قدسية اللغة العربية 2 كن أول من يقيّم
وتتأثر اللغة بمؤثرات عدة باعتبارها وجوداً فاعلاً متفاعلاً، منها مؤثر أنثروبولوجي ممتد في التاريخ الثقافي المعبر عن وجدان بيئة بعينها وثقافتها الشفهية، مستحضراً تراثٌ غائبٌ في الماضي، حاضرُ في الوجدان بنفس الوقت.
كذلك يؤثر الزمن على اللغة المنطوقة طبقاً للمتغيرات التاريخية، تختلف البنية اللغوية في المجتمعات من عصر لآخر، وقد أثبت التحليل العلمي التاريخي (الفيلولوجي) للخطاب خطأ نسبة العديد من النصوص لمراحل تاريخية معينة، ورد نسبتها لمراحل زمنية أخرى طبقاً لخصائص الخطاب السائد في كل مرحلة تاريخية.
كما يمكن بوضوح ملاحظة تأثير البيئة على نوع اللغة المنطوقة والخطاب حيث تختلف البنية الصوتية في البيئة الصحراوية، والجبلية، والزراعية، والساحلية عن بعضها البعض، وأبرز مثال على فاعلية الزمن والبيئة على اللغة هو نشأة اللغات الأوروبية الحديثة كتطور لهجات من لغات أم.
تشكل هذه المؤثرات عناصر ضاغطة للتغيير؛ لذلك يُنتج المستوى العامي من المجتمع Public خطاباً دارجاً موازياً للخطاب الأصلي يُعبر عن استجابة لهذه المؤثرات، كما يعبر عن رغبة قطاع من منتجي ومستخدمي اللغة في التحرر من القيود المعقدة للإجراءات المنظمة لخطاب اللغة الأم حيث يرون في هذه القواعد إطاراً عقلياً صارماً يعبر عن صفوة فكرية تمارس قدراً من التعالي؛ نتيجة قدرات خاصة مكنتها من استيعاب حالة تاريخية من حالات اللغة دفعتها للشعور بالتمايز وممارسته، وهذا الخطاب الدارج مؤَسَسْ على احتياجات العامي الآنية، وفي إطار شبكة جديدة من العلاقات والقواعد تتفق مع رؤيته للغة واستخداماتها في مرحلة تاريخية معينة، فتتولد اللغات المحلية (ليست مجرد لهجات) كتعبير عن حالة حيوية من حالات اللغة.
كل هذه العناصر تفسر لنا نشأة اللغات القُطرية العامية (ليست مجرد لهجات) وتمكننا من تفهم آلياتها.
أنا تُطربني العامية العراقية، وتُشجيني الشامية.. أنظُر إلى ما تعرفه الفصحى كجمع مذكر، وكيف يتحول لدى الشوام إلى جمع مؤنث، وابحث في التراث الشعبي، والأساطير القديمة عن السبب.
أذكر أنني في بداية إقامتي في المملكة العربية السعودية كيف استفزني الشعر الشعبي، وبقليل من التركيز ومحاولة فهم أسباب هذا الاستفزاز اكتشفت أنه ناتج عن جهلي بآليات هذا الخطاب، ومنحت نفسي فرصة التعرف عليه مستفيداً من خبرة في المسرح خاصة بتعلم اللهجات وطُرق نطقها، وببعض الجهد، ومرور الوقت تآلفت مع هذا الخطاب، وأصبحت قادراً على التعايش معه رغم عدم استساغتي له استساغة كاملة نتيجة عدم إجادتي لنطقه كوني أنتمي لثقافة إقليمية مغايرة.. يقول ميشيل فوكو:
" افترض أن إنتاج خطاب مجتمع ما هو إنتاج مراقب أو منتقَى، يُنظمه المجتمع ويعيد توزيعه في سلسلة إجراءات تستهدف الحد من سلطات الخطاب ومخاطره، والتحكم في احتمالات حدوثها، وإخفاء مادية الخطاب الثقيلة الرهيبة."
واللغة في أي من أشكالها المتخصصة بما فيها الأدب ليست إلا نظام دلالات (سيموطيقي) يختلف فقط عن النظام اللغوي العامي من حيث المستوى وليس من حيث النوع، فالشكل الأدبي المتخصص، والشكل العامي يعتمدان كلاهما على لغة نوعية واحدة إلا أن الأول يعتمد نظاماً أكثر تعقيداً لشبكة أعراف وقوانين وتقاليد يستلزم معرفة باللغة في مستواها الأعلى، لا يتمكن من الوصول إليه إلا الذين حصلوا على مستوى من التعليم، والدربة تمكنهم من اكتساب القدرة الأدبية على تحليل الخطاب ولو في مستوى الحد الأدنى من فك شفرته، أو أولئك الذين لديهم مواهب فطرية إضافة للتعليم والدربة تمكنهم من تأسيس خطاب أدبي، بينما يرى الشخص العامي هذا الخطاب شبكة ملغزة من الأحاجي والألاعيب، فيلجأ لتأسيس خطابه العامي، ويُنشئ له أدوات تفسير هرمنيوطيقية تعتمد نظاماً أكثر بساطة تتكون من أعراف وقوانين وتقاليد تكتفي بمعرفة اللغة في مستواها السهل المباشر.
هذا الفهم لبنية اللغة مكن عالم الرياضيات المتخصص وهاوي اللغات نعوم تشومسكي من إعادة إحياء العبرية الميتة في صيغتها الحديثة مستعيناً بفهم عميق لسيميوطيقا اللغة العبرية واللغات القريبة منها؛ والعربية في مقدمتها؛ وإقامة علاقات هرمنيوطيقية منطقية مستعيناً بقدراته الرياضية لبناء شبكة علاقات إنتاج الخطاب العبراني الحديث.
أما عن قدسية اللغة العربية أو عدم قدسيتها فهناك سؤال بسيط للغاية: من أين اكتسبت القداسة? |