البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات عمرو على بركات عمرو بركات

تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
لغتنا بين الشفاهية والكتابية    كن أول من يقيّم

ساعات بين الكتب
يقضيها معكم هذا الأسبوع:عمرو علي بركات
المعجزة القرآنية لم تقف عند حدود التميز بخصائص خارقة في الكلمات.. وإنما تكمن المعجزة في أن القرآن قدم رؤيته للوجود
* القرآن الكريم أحدث تحولاً ثقافيا لدي العرب ونقلهم نقلة حضارية ما كانوا ليحققوها.. ودخل بهم نحو الثقافة الكتابية التي ضمنت لهم البقاء * يعتبر مفهوم اللغة العربية التي نزل بها القرآن ترجمانًا لنوعية الأداء الثقافي الشفاهي لحالة تلك اللغة * أسماء الأنبياء في القرآن الكريم لم ترد بسلاسل النسب التي حرصت التوراة عليها * حين عرض القرآن قصة نوح عرضها من منطلق كونه معادلاً موضوعيا للنبي (ص) من حيث موقف قومه منه * تطبيقات النظرية الشفاهية علي القرآن الكريم تفتح الباب لمجالات بحث متعددة
لا شك أن ثقافتنا العربية المعاصرة تواجه إشكالية إعادة قراءة التراث المقدس وغير المقدس، تلك الإشكالية تطرح نفسها علي استحياء عند إعادة قراءة المقدس عبر الحاجة إلي تغير لغة الخطاب الديني، كما تطرح نفسها سافرة عند قراءة اللامقدس من قبيل البحث عن مصادر الأدب العربي، ووسائل تحريك الوعي الثقافي. وإشكالية إعادة القراءة في حد ذاتها توقع في مأزق الوعي بالسياق، هل نقرأ عبر سياقنا الثقافي المعاصر? أم عبر السياق التاريخي الذي أنتج فيه النص? هل نتنازل عن وعينا بذواتنا في مقابل وعي أسلافنا بذواتهم ? أم نتنازل لهم عن مكاننا من التاريخ ? إنها المعادلة الصعبة في التفاعل بين التراث والمعاصر، ولكن عبر علوم نضجت مؤخرا، ونظريات تبلورت، يمكن إعادة طرح تلك المعادلة من جديد.و بين أيدينا هذه الساعات التي نقضيها بين كتب ثلاثة يعرض أولها نظرية مجردة لبيان كيفية إعادة قراءة التراث عبر وعي بالسياق الثقافي المعاصر له من خلال تصنيف الثقافة إلي شفاهية وكتابية، والثاني يعد أول تطبيق لهذه النظرية في قراءة التراث المقدس وهو كلام الله في كتابه العزيز القرآن الكريم، بينما الثالث يترجم إشكالية عدم الوعي بالسياق الشفاهي والكتابي عند قراءة كتاب الله وما يحمله هذا اللاوعي من طرح قضية من أهم القضايا التي نتجنب دائما طرحها وهي المفارقات الإملائية في مصحف عثمان.
* الكتاب: الشفاهية والكتابية
* المؤلف: والتر ج. أونج
* ترجمة:د.حسن البنا عز الدين
* مراجعة: د.محمد عصفور
* الناشر: عالم المعرفة، الكويت، 182، فبراير 1994م.
يعد "أونج"(1912ـ2003) المتمم للنظرية الشفاهية والكتابية في الأدب بعد "ميلمان باري"(1902ـ1935) الذي قدم أول تجميع لإرهاصات سابقيه فيها عبر الدراسات الانثروبلوجية، وهي نظرية حسب تعريف "أونج" لها إننا من ينتمون إلي الثقافة الكتابية لنا من وسائل التفكير ما يختلف عن أسلافنا الشفاهيين الخلص الذين لا يعرفون الكتابة، ولا يعرفون حتي أن هناك صورة أخري للقول في شكل كتابي. فإذا كان المجتمع الانساني برز إلي الوجود منذ 50 ألف سنة تقريبا فان أقدم شكل كتابي مخطوط لدينا يرجع تاريخه إلي 6 ألاف سنة فقط.وقد تطور الفكر الانساني بين مراحل شفاهية خالصة، ثم كتابية، ثم مرحلة عصر الميديا والتي يعتبرها "اونج"الشفاهية الثانوية، إلا انه يري أن العصر الالكتروني هو الذي مكننا من إدراك الفرق بين الثقافة الشفاهية والكتابية. فهل هناك عقل شفاهي وعقل كتابي? هذا ما أجاب عنه "اونج" مؤكدا علي أهمية ذلك بإحداث وعي خاص لنا،ووعي عام بماضينا الثقافي دون خلط السياقات.
تراثنا العربي شفاهي أم كتابي?
يري "اونج" أننا ككتابيين ننظر إلي الكتابة بوصفها الشكل الاساسي للغة، حسب نظرية "فردينان دي سوسير"(1857ـ1913) أبو علم اللغة الحديث، بينما الأصل في اللغة هو الشفاهية، فالكلمة المنطوقة، وسط كل العوالم الرائعة التي تتيحها الكتابة لا يزال لها حضور وحياة.فهي رغما عنها تتصل بعالم الصوت الموطن الطبيعي للغة. ومن أغلاط السياقات انه رغم الجذور الشفاهية للغة فان الدراسات العلمية والأدبية للغة والأدب لقرون خلت قد شردت بعيدا عن المفهوم الثقافي الشفاهي، وكانوا ينظرون إلي الإبداعات الشفاهية بوصفها تابعا للإنتاج المكتوب، وان لم تكن كذلك فقد تعاملوا معها كما لو كانت منتجا كتابيا أصلا، ويعبر "اونج" عن هذا الخلط بأنه نوع من البلادة. فكيف إذا كان يقرأ "طه حسين"، و"عباس العقاد" تراثنا العربي القديم دون أدني وعي بالفرق بين الشفاهية والكتابية?بل إن هذا اللاوعي هو الذي أوقع عميد الأدب العربي في إشكالية تصنيف الشعر الجاهلي، لأنه رآه عبر ثقافة كتابية، متجاهلا السمات الشفاهية التي تميزه. فالخطب التي درسناها بوصفها جزءا من البلاغة، كانت تلقي شفاهة.وبعد إلقاء الخطبة لم يكن يبقي منها شيء يفحص، وما تم دراسته هو نصوص لخطب دونت، وغالبا بعد إلقائها بمدة طويلة،ويعدها "اونج" مغالطة قراءة خطب مرتجلة بوصفها نصوصا مكتوبة،وليس من حيث هي خطب. فعندما اتكأ "قس بن ساعدة الآيادي" علي عصاه وقال" أما بعد"، كان ينتج نصا شفاهيا خالصا، إلا أن "أما بعد" تحولت إلي النص المكتوب في التراث العربي، دون وعي بآليات العقل الشفاهي الذي أنتجها.
آليات التفكير الشفاهي.
الصوت لا يوجد إلا إذا كان في طريقه إلي انعدام الوجود، وثبت أن الشعوب الشفاهية تصبح اللغة عندها أسلوبا للفعل وليس مجرد علامة مقابلة للتفكير. الشفاهي لا يعرف إلا ما يمكنه تذكره، فكيف يتذكر وهو ليس لديه نصوص مكتوبة? فالشفاهي يفكر عبر الصيغ المحددة سابقا،وعندما يعيد تذكر ما فكر به،و يعيد التفكير عبر نفس الصيغ مرة أخري مستعينا بوسائل التذكر الشفاهية،مثل العصي المحزوزة،أو سلسلة من الأشياء المرتبة بعناية،وقد أشار "الجاحظ" إلي لغة" قرع العصي" في بيانه وتبيانه وهي لغة كانت منقرضة لدي العرب لا يعرفها إلا الشيوخ كبار السن،فهي من سمات التفكير الشفاهي المعتمد علي وسائل التذكر. بل إن الفكر المتصل في الثقافة الشفاهية يرتبط بالتواصل بين متحاورين أو أكثر، فعند إعادة قراءة تراثنا عبر المفهوم الشفاهي يمكن التوصل لفهم أكثر واقعية لنوادي العرب، ودورهم في الجاهلية مثل دار الندوة، علي أنها كانت تجمعات للتفكير في صورته الشفاهية المعتمد علي الحوار، فنخليها من النزعة العصبية ونقف علي أهدافها عبر سياق روادها، و نعيد قراءة القرارات الشفاهية التي خرجت عنها عبر تاريخها.ويري "اونج" أن أسلوب الفكر والتعبير في الثقافة الشفاهية الأولية يتسم بالملامح الآتية:1ـ عطف الجمل بدلا من تداخلها، فقد أحصي 9 واوات في الكتاب المقدس في سفر التكوين 1:1 ـ 5 الذي يري رغم كونه نصا مكتوبا إلا انه ذو نمط شفاهي يسهل ملاحظته.2ـ الأسلوب التجميعي في مقابل التحليلي،وهو الاعتماد علي الصيغ لتقوية الذاكرة، فعناصر الفكر والتعبير الشفاهي تتكون من وحدات علي هيئة عناقيد،وعبارات متوازية أو متعارضة،وهنا يمكن إعادة قراءة "ألف ليلة وليلة" فهي مثال للثقافة الشفاهية ذات التعبير العنقودي المتوازي القوالب.3ـ الأسلوب الاطنابي أو الغزير، فالبصر يحرر الكتابة من الإطناب بينما الشفاهي يطنب لكونه في حاجة إلي البقاء قريبا من بؤرة الانتباه بالكثير مما تناوله من قبل.4ـ الأسلوب المحافظ أو التقليدي، فالإبداع في الثقافة الشفاهية يعتمد علي التجريب في أضيق الحدود،حيث إن المعرفة الشفاهية التي تم تحصيلها سريعة التلاشي،فنتج عقلا تقليديا محافظا يعيد باحتفاء الماضي دون تقدير للواقع، فالتقديس المفرط للتراث حاليا يعد من فلول الشفاهية الباقية في ثقافتنا المعاصرة.5ـ القرب من عالم الحياة الإنسانية،فالثقافات الشفاهية تصوغ كل معارفها بشكل يجعلها وثيقة الصلة بالحياة الإنسانية.6ـ لهجة المخاصمة،فالكتابة حيث تنتمي إلي التجريد قد نأت بالمعرفة عن ساحة النزال،في حين تضع الشفاهية المعرفة في سياق الصراع بإبقائها في عالم الحياة الإنسانية، فالسباب الذي يعرفه اللغويون بالمنابذة كان من سمات العصر الشفاهي الذي نري انه قد أرخ لخصائصه القرآن الكريم بالنهي عنه {يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَي أَن يكُونُوا خَيرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَي أَن يكُنَّ خَيرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات 7ـ الميل إلي المشاركة الوجدانية في مقابل الحياد الموضوعي،فالكتابة تبني شروط اللموضوعية بفصل العارف عن المعروف، بينما الراوي ينزلق ويتكلم بضمير المتكلم المفرد وهو يصف أفعال البطل،مثل السيرة الهلالية،وذي يزن.8ـ التوازن، ففي الشفاهية ينشغلون بتنظيم العالم الواقعي مع ربطه بالماضي فهم يحتفون بسلاسل النسب، ونري أن القرآن الكريم قد اثبت ذلك في حق العرب الشفاهيين حين قال{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ*حَتَّي زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (1،2) سورة التكاثر.9ـ موقفية أكثر منها تجريدية، حيث تميل الشفاهية إلي استخدام المفاهيم في مواقف إجرائية تعتمد علي مرجعية ضئيلة من التجريد فتظل الكلمة قريبة من عالم الحياة الإنسانية المعيشة.
كيف كان يحفظ أجدادنا?
الكتابيون يحفظون حرفيا من خلال نص يعود إليه الحافظ كلما دعت الضرورة كي يحسن من مستواه ويختبره، ولكن كيف كان للشفاهي أن يتثبت من حفظه في غياب نص مكتوب? انه بطريقة تسميع شخصين أو أكثر معا في نفس الوقت.أما التلاوات المتعاقبة فلا سبيل للتأكد من مطابقة إحداها للأخري. ومن سبل خلط السياق أن افترض الكتابيون أن الذاكرة الشفاهية هائلة وتعمل بشكل ما طبقا للنموذج النصي الشفاهي. بل وصل الأمر إلي أن اعتبر " ميلمان باري" أن تعلم القراءة والكتابة يعوق الشاعر الشفاهي، فالشعر أصلا شفاهي، حتي وهو مكتوب.فالشاعر الشفاهي نفسه ليس لديه القدرة علي إعادة إنتاج قصيدته بحذافيرها مرة أخري،فهو يكرر الموضوع ولكنه بشكل مختلف. هناك استيعاب خاص للشفاهي جعلة يطلب يوما قبل إعادة إلقاء قصيدة سمعها. فهو يحتاج وقتا كي تغوص القصيدة إلي مخزونه من الموضوعات والصيغ،حتي تصبح جزءا من نفسه. فالشاعر الشفاهي لا يكون بأي معني كتابي قد حفظ القصيدة، وإنما قرر إنتاجها عبر التيمات والصيغ السابقة التجهيز في عقله.وهنا عبر النظرية الشفاهية يكون لدينا قناعة أن الأصل في الشعر العربي الشفاهي المعروف بالجاهلي هو الانتحال.ويستحيل نسبة قصيدة إلي مبدع ورواية إلي راو.
* الكتاب: كلام الله
* المؤلف:د.محمد كريم الكواز
* الناشر:دار الساقي، بيروت، 2002م.
لم تقدم المرجعية البحثية في الأدب العربي اي تطبيقات للنظرية الشفاهية والكتابية، سوي دراسة"د. حسن البنا عز الدين"وضعها في تقدمة الترجمة لكتاب "أونج" ولم يتعرض فيها مباشرة إلي تطبيقات في الأدب العربي، بل تعرض للمشكلة الهومرية، و بعض الدراسات المتفرقة والتي تري أن الحداثة هي التي حتمت علينا أن ندخل إلي مرحلة الوعي بذواتنا، فبدي لنا ضرورة الاهتمام بالنظرية الشفاهية، كما في كتابات الدكتور"عبد الفتاح يوسف" في المملكة العربية السعودية، والدكتور"عبد الله إبراهيم" في سوريا.إلا أن الدكتور "محمد كريم الكواز" الليبي،بجامعة بني غازي،يعد أول من قام بإنزال تطبيق النظرية الشفاهية بكل جزئياتها كما أوردها "اونج" في كتابه علي القرآن الكريم، في كتابه "كلام الله".

