ومن أجل السائل الكريم نبدأ بالمقتضب كن أول من يقيّم
ونحن كالأستاذ أبي ريحانة نسعى جميعا للعثور على بحث يدرس البحر المقتضب (وكل بحور الشعر العربي) دراسة وافية. وقد رأينا التنوخي يدرس البحور ويعرضها علينا كما درسها العروضيون قبله محتفظا بآرائه الخاصة عقب دراسة كل بحر في مباحث مستقلة سماها "نظرات تحليلية" ، قال: "لقد حافظنا في كل بحر على مصطلح العروض الذي وجدنا آباءنا على أمته، وحاولنا تيسير عسيره على النمط الذي وصفناه في الكلمة التمهيدية، وهو لا يمنع أن نتبع كل بحر بنظرات أو نقدات تحليلية نناجي بها المعلم المستقل بفهمه، والمتعلم الذي يريد أن ينتفع بعلمه". هكذا، إذن، وجدناه يفتتح دراسة المقتضب بسبب تسمية الخليل له، وهي أنه اقتُضِب من الشعر، أي "اقتُطِع" منه ، وقيل: لأنه اقتضب من المنسرح، ويحتمل أن يكون هذا القول تفسيرا لقول الخليل. ثم يعرج على وزنه في دائرته ( مع أنه لا يؤمن بجدوى الدوائر) ويأتي بشاهد لشاعر، ولم يصف شاهده بالمصنوع، على المقتضب التام، ووزنه: مفعولات مستفعلن مستفعلن *** مفعولات مستفعلن مستفعلن ثم قال : والمقياس المستعمل لهذا البحر هو: فاعلات مفتعلن *** فاعلات مفتعلن ثم يذكر لنا جوازاته كما تنص عليها كتب العروض وهي الخبن في (مفعولات) والطي في (مستفعلن). وفي نظراته التحليلية استعرض التنوخي أقوال السلف من العلماء في هذا البحر فقال: "أنكر الأخفش أن يكون المضارع والمقتضب من الشعر العربي، وذهب إلى أنه لم يسمع منهما شيء، ويقول الزجاج: هما قليلان لا يوجد منهما قصيدة لعربي، وإنما يُروى البيت والبيتان، ولا يُنسَب بيت منهما إلى شاعر من العرب ولا يوجد في أشعار القبائل. وأما ابن القطاع فيقول عن المقتضب : هو مع قلته تقبله الطباع وتستحليه". ويرى التنوخي أن في ذلك مما يجيز له أن يرد هذا البحر إلى المنسرح وأن يجعله مجزوءا له جزءا قبليا، لا مجزوء الدائرة، أو برده إلى الرجز والدِ إخوةٍ من الأبحر كالكامل والسريع والمنسرح . ثم يذكر رأي الشيخ عبد الفتاح بدوي الذي يرد المقتضب إلى مجزوء المتدارك، حيث يقطّع شواهد هذا البحر ومنها قوله: أقبلت/ فلا/ح لها ***عارضا/ن كال/سبج فاعلن فعل فعلن *** فاعلن فعل فعلن قال بدوي: "ودخله الخبن والقطع في التفعيلة الثانية من الشطرين، وهم يجمعون على جواز القطع في المتدارك ، والخبنُ لا يختلف أحد في جوازه". قال التنوخي: وبعد أن رد بدوي بقية الشواهد إلى مجزوء المتدارك قال: "ظهر السبب فبطل العجب وتلاشى الوتد المفروق والمراقبة وبحر المقتضب". ثم يخالف الشيخ بدوي بقوله: على أن بحر المقتضب يتلاشى اسمه برده إلى المنسرح ويبقى، بوزنه وجوازاته، ضربا من ضروبه، وأما المراقبة فقد جعلوا سببها وجود الوتد المفروق في مفعولات الواقعة في الحشو، وذلك " لأن ساكني سببيها – كما زعموا – ليس لهما ما يعتمدان عليه إلا الوتد المفروق فلم يقو لاعتمادهما عليه جميعا"، وهو تعليل لا يطمئن العقل إليه ، فقد حكي بعضهم سلامة مفعولات الأولى والأخيرة فلم يراع المراقبة في شيء منهما وأنشدوا : لا أدعوك من بَعَدٍ *** بل أدعوك من كَثَبِ مفعولات مفتعلن *** مفعولات مفتعلن فأنت ترى اجتماع الفاء والواو في (مفعولات) فأين المراقبة؟ ثم يقول : " بله إن الفراء قد حكى حذف الفاء والواو معا فتصير مفعولات بالنقل (فعلات)، ونظم بعضهم للتمثيل: فتكات فارسنا *** ضربوا بها المثلا فعلات مفتعلن*** فعلات مفتعلن. ولم يذكر التنوخي أن هناك ضربا من المقتضب هو : مفعولن ، وعليه قول الحسين بن الضحاك: عالم بحبيه *** مطرق من التيه يوسف الجمال وفرعون في تعديه وكان د. إبراهيم أنيس قد ذكر هذا الشاهد في بحر المقتضب الذي رفضه مع المضارع ، ولم يفطن إلى أنه استدرك على الخليل ضربا لم يعرفه العروضيون قبله. وقد زاد د. عمر خلوف في كتابه ( كن شاعرا ) على هؤلاء جميعا مشطورين للمقتضب ، أولهما قول ابن القاسم الواسطي: فضة على ذهبِ توجت من الشهب في سنا من اللهب والثاني من قول أبي بكر بن رحيم : قل لكوكب الحسنِ منتهى المنى مَنّي بالوصال أو مُنّي فإذا أردت سيدي أن تجد بحثا يدرس البحر المقتضب دراسة وافية ، فاقرأ الكتب التي ذكرناها بأعلاه ، أو اكتف بهذه المداخلة القصيرة. |