البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات صبري أبوحسين أبوعبدالرحمن

 58  59  60  61  62 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
الفصل الأول :تحليل مقطع...    كن أول من يقيّم

الفصل  الأول :
 تحليل  مقطع خبل وسقم[1] من قصيدة للأخطل
 
 بانت  سعاد   ففي العينين  مملولُ     من حبها، وصحيح  الجسم مخبولُ
 /ْ/ْ//ْ  ///ْ      /ْ/ ْ/ /ْ         /ْ/ْ       / ْ /ْ//ْ      ///ْ/ْ    /ْ/ /ْ       /ْ/ْ
فالقلب من    حبها   يعتاده   سقم         إذا   تذكرتها   والجسم   مسلول
وإن تناسيتها أو قلت   قد  شحطت        عادت نواشط منها   فهـو مكبول
مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف       لا يطمع الشُّـمـطُ فيها و التنابيل
يخالط القلبَ بعد النــــوم لذتُها        إذا تنبه واعتـل  المتـافيـــل
يروي العطاشَ لها عـذب  مقبَّـلُه        في جيد آدمَ زانته التهاويــــل
حَليٌ يشب  بياض النحـر   واقدُه         كما تُصور   في الدير التماثـيـل
او كالعسيب   نمَاه جـدول  غدِق          وكـنَّه وهـج القيظ    الأظاليـلُ
غراء فرعاء  مصقول  عوارضها         كأنها أحـور العينيـن   مكـحول
أخرقَه وهو في   أكناف  سِـدرته        يومٌ تُـضـرِّمه الجوزاءُ   مشمولُ
 
أولا :الدراسة الخارجية
 
سوسيولوجية الكاتب :
الزمان :حياة الشاعر : الأخطل هو أبو مالك غياث بن غوث  من قبيلة تغلب وهي قبيلة نصرانية، ولد حوالي 20 للهجرة  من أب تغلبي نصراني وأم من قبيلة إياد نصرانية ومن ثم نشأ نصرانيا وظل على نصرانيته إلى أن مات عليها سنة 90 هـ)[2] عاش زمن معاوية ابن أبي سفيان وابنه يزيد،وكونه عاش هذه الفترة يعني أنه عاش زمن الفتنة الكبرى، وعاش نتائجها، وعرف دور العصبيات وحب السلطة وتمسك العربي بالثأر في إشعال نيران الفتنة ومن ثم عرف كيف يتسلل ـ على نصرانيته ـ  لقلوب الحكام ومن هنا  كان من أشهر شعراء بني أمية، إذ هيئت له فرصة كبيرة لدى الأمويين حين استعدوه شعرا ضد الشيعة  المناوئة للأمويين ويعود ذلك إلى فترة معاوية بن أبي سفيان مرورا بابنه يزيد الذي قربه حتى جعله من ندمائه[3] ثم عبد الملك بن مروان الذي قربه حتى قيل: "عصر عبد الملك يعد العصر الذهبي للأخطل فقد نزل منه منزلة الشاعر الرسمب للدولة وآثره على جميع معاصريه من الشعراء وأمر من يعلن بين الناس أنه شاعر بني اأمية وشاعر أمير المؤمنين"[4] كان من الشعراء الفحول كما جاء في طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي الذي جعله في الطبقة الأولى.  
المكان: ولد الأخطل في قبيلة تغلب إحدى قبائل ربيعة المشهورة التي تكون مجموعة قبائل ربيعة وكانت تنزل في الجزيرة وتمتد بعض عشائرها جنوبا إلى الحيرة وغربا إلى الشام وشرقا إلى أذريبيجان[5] فقد ولد إذن وسط أسرة نصرانية تشبع فيها بالدين المسيحي مما جعله يبقى على دينه إلى أن مات، وربما تبين ذلك من قول جرير[6]

فينا المساجد والإمام ولا ترى    في دار تغلب مسجدا معمورا

"وقد اعتنق جمهور تغلب في الجاهلية النصرانية على مذهب اليعاقبة ولما فتحت الفتوح لجت في أول الأمر مع الفرس والروم وسرعان ما اضطرت إلى الدخول في طاعة الخلافة الإسلامية لعهد عمر بن  الخطاب واستغاثت به أن يضع عنها الجزية فوضعها عنها... ودخلت منها طائفة في الإسلام، ولكن كثرتها ظلت نصرانية، ونرى فريقا منها يعين معاوية في حروبه مع علي بصفين"[7]، والظاهر أن أجواء تغلب التي نشأ فيها الأخطل كانت نصرانية لأبعد الحدود يتبين ذلك من قول جرير يهجوه وقبيلته:

قبح الإله وجوه  تغلب   كلما     سبح الحجيج وكبروا إهلالا

     عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد     وبجبريل   وكذبوا   ميكالا
 


[1] ـ من عيون الشعر العربي 1/47
[2] ـ شوقي ضيف : العصر الإسلامي : م س  ص : 259
[3] ـ عبد الله التطاوي : القصيدة الأموية ـ رؤية تحليلية  : ص : 219، 232ـ مكتبة غريب / الفجالة / مصر
[4] ـ شوقي ضيف : العصر الإسلامي : 262
[5] ـ شوقي  ضيف : العصر الإسلامي : 258
[6] ـ ابن سلام الجمحي : طبقات الشعراء : 491
[7] ـ شوقي ضيف : تاريخ الأدب العربي: العصر الإسلامي: 258
[8] ـ شوقي ضيف : العصر الإسلامي: 259
[9] ـ شوقي ضيف : العصر الأموي : ص  259

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...2    كن أول من يقيّم

وقد قيل : لقب بالأخطل من الخطل في القول وهو الفحش، مما يعني أن التربية التي نشأ عليها لم تكن لتزجره عن الفحش، وقد كان يتردد على دور القيان، فاستيقظت فيه موهبة شعرية مقترنة بسفه شديد فكان يكثر من هجاء الناس، ووصف الخمر، وقيل "كان أول من اتخذ الغزل سلاحا للهجاء السياسي"[1]  وقيل لقب بالأخطل بمعنى السفه والطيش أما اسمه فغياث وكان يكنى بأبي مالك وهو أكبر أبنائه[2] ومع ذلك فقد عاش في البلاط الأموي ردحا كبيرا من الزمن، يستعمل في بث روح العداوة بين المسلمين المتخاصمين في مشكلة السلطة، مما شجعه على أن يقول في الأنصار:
    ذهبت قريش بالمفاخر كلها     واللؤم تحت عمائم الأنصار
سوسيولوجية النص: قد يجد الناقد دائما مشكلة في دراسة سوسيولوجية النص زمانا ومكانا لأنها مما لا يعنى به مدونو النصوص أ ومؤرخ الأدب قديما، فقلما نجد للنص مناسبة تعين على الوقوف على زمانه ومكانه بدقة، كما جاء في أجواء النصوص القرآنية. ويزداد الأمر صعوبة عندما يكون النص كهذا الذي بين أيدينا؛  فالقصيدة تتضمن غزلا ووصفا وهجاء، وهذا يساعد على معرفة بعض الأجواء لكن من خلال النص نفسه كما يتبين أن المقدمة الغزلية ستطبع بطابع غاضب عابث بل ستتضمن لغة الهجاء التي تفرضها طبيعة الشاعر الهجائية والغرض الرئيسي للموضوع، وهو ما سنقف عنده في تحليل النص،" حيث يهتم النقد بمسألة معرفة الكيفية التي تتمفصل فيها القضايا الاجتماعية ومصالح الجماعة على الصعيد الدلالي والتركيبي والسردي"[3] وسيتحقق ذلك في لغة النص لأن " القيم الاجتماعية لاتوجد أبدا بمعزل عن اللغة"[4] كما سيتبين من خلال اللغة التي يستخدمها، كالسدرة  والقيض، والرغبة في الأظاليل هكذا بالجمع، وأيضا من الصور الشعرية التي يوظفها مثل العسيب وجيد آدم أي الغزال والأحور، فالصور هنا تختلف عن الصور التي نراها في الشعر الأوروبي مثلا كما في قول مونداي وقد عبر عن غيظه من فساد المرأة :
 ( ومع ذلك فهي ألعن من الدب نوعا
وأقسى قلبا من شجرة البلوط المعمرة.
وأكثر زلقا من الزيت وأكثر تقلبا من الريح
وأصلب من الفولاذ ولكن ما تكاد تثنيها حتى تنكسر)[5]،
 فالصور كلها منسوجة من الطبيعة الغربية التي لانكاد نجد لها أثرا في الشعر العربي لتباين سوسيولوجية هذا عن سوسيولوجية ذاك.و كما سيتبين من البينونة التي يكشف عنها البيت الأول:
بانت سعاد ففي العينين ملمول     من حبها وصحيح الجسم مسلول فالبينونة هنا رمز للحرمان المترتب عن العادات والتقاليد الاجتماعية، ولئن كان هذا لا يتضح بشكل واف في البيت الأول فإن ذلك ينكشف من البيتين:
     مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف     لا يطمع الشمطُ فيها و التنابيل
     يخالط القلبَ بعد   النـوم    لذتُها       إذا تنبه واعتـل  المتـافيـل