الصوت الالهي
يري "الكواز" انه إذا كان من طبيعة الصوت التلاشي في الفراغ، فقد حرص الناس علي إحياء الصوت الالهي في الكلمة الإلهية احياء يجعله حركة في الزمن، مستمرة، طويلة، دائمة، تسافر في أعماقهم،فتوقد شعلة العاطفة.ومن هنا ينشأ الغناء الديني، وهو يقوم علي تأجيج المقدس.فقد كان الكتاب المقدس عند اليهود يغني، والإنجيل يترنم به، وكان الرسول(ص) يقول: من لم يتغن بالقرآن، فليس منا"، وكان القرآن ملائما لأن يتغني به، إذ كثرت فواصله في نهاية الآيات المبنية علي حروف المد واللين.
عربية القرآن حسم "الكواز" قضية عربية القرآن، بأن استبعد أن يكون القرآن عربيا بمعني عربية مفرداته وألفاظه، في مقابل أعجمية ألفاظ التوراة والإنجيل.إن عربية القرآن هي رؤيته التي نسج لحمتها وسداها من الواقع التاريخي الذي نبع منه الوحي،ورؤيته التي قدمتها ثقافة ذلك الواقع،وتكونت عناصرها من مفاهيمه، ويمضي "الكواز" عبر صفحات الكتاب مطبقا لكتاب "اونج" ونموذجه الارشادي، الذي بين يديه ليبرهن علي وجود خصائص للثقافة الشفاهية التي حددها "اونج"في القرآن الكريم.
حفظ الذكر
لم تقف حدود المعجزة القرآنية عند حدود التميز بخصائص خارقة في الكلمات والجمل، وإنما تكمن المعجزة في كون القرآن قدم رؤيته، أو قراءته للوجود، من خلال كلام منتج بآلية شفاهية، تقتضي التريث في التكلم، لكي تصل الرسالة إلي السامعين، ويعتبر مفهوم اللغة العربية التي نزل بها القرآن ترجمانا لنوعية الأداء الثقافي الشفاهي لحالة تلك اللغة يوم تحدث بها الوحي منزلا بكلام الله، فقدم"الكواز" أهم تلك الآليات التي في القرآن الكريم وهي آليات التذكر مستعرضا لجدلية الذكر/النسيان، حيث الذكر ينشأ عن النسيان، كما أن النسيان ينشأ عن الذكر نشأة مفارقة مضادة، فأنا أذكر الشيء بعد نسيانه، وأنسي الشيء بعد ذكره، وقد تلازمت تلك الجدلية في مواضع كثيرة من القرآن، لما تمثله من سمت الثقافة الشفاهية منها:
ـ { يحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } (13) سورة المائدة
ـ { وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّي نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (18) سورة الفرقان
لقد أمر الله تعالي النبي (ص) بقوله{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (16) سورة القيامة لان النبي (ص) كان إذا نزل عليه الوحي، حرك به لسانه مخافة أن ينساه، وهذا طبيعي في البيئة الشفاهية التي شهدت الوحي، وكان المسلمون الأوائل يرددون القرآن خلف النبي (ص) في الصلاة الجهرية من أجل تأكيد الحفظ بالطريقة التي أشار إليها "أونج" حتي نزلت الآية{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف، فأصبح الإمام وحده هو الذي يقرأ جهرا، كما نزلت الآية{سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَي} (6) سورة الأعلي كخبرة خاصة موجهة من جبريل إلي النبي(ص). وعليه فتكون آية{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر، عبر نظرية "اونج" وتطبيق " الكواز" هي أن الله وضع في النص القرآني الشفاهي آليات بقائه وحفظه.حتي غلب علي النص الحفظ فسمي ذكرا في مواجهة احتمالات النسيان الواردة في البيئة الشفاهية.
حضور المتلقي
يبرر "الكواز" كيف يبقي الوحي محفوظا? كيف يتغلب علي الأمر الطبيعي(النسيان)? مستعينا بما ذكره"أونج" عن كون الخطاب الشفاهي يتميز بحضور المخاطب المتلقي، والا انحل الخطاب في مكانه، فالوحي لم يكن يتكلم مع نفسه، كان هناك مخاطب يتلقي، يسمع، يستلم رسالة الكلام الالهي، بالأمر المباشر و حفلت آيات القرآن بهذا الحضور المباشر للمتلقي منها:
ـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) سورة العلق، وهو حضور المتلقي الأول النبي محمد(ص).
ـ {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَي بِنَفْسِكَ الْيوْمَ عَلَيكَ حَسِيبًا } (14) سورة الإسراء، حيث حضور للمخاطب في الزمن الغيبي.
ـ{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَي مَا تَعْمَلُونَ} (98) سورة آل عمران
ـ {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَي مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (39) سورة الزمر
ـ {قُلْ يا أَيهَا الْكَافِرُونَ} (1) سورة الكافرون، إنها آيات الخطاب ب "قل" يحفل بها القرآن علي سبيل تحفيز الحفظ باستحضار المخاطب كسمت شفاهي الثقافة.
أنماط محفزة للتذكر
يؤكد "الكواز" أن الوحي ضمن أن يكون هو نفسه، محفزا للتذكر، بأن يحتوي علي وشائج، توصله بالذاكرة، وتحفظه فيها، وكأن القرآن يساعد الذاكرة نفسها في أن تستعيده، ومن تلك الوشائج التي تنشط في المحيط الشفاهي الذي نزل فيه القرآن:
1 ـ الارصاد: وهو أن يعرف السامع آخر الكلام بدلالة أوله، {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِي بَينَهُمْ فِيمَا فِيهِ يخْتَلِفُونَ } (19) سورة يونس فإذا وقف السامع علي " لقضي بينهم فيما فيه" عرف أن ما بعده "يختلفون".
2 ـ التطريز: وهو أن تكون في الكلام إشارة متكررة، يستفاد منها التذكر، وتكون في أول الكلام وآخرة، منها: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يتَفَكَّرُونَ} (21) سورة الروم {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (22) سورة الروم {وَمِنْ آياتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يسْمَعُونَ} (23) سورة الروم {وَمِنْ آياتِهِ يرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَينَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيحْيي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يعْقِلُونَ} (24) سورة الروم أو في آخر الكلام مثل: {فَبِأَي آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13) سورة الرحمن
3 ـ التضاد: رغم انه يقوم علي الناقض بين طرفين إلا انه يعين علي التذكر ومن تلك الآيات: {تُولِجُ اللَّيلَ فِي الْنَّهَارِ وَنُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيلِ وَتخْرِجُ الْحَي مِنَ الْمَيتِ وَتخْرِجُ الَمَيتَ مِنَ الْحَي وَترْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيرِ حِسَابٍ} (27) سورة آل عمران
4 ـ التوازن: وهو الاعتماد علي نغمة واحدة متكررة تقع في جملتين أو أكثر ومنه: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} (1-5 ) سورة النازعات
وغيره من أنماط التحفيز علي التذكر الشفاهي مثل التماثل، والتكرار الحرفي، وضرب الأمثال، وتوصيف الفكرة، بتجسيدها في الكلام، وهي من وسائل الثقافة الشفاهية التي لم تتعود العيش في أعماق التجريد، حتي في عرض لفكرة الله العالية التجريد مثل الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَي رَبِّكَ كَيفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيهِ دَلِيلًا } (45) سورة الفرقان.
لهجة المخاصمة
التزم "الكواز" برؤية "أونج" في كون الشفاهية تضع المعرفة في سياق الصراع، واعتمد علي ملاحظة "الجاحظ" في إشارته إلي أن الله ذكر لنبيه"العرب وما فيها من الدهاء والنكراء والمكر، ومن بلاغة الالسنة واللدد عند الخصومة"،{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } (19) سورة الأحزاب، كما رد القرآن علي خصومه قائلا"{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (13-10) سورة القلم، وعلي الجانب الآخر من المخاصمة في الثقافة الشفاهية، يكون المدح المفرط، وهو المدح الذي وصف به القرآن المؤمنين وعلي رأسهم النبي (ص)، والأنبياء السابقين، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة، {وَالَّذِينَ يقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّياتِنَا قُرَّةَ أَعْينٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (74) سورة الفرقان نسيان أجزاء من الماضي
يوظف " الكواز" فكرة "اونج" التي مؤداها أن الشفاهي يتخلص من ذكريات الماضي التي لم يعد لها صلة بحاضره، توظيفا يحل به إشكالية تغير قصص الأنبياء في الكتب المقدسة، عن مثيلتها في القرآن الكريم،سواء بالحذف لبعض الاحداث، أو تغير الصياغة، حتي أن أسماء الأنبياء في القرآن الكريم لم ترد بسلاسل النسب التي حرصت التوراة عليها، ولم يذكر أسماء مواليدهم بالعد والفصيل. فالقرآن حين عرض مثلا قصة "نوح" عرضها من منطلق كونه معادلا موضوعيا للنبي (ص) من حيث موقف قومه منه، بصورة تجعل العقل الشفاهي يربطها بالواقع المعاصر له مخليا إياها مما لا طاقة لذاكرة به.
إن تطبيقات النظرية الشفاهية علي القرآن الكريم تفتح الباب لمجالات بحث متعددة، تدفعنا نحو إدراك ماضينا بوعي أسلافنا، ونعيد معها تقييم أفكارنا حول قضايا متعلقة بالناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، وأن ندرك أن القرآن الكريم أحدث تحولا ثقافيا لدي العرب، فنقلهم نقلة حضارية ما كانوا ليحققوها لولا القرآن، بأن دخل بهم نحو الثقافة الكتابية، التي ضمنت لهم البقاء ضمن الثقافات الكتابية التي كانت سائدة وقت الوحي، بل ضمن لهم فضلا عن ذلك فتح آفاق المعرفة، بما كانوا يدركونه من قيمة وواقع ثقافتهم، والتي أصابها الانهيار بعد أن غاب عنهم التوظيف الصحيح للنص القرآني بالسعي علي بقائه ضمن الثقافة الشفاهية،في موجات الراديكالية المعاصرة، والتي تمعن في التعامل مع القرآن منزلة عليه مناهج بحثية لا علاقة له بها، أكثر من كونها وسائل وأدوات للتخلف.
* الكتاب: تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه
* المؤلف: محمد طاهر بن عبد القادر الكردي المكي
* الناشر: مصطفي الحلبي، القاهرة، 1953م
يقف الشيخ "محمد طاهر بن عبد القادر" (1903مـ 1979) علي أعتاب كل من "أونج" و "الكواز" أو بالأحري علي تلك اللحظة التاريخية، التي تحول فيها القرآن الكريم من نص شفاهي محفوظ في الصدور إلي نص كتابي محفوظ، في شكل النصوص المكتوبة التي نعرفها نحن الكتابيين. ربما يكون هو أول من حاول الوعي بذوات أسلافه عبر سياقهم التاريخي، فهو كان خطاط الحجاز الأول الذي كتب أول مصحف طبع بمكة، عام 1943م، علي وفاق رسم المصحف العثماني، نقله عن مصحف الحكومة المصرية 1632م تحت إشراف مشيخة الأزهر العمومية، والشيخ "محمد طاهر" لاشك انه كان طلاعة عصره،فهو قد ولد بمكة، وارتحل إلي القاهرة،ودرس بالأزهر، وأتقن الخط بمدرسة تحسين الخطوط العربية لمدة أربع سنوات، وعاد إلي مكة فعين موظفا بالمحكمة الشرعية، ثم عاد إلي مصر مرة أخري أمضي بها سنوات ثلاث في التأليف والترجمة والنشر، وبعد انتهائه من كتابة مصحف مكة المشار إليه باسمه، عنت له مفارقات أثناء كتابة المصحف، أخرجها في مؤلفه الذي بين أيدينا هذه الساعة
. خط المصحف لا يقاس عليه

