموقف من التراث على أساس دراسة مستفيضة لمحتواه , في حين أن العلاقة بالمحتوى التراثي منقطعة تقريبا , وبشكل مبدئي , بل إن هذا الانقطاع يُفاخَر به في أحيان كثيرة , كقرينة على الانفتاح , على خلاف ما تفترضه الموضوعية . ثم أين هي (الذات ) التي ستنفتح على الآخر , أليس من المفترض أسبقية (وجود) الذات على انفتاحها ?
ثالثا : الموضوعية تفترض أن الآخر الفكري لا يجب أن يكون مستغرقا في الغرب , ( الآخر ليس هو الغرب دائما), ما الذي نعرفه ( كموضوعيين ) عن الفكر الشرقي القديم ( الصيني و الهندي ) , هل معرفتنا به تضاهي معرفتنا بالتراث اليوناني الذي تعمقنا فيه لدرجة معرفتنا بمشكلات سقراط مع زوجته ! .
الملخص : الموضوعية مستحيلة , وهي حيلة من حيل الذات و أداة من أدواتها شأنها شأن الفكر . الهوية لا تقبل أن يكون بينها وبين المعاصرة واو العطف , وعبارة : "الجمع بين الهوية و المعاصرة" ليست أكثر من تناقض لفظي لأن كلمة هوية مستبعِدة لكل ما عداها . أيضا عبارة انفتاح الذات على الآخر تناقض لفظي لأنه في اللحظة التي تنفتح فيها الذات على هذا الآخر تفقد كونها "ذات" , الانغلاق متضمن في معنى الذاتية و الهوية.
الكيميائي سهيل : يسخر من التعالي على الآخر باعتبار أن فكرة التعالي لا تشتعل و لا تساعد على الاشتعال , في حين أن العالم كله مشتعل الآن ( فقط ) بسبب أن الفئة رقم (1) على مستوى العالم الإنساني , و التي هي التيار الإسلامي , قد تعالت على الغرب فعلا . ليس على مستوى الشعار بل على مستوى الممارسة , على أي حال , رغم أن مداخلتك هي من نوع المداخلات الصفرية , إلا أنها لا تخلو من فائدة بالنسبة لك , فسأعتبرها فرصة لأدربك على كيفية النقد , عليك أن تختار إحدى الدعاوى الآتية و تبرهن عليها :أن فكرة التعالي مستحيلة عمليا ... أو أنها ممكنه ولكنها غير مجدية من الناحية النفعية ... أو أنها ممكنة و مجدية ولكنها تفتقد للأساس الأخلاقي ... أو أنها مجدية كآلية للصراع بين الشرق و الغرب و لكنها تأتي على حساب الحقيقة ... أو أنها تخلو مما سبق لكنها تؤدي إلى مرض (الإِسْتِبِحْس ) . مع العلم بأن آلية التعالي مشتقة من (سورة آل عمران آية 139) و من ( سورة محمد آية 35) , كما أنها وردت في أدبيات الأستاذ سيد قطب بصيغة ( الاستعلاء ) , كوصف لواقع الفئة المؤمنة, وليس كابتكار مفهوم , .. هيا .. اختر و ابدأ الكتابة .
الأخ وحيد : مقالتي كانت " نقد للموضوعية " وكنت أتوقع " نقد لهذا النقد " ولكني لم أجد سوى طرح تقليدي للموضوعية . أمر آخر : أنا لم أتنكر لوجود دافع نفسي للجوء إلى التراث وقد سبق أن ذكرت أن السلوك العقلاني لا يخلو من رغبة , ولكنها رغبة قد عرفت مسارها السليم ولكني أتحفظ على تسمية هذا الدافع بالنرجسية لما له من دلالة مرضية , وقد يتسنى لي الحديث عن الفرق بين النرجسية و بين الانغلاق السوي على ألذات كما نفهمه و نفهمها , أمر ثالث : لم أتجاهل الوجه الإيجابي للموضوعية و الذي هو نزاهة الأفكار , لكني استبدلت آلية فصل الفكر عن الذات الموضوعية بآلية الوحي كمعيار خارجي , وذلك حسب ما وجدته في الدراسات السلفية .
الأخ زهير : خالص شكري لمجهودك , أما بالنسبة لاسمي فإنه موقف محرج و مضحك في الآن نفسه , أن يحاول شخص ما إثبات بنوته لشخص آخر , أنا لم أضطر إلى ذلك إلا بتأثير الغضب الذي أوقعني فيه ( شوشو ) بسبب قصيدتك بتاريخ (25 مارس) و التي ظننت فيها تجريحا , و أنا نادم على ذلك , لكن دفعا لتهمة الادعاء , فالإصدارات الحديثة لكتب الوالد هي إصدارات دار (... ) للنشر و التوزيع, و عليها الهواتف التي سأتشرف بسماع صوتك على أحدها لو ( هاتفتني) عليها , وربما تجده هو , ثم إنه أظن أنك كمشرف تستطيع الإطلاع على الإسم بالكامل للمشاركين , ثم إنه في بعض كتبه ستجد إحالة منه إلى كتاب لي بعنوان (....) , و أرجو أن تكون المرة الأخيرة التي تسأل فيها عن إحداثياتي الشخصية إذ ليس لها علاقة بالموضوع .
الأخ سعدي : يلمح بجريمة نقض العهد إذ وصفت إحدى مقالاتي بالأخيرة وكتبت بعدها مقالات أخرى , الحقيقة أنني رجل صاحب مبدأ , لا ألتزم بكلامي طالما فات عليه ثلاثة أيام , و إذا التزمت بكلمة لم يمض عليها ثلاثة أيام انتظرت حتى يمضي عليها ثلاثة أيام ثم لا ألتزم بها , و إذا التزمت بكلمة لم يمضي عليها ثلاثة أيام و أنا متعجل في عدم الإلتزام بها , اعتبر نفسي قلتها منذ أكثر من ثلاثة أيام و لا ألتزم بها .
| *يحيي رفاعي سرور | 17 - أبريل - 2006 |