[1] ـ شوقي ضيف : العصر الإسلامي: 259
[2] ـ شوقي ضيف : العصر الأموي : ص  259
[3] ـ النقد الأدبي في القرن العشرين : 248
[4] ـ  النقد الأدبي في القرن العشرين
[5] ـسي دي  لويس: الصورة الشعرية : ص 25 ترجمة أحمد نيف الجنابي وآخران : مؤسسة الخليج / الكويت

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...3    كن أول من يقيّم

إذ يدل ذلك على تبرمه من الرقابة الجماعية للانحرافات الخلقية، إ نها محجوبة عن العيون بحيث لا تنال ولا يطمع فيها أي شخص يحمل في قلبه بذرة الفاحشة سواء أكان من الشيب أو كان من الشباب، وتتجلى تلك الرقابة من قوله: (إذا تنبه واعتـل  المتـافيـــل )، فالتنبه الاجتماعي يشكل عازلا ومانعا لتحقيق الرغبة الغريزية المطلوبة، ومن ثم جاءت هذه النبرة الهجائية بصيغة الجمع مكثفة جدا فهم شمط أي كبار السن  وتنابل أي بذيئون ومعتلون أي ينهضون من النوم وفي أفواههم آثاره،  ومتافيل أي أن رائحتهم نتنة. وعلى العموم فهذا  بعض ما سيفهم من قوله بنبرة هجائية للضمير الاجتماعي:(لايطمع الشمط فيها والتنابيل) ، وقوله: (إذا تنبه واعتل المتافيل ) .
وهذا الحرمان الاجتماعي مهم جدا من جهتين من جهة تحديد سبب الإبداع " إذ أنه من الجلي أن الصراع بين الفنان والمجتمع أمر على غاية من الأهمية"[1]، وثانيا أن السبب في تلك الهجائية التي اخترقت الغزل دون مبرر واضح تدل على " تصدع النحن الناتج عنظهور حاجات لدى الشاعر الأخطل لاتشبع داخل النحن[2]
وهناك جانب اجتماعي آخر مهم في النص هو تعليل المصائب بإلقاء التبعة على المحبوب: فعلة العينين ومرضهما سببه حبها( ففي العين ملمول من حبها)، وما لحق القلب من سقم سببه حبها(فالقلب من حبها يعتاده   سقم)، فالمحبوب هو سبب كل ما لحق بالشاعر المفتون ولكن إذا كان المسؤول عن العلل هو الحبيب فإن الحبيب لم يمتنع لأنه يكره الشاعر فليس في النص ما يدل على ذلك، وإنما المشكل ناجم عن الضمير الجماعي والوعي الاجتماعي الذي يحتوي المحرم، فالشاعر نصراني يستبيح كل شيء ولكنه يعيش في وسط منظم بفعل الإسلام فيمنعه من الاختراق مما يشكل أزمة نفسية وكبتا أدى إلى التعبير عن المكبوت بهذه القصيدة التي احتوت فكرة ( خبل وسقم ورحيل وهجاء)
 
ولعل مما يكشف عن ذلك أن البون الذي يتحدث عنه يبدو عند التأمل في سياق القصيدة أنه بون ناجم عن العادات،  وليس عن الغربة الجسدية إذهناك وصال تكشف عنه اللذة التي وصفها بقوله : ( يروي العطاش لهاعذب مقبله) كما تكشف عنه الأوصاف الدقيقة لجمال المحبوب كما في  الأبيات:
يروي العطاشَ لها عـذب  مقبَّـلُه       في جيد آدمَ زانته التهاويــــل
حَليٌ يشب  بياض النحـر   واقدُه        كما تُصور   في الدير التماثـيـل
او كالعسيب   نمَاه جـدول  غدِق        وكـنَّه وهـج القيظ    الأظاليـلُ
  غراء فرعاء  مصقول  عوارضها       كأنها أحـور العينيـن   مكـحول
 
 ومما يدل على أن الغربة روحية ناجمة عن الحرمان وليست جسدية  قوله بعد المقطوعة الغزلية:
فسلها بأمون الليل ناجية   فبها هباب إذا كل المراسيل
  فالرحلة الجسدية هنا تبدأ وتكون منه هو،هو الذي يقررها بعد  يأس وتعب وخبل وسقم، هروبا من معاناة الحرمان الناجم عن الضغط الاجتماعي والخلقي الذي يتطلبه نظام الحياة و الانضباط الإسلامي الرفيع، ويدل على أن الحرمان هو الأساس قوله: (يخالط القلبَ بعد النــــوم لذتُها)، فليس هناك وصال وإنما هناك أحلام بالوصال).


[1] ـ مصطفى سويف  سو كولوجية الإبداع في الشعر خاصة
[2] ـ نفسه .....

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...4    كن أول من يقيّم

ثانيا الدراسة الداخلية:
 تتضمن الدراسة الداخلية بنيتين أساسيتين جدا؛ بنية الشكل وبنية العمق
ثانيا / 1ـ بنية الشكل : ويشمل الأسلوب بكل عناصره من بناء ولغة وتراكيب و موسيقى وخيال بكل عناصره من تشبيه واستعارة وكناية ورمز...، وسندرس النص وفق العناصر الشكلية التالية: المعجم الشعري، والتكامل( أو الوحدة العضوية) والتناغم والتألق أو الإشعاع، والتناص.
1/ أ ـ المعجم الشعري و لغة النص : معجم الشاعر يغلب عليه اللفظ الغريب مما يضطر القارئ حتما إلى استخدام المعجم كما في ( الملمول : ما يكتحل به من مرود، وأراد أنه أصيب بالأرق والسهر،  والخبل: الفساد ، والنواشط: ما نشط إليه من همها وتذكرها، والمكبول: الموثق ، والتنابل جمع تنبل: الذميم الذي لاخير فيه، والشمط جمع أشمط هو ما خالط سواد شعره بياض، واعتلال الأفواه تغيرها بعد النوم، والمتفال المنتن الرائحة، والآدم من الضباء : الحمر، والتهاويل: تهاويل الحلي وهو توقده وتلهبه، والعسيب :الجريد من النخل والبردية، ونماه : أطاله،غدق : كثر ماؤه فهو مبتل ريان،غراء: بيضاء، وفرعاء : طويلة الشعر كثيرته، والعوارض: الثنايا ، والأحور : الضبي في عينيه حور، السدرة : شجرة النبق، والجوزاء : برج في السماء يشتد الحر بطلوع نجمه، كنه: كن يكن أي استتر اختفى ومنه قوله تعالى وما تكن صدورهم واكتنت المرأة استترت) فكل تلك الكلمات تحتاج حتما إلى المعجم وهذه ظاهرة في الشعر القديم عامة تتطلب دراسة من زاوية فقه اللغة وتطور الدلالات وعلاقة ذلك بعلمي النفس والاجتماع ليس هذا موضع طرحها، ولكن يكفي أن نقول إن معجم  الأخطل هنا خليط بين الألفاظ الغزلية والهجائية المكثفة، ألفاظ غزلية مادية( غراء فرعاء  مصقول  عوارضها)، وأخرى هجائية فاحشة( شمط ـ متافيل ـ  تنابيل)، ونوع ثالث يشيع في الأبيات الثلاث الأولى وهي ألفاظ الشكوى: ( خبل ـ سقم ـ ملمول ـ مسلول...) .
 
