البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات عبدالرؤوف النويهى الحرية أولا وأخيرا

 87  88  89  90  91 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
القتل الجماعى    كن أول من يقيّم

ماذا فعل شهريار حينما اكتشف جريمة زوجته ؟ لقد عاقب المجرمين: قتل زوجته وخادمه. بل لم تتوقف رغبته في القتل عند هذا الحد: سيلازم لياليه. كما سيأمر وزيره، بأن يقتاد له عند كل صبيحة عذراء يتزوجها ويقترن بها ليلا. لكن مع الفجر، يقودها إلى الجلاد لينفذ فيها حكم الإعدام: «هكذا سيتواصل الأمر إلى غاية إبادة جميع الفتيات. كل الأمهات تبكين، فتصاعد الضجيج بين الآباء والأمهات...».
نعاين إذن، منذ بداية «ألف ليلة وليلة» التشابك المعقد بين العنف الجنسي والسياسي. ما بدئ قبل ذلك، كحرب بين الأجناس تطور نحو عصيان سياسي ضد الحاكم من قبل الآباء الحزينين على بناتهم.
لم تبق الآن، إلا عائلةوحيدة في مملكة شهريار تضم فتيات عذراوات. إنها عائلة الوزير الذي كان مكلفا بعمليات القتل، وهو أب لفتاتين تسمى الواحدة شهرزاد والثانية دنيا زاد، لم تصل شهرزاد إلى قصر شهريار إلا بعد سنوات حادث الحديقة. كان أبوها يرفض التضحية بها، لكن شهرزاد ألحت على مواجهة الملك: «أبي، مخاطبة الوزير المنهار، أريد الزواج من الملك شهريار، إما أنجح في تخليص شعبي أو أموت...».
تحت هذه اليافطة، تمثل الفتاة الشابة التي تسكن خيال الفنانين والمفكرين المسلمين كما سنرى بعد ذلك، وجها للمقاومة والبطولة السياسية. لا تسير شهرزاد بسذاجة نحو الموت، بل لها استراتيجية وتتوفر على برنامج مصمم جيدا. محادثة الملك، إلى غاية أن تتملكه، بحيث لا يمكنه التخلي عنها وكذا صوتها. صار المخطط كما توقعته ثم حافظت شهرزاد على حياتها.
تقويم اندفاعات المجرم المتهيئ لقتلك، وأنت تروي له حكايات، يعتبر انتصارا هائلا. لكي تنجح شهرزاد، يجب أن تضع على التوالي ثلاث استراتيجيات ناجحة. أولا، معارفها الواسعة، ثانيا، موهبتها في خلق التشويق بطريقة تشد معها انتباه القاتل. ثالثا، برودة دمها بحيث تسيطر على الموقف بالرغم من الخوف.
الامتياز الأول، ذو طبيعة ذهنية: تلقت شهرزاد تربية أميرية، تجلت ثقافتها الموسوعية منذ الصفحات الأولى من الكتاب: «قرأت شهرزاد مؤلفات في الأدب والفلسفة والطب. لا تنطوي القصيدة بالنسبة لها على أسرار، فقد درست النصوص التاريخية وبإمكانها الاستشهاد بالوقائع المثيرة للأوطان الغابرة والحكي عن أساطير الملوك القدامى. كانت شهرزاد ذكية عالمة، حكيمة ومهذبة. قرأت وتعلمت كثيرا». لكن العلم وحده غير كاف لإعطاء المرأة سلطة على الرجل: انظروا إلى هؤلاء الباحثات المعاصرات عندنا، إنهن متعددات ولامعات سواء في المشرق أو المغرب: لكنهن عاجزات عن تغيير غرائز الموتعند شهريار العصر الحالي... من هنا فائدة القيام بتحليل يقظ، للكيفية التي خططت بها شهرزاد لنجاحاتها.
الامتياز الثاني لبطلتنا، يحمل طبيعة نفسية، فهي تتقن اختيار كلماتها لكي تؤثر في أقصى عمق فكر المجرم. إن التسلح بوسيلة وحيدة مثل الكلام للدخول في صراع مميت، يمثل اختيارا ينطوي على جرأة نادرة. إذا كان هناك من حظ للضحية كي ينتصر، فمن اللازم بالنسبة إليه فهم دوافع المهاجم واكتشاف قصدياته ثم إبطال الهجومات بالحدس كما هو الحال مع لعبة الشطرنج. الاختيار الذي سلكته شهرزاد أكثر صعوبة، بحيث يبقى أولا، الملك ـ العدو ـ صامتا. على امتداد ستة أشهر الأولى، اكتفى بالاستماع إلى ضحيته دون النطق بأية كلمة. أما شهرزاد فلا يمكنها حدس مشاعره إلا بناء على إيماءات وجهه وجسده. كيف يمكن لها في إطار هاته الشروط، أن تعثر على الشجاعة لمواصلة الحكي وحدها طيلة الليل ؟ كيف تتجنب الخطأ النفسي والخطوة الخاطئة القاتلة ؟ لذلك، مثل صاحب مخطط يستخدم معارفه في أفق توقع ردود فعل الخصم وتمثل تكتيكاته. كان، من الضروري بالنسبة لشهرزاد أن تكتشف باستمرار ما يدور في فكر شهريار، تبين ما سيحدث بعد ذلك بدقة كبيرة، فابسط خطأ يعتبر مميتا.
أيضا، يفضي الامتياز الأخير للمناضلة الشابة على الأقل الى الاحتفاظ بوضوح الأفكار ومواصلة اللعبة عوض الخضوع للخصم. ستنقد شهرزاد إذن ذاتها اعتمادا على ذكائها وخاصياتها الدماغية التي تتميز بقوة هائلة على التخطيط. ستوظف نفس أسلحة الإغواءات الهوليودية أو جواري ماتيس Matisse. تتدحرج، بشبق جسدها العاري فوق سرير الملك، وإلا فستموت.
لا يفتقر هذا الرجل للجنس بل يعاني من تحقير حاد للذات نتيجة تعرضه للخيانة. ما يحتاجه الملك، علاجا نفسيا يساعده على أن يعيش ثانية المأساة التي تنخره ثم يتحرر منها، وهو بالضبط ما شرعت شهرزاد في القيام به وذلك بجرأة نادرة. كانت تروي له مئات الحكايات التي تكرر بشكل لا نهائي نفس الحبكة، مثل هلوسة: رجال يتعرضون للخيانة من طرف نسائهم. ثم لكي تشجع شهريار على النظر بنسبية إلى مأساته، فإنها تورد حالة الجن، تلك الكائنات اللاأرضية التي من المفروض أنها لا تنهزم، فقد خدعتها النساء وهم يتسلون بحجزهن. جرأة الكلام مع رجل عنيف قصد مداواته من جرح يتآكله، يعتبر بالتأكيد تهورا ينبني على استراتيجية دفعت مجموعة من المفكرين، كي يكتشفوا في شهرزاد، امرأة محرضة على التمرد، محفزة المستضعفين على العصيان.