يفتتح شيخنا مؤلفه بملاحظة جوهرية في لغتنا العربية التي تعتمد علي القرآن الكريم، في صورته الكتابية (المصحف)، وهي ان هناك خطين لا يقاس عليهما الكتابة العربية هما خط المصحف العثماني، وخط العروض الذي يكتب به الشعر، فيذكر علي حد قوله:" و لما شرعنا في كتابة مصحفنا المذكور ووصلنا إلي نحو خمسة أجزاء منه، وجدنا في الرسم العثماني العجب العجاب، ورأيناه جديرا بدراسته وتحقيق النظر فيه" والمراد بالرسم العثماني هو مصحف عثمان بن عفان الذي أمر بكتابته وجمعه وكان يسمي "المصحف الإمام". ما هو العجب العجاب? انه مخالفة الكثير من كلمات المصحف لقواعد كتابتنا، حتي يري شيخنا" إن في رسم المصحف العثماني يقف الفكر حائرا، والذهن تائها، إذ انه في نفسه لا قاعدة له" وكأن "اونج" يعلق علي ملاحظات الشيخ" المكي" قائلا:" انه العودة إلي ثقافة شفاهية خالصة، كانت الكلمة فيها تنتهي فور نطقها، تتحول إلي ثقافة كتابية، في أول محاولات ومراحل هذا التحول، إنها التجربة الكتابية الأولي في تاريخ الثقافة العربية، من اجل القبض والاستحواذ علي لحظة كلام الله في الذاكرة، بوسائل أخري"، قد رأي عثمان بن عفان استخدامها، غير قانعا بالآية{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر، فقرر كتابة القرآن بتلك الصورة التي إذا ما قرأناها بصورة الكتابة المعاصرة،بعد أن مرت علي ثقافتنا قرابة أربعة عشر قرنا من الكتابية، وجدنا العجب العجاب.
الجمع الكتابي للنص الشفاهي
يسرد الشيخ " المكي" لوقائع التاريخ التي تحول فيها القرآن من نص شفاهي إلي نص كتابي، بأنه جمع من الصدور التي كانت تحفظه حسب آليات "اونج" علي ثلاث مراحل:الجمع الأول، كتب كله في عهد النبي (ص) لكن غير مجموع في موضوع واحد، ولا مرتب السور، بل كان مفرقا في العسف، واللخاف، والرقاع، والاقتاب، مع كونه محفوظا في الصدور. وهي المرحلة التي كانت تسير فيها الثقافة الشفاهية إلي جوار الثقافة الكتابية. ثم الجمع الثاني، فقام به أبو بكر الصديق، بسبب مقتل أغلب الصدور الحافظة في موقعة اليمامة، واختلف مع عمر بن الخطاب الذي كان من أنصار المسارعة إلي التحول الثقافي الكتابي، في كونه شيئا لم يفعله الرسول (ص). وكأن الجمع الأول الذي تم في عهد النبي (ص) لا يعد جمعا بالمفهوم الكتابي، لولا ذلك ما اعترض الخليفة. وما صاحب هذا الجمع من نادرة آخر سورة التوبة التي لم توجد إلا مع أبي خزيمة الانصاري.ثم الجمع الثالث، الذي قام به عثمان بن عفان، حيث قال لرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش،فانه إنما نزل بلسانهم ففعلوا، إن الكلام الشفاهي يتوحد مع ثقافة مستقبله،وينخرط في عقله وما يحمله من خبرات خاصة، فرغم وحدة الكلام إلا انه عند استعادته لابد وان تظهر عليه ثقافة المتلقي له، وهذا ما يفسر تعدد اللهجات التي تعيد إنتاج القرآن بالمغايرة للغة قريش، التي نزل بها،وقيام عثمان بن عفان بتخلية القرآن من تعدد ثقافات المتلقين الأوائل.ويعتبر إحراقه للمصاحف الأخري هو بمثابة محو لكل المخرجات التي حتمتها الثقافة الشفاهية أثناء إعادة إنتاج نص من الذاكرة. وهناك اعتراض حدث علي هذا المحو وكان من أعلامه ابن مسعود في الشام الذي ظل محتفظا بمصحفه.
العجب العجاب
احكم عثمان بن عفان النص الكتابي لكلام الله في القرآن الكريم علي آخر ذاكرة شفاهية، وذلك بكتابته عبر أول مراحل الثقافة العربية الكتابية، والمفترض أن يؤسس مصحف عثمان بن عفان قواعد تداول الصوت للحروف العربية عبر الثقافة الشفاهية،إلا أن هذا التأسيس لم يحدث،وظل لمصحف عثمان هيئته الكتابية التي هي اقرب إلي الشفاهية حيث إن هناك مخارج لحروف لم يكن قد حسم شكلها المكتوب بعد، وانحصرت تلك المفارقات كما صنفها شيخنا"المكي"في الحذف، والزيادة، والهمزة، والبدل، والوصل، والفصل.
ـ فقد رسموا كلمة "كتاب" في جميع القرآن بغير ألف ما عدا أربعة مواضع فإنها مرسومة بالألف نحو" لكل أجل كتاب"، وكلمة "قال" مرسومة في جميع مواضع القرآن بالألف ما عدا خمسة منها تحذف الألف نحو" قل ربكم احكم بالحق"،وكلمة "أيها" مرسومة في جميع القرآن بألف بعد الهاء ما عدا ثلاثة مواضع تحذف نحو " آيه الثقلان"، وكلمة "ابراهيم" مرسومة في سورة البقرة "ابرهم"، وفي بقية القرآن"ابرهيم"، وكلمة " يا ابن أم"مرسومة في سورة "طه" هكذا" قال يبنؤم"، وفي الأعراف " قال ابن أم"، وكلمة " ما نشاء" مرسومة في سورة "هود" هكذا " ما نشؤا"، وغيره كثير من المفارقات التي تعتبر منطقية، فهي بين الرسم العثماني وبعضه.
وقام علماء النحو بتقعيد قواعد النحو علي قدر هذه المفارقات في شكل الحروف، وهم لا يعون بالتحول الثقافي الذي بين أيديهم من الشفاهية إلي الكتابية فكانت اللغة العربية محملة بالقواعد النحوية علي قدر تلك المفارقات من باب إحكام القواعد فهم مثلا برروا حذف الألف من "باسم الله" بمبرر التخفيف دون بيان سبب الثقل فيها وهكذا، إلي أن انتهت الحالة الشفاهية بلوغاريتمات كتابية، أضعنا فيها سنوات من الجدل "فوتت علينا الجدل النافع، وغيبت عنا وعينا بواقعنا، وارتجفنا نستحضر الماضي بدعوي المثالية، ففقدنا حاضرنا بين الأمم، ولاح لنا مستقبل مشؤوم لو لم نسارع نحو إعادة الاتساق بين حاضرنا ومستقبلنا، بالقراءة الواعية للتراث، والتطبيق الأوسع للفرق بين الثقافة الشفاهية والكتابية، من خلال إعادة طرح قضايا للمناقشة بات الحديث فيها دونه خرط القتاد.