ولا شك أن الشاعر قد أنفق جهدا كبيرا في اختيار هذه الألفاظ مما يبين استخدامه لمحور  الاختيار الذي يعنى بانتقاء الألفاظ، ومحورالتركيب  الذي يعنى بالتعاقب والترتيب، ويتجلى ذلك بصورة واضحة في ظاهرتي القافية والتقديم والتأخير، فالقافية التي استخدمت الروي لامًا حتمت أن يتجه الاختيار لدواع فنية إلى الكلمات المختومة بلام ، فكلمة ملمول في قوله ( ففي العينين ملمول) يمكن معجميا  أن يحل محلها مرادفتها  كما عند الخنساء ( قذى بعينك أم بالعين عوارأم خلت من أهلها الدار)  لكن الأخطل اختار بديلا عن ذلك هو ( ملمول) الذي يلبي مطلبا موسيقيا خارجيا يناسب القافية.وقل مثل ذلك في( مخبول ـ مسلول ـ مشمول)
 وهناك جانب لغوي مهم هو هذا التضاد الذي قصد قصدا لإبراز المتناقضات، والشعر أحيانا متناقضات كما في قوله( صحيح ... مخبول) وقوله: ( تذكرت ... ونسيت)
الطاقة الصرفية:مما يلفت الانتباه في هذه المقطوعة  من جهة الطاقات الصرفية ظاهرة كثرة الجموع ( التماثيل والأظاليل والتنابيل و المتافيل والتهاويل) ولا شك أن الداعي إلى ذلك ليس فقط التهويل  بل الجانب الفني ومقتضيات الوزن والقافية، إذ وقعت هذه الجموع كلها في القافية.
 ويدخل في لغة النص وطاقاته الصرفية ما يسمى بمشكلة الفاعل، وهو مصطلح تستخدمه المدرسة السيميولوجية( علم الدلالة أو علم السيمياء)  ولا تقصد به الفاعل النحوي وإنما الفاعل الدلالي وقد تتوسع فيه حتى يشمل جميع المشتركين في الحديث، وتقوم دراسة الفاعل بكشف الجانب الوظيفي للضمائر الفاعلة سواء بالنسبة للمبدع أو القارئ أي الجمهور[1]
وفي مقطوعة الأخطل نجد الضميرين : ( هي، و أنا ) متلازمين في المقطوعة كلها، والضمير (هي) يعود على الفاعل الأساسي للحب وهو سعاد التي بانت:
بانت سعاد ففي العينين ملمولُ     من حبها، وصحيح الجسم مخبولُ
وقد كان بونها سببا في اعتماد ضمير الغائب (هي ) بدلا من ضمير المخاطب ( أنتِ) لذلك أخذ النص صيغة السرد التاريخي الذي لا يستخدم سوى الشخص الثالث (هي) بينما يتميز الجهاز الشكلي للخطاب ( الروائي) بأنه يستخدم العلاقة ( أنا ـ أنت)"[2]، وهكذا يتبين لنا أن الشاعر يروي لنا حدثا مضى ولا يعبر لمحبوبه عن معاناته إزاءها، وهذا ما يفسر غياب ضمير الخطاب ( أنت)، وكون العلاقة بين الفاتن والمفتون مقطوعة نجد الحوار ينعدم ليحل محله السرد للخبر من طرف الشاعر ( قلت قد شحطت)
أما الضمير (أنا) فيعود على الشاعر المفتون من الفاعل الأساسي للحدث الغائب (هي):
فالقلب من حبها   يعتاده  سقم       إذا  تذكرتها   والجسم   مسلول
وإن تناسيتها أو قلت قد شحطت    عادت نواشط منها فهـو مكبول


[1] ـ صلاح فضل : نظرية  البنائية  في النقد الأدبي :126-127
[2] ـ جان إيف تادييه : النقد الأدبي في القرن العشرين : م س : 269 ترجمة قاسم المقداد

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...5    كن أول من يقيّم

على أن هناك ضميرا آخر سيدخل بصفة آلية ليعبر عن الفاعل الثالث وهو المجتمع الذي بات يقلق  أنا الفرد المبدع كما تمثله العبارة:
 
 مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف    لا يطمع الشُّـمـطُ فيها والتنابيل
 يخالط القلبَ بعد النــــوم لذتُها     إذا تنبه واعتـل  المتـافيـــل
 
فالضمير (هم ) هو الفاعل الثالث في هذه الأبيات، ودخوله هنا هو الذي يبرر دور المجتمع في إبداع القصيدة مما يفرض التحليل الاجتماعي للنص كما سيأتي في موضعه، غير أننا هنا لابد أن نشير إلى أن الدراسة اللغوية في إطار نظريات السيميولوجيا أو علم الدلالة قد تعين على فهم العلاقة بين النص من حيث هو لغة وبين دور المجتمع في إبداع النص، فحضوره موجود باستمرار، وهو هنا يقوم بدورين؛ دور المراقب الحريص على القيم إذا تنبه لخطر الاختراقات الخلقية، ويفهم من قوله (إذا تنبه   واعتـل  المتـافيـــل)،  ودور المنافس للشاعر في محبوبته، ويفهم من قوله (مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف  لا يطمع الشُّـمـطُ فيها والتنابيل)،   لذلك اصطبغت لغة الشاعر إزاء المجتمع بالهجائية( المتافيل ، الشمط ، التنابل) التي ربما ستكشف الدراسة النفسية عن سبب لها قد يكون هو الإسقاط الناجم عن الشعور بالنقص.
 