19 - يناير - 2010
الوقوع فى دائرة السحر .ألف ليلة وليلة .
أحلام شهرزاد    كن أول من يقيّم

لاحظ جمال الدين بن الشيخ، أحد أفضل المختصين في الحكايات، بأن شهرزاد لم تنكر لحظة من اللحظات وجود القائد، رغبة النساء لتعطيل إرادة الرجل. هذا ما يفسر سبب رفض النخبة العربية تدوين الحكايات: (الراوية التي تتوخى الحصول على رأفة الملك المخدوع من قبل زوجته، ستوظف كل خيالها المبدع، لتنسج وقائع تؤكد عدم ثقة هذا الأخير في النساء). تنطوي الحكايات بالفعل على توضيحات لمزاج نساء الحريم، غير القابل للضبط. سيظهر مع الواحدة بعد الأخرى، إلى حد عدم واقعية، توقع رؤيتهن يخضعن لقواعد اللامساواة التي تفرض كقانون. بإمكان الرجال، قراءة المصير التراجيدي الذي ينتظر كل واحد منهم. يكتب بن الشيخ: «نعرف بأن رعب الخيانة هذا، يغوص بجذوره إلى أكثر الثقافات قدما من ثقافتنا، معبرة عنه دائما بنفس الطريقة تقريبا.... لكننا في هذه الحالة، نشتغل على نص مكتوب بالعربية...». ولأن العربية، تمثل لغة الكتاب المقدس، أي اللغة التي نزل بها القرآن ! فإن تدوين الحكايات بالعربية، يعني منحها معقولية خطيرة، هذا ما يفسر عنده إدانة النخب العربية الذكورية للحكايات طيلة قرون والاقتصار على تداولها شفويا. إن رفض المثقفين العرب المتنفدين، الترخيص لتدوين الحكايات وضعها داخل سياق الدونية، أمام الأوروبيين الذين أعطوها امتيازا بترجمتها ابتداء من سنة 1704 (الترجمة الفرنسية لـ Galland). بينما، لم تظهر أول طبعة عربية إلا بعد قرن من ذلك، وبالضبط سنة 1814، كما أن لا أحد من الناشرين لـ«ألف ليلة وليلة» كان عربيا.
صدرت الطبع العربية الأولى، بـ كالكوتا Calcutta سنة 1814 من قبل هندي مسلم اسمه «الشيخ أحمد الشيراواني»، أستاذ العربية بـ كوليج وليام الرابع. أما الثانية، فقد أنجزها «ماكسيميليان هابيش» Maximilan Habicht بـ بروسلو Breslau، ألمانيا سنة 1824. بعد عشر سنوات من ذلك، سيأخذ العرب المبادرة أخيرا، بالعمل على تسويق النسخة المصرية لـ بولاق التي طبعت بالقاهرة سنة 1834. من المهم، الإشارة إلى أن الطبعة العربية الأولى لـ«ألف ليلة وليلة» تبين الحاجة لتصحيح نسخة بولاق: «تحسين اللغة بطريقة تنتج عملا ذا قيمة أدبية أعلى من النسخة الأصلية».
بإمكاننا التساؤل عن السبب الذي استندت إليه النخب، كي ترفض تدوين الحكايات؟ ما هي الجريمة الأساسية التي اتهمت بها شهرزاد؟ هل الأسباب سياسية أو دينية كما يحدث حاليا في الدول العربية والاسلامية، بمنع الكتب؟ يظهر بأن العامل الأول الذي تم استحضاره هنا، أدبي بالأساس دون أي مضمون سياسي: لقد كانت النصوص ذات قيمة ضعيفة.
لاحظ «بن الشيخ» مستوى الخرافة الذي وضعت في إطاره الحكايات (مما يعني تقريبا «هذيان فكر مختل») لكن وراء هذا البرهان الأدبي، يتحدد منتهى الجبل الجليدي السياسي: رفضت النخبة إخراج الحكايات لأنها تترجم مشاغل ورأي القوى الشعبية. هذه الجزئية الصغيرة، تجعلنا نستشف انفصاما ضخما: ألا يجسد الإرث الإسلامي المدون فكر النخبة ؟ ألا ترسم الشفاهية في جوف هذا الإرث فتحة واسعة وفراغا علينا الاهتمام به ؟ هذا التطابق بين الشفاهية والإقصاء، قاد بن الشيخ للتساؤل، إذا كان في الواقع رفض تدوين الحكايات كتابة يتأتى من كون النساء يظهرن فيها أكثر براعة من الرجال. بناء على منطق «ألف ليلة وليلة»، فإن القاضي (شهريار)كما لاحظ «بن الشيخ» كان مخطئا، بينما الصواب إلى جانب المتهمة (شهرزاد): «لم يحاكم الملك فقط من قبل شهرزاد، لكنها أيضا تدينه حتى يغير طريقته في العيش وفق نزواته، إنه عالم معكوس. عالم، لا ينفلت فيه القاضي من عدالة ضحيته». عالم، حيث القواعد هي قواعد الليل: شهرزاد صامتة طيلة اليوم، غير مرخص لها بالتكلم إلا بعد غروب الشمس، حينما يلتحق بها الملك للاستماع إليها وهو على فراشه.تتذكرون الجملة المقتضبة التي تنهي كل حكاية: «وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح».
هكذا، يقلب الأثر الحاسم للحكايات التي تتداعى في الظلام، قوانين محكمة الملك، الذي يبدو بأنه ليس شيئا آخر غير سراب، سريع الاندثار مثل ضوء النهار. بالفعل، يتخلى الملك عن اعتدائه المرعب، ويخضع لتأثير نافذ من قبل شهرزاد، مقرا بعدم صوابه حينما يسقط غضبه على النساء، «آه شهرزاد، جعلتني أزهد في ملكي، والتحسر على ماضي العنيف تجاه النساء، وكذا أفعالي القاتلة ضد الفتيات الصغيرات».
بالتالي، سيقر المستبد بتغير مفهومه عن العالم، بعد حواره الطويل مع زوجته. اعتراف، قاد مجموعة من الكتاب العرب في القرن العشرين، لكي ينسبوا إلى شهرزاد خاصة والنساء عامة سلطة مدنية. المفكر المصري اللامع طه حسين، أطلق نداء إلى المستقبل: لكي تستعيد مواقف الرجال حب امرأة، فمن الضروري أن تستند على السلم والهدوء بدلا من العنف. في كتابه المعنون بـ: أحلام شهرزاد، الصادر سنة 1943، جعل من الحكاية الناطق الرسمي باسم الأبرياء الذين زج بهم في عذاب الحرب العالمية. حرب أشعلتها أوروبا، ولم تكتو بنارها فقط الشعوب العربية بل شملت كل الكون. تجسد شهريار عند طه حسين، نزوة الموت عند الإنسان المبهمة، والمأساوية. لم يفهم، الملك بأن سجينته مؤتمنة على سر نفيس جدا، إلا بعد سماعه لها لسنوات طويلة. من الضروري أن يكتشف هذا السر، لكي يدرك أخيرا النضج العاطفي والرصانة:

19 - يناير - 2010
الوقوع فى دائرة السحر .ألف ليلة وليلة .
انتصار العقل على العنف    كن أول من يقيّم

