أبو عيسى ابن هارون الرشيد كن أول من يقيّم
أبو عيسى ابن الخليفة هارون الرشيد، من أعلام الغناء العربي، وأمه بربرية، كما كانت أم جده أبي جعفر المنصور بربرية، واشتهر بكنيته (أبي عيسى) واسمه أحمد، ويقال صالح، وقد أفرد أبو الفرج الأصفهاني أخباره في (الأغاني) وأنا أختار منها هذه الفقرات لأهميتها، وإن كان في ذلك طول، قال: (كان من أحسن الناس وجهاً ومجالسةً وعشرةً، وأمجنهم وأحدهم نادرةً وأشدهم عبثاً. وكان يقول شعراً ليناً طيباً من مثله... أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثني محمد بن عبد الله بن طاهر أنه سمع أباه يقول: سمعت أبي " يعني طاهر بن الحسين " يحدث أنه سمع الرشيد يقول للمأمون: أنت تعلم أنك أحب الناس إلي، ولو أستطيع أن أجعل لك وجه أبي عيسى لفعلت.... أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني مسيح بن حاتم العكلي قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال: كان يقال: انتهى جمال ولد الخلافه إلى أولاد الرشيد، ومن أولاد الرشيد إلى أولاد محمد وأبي عيسى. وكان أبو عيسى إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه .. حدثني محمد قال حدثني يعقوب بن بنان قال حدثني علي بن الحسين الإسكافي قال: كنت عند أبي الصقر إسماعيل بن بلبل وعنده عريب، فسمعتها تقول: انتهى جمال الرشيد إلى محمد الأمين وأبي عيسى، ما رأى الناس مثلهما، وكان المعتز في طرازهما. قال: وسمعتها تقول لأبي العباس بن حمدون: ما غناؤك من غناء أبي عيسى بن الرشيد ! وما سمعت قط غناءً أحسن من غنائه، ولا رأيت وجهاً أحسن من وجهه ... مات سنة (209هـ) وصلى عليه أخوه المأمون، ونزل في قبره، وحزن عليه حزنا كبيرا، حتى امتنع عن الطعام أياما. قال أبو العيناء قال سمعت محمد بن عباد يقول: لما توفي أبو عيسى بن الرشيد وجد المأمون عليه وجداً شديداً، وكان له محباً وإليه مائلاً. فركب إلى داره حتى حضر أمره وصلى عليه، وحضره الناس، وكنت فيمن حضر، فما رأيت مصاباً حزيناً قط أجمل أمراً في مصيبةٍ ولا أحرق وجداً منه من رجل صامت تجري دموعه على خديه من غير كلح ولا استنثارٍ. قلت أنا زهير: ومن نوادر الأخبار ما حكاه أبو الفرج في سبب موت أبي عيسى وهما سببان لا سبب واحد، والله أعلم بحقيقة الحال، قال: حدثني من شهد المأمون ليلةً وهم يتراءون هلال شهر رمضان وأبو عيسى أخوه معه وهو مستلقٍ على قفاه، فرأوه وجعلو يدعون. فقال أبو عيسى قولاً أنكر عليه في ذلك المعنى. أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا الحسين بن فهم قال: قال: أبو عيسى بن الرشيد: دهـانـي شهر الصوم لا كان من iiشهر | | ومـا صـمـت شهراً بعده آخر iiالدهر | فـلـو كـان يـعـيـدني الإمام بقدرةٍ | | على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر | فناله بعقب قوله هذا الشعر صرعٌ، فكان يصرع في اليوم مراتٍ إلى أن مات، ولم يبلغ شهراً آخر.... أخبرني محمد بن علي قال حدثني عبد الله بن المعتز قال: كان سبب موت أبي عيسى بن الرشيد أنه كان يحب صيد الخنازير، فوقع عن دابته فلم يسلم دماغه، فكان يتخبط في اليوم مراتٍ إلى أن مات. .... أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا سليمان بن داود المهلبي قال حدثني الهيثم بن محمد بن عباد عن أبيه قال: كان المأمون أشد الناس حباً لأبي عيسى أخيه، كان يعده للأمر بعده، وتذاكرنا ذلك كثيراً، وسمعته يقول يوماً: إنه ليسهل عليه أمر الموت وفقد الملك، وما يسهل شيء منهما على أحد، وذلك لمحبتي أن يلي أبو عيسى الأمر من بعدي لشدة حبي إياه. حدثني محمد قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا محمد بن عباد المهلبي قال: لما مات أبو عيسى بن الرشيد دخلت إلى المأمون وعمامتي علي، فخلعت عمامتي ونبذتها وراء ظهري - والخلفاء لا تعزى في العمائم - ودنوت. فقال لي: يا محمد، حال القدر دون الوطر. فقلت: يا أمير المؤمنين، كل مصيبةٍ أخطأتك تهون، فجعل الله الحزن لك لا عليك... أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد الوراق قال حدثني محمد بن عبد الله بن طاهر قال حدثني أبي قال قال أحمد بن أبي دواد: دخلت على المأمون في أول صبحتي أياه وقد توفي أخوه أبو عيسى وكان له محباً وهو يبكي ويمسح عينيه بمنديل، فقعدت إلى جنب عمرو بن مسعدة وتمثلت قول الشاعر: نـقصٌ من الدنيا iiوأسبابها | | نقص المنايا من بني هاشم | ولم يزل على تلك الحال ساعة يبكي، ثم مسح عينيه وتمثل: سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض | | فـحـسـبك مني ما تجن iiالجوانح | كـأن لـم يمت حيٌ سواك ولم iiتنح | | عـلـى أحـدٍ إلا عـلـيك iiالنوائح | ثم التفت إلي فقال: هيه يا أحمد ! فتمثلت قول عبدة بن الطبيب: عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ | | ورحـمته ما شاء أن iiيترحما | تـحـية من أوليته منك نعمةً | | إذا زار عن شحطٍ بلادك iiسلما | وما كان قيسٌ هلكه هلك iiواحدٍ | | ولـكـنـه بـنيان قومٍ تهدما | فبكى ساعةً ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة فقال: هيه يا عمرو ! قال: نعم يا أمير المؤمنين بكوا حذيفة لم تبكوا مثله حتى تعود قبائلٌ لم تخلق فإذا عريب وجوارٍ معها يسمعن ما يدور بيننا، فقلن: اجعلوا لنا معكم في القول نصيباً. فقال لها المأمون: قولي، فرب صوابٍ منك كثير. فقالت: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر وليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر كأن بني العباس يوم وفاته نجوم سماءٍ خر من بينها البدر فبكى وبكينا. ثم قال لها المأمون: نوحي، فناحت ورد عليها الجواري. فبكى المأمون حتى قلت: قد خرجت نفسه، وبكينا معه أحر بكاء، ثم أمسكت. فقال لها المأمون: اصنعي فيه لحناً وغني به. فصنعت به لحناً على مذهب النوح وغنته إياه |