الحياة السياسية في مرآة أدب العصرين ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
الحياة السياسية في مرآة أدب العصر المملوكي
تعد حادثة سقوط الخلافة كارثة عظمى لم يعرف التاريخ القديم مثيلاً لها في شناعتها وسرعة تقويضها دعائم مدنية أشرقت على بلاد واسعة الأرجاء ممتدة من الصين شرقًا إلى بحر الروم غربًا. قال عن بداياتها ابن الأثير(ت632 هـ(:"لقد بقيتُ عدةَ سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليها رِجْلاً وأؤخِّر أخرى. فمَن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك ؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها، وكنت نسْيًا منسيًّا" .
لقد جرح العرب والمسلمون جرحًا لا يندمل ولا يمكن وصف ما ألمَّ بالعرب؛ لأنه ـ كما يقول السيوطي(911هـ) في تأريخه للخلفاء ـ "حديث يأكل الأحاديث وخبر يطوي الأخبار، وتاريخ ينسي التواريخ، ونازلة تصغر كل نازلة" .
شاءت إرادة الله ولا رادَّ لمشيئته أن تسقط بغداد على أيدي المغول(التتار)عام 656هـ وأن ينتهي عهد الخلافة العباسية وسلطانهم، وتتحول دولتهم إلى ذكرى مرددة وتاريخًا مرويًّا وأحاديث مأثورة وعبرًا ماثلة، يذكرها المسلمون باللوعة وبالأسى والحسرة على ذهاب دولة إسلامية كبرى كان لها من النفوذ الروحي والسياسي في بقاع الإسلام المختلفة.
وقد كانت نكبة بغداد هذه مؤثرة تأثيرًا واضحًا في الشعراء، نظرًا لما أحدثه التتار من فظائع مرعبة في بغداد وأهلها:
فهذا شاعر يفسر السقوط البغدادي بضعف شخصية الخليفة العباسي، قائلاً:
خليفة في قفصٍ بين وصيف وبُغا
يقول ما قالا له كما يقول البَبَّغا()
ومن ثَم كان السقوط الذي وصفه الشاعر تقي الدين ابن أبى اليسر(ت672هـ)، برائية دامعة، يقول في مقدمتها:
لسائل الـدمع عـن بغداد أخـبـار فما وقوفك والأحباب قد ساروا
يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا فـما بـذاك الحـمـى والـدار ديـَّار
تاج الخلافة والربع الذي شرفت بـه الـمـعـالـم قـد عـفَّـاه إقــفـار أضـحى لعطف البـلى في ربعه أثر ولـلـدمــوع عــلـى الآثــار آثــار
يا نار قلبيَ من نارٍ لحرب وغًى شُبَّتْ عليه ووافى الربعَ إعصار([2])
فمكان الخلافة صار قفرًا بلقعًا يبابًا، ورسمًا دارسًا، ومن ثم فسيلان الدموع أمر طبيعي لتلك النار التي في قلبه من جراء مظاهر الخراب والدمار التي أحدثها التتار في دار الخلافة، وقد جاء بكاء ابن أبي اليُسر ذاتيًّا صادقًا، ممزوجًا بصور خيالية معبرة، خصوصًا في البيت الخامس.
وهذا الشاعر الإيراني سعد الدين الشيرازي (ت691هـ)([3]) يقدم دمعة حرى على بغداد قائلاً:
حبست بجفنيَ المدامع لا تجرى فلما طغى الماء استطال على السكر نـسيـمُ صبَـا بـغـدادَ بعـد هـلاكِها تَمـنَّيـتُ لـو كـانـتْ تمـرُّ عـلى قبري لأن هلاكَ النفس عند أُولى النُّهى أحـبُّ لـه مـن عيشِ مُنقبِض الصـدر زجرتُ طبيبًا جسَّ نبضي مداويًا إليـكَ فـما شكـوايَ مـن مرضٍ تُبرى لزمتُ اصطبارًا حيث كنتُ مفارقًا وهـذا فـراق لا يـعـالـج بـالصــبر([4])
فالشيرازي متفجع حزين على بغداد بسبب هذه النكبة، وذلك بكثرة دموعه، وتمنيه الموتَ وتكلفه الصبرَ، ولكن كل ذلك لا ينفع ولا ينجع؛ لأن المُصاب جَلَل والخسائر فادحة، يقول:
تـسائلني عما جرى يوم حـصرهم وذلك مـمَّا ليـس يـدخـل في الحصر بكت جدر المستنصرية([5]) ندبة على العلماء الراسخين ذوى الحجر([6])
نوائـب دهـر ليـتنـي مـتُّ قبلها ولــم أر عـدوان السفـيه على الحبرمحـابر تبـكي بـعدهـم بسوادها وبعـض قـلوب الناس أحلك من حبر لحى الله من يسدى إليه بنعمـة وعنـد هـجوم النـاس يـألف بـالـغـدر مـررت بصـم الراسيات أجوبهـا كخنساء من فرط البكاء على صخر أيا ناصحي بالصبر دعني وزفرتي أمـوضع صـبر والكبـود على الجمر تهدم شخصي من مداومة البكا وينهدم الجرف الدوارس بالمخر ([7])
فما جرى يوم حصار التتار لبغداد يفوق الحصر والخيال، فالخسائر كثيرة وفادحة، والجميع متفجع:العلماء، ومعاهد العلم، والمحابر، والجبال الصماء، والكبود المحترقة. ومما يزيد الجميع حزنا وبكاء وجود طائفة من المنافقين أوالخونة، ذوى القلوب الحالكة، والنفوس الخائنة الغدارة.
يتبع، إن شاء الله تعالى د/صبري أبوحسين
|