«شهريار:
من أنت وماذا تريدين ؟
شهرزاد:
ـ أنا شهرزاد، كنت مرعوبة طيلة سنوات، ثم منحتك لذة الاستماع إلى حكاياتي. حاليا، اقتحمت مرحلة جديدة، قد أمنحك حبي لأنني انهزمت جراء الرعب الذي ألهمتني إياه. ماذا أريد ؟ أسعى، لكي يتذوق أخيرا سيدي الملك السكينة، ويحس ببهجة الحياة في عالم يخلو من كل قلق».
حسب طه حسين، يتجلى الخلاص حينما يبدأ الحوار بين الطاغية والمظلوم، القوي والضعيف. لا يمكن للحضارة أن تزدهر حقا، إلا إذا تعود الرجال على إقامة حوار مع الكائنات الأكثر اقترابا منهم، النساء اللواتي يقتسمن معهم الفراش. بالتالي، هل بعث ثانية، طه حسين الضرير، المعاق والعاجز عن القيام بالحرب ـ تماما مثل المرأة ـ مضمون الرسالة كما تضمنته حكاية شهرزاد القروسطية: يوجد رباط بين الإنسانية وحرية المرأة. لذلك، فإن كل عمل يتأمل الحداثة داخل العالم الإسلامي المعاصر، يؤخذ كسلاح ضد العنف، الاستبداد. ويكتسي أيضا، صيغة دفاع عن النسوية.
بالنسبة لزعيم مسلم إصلاحي، كما هو الأمر مع الرئيس الإيراني خاتمي، المنتخب في الاقتراع المباشر لسنة 1997 بـ 70٪ من الأصوات، نتيجة تصويت النساء. فمن البديهي لكي يصارع ضد المحافظين، أن يحث النساء على ولوج مواقع السلطة. ثم دعما لموقفه قصد هزم معارضيه في انتخابات يونيو 2001 (77٪ من الأصوات)، قام خاتمي بعملين عضد بواسطتهما مسار الديمقراطية. أولا، شجع النساء على المساهمة في انتخابات المجالس البلدية سواء في القرى الصغيرة أو المدن الكبرى، هكذا انتخبت 781 من بينهن. بعدها، دفع النساء لكي يشغلن وظائف مراكز القرار في دواليب الجامعة، بحيث أحرزن على 60٪ منها قبل ولايته الثانية. بشكل مفارق، فإن قرار ارتداء الحجاب الذي أعطاه آية الله الخميني إلى النساء سنة 1979 لإخفاء التعددية داخل الأمة الإسلامية، دفعهن للرجوع بقوة إلى المشهد السياسي بعد عقد من الزمان. مثلما في هاته الأحلام المتكررة بشكل لا نهائي، يعاد ثانية في كل مكان بالعالم الإسلامي، إنتاج السيناريو الإيراني المرتبط بالصلة الحتمية بين الديمقراطية وتأنيث السلطة. أن تذهبوا إلى الجزائر، تركيا، أفغانستان أو أندونيسيا، ستلاحظون وأنتم تنتقلون من قناة تلفزيونية إلى أخرى، بأن السجال حول الديمقراطية يقود حتما إلى سجال آخر يتعلق بالمرأة والعكس صحيح. هذا التداخل المثير، الذي يجمع بين التعددية والنسوية داخل العالم المضطرب للإسلام الحالي، تجسد قبل ذلك مع تاريخ شهرزاد وشهريار. لقد انتهى شهريار في ألف ليلة وليلة، بالتوصل إلى أن الرجل ملزم بتوظيف الكلام بدلا من القوة لتسوية نزاع ما. في صراع شهرزاد من أجل البقاء والحرية، فإنها لا تقود جيوشا ولكن مجموعة كلمات. بالتالي، يمكن اعتبار الحكايات مثل أسطورة متحضرة مازالت راهنية جدا. تتغنى «ألف ليلة وليلة»، بانتصار العقل على العنف. قادني هذا التأمل، لكي أعود إلى نقطة تتناقض كليا مع صورة شهرزاد في الغرب وكذا نسختها الهوليودية: في الشرق، المرأة التي لا تستعمل غير جسدها ـ أي جسدها دون دماغها ـ هي بالضرورة عاجزة عن تغيير وضعيتها. أخفقت إذن الزوجة الأولى للملك على نحو محزن، لأنها حينما سمحت لخادمها كي يمتطي فوقها، اختزلت ثورتها في الجسد. الخيانة الزوجية بالنسبة للمرأة، فخّ انتحاري. على العكس، نتعلم من نموذج شهرزاد إمكانية قيام المرأة بتمرد فعال، شريطة التفكير. ستساعد الرجل بقوة ذكائها، للتخلص من رغبته النرجسية إلى ارتباط بسيط. يبين التاريخ ضرورة، أن نقابل اختلافنا مع اختلاف الآخر، حتى يتأسس الحوار ثم نكتشف ونحترم الحدود التي تفصلنا. تثمين، حوار في كل جزئياته، يعني تقدير معركة تكون نتيجتها غير مضمونة، بحيث لا نعرف سابقا الغالب والمغلوب، لكن الانخراط في معركة كتلك تمثل موقفا يضع رجلا داخل وضعية تتميز بعدم الاستقرار، بعد أن اعتاد على أخرى مريحة حينما كان مستبدا.

19 - يناير - 2010
الوقوع فى دائرة السحر .ألف ليلة وليلة .
دماغنا سلاح لايقهر    كن أول من يقيّم