الزمان الفعلي: زمن الأفعال يتراوح بين الماضي البسيط ( بانت، تناسيتها،  شحطت ، عادت ،تذكرتها، تنبه، اعتل، أخرقها، نماه) والمضارع ( يعتاده ، يطمع، يخالط، يروي ، يشب، تصور، تضرمه)، فما هو الزمن الأساسي الذي كتب به  الراوي قصته الغرامية هذه ؟ في الواقع يمكن باعتبار التقديم القول أن القصة رويت في هذه المقطوعة بالزمن الماضي، إذ به افتتح الحديث ( بانت سعاد  تذكرتها ، قلت  قد شحطت) ، فالأفعال المرتبطة بسعاد ( البطل الفاعل) والمرتبطة بالشاعر ( البطل السلبي المفعول) كلها جاءت بصيغة الماضي البسيط وهو زمن السرد الروائي وليس زمن السرد التاريخي[1]، وهذا يعني أن الشاعر يصوغ النص باعتباره شاهدا على الحدث ومشاركا فيه، وبينما تحتل أفعال الزمن الماضي  مقدمة المقطوعة مرتبطة بالفاعل للحدث والمفعول به ( الشاعر )، نجد الأفعال المضارعة ترتبط بالأحوال القلبية التي لا تزال تعذب الشاعر ( يعتاده سقم، يخالط القلب بعد النوم لذتها، يروي العطاش لها عذب، لايطمع الشمط) فصيغة المضارع كلها مرتبطة بما من شأنه التكرار، وهو كما ترى يتناسب تماما مع الدلالة  المستنبطة من هذه الجمل، لاسيما العبارة ( يخالط القلب بعد النوم لذتها) إذ لو اعتبرنا الفن استرجاعا خياليا للماضي في صورة الحاضر لقلنا إن الشاعر لايزال يعيش أحلام الوصال. وهو ما سنقف عنده في مبدأي القدوة والتحذيرات.  
النحو والتراكيب: هنا يتجلى استخدام الأخطل لمحور التركيب في علاقته مع محور الانتقاء الذي سبقت الإشارة إليه في المعجم ليقدم صورة تتعاقب فيها الكلمات تعاقبا فنيا جميلا،  ففي النص تراكيب عجيبة، ولعل أعجبها على الإطلاق هو هذا الحبك و الربط القوي بين الشطر الثاني من البيت، والكلمة الأولى من البيت الموالي هكذا:
يروي العطاشَ لها عذب مقبَّلُه       في جيد آدمَ زانته التهاويـل
حَليٌ يشب بياض النحر واقدُه       كما تُصور في الدير التماثـيل
فنحن نجد الشطر الأول ـ وهو مبني على التقديم والتأخير ـ ينتهي، ثم يأتي المعنى  الجديد بدءا من الشطر الثاني بتقديم الخبر وتأخير المبتدأ النكرة هكذا(في جيد آدمَ زانته التهاويــــل حَليٌ، يشب بياض النحـر واقدُه) والتقدير: حلي يشب بياض النحـر واقدُه في جيد آدمَ زانته التهاويــــل   
 وانظر إلى التقديم والتأخير في قوله : (يروي العطاشَ لها عـذب مقبَّـلُه ) فالتقدير: لها عذب مقبله يروي العطاش ، فقدم المفعول استجابة لمطلب موسيقي، كما أخر الفاعل مرة ونائب الفاعل أخرى  في قوله:
حَليٌ يشب بياض النحر واقدُه      كما تُصور في الدير التماثيل
وقد أدى ذلك ـ كما هو حال الشعر العربي الموزون المقفى الذي تضطر القافية والوزن فيه التركيب إلى التقديم والتأخير بحثا عن التألق الجمالي الموسيقي ـ  إلى أن يستجيب محور البناء والتركيب ـ بحكم طبيعة البناء الجملي العربي ـ  ليبني لغة داخل اللغة، تقوم على التقديم والتأخير كما في قوله: (يخالط القلبَ بعد النــــوم لذتُها) فقدم المفعول وأخر الفاعل اعتمادا على نظرية المحورية التي قال بها بعد ذلك جاكبسون (محور الاختيار ومحور التركيب)وقال بها الجاحظ لو أنصفه النقاد قبل ذلك .
وانظر في البيت نفسه كيف تجد ظاهرة أخرى تركيبية تزين النص، هي ظاهرة الحذف، وهو كما قال الجرجاني " أبلغ من الذكر"، فقوله :( يروي العطاشَ لها عـذب مقبَّـلُه) وتروى :( يروي العطاشَ لمى عـذب مقبَّـلُه) (فيه حذف وتقديره: لها ريق عذب يروي العطاش،وقوله : ( كأنها أحـور العينيـن مكـحول) فيه حذف تقديره : غزال أحور العينين،  فالشاعر بحكم طبيعة مقتضيات البناء الشعري العمودي استخدم تقنية الحذف ليلبي حاجة الموسيقى والمعنى معا، لوجود ما يدل على المحذوف وهو صفة من صفاته التي تفهم من السياق.
 
الأسلوب: باستخدام لغة البلاغيين التي تحصر الأسلوب في الخبر والإنشاء، نجد المقطوعة تكاد تخلو من الأسلوب الإنشائي تماما، إذ تتكئ كلية على الأسلوب الخبري، والسبب في ذلك هو كون القصيدة سردية في طبعها، فالشاعر يسرد خبرا لحادثة تخصه، فما هو هدف الخبر؟
الأساس في أغراض الأسلوب الخبري ـ فيما يقول السكاكي ـ هو أحد أمرين إما إعلام المخاطب بالحكم الذي تضمنته الجملة الخبرية حين يكون جاهلا به، وإما إعلامه أن المخبر نفسه عالم بالحكم الذي دلت عليه الجملة الخبرية، ليؤكد ذلك لدى المخاطب[2]،وقد  يخرج الأسلوب عن هذين الغرضين إلى أغراض مختلفة ، ولهذا يتعين تحديد المخاطب لكي نعرف أغراض الخطاب الخبري هنا.
لاشك أن المخاطب هنا هو القارئ ولا أحد غيره!! ومن هنا نقول إن الغرض هو إعلام القارئ بمعاناة الشاعر، ولكن ما الهدف من ذلك؟ الظاهر أن الهدف  نفسي  بحت فهو لاشعوري، يتمثل في التخفبف من حدة المعاناة ويتمثل في : الاستعطاف والاسترحام، وإظهار الضعف والتحسر، وربما دخل فيه معاتبة النفس وتوبيخها. وهو ما يتبين من القصيدة كلها ولاسيما البيتان :
بانت سعاد ففي العينين ملمولُ    من حبها، وصحيح الجسم مخبولُ
        فالقلب من حبها   يعتاده  سقم    إذا  تذكرتها   والجسم    مسلول
فالعينان تبكيان بدون انقطاع والجسم معتل مسلول ومخبول والقلب لايبرحه السقم، فكلما تذكرها عاوده مرض، وهذا ما يفسر احتواء المعجم الشعري للمقطوعة على ألفاظ الشكوى كما سبق.


[1] ـ النقد الأدبي في القرن العشرين : م س 270
[2] ـ المفصل في علوم البلاغة العربية/ عيسى علي الكعوب : 78