1 - نوفمبر - 2005
ما أصل اللغة? هل اللغة العربية أم لغة أخرى?
القرآن بين الشفاهية والكتابية مراجعة منهج د.نصر حامد ابو زيد    كن أول من يقيّم

نصر حامد أو زيد والمنهج الغائب
عمرو على بركات
لقد امتنع العلمانيون عن الإدلاء بدلوهم فى نظرية "نصر حامد أبو زيد" وقت أن كانت الحرب مستعرة بينه وبين السلفيين، تجنباً لنقد قد يضعهم وقتها مع حزب الرجعيين، أو تقديم مفردات عقلية يتم توظيفها من قبل الأصوليين فى مواجهة الرجل وهو المحسوب على التنويريين. فأفسح العلمانيون الساحة أمام نظرية "أبو زيد" منذ باكوراها، إفساحا سلبياً بالامتناع عن النقد، إلا انه بعد أن تدعم حزام الرجل حول خصره، وبات يتخذ لنفسه منبراً خاصاً به، آن الأوان لفتح باب الجدل مع منهجه فى قراءة النصوص المقدسة، انطلاقاً مما نادى به من رفضه لأى تجديد للخطاب الدينى إذا تم التعامل مع النصوص التأسيسية بنفس الأسس نفسها التى استقرت فى الفكر الاسلامى منذ القرن الثالث الهجرى.
نظرية أبو زيد
عام 1987م وقت أن كان "أبو زيد" فى اليابان انتهى من إعداد تقدمتة لكتابه "مفهوم النص، دراسة فى علوم القرآن" وطبعته الهيئة العامة للكتاب بعد ثلاث سنوات، لتشتعل وطيس حربه، مع ظروف رفض ترقيته، والتفريق بينه وبين زوجته، بسبب ما كشف عنه ?أبو زيد" من منهجه فى دراسة القرآن الكريم من منطلق إنزال مبادئ دراسة النصوص الأدبية عموماً على القرآن على نحو قال عنه" أن النص فى حقيقته وجوهره منتج ثقافى... فقد تشكل فى الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً... وعلى ذلك لا يمكن أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة والواقع ما دام انه نص داخل إطار النظام اللغوى للثقافة"، ولما كان "أبو زيد" وقتها فى اليابان حيث سيطر النموذج الارشادى لعلوم الحاسب الآلى على مفردات الثقافة، فقد انزل عليه نموذج التعامل المعلوماتى فى عصر الحواسب الآلية، مؤداه أن هناك مدخلات للمحتوى الثقافى، وهناك مخرجات لهذا المحتوى، بعد أن يتم التعامل مع المدخلات فيه، وهناك التغذية العكسية، وهو إعادة إدخال هذه المخرجات مرة أخرى فى صورة مدخلات، للتأكد من صحة التطبيقات المنطقية فى التعامل مع المعلومات الداخلة، وهذا ما طبقه "أبو زيد" فى تعامله مع القرآن فقد اعتبره منتج ثقافى(مفعول به) فى مرحلة التكوين والاكتمال، ثم منتج(فاعل) عندما دخل به لمرحلة التغذية العكسية، وأصبح نصاً مهيمناً تقاس عليه النصوص الأخرى.فهو نص تأثر بثقافة القرن السابع الميلادى، فى جزيرة العرب، من ناحية، وأثر فى تلك الثقافة فيما بعد، من ناحية أخرى.
فروض أبو زيد
لقد قدم "أبو زيد" نظرية فى قوة نظرية النسبية التى وضعها "أينشتين" عام 1905م للفيزياء، واعتمد على فرضيات معينة، ونجح كما نجح " أينشتين" فى اعتماد جماعة العلماء لنظريته، ولكن كلا من "أبو زيد" و" أينشتين" لم يقدما اى إثبات بالتجربة العملية المعتمده على العقل التجريبى لإثبات فروضهما، فقد تأكدت فروض نسبية "أينشتين" بسبب فشل كل المحاولات لدحض تلك الفروض فقط، كما أن فروض" أينشتين" تؤدى الى استنتاجات هائلة جرى التحقق منها بالتجربة، رغم عدم تجربة الفروض المؤسسة للنظرية أصلاً، إلا أن "أبو زيد" رغم عدم تقديمه لأى إثبات لفروضه فى كون القرآن تجادل مع ثقافة بيئته زماناً ومكاناً، وبسبب حساسية موقفه، لم يتعرض لمحاولات دحض تلك الفروض، هذا فضلاً أن نظريته توقفت عند حدود الفروض ولم يقدم تطبيقات لتأكيد صحة فروضه.
وكأن "أبو زيد" اكتشف بعد عشرين عاما من تدبيج نظريته، أن الإمام "محمد عبده" يقر بتأثير ثقافة البيئة على النص القرآنى، مع تحوله من المعتزلة الى الاشاعرة للتميز فى كلام الله بين القديم الازلى وبين القرآن المتلو موضوع نظريته، لقد أراد "أبو زيد" أن يجد عضداً له القبول عند السلفيين، و المجددين فى آن واحد، هو "محمد عبده"، حيث لم ينجح "أمين الخولى" فى تثبيته أمام المحنة الأولى، وتقديم إسعافاته الأولية له، حين أعتمد على مذهبه الذى نادى به من ضرورة الاعتماد على الدراسات الأدبية لكتاب العربية الأوحد دراسة صحيحة كاملة الفهم، ولكن "محمد عبده" لم يقل بهذا صراحة، وإنما استنتجه "أبو زيد" من "رشيد رضا" رفيق وتلميذ الإمام. وعليه فان "أبو زيد" يبحث حالياً عن تأصيل، ومرجعية لنظريته، فى الوقت الذى كان الأحرى به أن يصرف جل همه نحو إيجاد تطبيقات لتلك النظرية التى عجز عن إثبات فروضها.
منهج أبو زيد
يرى "أبو زيد" أن القرآن يصف نفسه بأنه رسالة، والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة أو نظام لغوى، ولاستحالة دراسة المرسل فرأى انه من الطبيعى أن يكون المدخل العلمى لدرس النص القرآنى مدخل الواقع والثقافة، (مفهوم النص)وعليه فقد وعد "أبو زيد" بمحاولة كشف مكونات، وآليات النص الخاصةــ كمرحلة المدخلات ــ ثم دور النص نفسه فى عملية تأويله ــ كمرحلة التغذية العكسية ــ فقام باستعراض مفهوم الوحى، ضارباً أمثلة من واقع البيئة القرآنية عن اتصال البشر الشائع وقتها بالجن، ثم عرض لأفكار اقرب ما تكون لأفكار" شحرور" الذى انقلب عليه، عندما فرق بين القرآن والكتاب، ومفهوم الرسالة والبلاغ، ثم درس النص بنفس آليات الراديكاليين، بدراسة المكى والمدنى، بنفس منهج "جمال البنا"، ومعايير التمييز بين نوعى الآيات، واستخدم أسباب النزول ليؤكد على مدى ارتباط النص بواقعه، بل تحولت الآيات المنسوخة والناسخة الى محاولات النص للتأقلم مع فرضيات الواقع ليحقق الانسجام على حد قول"عبد الكريم"، ولم يقدم نتيجة لنظريته كما وعد فكل ما قام به "أبو زيد" أن أعلن عن نظرية لم يتمكن من إثباتها، رغم كل ما يدعيه من استخدام المنهج العقلى، فالجديد الذى قدمه هو إعادة صياغة مفاهيم أحكمت أصلا من قبل السلفيين، وانتهت بهم الى واقعنا المعاصر، من قراءة ل "عبد القاهر الجرجانى" فى دلائله للإعجاز، و " الزركشى" فى برهانه فى علوم القرآن، ولولا ما أثير حول نظريته من مشكلة، لمرت مر الكرام، دون أن يحسب بسببها "أبو زيد" على الليبراليين، أو المجددين.
 