عبد السلام الشدادي، مؤرخ مغربي وأحد أدق الباحثين في الإسلام المعاصر، يختزل رسالة «ألف ليلة وليلة» بقوله: «اجتهد شهريار حتى يكتشف فكرة استحالة إلزام المرأة، للامتثال للقاعدة الزوجية». ثم، يضيف بقدر ثورية هاته الفكرة، فإنها أقل من الرسالة الثانية للحكايات: إذا أقررنا بأن اللقاء بين شهريار وشهرزاد، صورة للصراع الكوني الذي يتعارض في إطاره النهار (تمثيل ذكوري لنظام موضوعي) مع الليل (تمثيل أنثوي لنظام ذاتي)، بقاء الزوجة، يخلق لدى الرجل المسلم ارتيابا غير قابل للتحمل تقريبا: ما هي إذن نتيجة المعركة ؟ يكتب الشدادي: «حينما يحافظ الملك على حياة شهرزاد فهو ينتهك القاعدة التي وضعها. عمل شهريار بالفعل، وضد كل انتظار، على كبح ذاته مانحا شهرزاد الحق في الحياة والكلام ثم النجاح، «تتوازن القاعدة والرغبة، حيث يلامسان نوعا من السكون المتقلب، دون التمكن من القول بأن أحدهما سيستعيد أم لا حركته الأصلية». ما إن يغلق الرجل المسلم، الصفحة الأخيرة من الحكايات إلا ويحصل عنده اليقين بشيء واحد: الحرب بين الأجناس في نطاق تجسيدها للحرب بين العقل والعاطفة، تعتبر لا نهائية.
التعارض حسب «الشدادي» بين الملك والراوية له أهمية أخرى: إنه يعكس ويوسع النزاع الحاد الذي يفصل في الثقافة الإسلامية بين التقليد الشرعي والخيال. غلبة شهرزاد هو انتصار للخيال (الوهم)، على مشروعية حراس الحقيقة (الصدق).
يتحدث الشدادي عن مصير الحكواتيين المأساوي. رواة الشارع هؤلاء، حيث يشكل سلمان رشدي أحد ورثتهم في الزمان الحالي، اعتبروا عادة في بغداد القرن الوسيط، كمتمردين مفترضين ومثيرين للقلاقل. كما هو الأمر اليوم، مع صحفيي اليسار الخاضعين للمراقبة، فقد كان هناك سعي قصد منع هؤلاء الحكواتيين من مخاطبة الجمهور. أشار المؤرخ الطبري، في تاريخه عن الأوطان والملوك، أنه سنة 279 هجرية (القرن العاشر ميلادي): «أعطى السلطان أمره، لإخبار سكان مدينة السلام (أحد أسماء بغداد)، بعدم الترخيص لأي حكواتي كي يستقر في الشارع أو المسجد الكبير». إذا طرد الحكواتيون من المسجد يفسر الشدادي، ذلك لصعوبة القيام بتمييز واضح بين خيالهم والحقيقة. الطرد، وسيلة القصر الوحيدة لإسكات صوت هؤلاء المبدعين الخطيرين: «مع بداية النصف الثاني من القرن الهجري الأول (القرن السابع الميلادي). قام علي (الخليفة الرابع العقائدي) بمنع رواة الشارع من دخول مسجد البصرة. بالتأكيد، لن تتوقف مضايقة الحكواتيين، إلا بإنهاء الرابطة المهنية... وتعويضهم بالوعاظ. لقد كانت الوسيلة الوحيدة، من أجل تأسيس واضح للحد الفاصل بين ما يمكن اعتباره حقيقيا وصادقا ثم ما ينتمي إلى عالم الخيال والخطأ وكذا الزيف».
