الفصل الأول :تحليل مقطع...8 كن أول من يقيّم
د ـ التصوير: إنه ـ كما يؤكد الشعريون حديثاـ هو أحد أهم التحديدات المشددة على إبراز المعنى لتحقيق التألق الجمالي في القصيدة وقد كان الجاحظ ومن ذهب بعده مذهبه يرون أن الصورة هي أعلى ما يميز الشعر من النثر حتى قال : " الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير" ، وهذا يدل على قيمة الصورة في إعطاء النص الأدبي شاعريته، بسبب ما يحثه منتشديدات. الصورة الشعرية رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة ، وهي قوام الأدب ، ولا سيما الشعر ، وإذا كان التصوير من طبيعته التجسيم والتجسيد فإن مرد ذلك إلى الخيال والبصر، ولذلك يعدان آلتين أساسيتين في صنع الصور الشعرية، ولكن التصوير الذي يقوم عليهما فقط يفقد الصورة حرارتها لذلك لابد للصور الناجحة من عاطفة ، يقول سي دي لويس " الصورة الشعرية هي صورة حسية في الكلمات وإلى حد ما مجازية مع خط خفي من العاطفة الإنسانية في سياقها، ولكنها مشحونة بإحساس أو عاطفة شعرية خاصة تنساب نحو القارئ " الهدف من الصورة : هدف الصورة بهذا المعنى هو أن تعكس الفكرة التي يرمي إليها الأديب وتجسم الموضوع بصور كبيرة مرئية أو بصور جزئية، ولهذا كانت " الصور في القصيدة تشبه سلسلة من المرايا موضوعة في زوايا مختلفة بحيث تعكس الموضوع، وهو يتطور في أوجه مختلفة، ولكنها صور سحرية، وهي لا تعكسه فقط بل تعطيه الحياة والشكل ففي مقدورها أن تجعل الروح(المعاني) مرئية للعيان". وفي القصيدة التي نحن بصدد دراستها نقف على مصنع من إنتاج الصور يهدف إلى التعبير عن مشاعر الشاعر بصور تجعل المعنوي المجرد محسوسا مجسدا فتعطينا أفكار الشاعر في صور مرئية تكاد تلمس فنحن نلقاها في البيت الأول من قول الشاعر : بانت سعاد ففي العينين ملمولُ/ فهاهنا كناية عن الأرق، ولكن انظر إلى هذا التعبير كيف جسد المجرد فجعله محسوسا تكاد تمسكه إنه البون حين يتحول إلى ملمول يوجع العين فإذا هي دامعة، وإذا القلب مريض، فالقلب من حبها يعتاده سقم / وبهذه الاستعارة التي جعلت القلب يتشخص في صورة إنسان تعتاده الأسقام، يشرع في بناء الصورة لتنمو بين أيدينا. لذلك تأتي العبارة :عادت نواشط منها/ لترسم صورة متحركة للذكريات عن طريق استعارة شبه فيها الذكريات بإنسان ينشط ثم حذف الإنسان ورمز له بشيء من لوازمه وهو النشاط على سبيل الاستعارة المكنية، فجاءت الصورة الجزئية هنا لتضيف جانبا جديدا للصورة المتنامية إذ تقدم فكرة عن استعادة السقم وألم العين عن طريق النواشط، لكن هذه الاستعارة لاتقنع الشاعر حتى يردفها بصورة أخرى: ـ فهـو مكبول / ففي ذلك استعارة إذ شبه القلب بشخص يقيد ويكبل حذف الشخص ورمزله بشيء من لوازمه وهو القيد على سبيل الاستعارة المكنية، ليقدم لنا القلب المتألم في صورة مجسدة تجعل القلب مقيدا من المحبوب فلا يملك حركة، ثم يردفها بكناية قوية تمثلت في قوله : ـ مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف / ففي ذلك كناية عن