مفهوم الثقافة عند أبى زيد
لم يقدم لنا حتى الآن المعنى الذى قصده بالثقافة التى يدعى أن القرآن تأثر بها أولاً، ثم عاد القرآن بعد اكتماله ليؤثر فيها، سوى قولاً عمومياً، معرفا إياها بثقافة القرن السابع الميلادى، فهو قد باغتنا، على الفور بتأثر القرآن بثقافة لم يذكر خصائصها وبنيتها، بل وما يعد تراثاً، وحداثة وقتها لهذه الثقافة، وهو الذى يدعى انه يراعى السياق واتساقاته، نراه قد ارتكب مغالطة على محورين: الأول، أن أخذ معايير العصر وراح يطبقها على ثقافة تفتقد لمقومات الثقافة التى أنتجت تلك المعايير أصلاً، والثانى، أنه لم يجد فكاكاً من تطبيق معايير تلك الثقافة القديمة التى كانت قائمة وقتها على النص موضوع بحثه، ليخرج علينا بنتائج مدعياً أنها نتائج تطبيق النظرية الأدبية الحديثة.
الثقافة الشفاهية والكتابية
لم ينجح "أبو زيد" فى فصل نفسه عن سياقه المعاصر، ليقف على أعتاب ثقافة عصر القرآن، فالحقيقة التى لم يكلف نفسه عناء البحث عنها قبل أن يبحث عن "كلام الله" هى ثقافة "كلام البشر" وقت نزول الوحى، وهى تحتاج لمنهج الدراسات الأنثروبولوجية، وتستحيل معها الدراسات الأدبية التى حاول إنزالها "أبو زيد" متبعا "أمين الخولى" فى رأى عرضيّ له عندما ترجم جزءاً من دائرة المعارف الإسلامية، أما الدراسات الانثروبولوجية، فتمدنا بطبيعة الثقافة العربية فى القرن السابع الميلادى فى كونها ثقافة شفاهية خالصة، يكتسب أهلها المعارف بالمشافهة، ولا يعرفون شيئاً عن ثقافة مماثلة لثقافتنا الكتابية، كما ذكر " أونج" فى كتابه "الشفاهية والكتابية"، فكيف يأخذ"أبو زيد" منهج دراسات أدبية لثقافة كتابية، ليطبقه على ثقافة شفاهية لا يعرف أهلها أن هناك شكلاً للكتابة، وهم ما أسماهم" أونج" الشفاهيين الخلّص? لقد أرخ القرآن لذلك الفرق، والتمايز الثقافى وقت نزول الوحى، فأول آية نزلت على الرسول(ص) هى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) سورة العلق ، واقرأ هنا بالمفهوم الشفاهى تختلف عنها بالمفهوم الكتابى، فهى بمعنى ردد خلفى، أو رتل، أما اقرأ الكتابية فهى من كيان مادى للصوت الذى تحول إليه وهو المكتوب على الورق،الأولى تعتمد على السمع والذاكرة السمعية، والثانية تعتمد على النظر والذاكرة البصرية، وهناك فرق بينهما. وعليه فان التحول الذى نتج عن الجدل الثقافى للنص القرآنى مع بيئته، هو أن تحولت الثقافة فى مجملها من شفاهية الى كتابية، وقد أدرك النص القرآنى قيمة هذا التحول، فى المرحلة البينية، التى عرف فيها العرب الثقافة الكتابية ولكن معرفة البواكير فأرخ القرآن لتلك المرحلة البينية قائلاً: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } (283) سورة البقرة ففى تلك المرحلة لم تكن الثقافة الكتابية قد انتشرت ليتيسر إيجاد من يُلمون بآلياتها فى أى وقت، وفى أى مكان، وعندما حدث التحول التالى بتعميق الكتابية أثبته القرآن فى آخر آيته حسب أسباب النزول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } (282) سورة البقرة لقد أصبحت الكتابة، والإملاء، من مفردات الثقافة والبيئة بفضل القرآن، لتحل محل القراءة والترتيل، واتخذت تطبيقاتها، فى الحياة العملية، على مستوى حجية الإثبات، فى مواجهة حجية الشهود، ذات الثقافة الشفاهية. وعليه فان الحدود التى يرى"أبو زيد" استقرارها فى مجتمع القرآن قبل أن يهبط به الوحى، وجاء الوحى متجادلاً معها على سبيل التلبية والموائمة مع وضع قائم، أحدث فيها القرآن تحولاً عرضياً، وهو بصدد الجدل على نحو أوسع مع الثقافة ككل، فأصبحت شهادة الشهود، من قبيل التراث الثقافى لمن هم معاصرون للوحى، واستخدام الكتابة فى الإثبات، كدخولنا اليوم عصر الميديا الثانية، بما يحمله هذا الدخول من كل مفردات الحداثة وقتها.
تجديد الخطبة
سخط "أبو زيد" الخطاب الدينى، وتجديده فى الخطبة!!، وارتكب ما حذر هو نفسه منه، بأن أعاد تعبئة الأفكار القديمة، فى عبوات جديدة، حتى لم يعرضها عبر فلسفة تساؤلية تفتح باب النقاش حول أمور عدها من المسلمات مثل تطوير رسم المصحف العثمانى بلا تنقيط أول أمره، إن النظرية التى يدعيها لا تملك الإجابة على ما يطرحه من أسئلة، بينما النظرية الشفاهية توضح أسباب ذلك التطور فى شكل المصحف، فقد كانت الكتابة فى أول أمرها فى المجتمع الشفاهىّ الثقافة الداخل تواً الى الكتابية، من وسائل التذكر، وليست كما هى الآن تحمل خطاباً على فراغ لا يعرف المتلقى شيئاً عنه، فقد كانت الكلمات غير المنقوطة لتعين القارىء على إدراك النص من ذاكرته، ولما أمعن العرب فى الثقافة الكتابية، أصبحت النصوص المكتوبة خارج الذاكرة، وتحتاج لتحديد أكثر وضوحاً للدلالة، فكان تنقيط الحروف، لإزالة اللبس بين النون، والياء، والتاء، والثاء، والباء، على سبيل المثال، إن فهم صدر الإسلام عبر نموذج الشفاهية والكتابية هو المجال المنتظر لحل مشاكل تجديد الخطاب، وتطوير الثقافة المعاصرة، عموماً، تطويراً يستوعب الخطاب الجديد أياً كان شكله، وصاحبه، دون مشاكل مع السلفيين، أو مع النص ذاته، فان الحديث عن تطوير الخطاب الدينى فقط، دون الثقافة، هو حديث أحادى الاتجاه به عوراً.
عمرو على بركات