لكي تخلخل أكثر العقول المتزمتة القديمة منها والمعاصرة، فإن شهرزاد تتوفر على سمة الإزعاج إلى أبعد حد. يعيد الشدادي التذكير بها: «مع أول ظهور لها في الكتاب، تكشف عن مواهب سلطة دينية إسلامية، «فقيه» بالمعنى المتكامل وصاحبة موقع حصين». لا تتضمن معارفها اللانهائية ضبطا فقط للتاريخ، لكن أيضا الأدب المقدس من قرآن وشريعة وكذا مختلف التأويلات الدينية للمدارس الفكرية. تداخل عجيب بين ثقافة علمية جدا وخطاب ينحصر ظاهريا في عالم الخيال والليل. تمازج، جعل شهرزاد متهمة كثيرا، مما يفسر رفض النخب العربية تصنيفها ضمن الإرث المكتوب. تشير «ألف ليلة وليلة» إلى الخطر المحدق بطبقة الخاصة حينما تستمع للعامة. هذا الشعب الصارخ والقوى الأمية، تكرر لمن يريد الاستماع إليها بأن الطبقية، اللامساواة، والتفضيلات، تشكل أعداء لها.
أليس من الغريب،أن راوية متخيلة في القرن 11، تحتل من جديد مكانا مركزيا. بين ثنايا المشهد الفكري الإسلامي المعاصر، باعتبارها رمزا للصراع الديمقراطي ؟ هذا، لأنها عرفت قبل ذلك في بغداد العباسيين، كيفية التشكيل الواضح للأسئلة الفلسفية والسياسية الجوهرية، عجز حتى الآن زعماؤنا السياسيون المعاصرون عن الإجابة عنها: هل يجب الخضوع لقاعدة جائرة فقط لأنها كتبت من قبل الرجال ؟ إذا كانت الحقيقة بهاته البداهة، فلماذا لا نترك الوهم والخيال المبدع كي ينموان ؟ معجزة المشرق، أن ذكاء شهرزاد الثاقب واهتمامها بالقضايا السياسية والفلسفية، جعل منها مغرية ومدمرة بشكل مريع.
تعود أصلا قوتها الإقناعية إلى ثقتها في الذات، بسبب هذا المعطى الذي يمثل فن جوهر التواصل، فإن شهرزاد مدهشة. لا تصرخ حينما ينتابها الخوف، فهي لا تبدد طاقتها. توظف الصمت لمعرفة نوايا خصمها وتحديد نقطة ضعفه، وعلى ضوء ذلك توطد استراتيجيتها المضادة. إنها، متيقنة بكونها شخصية رائعة، تتوفر على ذكاء مذهل. لو ظنت نفسها حمقاء، سيقطع الملك رأسها. تؤمن كثيرا بقدرة الكائن الإنساني على تغيير مصيره. السحر فينا، تلك هي دعوة شهرزاد. نأتي إلى العالم، ونحن مسلحين جدا للدفاع عن أنفسنا: دماغنا سلاح لا يقهر. احترام الذات سر النجاح، ذاك هو مصدر افتتان المسلمين بشهرزاد، الأمس مثل اليوم وسواء كانوا رجالا أو نساء. من هنا، قيمة تأويل ما يحدث لها حينما تعبر الحدود اتجاه الغرب.
هل ستمر تلك الملكة بسلاح الفصاحة أم ستفقد لسانها عند الحدود ؟ شيء يقيني: نعرف بالتأكيد رحيلها إلى الغرب، ووصولها باريس سنة 1704م.
الهامش
k Fatéma Mernissi: le Harem européen. Editions le Fennec, 2003, PP:59-76
.