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...6    كن أول من يقيّم

ـ التكامل (الوحدة) : يعد التكامل بين عناصر القصيدة من أهم ما يضفي عليها صبغة الجمال فالعمل الأدبي الجميل هو "ما يكون كلا لا شريحة ولا قطعة لا مجموعة ولا كومة"[1] " الكل عبارة عن اشتمال متناسق لكل الأجزاء" وهذا لن يتحقق بصورته المثلى حتى يحقق الوحدة العضوية للقصيدة، والوحدة العضوية تتحقق عندما نرى أننا ندرك العمل الفني كوحدة أي "يمكن استيعابه خلال عملية إدراكية واحدة"[2] ويهمنا كثيرا دراسة الوحدة لآنه الأساس في فهم الأجزاء في إطار الكل باعتباره بنية " إذ أن البنية ليست مجرد مجموعة من العناصر المتآزرة ولكنها كل ينبغي اعتباره من وجهة نظر علاقته الداخلية طبقا للمبدأ المنطقي الذي يقضي بأولوية الكل على الجزء فلا يمكن فهم أي عنصر في البنية خارج الوضع الذي يشغله في الشكل العام ... إنها مجموعة من العناصر التي لانعرف جوهرها إلا عن طريق العلاقات القائمة في داخلها"[3] فما موقع مقطوعة الأخطل من ذلك؟
 المقطوعة قسم من سياق قصيدة على نمط الشعر القديم تتكون من ثلاثة أقسام تعبر عن ثلاث موضوعات متكاملة هي : المقدمة الغزلية التي تناولت سعاد بالوصف ثم وصف الناقة التي تمثل وسيلة الرحلة في التقاليد الشعرية القديمة ثم الفخر والهجاء، ولذلك جاء بعد المقطوعة الغزلية مباشرة قوله:
فسلها بأمون الليل ناجية   فبها هباب إذا كل المراسيل
وعند النظر في المقطوعة الغزلية نلاحظ أنها مترابطة البناء شكلا ومظمونا، فمن جهة المعاني نجد الأبيات الثلاثة الأولى تعبر عن تحسر الشاعر على محبوبته التي بانت فلم يعد يراها لذا أصيب بسقم في جسمه وفي قلبه، أما الأبيات الموالية فهي وصف لسعاد يتراوح بين المادية والروحية ، فالوحدة في المعاني قائمة، وتتجلى الوحدة في القافية وفي الوزن كما تتجلى في وحدة الموضوع الذي هو وصف لجمال سعاد، فسعاد تتكرر في القصيدة  عن طريق الإحالة كما يلي : ( حبهاـ عوارضها ـ لذتُها... )، فالضمير ( ها ) تكرر عشر مرات أي بعدد الأبيات تقريبا، فالأبيات متكاملة ولكن مع ذلك فهي ليست مشكلة لوحدة نامية فوحدتها يمكن أن نحرك فيها بعض العناصر دون أن تتأثر بتغيير البناء كأن نقرأ الأبيات التالية هكذا :
فالقلب من  حبها      يعتاده   سقم        إذا  تذكرتها  والجسم   مسلول
مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف       لا يطمع الشُّـمطُ فيها والتنابيل
يروي العطاشَ لها عـذب  مقبَّـلُه        في  جيد  آدمَ  زانته التهاويـل
 وإن تناسيتها أو قلت ق د  شحطت       عادت نواشط منها فهـو مكبول
يخالط القلبَ بعد النــــوم لذتُها        إذا تنبه واعتـل  المتـافيــل
ففي المقطوعة وحدة الوزن ووحدة القافية ووحدة الموضوع، ولكن ينقصها أمور أخرى منعت من البناء المتنامي للوحدة العضوية سنقف عليها في ما يلي:
2    ـ التناغم:
 وهو مطلب جمالي يعني التماسك والتناسب، ، أي أن العمل الأدبي يحمل في ذاته البرهان على طريقة انسجام أجزائه على الصورة التي هو عليها وتعليل ذلك الانسجام، وهذا العنصر ينهض عندما يتكون العمل الأدبي من أكثر من حدث فهو يتضمن إعادة فعالة للتوافق بين العناصر المتنوعة، عن طريق  تجاور الأضداد وصدام المشاعر  ولذلك يهتم الروائيون بعنصر الصراع في الرواية[4]، في ضوء ذلك نتساءل : ما هي العناصر المتناغمة في قصيدة الأخطل؟
 المقطوعة ـ على الرغم من الإشارة السابقة إلى تنافي صفة التنامي ـ فإن فيها تناغما جيدا ناجم من وحدة الإيقاع الموسيقي  والمعاني الوجدانية التي تزودنا بها الأبيات في تتال متواصل، لولا أن  بعض المفردات تفسد علينا نشوة اللذة بنشازها الهجائي الذي يعود إلى طبيعة ميول الشاعر إلى الهجاء دوما، فمع أنه في سكون ممتزج بهيجان الحب  فإنه ينتفض ليهجو المجتمع بسبب الرقابة التي يفرضها عليه فيقول:
مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف   لا يطمع الشُّمطُ فيها والتنابيل
يخالط القلبَ بعد النـــوم لذتُها      إذا تنبه واعتـل  المتـافيـل
فالشطران الأخيران من البيتين هجاء يفسد التناغم الوجداني بهذه المفاجأة التي نحس أنها تخلط مشاعرنا خلطا بألفاظ مثل :( الشمط أي الأشيب ـ  والتنابيل أي  الحقير والمتافيل أي المنتن الرائحة) فهذا الخلط تأباه طبيعة الحب الذي لا يستدعي من المعاني والمشاعر إلا ما يسر فإذا دخلها نشاز أدى إلى اشمئزاز نفسي غير مقبول ولا متناغم مع الأجواء العامة للقصيدة.


[1] ـ غراهام هو : مقالة في النقد : 22
[2] ـ غراهام : م س :22
[3] ـ  صلاح فضل : نظرية البنائية في النقد العربي : 196ـ دار الشؤون الثقافية العامة :بغداد :1987
[4] ـ غراهام هو: م س  : 25

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...7    كن أول من يقيّم

ـ التألق والإشعاع: أي الاهتمام بشكل لفظه ونسجه كما يقول الجاحظ ومن بعده جون كرانسوم[1]
أول ما يلفت الانتباه في هذه القصيدة، كما في القصيدة العمودية عموما، هو هذا الشكل الموسيقي المتأنق لدرجة تحدث لدى السامع نشوة تشبه نشوة النشيد، وذلك يعود للإيقاع الموسيقي المتشكل من ظاهرتين :
أـ الوزن : فالمقطوعة على وزن البسيط:الذي يتكون من التفعيلات المركبة تركيبا تماثليا كما يلي :
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن    مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن
بانت سعاد ففي العينين مملولُ    من حبها، وصحيح الجسم مخبولُ
/ْ/ْ//ْ  ///ْ        /ْ/ ْ/ /ْ  /ْ/ْ       / ْ /ْ//ْ    ///ْ    / ْ /ْ/ /ْ  /ْ/ْ
مستفعلن فعلن مستفعلن فعْلن      مستفعلن فعلن مستفعلن فعْلن
ولكن فيها شيئا من الزحاف الذي زاد الوزن جمالا  حتى كاد يكون أصلا:
ب ـ القافية: تتكون من عنصرين : المقطع الصوتي الأخير والروي
ب /1ـ المقطع الصوتي الأخير ويتكون من ( ْ / ْ/ ْ) ،( فعلن) فالقافية هنا كما في حقيقتها العروضية ليست سوى عدة أصوات تتكرر في أواخر  الأبيات من هذه القصيدة  العمودية المتألقة جمالا،وتكرارالقافية بشكل يوحي بنغم مألوف متجدد  يعد جزءا هاما من موسيقى الشعر عند الفحول، فنحن نحس بإيقاع القصيدة يتشكل في آذاننا وفق نغم سرعان ما تتكيف نفوسنا عليه لتردده عليها فيكسبها أنسا.
 