13 - يوليو - 2006
رأي ابن خلدون في رسم المصحف
اوااااااااااااااااااااااااااااااافق    كن أول من يقيّم

اوافق على ان اكون انا رئيس التحرير
عمرو على بركات

13 - يوليو - 2006
انشاء مجلة أدبية بحتة لسراة الوراق
رحيل شيخ مشايخ الطرق الصوفية    كن أول من يقيّم

رحيل..شيح مشايخ الطرق الصوفية
                                                                عمرو على بركات
الآن بتعبير أهل الدنيا مات"نجيب محفوظ"، أما بتعبيراته الشهيرة هو ذاته، الآن يعيش "نجيب محفوظ "فى الحقيقة، مع "مارى مون"، و"اخناتون"، حيث ودع الرجل مناهج البحث عن الحقيقة الثلاث، وبكل الشوق والحب، يدخل الى الموت حيث سيستمر فى البحث عن الحقيقة بآخر مناهجها، أو بمنهجها الحتمى الأخير المتاح له، وهو الموت، لقد ذهب "نجيب محفوظ" الى الخلاء، فنفذ من أسوار التكية حيث مصدر الغناء المجهول، أكاد الآن اسمع صوته من بين أصوات الجوقة خلف السور مرحبين به مهللين بالحبيب القادم، الذى ظل طوال حياته ينشد" أغداً ألقاه يا لخوفى من غدى" هاهو يحيا الآن نشوة اللقاء والموعد الذى كان ينتظره طوال حياته وهو يتقلب بين مناهج المعرفة الثلاث العقلى والقلبى والجسدى، انه الآن يكتب الجزء الرابع المجهول من ثلاثيته الشهيرة، وسيرسل لنا باسم ذلك الجزء عبر هواتف أحلامه.
 " الموت مصدر معرفة "
لا شك أن تصورات "نجيب محفوظ" مردها الى ثوابت فكرية من ناحية والى تجارب شخصية من ناحية أخرى, وقد عبر عن ذلك فى لحظات البوح النادرة فى حياته عندما سألت " منظمة اليونسكو " الحاصلين على جائزة نوبل عما لا يعرفوه ? فكانت إجابة " نجيب محفوظ " عن منهجه فى البحث عن الحقيقة الإلهية مصنفا مصدرها الى عقلى يعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج , و مصدر قلبى لا مصدر له إلا ما وقر فى القلب مشيرا الى المعرفة الصوفية, إلا انه كشف عن خصوصية منهجه الصوفى، بأنه صوفى أعانه التصوف على مواصلة الحياة والتعامل مع تقلباتها . كما صرح " نجيب محفوظ " لمحمد سلماوى فى حواراته بتاريخ 15 ابريل 2004 بالأهرام. ربما كان مصدره لذلك المنهج الصوفى ديانات الشرق الأقصى فى البوذية, حيث مشى البوذى الباحث عن الحقيقة الإلهية فى الغابة يبحث عن الحقيقة حتى توحد معها إلا انه عاد الى بيته ماراً بالسوق يحمل الطعام,  ( “جون كولر" فى كتابه الفكر الشرقى القديم ) انه نفس معيار أكل الطعام والمشى فى الأسواق للرسل الباحثين عن الله و الذى ذكر فى القرآن الكريم " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق " الآية 20 سورة الفرقان.  
وتتحول الصوفية الى رموز فى روايات " نجيب محفوظ " فهى أصوات خلف التكية فى رواية " الحرافيش "
هى أشعار" حافظ الشيرازى".حتى تظهر هذه الإيحاءات فى حلمه بالزعماء فى قفص الاتهام حيث تتم محاكمتهم فيتكلمون بلغه غير مفهومة وكانوا ثلاثة رمزا للأديان السماوية، انه الآن يملك فك شفرات الحياة، وأصبح قريباً من المصدر المجهول لنا المعلوم له انه الموت المقرون بالمعرفة الصوفية.
 أتم نجيب محفوظ فترة نقاهته
كانت آخر أعماله الإبداعية"أحلام" فى فترة النقاهة، فهو يرى أن الحياة فى نهايتها مثل فترة الشفاء من الأمراض الدنيوية يستعد فيها الباحث عن الحقيقة الى الحياة الحقيقية التى يتخلص فيها من أسقام الجهل وغشاوة الرؤى، ووهن الجسد، فالموت عند"نجيب محفوظ" هو لحظة التماثل للشفاء، إن أحلام ورؤى "نجيب محفوظ" ما هى إلا اشراقات صوفية لم يرها "نجيب محفوظ" كرؤى وإنما كحقيقة لا يدركها إلا هو، ومن أراد أن يدركها عليه أن يدخل الى عالم" نجيب محفوظ" الأعم والأشمل من خلال ثلاثيته " الجنس والعقل والقلب " وهى نفس الثلاثية " قصر الشوق " و "بين القصرين “ و " السكرية "، أو ينتظر لقاؤه فى الجزء الرابع الموت، والذى ولا شك كان سيسميه"الخلاء".انه كان يستعد لذلك اليوم بتلك النقاهة،فلماذا اختار " نجيب محفوظ " النقاهة لتكون عنوانا لفترة أحلامه? فالنقاهة هى من الانتقاء الذى يجريه على وسائله فى المعرفة هى أحلام النقاء, والتنقية, والتصفية, والتخلية أو ربما تكون فترة النقاهة من الأفكار التى أعيته. لقد كان هنا فى مقام " الكشف " والكشف الصوفى عند "ابن عربى" يلطف الكثيف حيث يشاهد من الشيء جوهره الصافى, ذلك هو النقاء فى الصفاء الذى يقصده " نجيب محفوظ “ حتى الحياة الحقيقية ما هى إلا حلم, أو كما قال "ابن عربى" فى فصوص الحكم:" أما العالم فى نفسه فليس إلا خيلا وحلما يجب تأويله لفهم حقيقته "، انه يجلس الآن وقد استرد عافيته ليراجع رموزه ويقرر الى أى مدى كان مصيباً فيها، ويحدد الدلالات المعجمية لشفراته. لقد أوجز فى رؤياه رقم 57 سيرته الذاتية، وأضاف عليها نبؤته لما بعد الموت، لتكون أول سيرة ذاتية يكتبها بشر لمصيره فى الحياة الآخرة.
"درت حول الحصن مرتين " انه الحصن والقلعة والتكية و قبة الضريح رمز للدين فى معناه المجرد المحتوى لكل مصادر المعرفة القلبية المجهولة عند " نجيب محفوظ " وهو المكان الذى يتحصن فيه الإنسان من المجهول من مخاطر الطبيعة ومظاهرها التى كانت أول دوافع المعرفة بالله والقوى الغيبية, وهذا ما عبر عنه "عباس العقاد" فى كتابه " الله, فيكون الحصن هو تلخيصا لمفهوم" نجيب محفوظ" عن الدين كترجمان لحالة الضعف البشرى من القوى الغيبية.
"حصن حجرى “ يصف " نجيب محفوظ " فكرة الدين التى تحصن بها الإنسان بأنها فكرة قوية قديمة قدم أقدم وسيلة للمعرفة الغيبية, قوية قوة سيطرتها على المؤمنين بها.فهى من قوة الحجر ومن قدم العصر الحجرى. هو رمز يعكس موقف " نجيب محفوظ “ الأساطير التى صنعت حول أرباب المعرفة القلبية فحجبت الحقيقة، انه الآن يتمم الأجزاء المفقودة من الأساطير القديمة.
" نوافذه صغيرة كالثقوب, ومن كل نافذة يطل وجه أعرفه بل وأحبه " إنها نوافذ الأديان التى تشرف بها على الحقيقة يغيب عنها التبرير الكلى للحقيقة الغائبة من كل ثقب يقف صاحب الرؤية الخاصة من الأنبياء. فالمعرفة القلبية هى معرفة متنوعة بتنوع التجارب التى مر بها كل ساعى نحو الحقيقة.يسجل " نجيب محفوظ " إعجابه بأصحاب المعارف القلبية من أصحاب الأديان السماوية, إعجابه بالوجوه, هو إعجاب بالتجربة الذاتية التى مر بها كل واحد.وانتهت به الى شريعة سماوية. سيلتقى هناك بكل أصحاب التجارب الإنسانية الذين سبقوه فى استخدام مناهج البحث عن الحقيقة، ويجلس معهم يتسامرون، وسوف ترتفع قهقهاته مدوية فى سماء مجلسهم السرمدى، حاملة أصداء سيرة الرجل الذاتية.
" البعض طال غيابه و الآخر رحل عن دنيانا من أزمنة مختلفة " من الأنبياء من هو منتظر عودته وهو سيدنا المسيح. ومن الأنبياء من انتهت رسالته السماوية دون وعد بالعودة مرة أخرى.لم يعد هناك زمن عند"نجيب محفوظ" فقد حان موعد لقاءه مع كل الغائبين فى حديقة الورد.
" فنظرت بشوق وأسى و خيل الىّ أن كل وجه سألنى من أعماقه أن أحرره " نظرة الشوق المحفوظية هى الى معرفة ما عرفوه وكتموه, هى نظرة تلخص شغفه بالبحث عن الحقيقة وهو ما حكى فى هذا المعنى عن أبى بكر الصديق انه قال:" سبحان من لم يجعل للخلق طرقا الى معرفته إلا بالعجز عن معرفته “. ربما منهم من حجب حقيقة المعرفة الإلهية عن مريديه ملتزمى الشرعية التى سنها لهم رغم معرفته بالحقيقة كاملة, فقد قال سيدنا محمد (ص) " والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم الى الصعدات تأجرون الى الله، والله لوددت أنى شجرة تعضد “ رواه البخارى والترمزى، اى معرفة تلك التى يعرفها سيدنا محمد(ص) وأخفاها عن أتباعه حتى لا يفنون فى الحقيقة الإلهية ويتوحدون مع الكون حتى يتمنوا أن يكونوا شجرا أخضر ?أو ما هى تلك الحقيقة الموجبة للسخرية قليلا وللشوق والأسى كثيرا, والدافع للتسامى فى المتع الجسدية? ولكنه أبقاهم على قدر طاقتهم فى حصن الشريعة ، هل وصل "نجيب محفوظ" الى ذلك المقام? أم انه لايزال ينتظر على الصراط، خلف البشر المنتظرين أمامه لتلقى الحقيقة المحجوبة? 
" ونظرت الى الباب الحصن الحجرى بلا أمل " لا أمل فى خروجهم الطبيعى من باب الحصن حيث خروجهم على هذا النحو من الباب سوف يعرضهم لتقويض مبادئهم الدينية كلياً, أمام أتباعهم ممن تمسكوا بالشرائع التى انتهجوها لهم ، كان باب الحصن حجرياً،لا يمكن اختراقه، ولكن أصبح"نجيب محفوظ" بموته أثيرياً لا يقف أمامه أية حصون حجرية.  
"ووقفت خافق القلب منتظرا لقاء الأحبة بلهفة وشوق" إنها نبوءة الموت عند "نجيب محفوظ"، إنها تحمل مفهوم الموت عنده، إنها لحظة لقاء الأحبة، والتى ظل ينتظرها طوال حياته بلهفة وشوق. إن "نجيب محفوظ" يتطلع إلى المعرفة الإلهية فى أسمى معانيها فى أحلام فترة نقاهته وحياته نفسها هى اتساق مع تلك المعرفة الخالصة. فنراه يضع على باب بيته لافتة " قل هو الله أحد " مثل مولانا "الشبلى " الذى يقول " الله " ولا يقول " لا اله إلا الله " فلما سئل قال:" أستحى أن أوجه إثباتا بعد نفى...أخشى أن أوخذ فى كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار", وكذلك "نجيب محفوظ" اعترف بالوحدانية المطلقة فى مقام الأحادية التى لا تحدها وصف بالصمدية قد يشوبها ولا نفيا لإثبات السرمدية ب " لم يلد ولم يولد " ولا عدما للكينونة " لم يكن " فجرد الحقيقة الإلهية من الحصن الحجرى الذى يحيط بها حتى على لافتة باب بيته. ليكون متوحدا فى مقام الكشف والفناء ولكن بمشرب العقل فاستحق أن يكون "نجيب محفوظ" شيخ مشايخ الطرق الصوفية، الذى بموته خلا مقعد الولاية، رحم الله"نجيب محفوظ" ونحسبه وقد أحسنا الظن به فى جنة الخلد عند شجرة البلخ بجوار الأصيل. 
عمرو على بركات
 