فاطمة المرنيسي ترجمة: سعيد بوخليط
عالمة اجتماع من المغرب كاتب من المغرب

19 - يناير - 2010
الوقوع فى دائرة السحر .ألف ليلة وليلة .
البحث عن كرامة الإنسان    كن أول من يقيّم

(7)
 
متتالية شهر زاد..للموسيقى الروسى الشهير ريمسكى كورساكوف ،تعتبر عملاً فنياً باذخاً،لايختلف عليه إثنان.

وأصبح هذا العمل من أشهر الأعمال الموسيقية على الإطلاق بين الشعب المصرى ..ربما تقديمه فى مسلسل ألف ليلة وليلة كمقدمة لبداية الحلقة ثم فى نهايتها ،وشهرزاد تتثأب بعد صياح الديك.


لكن مشكلة شهر زاد تكمن فى كيفية الخلاص من الموت ،ووقف نزيف الموت لبنات جنسها فى مواجهة ظلم واستبداد وطغيان شهريار ،الذى عاقب جميع النساء من جراء خطأ واحدة منهن .

فلاعدالة ولا تمييز بين مخطىء وغير مخطىء ،بين متهم بجرم فعله ،وبين متهم بفعل لم يقترفه.

وكأنى بقانون الظلم "الحسنة تخص والسيئة تعم " أو كما نقول فى الدراسات القانونية عمومية العقوبة ،فقد كان محمد على الكبير والى مصر المحروسة من الذين طبقوا عمومية العقوبة .،ما إن يثبت خطأ فرد من أفراد عائلة ما، إلا وتنزل العقوبة عليهم جميعاً.

ومنذ أيام أتانى رجل يبكى ..فلقد قامت الشرطة باحتجازه عدة أيام لحين القبض على ابنه الهارب من تنفيذ حكم بالحبس . وكأن لسان حاله يقول :ابنى رجل ومتزوج وليس قاصراً ويعيش فى مسكن خاص ،إذا ارتكب خطئاً فليعاقب ،أما أن أُرمى فى الحبس لعدة أيام فهل هذا عدل؟؟


إذن ما كان يفعله شهريار ،قديماً ،يفعله ،حديثاً،شهريار الألفية الثالثة .. بدم بارد وعقلية تأبى التحرر،من سجن الماضى السحيق، ولو قليلاً..فى إدراك معنى كرامة الإنسان.

19 - يناير - 2010
الوقوع فى دائرة السحر .ألف ليلة وليلة .
حكايات كانتربرى    كن أول من يقيّم

 
(8)
تأثير الليالى فى الآداب العالمية لاينكره إلا أعمى القلب ،سيىء الطوية ،معدوم الضمير .وأتذكر اللحظة  "حكايات كانتربرى" ل جيفرى تشوسر "أبو الأدب الإنجليزى ، إبان تحول اللغة الإنجليزية من لهجةعامية إلى لغة أدبية محترمة "
والمولود مابين عامى (1340م -1345م) والمتوفى فى 25أكتوبر 1400م.
قام على ترجمة هذا العمل ..الدكتوران /مجدى وهبة وعبدالحميد يونس وأصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1983م .
512صفحة من القطع الكبير .
كم كانت متعتى حين قرأته وقت صدوره وتعليقاتى على أحد هوامشه
"التشابة والتقارب بل والتطابق بين الحكايات والليالى يكاد يقفز من بين سطور الحكايات ،فيما يتعلق بعلاقة الرجل والمرأة .
التأثير المتبادل بين الحضارات ،هو نقطة الارتكاز والانطلاق فيما يجرى من سرد حكائى ممتع "

19 - يناير - 2010
الوقوع فى دائرة السحر .ألف ليلة وليلة .
الرجال الجوف    كن أول من يقيّم

ت.س.إليوت

اسمٌ كبير لناقد ومبدع ملأ الدنيا وشغل الناس فى القرن العشرين ..فتأثيره على الشعراء العرب أكبر من أن أحصره بكلمة .

عرفته، فى سنوات التكوين ، من خلال الترجمة الرائدة لقصيدته الشهيرة الأرض اليباب أو الخراب وقصيدته رماد الأربعاء وكتاباته عن الثقافة ومسرحياته المترجمة إلى العربية .

كان الدكتور لويس عوض من المترجمين لأعمال إليوت الشعرية ،ثم صلاح عبد الصبور لأعماله المسرحية ،وقام الدكتور ماهر شفيق فريد.. بالترجمة لأعماله النقدية .