ب 2/ الروي والتصريع :  القصيدة لامية الروي، فهذه اللام المتحركة بضم في آخر كل بيت، مما يؤذن للقارئ بالوقف لانتهاء المعنى والدفقة الشعورية لتسكن هنيهة ثم تتجدد في البيت التالي بنفس الآلية (الريتم) مما يعطي تكرارا لنغم جميل في نهاية كل بيت يحدثه هذا التماثل في النهايات دائما، ومن الواضح أن الشاعر يوشك أن يلزم نفسه بروي تسبقه واو، وهذا نوع من المبالغة التي تهدف إلى التأنق، فقد يبالغ بعضهم فيعتمد بناء القافية على حرفين ويسمى ذلك (السناد) وقد يبالغ بعض الشعراء في ذلك فيجعلون قصائدهم مبنية على ذلك ويسمى عندئذ لزوم ما لا يلزم.
 ويرتبط بالروي ما يسميه القدماء (التصريع) أي جعل الشطر الأول من البيت الأول على روي القصيدة إيذانا بتوقع الإيقاع نفسه في الشطر الثاني مما يهيئ القارئ إلى تلقي النغم  نفسه ويتجلى هذا في القصيدة على النحو التالي :
بانت  سعاد  ففي العينين  ملمولُ   من حبها، وصحيح  الجسم مخبولُ
 فهو أسلوب تجميلي يشعر القارئ بالقافية قبل وصوله إليها كما يصنع نوعا من الربط بين الشطر الأول والثاني إضافة إلى الإيقاع الموسيقي النهائي الذي يجد صدى له في عروض الشطر الأول في مطلع القصيدة، وعد النقاد القدماء ظاهرة التصريع  سمة الفحولة:
 " إن الفحول والمجيدين من الشعراء القدماء والمحدثين يتوخون ذلك ولا يكادون يعدلون عنه"[2] ويشترطون في جمالها أن تكون متمكنة أي منسجمة بشكل طبيعي مع المعنى غير مستكرهة، ولا قلقة في موضعها، فتكون كما قال أبو هلال العسكري كالشيء الموعود، ويشترطون في جمال القافية ثبات الحركة إعرابيا فإن تغيرت عد ذلك عيبا وأسموه (الإقواء) وقد اهتم النقاد القدماء بالقافية اهتماما بالغا فعدوا الشعر كلاما موزونا مقفى يدل على معنى، وذلك لأن القافية هي التي تحدث لذة في السمع إذا وقعت مع الوزن موقعا حسنا
ج ـ الطاقات الصوتية الداخلية: إن  مثل هذه الهاء التي يتبعها ألف ممدودة (حبها ـ تناسيتها ـ منها ـ   فيها ـ  لذتها ...) تحدث نغما جميلا لذلك اعتنى القدماء بالجناس والسجع وجعلوه من البديع، وقد تحثنا عن التصريع كقيمة صوتية داخلية


[1] ـ غراهام هو: م س : 25
[2] ـ قدامة ابن جعفر : نقد الشعر : 42( نعت القوافي )

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...8    كن أول من يقيّم

د ـ التصوير: إنه ـ كما يؤكد  الشعريون حديثاـ  هو أحد أهم  التحديدات المشددة على إبراز المعنى لتحقيق التألق الجمالي في القصيدة وقد كان الجاحظ ومن ذهب بعده مذهبه يرون أن الصورة هي أعلى ما يميز الشعر من النثر  حتى قال : " الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير"[1] ، وهذا يدل على قيمة الصورة في إعطاء النص الأدبي شاعريته، بسبب ما يحثه منتشديدات.
الصورة الشعرية رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة[2] ، وهي قوام الأدب ، ولا سيما الشعر ، وإذا كان التصوير من طبيعته التجسيم والتجسيد فإن مرد ذلك إلى الخيال والبصر، ولذلك يعدان آلتين أساسيتين في صنع الصور الشعرية، ولكن التصوير الذي يقوم عليهما فقط يفقد الصورة  حرارتها لذلك لابد للصور الناجحة  من عاطفة ، يقول سي دي لويس " الصورة الشعرية هي صورة حسية في الكلمات وإلى حد ما مجازية مع خط خفي من العاطفة الإنسانية في سياقها، ولكنها مشحونة بإحساس أو عاطفة شعرية خاصة تنساب نحو القارئ "[3]
 
الهدف من الصورة : هدف الصورة بهذا المعنى هو أن تعكس الفكرة التي يرمي إليها الأديب وتجسم الموضوع بصور كبيرة مرئية أو بصور جزئية، ولهذا كانت " الصور في القصيدة تشبه سلسلة من المرايا موضوعة في زوايا مختلفة بحيث تعكس الموضوع، وهو يتطور في أوجه مختلفة، ولكنها صور سحرية،  وهي لا تعكسه فقط بل تعطيه الحياة والشكل ففي مقدورها أن تجعل الروح(المعاني) مرئية للعيان"[4].
 وفي القصيدة التي نحن بصدد دراستها نقف على مصنع من إنتاج الصور يهدف إلى التعبير عن مشاعر الشاعر بصور تجعل المعنوي المجرد محسوسا مجسدا فتعطينا أفكار الشاعر في صور مرئية تكاد تلمس فنحن  نلقاها في البيت الأول  من قول الشاعر :
بانت سعاد ففي العينين ملمولُ/ فهاهنا كناية عن الأرق، ولكن انظر إلى هذا التعبير كيف جسد المجرد فجعله محسوسا تكاد تمسكه إنه البون حين يتحول إلى ملمول يوجع العين فإذا هي دامعة، وإذا القلب مريض،            
فالقلب من حبها   يعتاده  سقم / وبهذه الاستعارة التي جعلت القلب يتشخص في صورة إنسان تعتاده الأسقام، يشرع في بناء الصورة لتنمو بين أيدينا.               
لذلك تأتي  العبارة :عادت نواشط منها/ لترسم  صورة متحركة للذكريات عن طريق استعارة شبه فيها الذكريات بإنسان ينشط ثم حذف الإنسان ورمز له بشيء من لوازمه وهو النشاط على سبيل الاستعارة المكنية، فجاءت الصورة الجزئية هنا لتضيف جانبا جديدا للصورة المتنامية إذ تقدم فكرة عن استعادة السقم وألم العين عن طريق النواشط، لكن هذه الاستعارة لاتقنع الشاعر حتى يردفها بصورة أخرى:
ـ  فهـو مكبول / ففي ذلك استعارة إذ شبه القلب بشخص يقيد ويكبل  حذف الشخص ورمزله بشيء من لوازمه وهو القيد على سبيل الاستعارة المكنية، ليقدم لنا القلب المتألم في صورة مجسدة تجعل القلب مقيدا من المحبوب فلا يملك حركة، ثم  يردفها بكناية قوية تمثلت في قوله :
ـ مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف / ففي ذلك كناية عن الترفع والتسامي وعدم الابتذال، وهي دليل حرمة ومكانة صنعتها لنفسها هذه المرأة أو صنعها لها الشاعر، وعليه فهي لاتنال بسهولة مما يجعلها موضع عناية الأحلام كما تبين الاستعارة الموالية:
ـ يخالط القلبَ بعد النــــوم لذتُها /ففيها استعارة مكنية إذ شبه الحلم بشيء يلتذ وحذف الشيء ورمز له بشيء من لوازمه وهو اللذة،  وهكذا يعطي الصورة نماء جديدا، ولكن لايقتنع بلذة الحلم، فهذه اللذة لاتكتمل إلا بصورة أخرى تدخل بنا في الغزل الحسي لتقويها:
ـ يروي العطاشَ لمى عـذب مقبَّـلُه / فريقها العذب شبه بالماء الزلال الذي يزيل العطش ، وحذف المشبه ورمز له بشيء من لوازمه على سبيل الاستعارة المكنية، ليجعل إحساسنا يتحول من مجرد الفكرة إلى ما يشبه الممارسة، وتأتي الصورة الموالية لتكمل المشهد فإذا نحن أمام غزال يصطنع الحلي ليكون أجمل ( في جيد آدم حلي)، ويقدم لنا نحرها المجمل بالحلي متماسكا مع هذا الجيد الغزالي الذي يملك من الطول ما يضفي عليه من الجمال ما يجعله أحلى في العين بعد أن كان الريق أحلى في الذوق، يتجلى ذلك في الصورة الموالية:          
حَليٌ يشب بياض النحـر واقدُه/فانظر هنا كيف شبه بياض النحر وعليه لمعان الحلي بشيء يشتعل  ويتقد ثم حذف المشبه به وهو النار ورمز لها بشيء من لوازمها على سبيل الاستعارة المكنية، فجعل صدر ذلك الغزال المحلى في صورة منقطعة النظير، لايشبهها إلا صورة أخرى تتعانق فيها عاطفة الدين بعاطفة المحبوب:
 ـ  كما تُصور في الدير التماثـيـل / فانظر إلى هذا البيت السابع كيف يكثف الصورة بأن يردفها بصورة تشبيهية تنبثق من لاشعوره الديني فإذا ذلك النحر الذي شبه لمعان بياضه بلهب النار يشبه ما عليه من حلي بصورة تمثال في دير رهبان، والغريب أن ذلك لا يلبي أجيج حرقة الجمال في قلبه فإذا هو يكثف التشبيه مرة ثالثة فيقول :
ـ أو كالعسيب نمَاه جـدول غدِقٌ / فقد شبه من جديد لمعان الحلي في الجيد الأبيض بالعسيب الذي هو جريد النخل المستقيمة  حين يغذى بجدول ماء  فهو  تشبيه تكثيفي، وحتى ذلك لم يكن كافيا ليعبرعن التعطش والحرقة التي ألهبت فؤاده فإذا هو يخرج من التصوير الخيالي إلى التصوير بالوصف فيقتبس من الأعشى هذه الصورة:
 ـ غراء فرعاء مصقول عوارضها/ صورة فيها وصف مكثف بالصور البصرية البسيطة القائمة على التعبير باللفظ الواصف: فالمحبوبة غراء:أي بيضاء، وفرعاء :أي طويلة الشعر كثيرته،  ومصقول عوارضها أي مستوية أسنانها وثناياها، ولكن تبقى العين تلك الجارحة التي تلهب القلوب غائبة في هذا الوصف، لذا يعود مرة أخرى إلى الغزال ليستمد منه صورة طالما تغنى بها القدماء هي قوله:
   كأنها أحـور العينيـن مكـحول / ففي العبارة تشبيه يراد به تكملة صورة الوجه بتقديم هذه الصورة للعين التي شبهت بعين الغزال، ولكن لم يتشبع الخيال بالصور فإذا هو يكثف الصورة فيجعل  الغزال في حال خاصة حين يختبئ في كنفه خائفا من يوم يجمع بين الحرارة  وريح الشمال:
أخرقَه وهو في أكناف سِـدرته    يومٌ تُـضـرِّمه الجوزاءُ مشمولُ


