البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات عباس أرحيلة

تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
الجاحظ بين المعلم والكتاب    كن أول من يقيّم

الجاحظ بين المُعلِّم والكتاب:
 
 لعل الجاحظ لم يتمتع بحضور حلقات الدرس في المراحل الأولى من طلبه العلم، بسبب انشغاله بطلب العيش. ولعله استعاض عن حرمانه هذا باللجوء إلى الكتاب والانشغال به. ونجده يُقارن بين المعلم والكتاب، ويُفضِّل الكتاب – حسب تجربته – على الجلوس إلى المعلم. ولعل في النص الموالي ما يكشف عن تجربة الجاحظ في تلقي العلم أيام حداثة سنه، حين قال:« وليس يجد الإنسان في كل حينٍ إنساناً يُدرٍّبُه، ومُقوِّماً يُثَقِّفُه. والصبرُ على إفهام الريِّض شديدٌ، وصرفُ النفس عن مغالبة العالم أشدُّ منه، والمُتعلِّمُ يجدُ في كلِّ مكانٍ الكتابَ عتيداً، وبما يحتاجُ إليه قائماً، وما أكثرَ مَن فرَّط في التعليم أيام خمول ذكره، وأيام حداثة سنِّه! ولولا جِيادُ الكُتبِ وحسَنُها، ومبيَّنُها ومُختصرُها، لمَا تحرَّكتْ هِممُ هؤلاء لطلب العلم، ونزعتْ إلى حبّ الأدب، وأنِفت من حب الجهل، وأن تكون في غِمار الحَشْو، ولَدخل على هؤلاء من الخَلل والمضرة، ومن الجهل وسوء الحال، ما عسى ألا يمكن الإخبارُ عن مقداره، إلاَّ بالكلام الكبير، ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه:« تفَقَّهوا قبلَ أن تُسَوَّدُوا»[1/87][1].
فالكتاب عند الجاحظ يتولَّى التدريب والتقويم والتثقيف، مما قد لا يتوافر في معلم مخصوص؛ وتلك مهام تحتاج من صاحبها إلى صبر، أما الكتاب فهو موجود في كل مكان. ولولا جِياد الكتب لما استطاع القارئ أن يسترد ما فرَّط فيه أيام الحداثة. والقارئ عند الجاحظ يستفيد من الكتاب أكثر من استفادته من المعلّم. يقول مخاطباً القارئ:« وعرَفْتَ به في شهر، ما لا تعرفُه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغُرْم، ومن كدِّ الطلب، ومن الوقوفِ المُكتَسب بالتعلّم، ومن الجلوس بين يديْ مَن أنتَ أفضلُ منه خُلُقاً، وأكرمُ منه عِرْقاً، ومع السلامة مِن مجالسة البُغضاء، ومقارنة الأغبياء، والكتابُ هو الذي يُطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويُطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلُّ بنوم، ولا يعتريه كَلال السهر، وهو المعلِّم الذي إن افتقرتَ إليه لم يُخفِرْك [2]، وإن قطعتَ عنه المادة لم يَقطعْ عنك الفائدة » [1/51].
وواضح من هذين النصين أن محيط الجاحظ كان يعُجُّ بالكتب، وأنه وجد في الكتب ما لم يجده من معلمي زمانه.
 


[1]  الأرقام الواردة بين معقوفين تُحيل إلى كتاب الحيوان.
[2]   أخفرَه: نقض عهده، غدِر به. والهمزة للإزالة أي أزلتُ خُفارته أي أمانه. وهو من خَفَرْتُ ذِمَّتَه إذا حفِظتُها [ اللسان: خفر].

30 - يونيو - 2008
تذكار الجاحظ