كنت معجباً بقصيدته الأرض الخراب ..وحديثه عن الرجال الجوف والأرض الخراب وديوانه الشعرى الفارق "ديوان القطط".

ومن متابعتى لأعمال هذا الرائد العالمى ،سواء إتفقنا مع أعماله أو إختلفنا معها ، أحببت كتاباته وقرأت كل ماتيسر من ترجمات لأعماله .

ولحرصى الشديد على متابعة الدوريات العربية ،كانت مجلة نزوى العمانية من المجلات الرصينة التى أقرؤها .وفى أحد أعدادها .. وجدت هذه المقالة الجيدة ..
أقدمها عن هذا الرائد الكبير ...عساها تكون دافعاً للإطلال على الآداب العالمية.

19 - يناير - 2010
ت.س.إليوت والإنقسام الثقافى
العلاقة بين الحداثة والثقافة الجماهيرية    كن أول من يقيّم

ت.س. إليو ت
و
الانقسام الثقافي

النص:ديفيد تشينز
الترجمة:غازي مسعود(كاتب من الأردن)


أثناء سيرورة إعادة قراءة نقدية طويلة بدأت في مطالع الثمانينات، غدت العلاقة بين الحداثة والثقافة الجماهيرية مفهومة أكثر، فقد واجهت الاعتقاد السائد بأن الحداثة تعادي باطراد الثقافة الجماهيرية سلسلة من التحديات، منها- على سبيل المثال - ذلك التمييز الذي عينه اندرياس هويسن بين "الثقافة الرفيعة " و"الطليعة التاريخية "، ومن ثم ما ابرزه برنارد جند رون قائلا ان ذلك الانقسام: "فشل في رسم الخريطة الكاملة لفضاء الممارسة الحداثية ". فبالأضافة الى حداثة رفيعة معادية للثقافة الجماهيرية وطليعة متقبلة لها- وهذا امر واقع - يوجد افراد عديدون وجماعات عديدة لا يمكن تقليص موقفهم الى احد هذين التطرفين. ولكن، بالنسبة لجندرون كما بالنسبة لهويسن، تستمر الحداثة الرفيعة في تمثيل موقف: "يلتزم كليا بمثال لفن مستقل "(...) "لا ينخرط في السياسة " ومكرس " لاهداف جمالية ". ومثل هذا الترصيف لا يخرج على الاجماع النقدي.

والسؤال المطروح في هذه المقالة: هل يمكن تطبيق وجهة النظر هذه على ت.س.إليوت ام لا؟ من المؤكد وجود ميل ضئيل للتفاؤل في الاجابة عن هذا السؤال، فها هو هويسن يكتب: "اكد حداثيون من امثال ت.س. اليوت واورتيجا جاسيت، مرة بعد اخري، ان مهمتهم تنحصر في انقاذ طهارة الفن الرفيع من طغيان الثقافة الجماهيرية الحديثة عليها". وقامت إلن بيري بوصف اليوت وعزرا باوند بأنهما: «اكثر المعبرين عن الحداثة الامريكية ". وذلك « بفضل جهودهما للحفاظ على استقلا لية الفن المؤسساتي وكرا مته "، و« تحصين الحدود القائمة بين الفن الاصيل والثقافة الجماهيرية غير الاصيلة ". ولطالما تمت الاشارة - كما فعل جورج ستيد الى: «دوحمائية اليوت الحداثية المتصلة بالفن الناسك ". ومما يعتبر مركزيا في تاريخ القرن العشرين الادبي- او في الاقل كما هو ممثل الآن تصوير إليوت على انه بطل النضال الخاسر لحماية الفن الرفيع النقي المقدس من تلوث المستويات الثقافية الهابطة ".

يلخص هدفي من مقالتي هذه في اثبات لا امكانية وصف إليوت وصفا دقيقا باستخدام مثل ذاك المجاز التبسيطي. وانا معني هنا، أساسا، باليوت العشرينات وما ابكر منها، اما إليوت الاكبر سنا، فقد كان - الى حد ما- اكثر استعدادا للعب الدور الذي ذاع ذكره على اساسه: نصب انساني - دفن مطلق... فن رفيع، حينما كان الفن اكثر جدية ونخبوية " كما تقول سنثيا اوزك.

واليوت هو ذاك الشاعر الذي كللت صورته غلاف مجلة "اتلانتك منثلي " (شباط 1951)- وتظهر الصورة رجلا وسيما، انيق الهندام، جاد المظهر، يداه متشابكتان قدامه، وسماء منذرة تلوح خلفه، وتحوم صورته فوق او ديون كلاسيكي يبدو وكأنه مزار شخصي له. ولكن، حتى إليوت المتأخر هذا لم يكن ذاك المحافظ الثقافي الذي اعتبر ملائما للجو الاكاديمي الذي ساد الاربعينات والخمسينات - تلك الفترة التي دجنت فيها الحداثة الرفيعة ومعيرة - حسبما يقول كيفن دتمار- فاليوت الذي اصور. انا اكثر تعقيدا، وهو من وجهة نظر ما بعد حداثية طليعية، اكثر اثارة للاهتمام، انه شخص، رغم ازدواجيته، طور موقفا نظريا تقدميا عن العلاقة بين الثقافة الرفيعة والثقافة الجماهيرية، وحاول مرارا وتكرارا تحويل هذه النظرية الى فن.