[1] ـ الحيوان : 3/131ـ 132
[2] ـسي دي لويس : الصورة الشعرية: 23
[3] ـ سي دي الويس : الصورة الشعرية: 26
[4] ـ نفسه: 90ـ91

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...9    كن أول من يقيّم

هل بعد كل هذا الزخم من الصور المتزاحمة  التي جيء بها للتشديدات يمكن أن نشك في اعتماد الأخطل على آلة التصوير في التعبير عن مشاعره وأحلامه وآماله؟ كل ذلك يبين كما يقول اللسانيون دور الانزياح عن طريق تكرار الصور في تجسيد التجربة الشعرية للأخطل يقول تادييه : " وتفرض أسلوبية الانزياح اختلاف النص الأدبي عن المعيار النحوي والمعجمي وهنا نتحدث عما يدعى بالإجازات ( الجوازات ؟) الشعرية LICENCES POETIQUES وعن مفردات شعرية ووجوه (بلاغية)FIGURES، وحينما تكثر الصور  فإننا نعتبرها إنزياحا  "[1]،
 ولكن هل كانت تلك الصور المكثفة والانزياحات المتكررة من إبداع الأخطل أم كانت من ذاكرة الديوان العربي الغني بالصور؟ ذلك ما سنقف عليه في موضوع التناص
 
 4ـ التناص: التناص هو صورة من صور التفاعل مع نصوص أخرى للكاتب نفسه أو مع نصوص كاتب آخر أو مجموعة كتاب ، ويشبه ما كان القدماء يسمونه الاقتباس أو ما يسمونه " السرقات الأدبية" هذا المصطلح  الذي هاجمه القاضي الجرجاني بشدة واقترح له بدائل تقرب ذهن الناقد من مفهوم التناص، هذا  المصطلح الذي يبدو أكثر ملاءمة لطبيعة ظاهرة التفاعل النصي، ويعني المصطلح في النقد الغربي " ... اشتجار متون وأفكار وصور وشعريات خارجية لاحصر لها تسترفدها الساردة من حقول الوعي واللاوعي في صنع نص إبداعي ما تتلاقح فيه إمكانيات الذات/ القريحة بروافد وتحفلات المخزن الأدبي والفكري ومحمولات الوجدان"
وقد وقع في المقطوعة التناص في ثلاثة مواضع؛ فالمطلع هو موضع التناص الأول والأساسي بين نص الشاعر كعب ابن زهير الذي مطلعه:
بانت سعاد فقلبي اليوم متـبول     متيم   إثرها   لم يفد   مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا    إلا أغن غضيض الطرف مكحول
أما البيت التاسع الذي الذي يقول فيه:
غراء فرعاء مصقول عوارضها   كأنها أحـور العينيـن مكـحول
فقد وقع فيه التناص بين نص الأخطل ونص الآعشى في معلقته المشهورة التي يقول فيها:
غراء فرعاء مصقول عوارضها  تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
ثم البيت الرابع الذي وقع فيه التناص في صورة اقتباس ـ إن جاز التعبيرـ مع لوحة من لوحات القرآن الكريم:
      مرفوعةٌ عن عيون الناس في غرف لا يطمع الشُّـمـطُ فيها والتنابيل
 
أولاـ التناص مع قصيدة كعب: وقد كانت ظاهرة التناص مع قصيدة كعب بحكم اعتمادها على المطلع ذات أثر قوي في القصيدة إذ مس كثيرا من الألفاظ وحتى التراكيب  والصور البيانية، و طبع الوزن والقافية والمعاني. حتى قيل إن:
إن الأخطل "أخذ  من كعب كل شيء عدا موضوع القصيدة فسلك في الوزن والقافية والمعجم اللفظي والمعجم التصويري ووقف متأنيا عند اللوحتين الكبيرتين الغزلية والوصفية حتى إذا جاء عند المدح حول إلى فخر بقومه"[2]
 
أ ـ أما الوزن والقافية فيتبينان مما يلي:

بانت سعاد ففي العينين ملمولُ       من حبها، وصحيح الجسم مخبولُ
/ْ/ْ//ْ   ///ْ    /ْ/ ْ/ /ْ    /ْ/ْ          / ْ /ْ//ْ     ///ْ  / ْ /ْ/ /ْ   /ْ/ْ
إذ هو نفسه وزن البيت:
بانت سعاد فقلبي اليوم متـبول       متيم إثرهــــا لم يفد مكبول
/ ْ / ْ // ْ / //ْ /ْ  / ْ / /  ْ / ْ /ْ         / /ْ//ْ /ْ / /ْ    /ْ /ْ /  /ْ /ْ /ْ
إذ كلاهما من البسيط و وبحره :
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلْ    مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلْ
 