 
 
 
 
 
 

8 - سبتمبر - 2006
مثقفونا الرواد الكبار ومواقفهم من الإحتلال والإستعمار
تاريخ مصر كما يحكيه الاقباط    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

تاريخ مصر كما يحكيه الأقباط سرا
عمرو على بركات
أطلت الفتنة، وإستيقظت الطائفية، لعن الله من أيقظها وطاف بها، إن كان مسلم أهبل طعن مسيحى داخل كنيسته، فان هناك مسيحى عاقل حمل سيفا و وقف خارج الكنيسة، فأصبحت المشكلة أكثر تعقيدا من ذى قبل، فمن يستطيع أن يعيد العقل إلى المسلم ويخرجه من الكنيسة? وينزع السيف من المسيحى  ويدخله الكنيسة? إن كان المسيحيون يسمعون الخطاب الاسلامى على منابر المسلمين، حيث خطب الجمعة، ودروس العشاء التى يتم الجهر بها، فان المسلمين لا يسمعون خطب الأحد، ومواعظ المسيحيين داخل كنائسهم، وعليه فنحن أمام خطاب فى اتجاه واحد،وتلك النوعية من الاتصال و التى تفتقد إلى التغذية العكسية، لإحداث التعادلية، وفى ظل الظروف المتاحة، ينتج عنها العنف، وتتحرك بها الفتن، إن البحث عن جذور الفتنة نراه قابعا هذه المرة داخل الخطاب المسيحى، المسيحى ، ويبدأ من كيف يقرأ المسيحيون تاريخ مصرعبر تراث مؤرخيهم?
المصريون الأصليون هم الأقباط و ليس المسلمون?
عام 1867م جاءت إلى مصر الآنسة" أ.ل.بتشر" الإنجليزية  لتكتب تاريخ الأمة القبطية، فأقامت مدة عشرين سنة بمصر ، طافت جائلة فى أكثر القرى والكفور، تجمع حكايات الأقباط من أفواه المصريين البسطاء، وتتحرى الأزمنة الصحيحة، حتى أتمت كتابها " تاريخ الأمة القبطية" داخل كنيسة القاهرة سنة 1897م،حيث تفتتحه بالمقدمة التى تذكر فيها" ولقد أسفر بحث الباحثين المدققين على أن أعقاب المصريين الأصليين الباقين إلى الآن هم الأقباط المسيحيين لا المسلمين" لا شك أن هذا الكتاب يعد بلا نكران هو عمدة التاريخ القبطى لدى رجال الدين المسيحى، فمن أول صفحاته يثير الشقاق بين أبناء أمة واحدة ويستحضر صورة غائبة لا قيمة لها، ولا تسفر نتائج البحث حولها عن أى إضافة علمية، أو تقرير حقيقة تاريخية، سوى عرض المرجعية المسيحية فى الشعور بالقهر والاضطهاد، فالمسيحيون يعيشون إلى جوار المسلمين وقد نزعوا عنهم صفة المواطنة الأصيلة!! فهم يرون أن المصرى المسلم، على أعقاب المستعمرين لمصر. وترى الآنسة "بتشر" أن تاريخ الأمة القبطية يبدأ منذ دخول الديانة المسيحية هذه البلاد، وانه تاريخ ممتزج من أوله لآخرة، بأقوام كثيرة مختلفة أغارت على البلاد وملكتها من رومان، و أروام، و عرب، و أكراد، وشراكسة، وأتراك وغيرهم، وهم الذين أذلوا المصريون، وجعلوا بلادهم مستباحة لهم. من هو الذى أذل المصريين? تلك القائمة من المستعمرين التى ذكرتها الآنسة"بتشر" أم تقصد الأقباط الذين سمحوا لكل هؤلاء المستعمرين بأن يذلوا مصر و يستبيحوها?
جذور الفتنة الطائفية
سنة 30 (ق.م) وقعت مصر فى قبضة المملكة الرومانية على يد "أوغسطس" القيصر، فتذكر الآنسة"بتشر" أن سكان مصر لذلك العهد يؤلفون على الإجمال من ثلاث طوائف: اليونان، واليهود، والمصريين، ومن هؤلاء يؤلف السواد الأعظم، وترجع الباحثة أن أسباب نجاح المستعمر الاجنبى فى غزو مصر، إلى وجود فتنة طائفية، ولكنها من نوع آخر عن الفتنة المعاصرة اليوم، فقد كان تنوع الآلهة المعبودة بين الأقاليم، فى السر والعلن، سببا لمنازعات ومنافسات شديدة، كثيرا ما أدت لاصلاء نار حرب داخلية بين إقليم وآخر وكان هذا من أقوى عوامل تشتيت الأمة وعجزها عن الاتحاد و الوقوف فى وجه أى عدو كان ولو أجنبيا، فقد كان معبود ممفيس الثور أبيس، وفى أمبوس التمساح، وفى أوكسيرينكون نوع من سمك النيل، وفى مدينة أسيوط الذئب، وفى سينوبوليس الكلب، وهلم جرا. ربما ما يعيشه المصريون اليوم من فتنة سببها ديانتين سماويتين فقط، مرجعيتهما لإله واحد يعد من قبيل قمة الوفاق الوطنى الطائفى، الذى يمكن أن يتوقع للشعب المصرى، حسب معايير الفتن فى مصر القديمة.
 