الترفع والتسامي وعدم الابتذال، وهي دليل حرمة ومكانة صنعتها لنفسها هذه المرأة أو صنعها لها الشاعر، وعليه فهي لاتنال بسهولة مما يجعلها موضع عناية الأحلام كما تبين الاستعارة الموالية: ـ يخالط القلبَ بعد النــــوم لذتُها /ففيها استعارة مكنية إذ شبه الحلم بشيء يلتذ وحذف الشيء ورمز له بشيء من لوازمه وهو اللذة، وهكذا يعطي الصورة نماء جديدا، ولكن لايقتنع بلذة الحلم، فهذه اللذة لاتكتمل إلا بصورة أخرى تدخل بنا في الغزل الحسي لتقويها: ـ يروي العطاشَ لمى عـذب مقبَّـلُه / فريقها العذب شبه بالماء الزلال الذي يزيل العطش ، وحذف المشبه ورمز له بشيء من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية، ليجعل إحساسنا يتحول من مجرد الفكرة إلى ما يشبه الممارسة، وتأتي الصورة الموالية لتكمل المشهد فإذا نحن أمام غزال يصطنع الحلي ليكون أجمل ( في جيد آدم حلي)، ويقدم لنا نحرها المجمل بالحلي متماسكا مع هذا الجيد الغزالي الذي يملك من الطول ما يضفي عليه من الجمال ما يجعله أحلى في العين بعد أن كان الريق أحلى في الذوق، يتجلى ذلك في الصورة الموالية: حَليٌ يشب بياض النحـر واقدُه/فانظر هنا كيف شبه بياض النحر وعليه لمعان الحلي بشيء يشتعل ويتقد ثم حذف المشبه به وهو النار ورمز لها بشيء من لوازمها على سبيل الاستعارة المكنية، فجعل صدر ذلك الغزال المحلى في صورة منقطعة النظير، لايشبهها إلا صورة أخرى تتعانق فيها عاطفة الدين بعاطفة المحبوب: ـ كما تُصور في الدير التماثـيـل / فانظر إلى هذا البيت السابع كيف يكثف الصورة بأن يردفها بصورة تشبيهية تنبثق من لاشعوره الديني فإذا ذلك النحر الذي شبه لمعان بياضه بلهب النار يشبه ما عليه من حلي بصورة تمثال في دير رهبان، والغريب أن ذلك لا يلبي أجيج حرقة الجمال في قلبه فإذا هو يكثف التشبيه مرة ثالثة فيقول : ـ أو كالعسيب نمَاه جـدول غدِقٌ / فقد شبه من جديد لمعان الحلي في الجيد الأبيض بالعسيب الذي هو جريد النخل المستقيمة حين يغذى بجدول ماء فهو تشبيه تكثيفي، وحتى ذلك لم يكن كافيا ليعبرعن التعطش والحرقة التي ألهبت فؤاده فإذا هو يخرج من التصوير الخيالي إلى التصوير بالوصف فيقتبس من الأعشى هذه الصورة: ـ غراء فرعاء مصقول عوارضها/ صورة فيها وصف مكثف بالصور البصرية البسيطة القائمة على التعبير باللفظ الواصف: فالمحبوبة غراء:أي بيضاء، وفرعاء :أي طويلة الشعر كثيرته، ومصقول عوارضها أي مستوية أسنانها وثناياها، ولكن تبقى العين تلك الجارحة التي تلهب القلوب غائبة في هذا الوصف، لذا يعود مرة أخرى إلى الغزال ليستمد منه صورة طالما تغنى بها القدماء هي قوله: كأنها أحـور العينيـن مكـحول / ففي العبارة تشبيه يراد به تكملة صورة الوجه بتقديم هذه الصورة للعين التي شبهت بعين الغزال، ولكن لم يتشبع الخيال بالصور فإذا هو يكثف الصورة فيجعل الغزال في حال خاصة حين يختبئ في كنفه خائفا من يوم يجمع بين الحرارة وريح الشمال: أخرقَه وهو في أكناف سِـدرته يومٌ تُـضـرِّمه الجوزاءُ مشمولُ |