2ـ تناص في اللغة والتراكيب :يرى  عبد الله التنطاوي أن الأخطل قصد  إلى معارضة كعب في هذه القصيدة في لوحتين لوحة الغزل ولوحة الناقة والرحلة، ولم يتردد في استعارة كثير من الألفاظ التي بنى من خلالها كعب صوره ونظم أبياته بل يبدو الأخطل وقد قصد إليها قصدا خاصة ما تردد منها في ألفاظ الروي مما ميز لامية كعب فإذا هو يردد من تلك الألفاظ ما يغطي نصف قصيدته ومنها استخدامه للفظ : مخبول مسلول مكبول والتنابيل والتهاويل ومكحول والمراسيل ومشغول ومعلول وموصول البهاليل مفتول السرابيل)[3]
3ـ تناص في التصوير: وما صنعه التناص على مستوى اللفظ  يتكرر على مستوى التصوير منذ اسنهلاله القصيدة بنفس الاستهلال عند كعب في ( بانت سعاد) عارضا مشهد الوداع وفراق الظعينة وحالته النفسية إزاءها فيكاد يتقمص شخصية كعب من خلال صوره على نفس النهج أيضا فهو من ملامح الغزل في فتاته ( أحور العينين مكحول وعند كعب غضيض الطرف مكحول وقدشد إليها فهو مكبول كما ورد عند كعب لم يفد مكبول وهو يعجب على المستوى الحسي بريقها ( يروي العطاش لها عذب مقبله) وعند كعب( كأنه منهل بالراح معلول) ويعجب بلون أسنانها مصقول عوارضها وعند كعب تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت)[4]


[1] ـ النقد الأدبي في القرن العشرين: 288
[2] ـ عبد الله التطاوي : القصيدة الأموية ـ رؤية تحليلية ـ ص : 221 مكتبة غريب / الفجالة / مصر
[3] ـ عبد الله التطاوي : القصيدة الأموية ـ رؤية تحليلية  م س
[4] ـ عبد الله التطاوي : القصيدة الأموية ـ رؤية تحليلية م س

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
الفصل الأول :تحليل مقطع...10    كن أول من يقيّم

ـ تناص في الموضوعات والمعاني :وطبع التناص الموضوعات والمعانى أيضا، إذ كما لا يخفى أن الموضوع هوهو لم يتغير فالكل يتغزل بسعاد، كما لو أن سعاد صارت رمزا للحب العربي، ذلك الحب الذي يتطلع إليه السامع ليكون أول ما يطرق أذنه، وقد كان النقد العربي القديم يهتم كثيرا بالمطلع لأنه يهيئ السامع إلى الإنصات الذي هو غاية الإنشاد ، ولا يخفى أن غاية الإنشاد هو التأثير في المتلقي، والتأثير يحتاج إلى أدوات منها إثارة بعض مكامن القلب  ومنها وقع هذا المطلع المأنوس لدى كل محبي الشعر العربي، فلهذا المطلع تاريخه الذي يدعم جماله مما يكسبه تأثيرا  قلما يتوافر للمطلع الجديد المبدع، إن اعتماد المطلع المستأنس يحدث تماما الأثر الذي عبر عنه الشاعر العربي بقوله:
ألا قـاتـل الله الحمامة غـد وة   على الفرع ماذا هيجت حين غـنـت
تغنت  غنـاء  أعجميا    فهـيجت     جواي الذي كانت ضلوعي أجنت
 
إن دور المطلع الاستئناسي هو تهييج ما بجوى القلب من مكنونات تراثية لها صداها في النفس، لا يمكن أن يحدثه غيره من الأدوات، يشبه إلى حد كبير تلك الراحة النفسية التي يشعر بها القارئ للمشكلات الفقهية حين يعثر على الشاهد القوي الواضح من القرآن أو السنة القطعية.
ولو وقع التناص في العبارة الأولى وحدها لكان يمكن أن يتشتت الأمر إذ أن كثيرا من الشعراء تغنوا بسعاد حتى أوشكت أن تكون رمزا فالأعشى قال:
        بانت سعاد وأمسى حبلها رأبا   وأحدث النأي لي شوقا وأوصابا[1]
ولكن التشديد كان قد تحقق اعتمادا على مطلع كعب خصوصا لتاريخيته، ولذا جاء تشديدا شاملا للوزن والقافية والصور واللفظ فحقق المراد مع أن القارئ العربي المسلم لا يجهل أن الشاعر نصراني وأنه على عربيته الصافية لم ينفع فيه القرآن الذي بالتأكيد يكون قد قرأه، مما يطرح مشكلة سنتوقف عندها في وقتها  عند نقد النص من الخارج لاسيما الصورة الشعرية المتشكلة في البيت التالي :
حـَليٌ يشـب بياض النحـر واقدُه  كما تُصـور في الدير التماثـيــل.
فقد كان الأخطل نصرانيا  مغرقا في نصرانيته حتى قيل سئل حماد عنه فقال : ما تسألوني عن رجل قد حبب شعره إلي النصرانية [2]
 
ثانيا ـ التناص مع قصيدة الأعشى:
      وقع التناص مع قصيدة الأعشى في قوله:
غراء فـرعاء مصـقول عوارضها    كأنـها أحـور العينيـن مكــحول
إذ أن الأعشى كان في الجاهلية قد قال في معلقته:
 
ودع  هريرة إن  الركب  مرتحل      وهل  تطيق  وداعا   أيها      الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها      تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
كأن مشيتها من    بيت جارتها       مر    السحاب   لاريث  ولا     عجل
ليست ممن يكره الجيران طلعتها    ولا  تراها   لسر    الجار       تختتل
 
فالتناص واقع بين بيت الأعشى الثاني من المعلقة وبيت الأخطل السابق، في الشطر الأول،وقد تم التناص بما يسمى في النقد القديم بالاقتباس وهو نوع من التناص الحرفي، تم في روي القصيدة دون إيقاع القافية، وفي الوزن إذ أن وزن البيت هو:
غراء فرعاء مصقول عوارضها     تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعِلن         مستفعلن   فاعلن  مستفعلن   فعِلن
 
ولكن الأعشى على عيشه في فترة الجاهلية  فإن أمر وصفه لمحبوبته عجيب ، بل يستدعي الغرابة، فهو في هذه الأبيات تراه منكبا على المعجم الأخلاقي أكثر من انكبابه على الصفات الجسدية التي ألفناها في شعر الجاهليين الغزلي، فأنت تراه يصف مشيتها ورضى الجيران عليها وحبهم لها  وحفظها لأسرارهم وابتعادها عن التجسس والتسمع الممقوت، فهو في الحقيقة غزل سام جدا لا يرقى إليه غزل الأخطل  على الرغم من نصرانيته ومعاشرته لأصحاب الحس الديني الإسلامي، لذلك نقبل قول شوقي ضيف بهذا الخصوص: كانت نصرانية (الأخطل) رقيقة مثل نصرانية أبيه فنراه يخالف  العقيدة المسيحية فيطلق ويتزوج أخرى ويتردد على القيان[3] .
 
ثانيا/ 2: بنية العمق والمضمون: البنية الأساسية الثانية في تحليل النص هي بنية العمق، أو ما يسمى ( مستوى الوظيفة الأدبية)في مقابل (مستوى الطبيعة الأدبية)، وتشمل هذه البنية( 1ـ الفكرة بعناصرها بما في ذلك العنوان والموضوع أو الموضوعات والفكرة الرئيسية والأفكار الجزئية، 2ـ  والعاطفة بما تستتبعه من مقومات يأتي على رأسها الحب والبغض وما يرتبط بكل منهما من مواقف تتبلور في الغزل والمدح والوصف والرحلة أو في الفحش والهجاء... وما يترتب عن صدقها وملاءمتها للشكل من مباشرة أو زخرفة أو معادل موضوعي)   


[1] ـ  من عيون الشعر العربي : 1   /37
[2] ـ عبد الله التطاوي : القصيدة الأموية ـ رؤية تحليلية ـ ص : 221 مكتبة غريب / الفجالة / مصر
[3] ـ شوقي ضيف :  العصر الإسلامي: 259

21 - مايو - 2008
كتاب(نظريات نقدية وتطبيقاتها) للدكتور رحماني
 58  59  60  61  62