 
 
الإسكندرية ليه?
إن أول كنيسة تأسست فى مصر كانت فى الإسكندرية، وتثبت الآنسة"بتشر" الإجماع على أن مؤسسها هو القديس "مرقس الانجيلى" ويرجع أن زيارته الأولى لمصر كانت فى سنة 45م، وكان مرافقا له "بطرس الرسول"، وتروى أن أول من أعتنق الديانة المسيحية فى مصر على يد"مار مرقس" رجل اسكافى من الإسكندرية أسمه "أنيانوس"، وقد جاء فى رواية الباحثة، أن "مار مرقس" صنع آية مع "أونيانوس"، ويرجع انه شفاه من مرض عضال، كان لا يرجى شفاؤه منه، فأكرمه "انيانوس" على هذا الصنع الجميل، وأخذه إلى منزله ضيفا مدة من الزمن، ثم اعتنق الديانة المسيحية على يده، فاقتدى به فى ذلك خلق كثير، ولما رجع "مار مرقس" إلى فلسطين، قبل نهاية سنة 49م وسم "انيانوس" أسقفا على الكنيسة الجديدة ومعه أول ثلاثة قساوسة، وسبعة شمامسة،و قد بلغ عدد بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية حتى ترسيم البابا"شنودة الثالث" عام 1971م 117عدد بطريرك،كما ورد بتقرير الحالة الدينية الصادر عن مركز الأهرام للدراسات وقت أن كانت استراتيجية، و تم تشيد أول كنيسة فى الإسكندرية ، بمكان يعرف باسم "بوكاليا"، واقع على شاطىء البحر، وقد ذكر "استرابو" المؤرخ أن البقعة المذكورة كانت قبلا مرعى للماشية، ومن ذلك اشتق أسم المكان.وظلت بلاد مصر ممثلة فى عين الكنائس الغربية بلفظة كنيسة الإسكندرية. بل توجد هناك العادات المصرية الفرعونية التى انتقلت للكنيسة الغربية عن طريق كنيسة الإسكندرية، مثل الحلة البيضاء"التونية"التى تلبس وقت الخدمة الكنائسية هى عبارة عن جبة الكتان البيضاء التى كان يلبسها كاهن إيزيس، جز الشعر من وسط الرأس فقد كان أيضا من العلامات المميزة لكهنة مصر القدماء، واستعمال الخاتم فى إكليل الزواج، عادة فرعونية قديمة انتقلت إلى الكنيسة المسيحية برمتها، ربما هذا يفسر أهمية الحدث الطائفى المؤخر لوقوعه فى المدينة الرمز للديانة المسيحية.
الصيام سبب ضعف الأقباط
ترى الآنسة"بتشر" أن الصيامات دون غيرها من موضوعات الكنيسة القبطية هى التى كثر فيها التغير عن الحالة الأصلية، وهو تغير بزيادة عدد الأصوام، ففى البدء كان على رجال الكنيسة بأسرها أن يصومون أربعين ساعة متوالية من يوم الجمعة الحزينة إلى يوم أحد القيامة، ولكن فى أواخر القرن الثانى تحول الصوم إلى أربعين يوما بدلا من ساعة، حتى بلغ التوسع أكثر من نصف السنة تقريبا، وليس هو صوم هين على المصريين، فهو ليس امتناع عن أكل اللحم، والسمك فقط، وإنما عن اللبن والبيض، والسمن، ويعيشون على البقول المطبوخة بالماء والزيت، والقبطى على حد قول الآنسة"بتشر":"لا يأكل فى المساء ما لذ من الطعام كما يفعل المسلم الذى لا يصوم من سنته سوى 28 يوما يقضى فيها نهاره على الأغلب نائما وليلة آكلا وشاربا، فكثيرا ما خارت قوى الشعب القبطى، وأضناهم الهزال، حتى لقد يعسر على الواحد منهم أن يقوم بأعماله المعتادة، وتكون من نتيجة هذه الصيامات الطويلة القاسية إضعاف عزم الأقباط، وحط قواهم، حتى لقد مضت عليهم إلى الآن قرون عديدة لم يشنوا فيها غارة واحدة دفاعا عن حريتهم واستقلالهم".إن هذا يقدم سببا مقبولا لعجز ما يزيد عن 2000 قبطى فى كنيسة بالإسكندرية عن السيطرة على فرد واحد، أهبل، هجم عليهم، فى ثلاث كنائس على التوالى، لأن الأقباط قد أنهكهم الصيام، على مر التاريخ.
المستجير من الرمضاء بالنار
أيقن الأقباط أنهم يصعب عليهم لوحدهم أن يطرحوا النير الرومانى الضاغط على أعناقهم منذ 451سنة وقتها ولذلك نظروا لمطلع القرن السابع نظرة القانط يبحثون عمن يرفع عنهم هذا الشر فعمدوا إلى العرب الذين بهرتهم فتوحاتهم، وهكذا يروى الأقباط تاريخ الفتح الاسلامى لمصر، وكما تحققت منه فى بحثها الآنسة"بتشر" قائلة:"ولكنهم لما استجاروا ب"عمر بن الخطاب" على إنقاذهم من ظلم الرومانيين وقعوا فى ما هو أشر وأنكى وظلموا من ذلك العهد لحد يومنا هذا (تقصد سنة 1897م ) يذوقون من العرب مر العذاب ويسامون أنواع الظلم والعسف، ويضطهدون اضطهادا لا يذكر يجنبه اضطهاد ديوكلتيانوس ونيرون، وكأن الشاعر العربى أحس باستجارة الأقباط بعمرو بن العاص فعناهم بقوله: المستجير بعمرو عند كربته * كالمستجير من الرمضاء بالنار"هكذا يروى تاريخ مصر داخل المجتمع المسيحى، فأى شعور باضطهاد يشكون منه? وأى وطنية يؤرخون لها? وهى ملاحظة الدكتور "حسين فوزى "فى كتابه سندباد مصرى، أن الأقباط قبل أن يخالطهم الدم العربى كانوا يطردون مستعمر من أجل قدوم مستعمر آخر، فالاضطهاد حالة يسعون للمحافظة على الشعور بها دائما على مر التاريخ.
تاريخ شكوى الاضطهاد المسيحى
ترصد الآنسة "بتشر" سنة 640 للمسيح، و 356 للشهداء، و 18 للهجرة للفتح الاسلامى لمصر، حيث كانت البلاد فى ضيق من الحكومة الرومانية الحديثة التى استردت البلاد من الفرس، وان مخطط"هرقل" الحاكم الرومانى الذى استعاد مصر من الفرس، لم يجد أمامه سوى الدين ليرفع ما حل بين المصرين من اختلاف مذهبى، ولكن ولاة الأقاليم الأقباط كانوا يخافون اليوم الذى فيه تعود سلطة هذه الحكومة، وتتملك فى رقابهم لأسباب شخصية وسياسية معا فسعوا إلى تقليص ظلها وتقويض أركانها بكل الوسائل والنفوذ. وحدثت فتنة طائفية داخل الدين المسيحى، لم يكن هناك مسلمون وقتها فى مصر حتى تاريخه، حول طبيعة السيد المسيح، ومشيئته، بين الإمبراطور الرومانى"هرقل"، و البطريرك المصرى "بنيامين" وتعرض "بنيامين" للاضطهاد،وتم نفيه، حتى أعادة "عمرو بن العاص" من منفاه فى العام الثانى عشر للنفى. وكأن طبيعة السيد المسيح والاختلاف اللاهوتى حولها، هى التى قدمت أول مبررات للمسيحين للجأر بالاضطهاد، منذ العصر الرومانى، حتى الآن.
المقوقس الخائن
يعرف المسلم المقوقس" بصرف النظر عن الاختلاف حول اسمه، وحقيقة شخصه، فهو الحاكم المصرى الذى أرسل لنبينا محمد(ص) بهدية ردا على خطابه(ص) له، اما الآنسة"بتشر" فترى أن "المقوقس" هو أكثر ولاة مصر خيانة، وأشنعهم ذنبا، وأقبحهم عذرا، ولؤما، وهو الرجل الذى يعرفه معظم المصريين لشهرته بالدناءة، والنذالة، الخائن الذى سلم مصر ل"عمرو بن العاص" فاغتصبوها، واستعملوها، ونقلوها للخلف، وظل هذا الوغد الزنيم المسمى بالأفخم، وترجمتها باليونانية"مقوقس"، وحقيقة اسمه "جرجس".وحتى قبل الإسلام كانت "بتشر"تفصل داخل المجتمع المصرى بين الحكام المعينين من قبل الحكومة الرومانية، وبين أعضاء الكنيسة المصرية الوطنية التى تسمى الآن الكنيسة القبطية،إذا فالمقوقس على حد قول "بتشر" مواطن مصرى ولكنه رومانى المعتقد والوظيفة، وفى جميع الأحوال فهو خائن للإمبراطور الرومانى، خائن لبلاده المصرية،خائن لأمته القبطية، خائن لنفسه الدنيئة، إن الأقباط يعيشون حالة ارث تاريخى مردها لأكثر من خمسة عشر قرنا من الشعور بأنهم أصحاب بلد محتل، عاجزون عن مقاومة مستعمره، وأن جميع حكامه خونة، فهم أتباع المستعمر، حتى لو كانوا مصريين، هذا الإرث مادته ثابتة، مفرداته متغيرة، بتغير اسم المستعمر، ثم نأتى اليوم فنلقى باللوم على المسلمين لأنهم مسئولون عن إزالة، ورفع هذا الشعور عن قلوب الأقباط!! ولا شك ان التيارات الإسلامية عندما ترى أن الأقباط يؤرخون للفتح الاسلامى لمصر انه تم بالخيانة، فإنهم سوف يراجعون مادتهم التاريخية فى وصف فتح مصر، ويفضلون انه يكون قد تم بالسيف عن الخيانة، ولكن الأقباط اليوم يحملون السيف الغائب عنهم فى وجه أقباط أيضا وليسوا مستعمرين، إن مصر تحتاج إلى إعادة صياغة تاريخها الذى يرويه المسلم والمسيحى على السواء، عندئذ لا نشكو فتن طائفية مصدرها مؤرخين، وليس الواقع.
عمرو على بركات
 
 
 
 

8 - سبتمبر - 2006
المسيحيُّون والمسلمون، معًا، من أجل اللغة العربيَّة