19 - يناير - 2010
ت.س.إليوت والإنقسام الثقافى
الغوغاء المحترمة    كن أول من يقيّم

بفضل كتاب سيرة حياته، فاننا نعرف الآن أشياء اكثر عن إليوت الذي بدا غير منسجم في صورته المجملة التي حامت فوق الاوديون. وبعيدا عن المعلومات المتصلة بحياته الخاصة، نجد عديد الاء لة على انجذابه، طوال حياته، الى اشكال متنوعة من الثقافة "الهابطة ": المسلسلات الهزلية (كريزي كات، مت أند جف)، ولغة الشارع العامية، والميلودراما، والفودفيل، وقصص الصحف المثيرة (بخاصة منها قصص الجرائم) وموسيقي شارع برودوي وزقاق تن بان، والكوميديات الفاجرة لإرني لو تنجا. وتهزأ اهتمامات اليوت هذه بالمفهومات المسبقة التي تتول انه ازدرى الثقافة الشعبية المعاصرة. وهبها، يسب على اصحاب تلك المفهومات تسبقة ان اليوت كتب قصائد غير محتشمة تحمل عناوين من مثل:،«اغنية الى لويز المنتفخة » و" خراء» وانه كان يشرب كثيرا، ويشارك في مسابقات لحل الكلمات المتقاطعة، وشاهد أفلام "الاخوة ماركس" كلها، وارسل رسائل اعجاب الى جروشو. اذن، ولو افزنا بالاعتبار هذه النشاطات التي استهوت إليوت، فسيكون مفاجئا ان تلعب الثقافة الشعبية دورا سلبيا فيحياته.

وابدي إليوت حماسة دائبة لقصص التحري، فاهتم بآرثر كونان دويل وجورج سمنون وريموند شاندلر. وفي مقالة تحمل عنوان «ولكي كولتر ودكتر" كتبها منة 1927 يربط إليوت هذا الضرب من القصص- الذي كان كولتر احد من مؤسسيه المعترف بهم - بالميلودراما. واثناء هذا الربط يرسم خطوطا ما يرده مشكلة عصية تواجه الفن المعاصر، ويقترح ان يتطلع الكتاب «الجادون " الى الثقافة الشعبية ليستمدوا منها حلا. وحين يلحظ انصرام «عهد الميلودراما الذهبي" يصف الانفصال بين «الرفيع " و"الشعبي" بانه نوع من الستار الحديدي الذي رفع مؤخرا فقط ليفصل الفنون بعضها عن بعض، ويكتب: «يدرن اولئك الذين عاشوا قبل اختراع تعابير من مثل «القصص الهابط " و«قصص الاثارة " و"قصص التحري" ان الميلودراما معمرة، وان التماسها معمر لابد من ارضائه ". ولأن فجوة حفرت الآن، تطور القصص «الهابط" الذي نمدا باستمرار مستقلا عن اي نبض شعبي، الى أدب لا آثارة فيه، يكتب إليوت:

«لم يوجد في العصر الذهبي للقصص الميلودرامي مثل ذاك التمييز. كانت افضل الروايات مثيرة، اما التمييز بين هذا الضرب او ذاك من روايات اليوم «السايكولوجية " او بين هذا الضرب او ذاك من روايات اليوم «البوليسية"، فهو اكثر من التمييز آنذاك بين الضرب الذي تمثله رواية «مرتفعات وذرنج" او حتى رواية "طاحون على نهر فلوس »، وبين الضرب الذي تمثله رواية «لين الشرقية ".

ويتمثل الخطر الاساس من هذا الوضع في اتساع الفجوة التي يجلبها معه الادب الواعي بذاته حين يغدو منعزلا اقل اثارة، ويتنبأ إليوت «ان لم تحصل على الرضا مما يقدمه الناشرون أدبا، فسوف تقرأ ما نسميه «روايات مثيرة"، بأقل وأقل من التطاهر بالكتمان. واذا كان على هذا الانقسام الكبير ان ينقضي، فسيكون ضروريا: «اعادة تجميع العناصر التي تفككت في الرواية الحديثة ". ولدى اليوت، لا يمثل النزاع بين الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة اكثر من تفكك عميق للحساسية، او للترابط العام بين الفكر والشعور. وفي ظل هذه الظروف، أضحت الروايات الشعبية المثيرة اكثر اتقانا. بيد ان اليوت يتحدث الى الكتاب «الادباء" الذين يلومهم لأنهم غدوا الآن «اكثر وعيا بفنهم " فيقول: " نحن لا نستطيع نسيان المطلب الاول - غير الصعب - لأي شعر او نثر في ان يكون مثيرا«. فالأدب "في هذه الايام - اكثر من اية ايام أخرى" بليد، واذا أمسى بليدا فمصيره الفشل."

وتوضع مقالة «ولكي كولنز ودكنز" موقفا نقديا مهما اتخذه إليوت وأصر عليه - في الاقل طوال العشرينات. فقد حذر، وهو يبدي تشاؤما من الطبقة المثقفة، من ان المرء لا يستطيع ضمان بقاء الشعر والفنون الجميلة في مجتمع يجد ترفيهه في مكان آخر. اما رده على هذا الواقع فتمثل بالسعي الى اعادة تجميع عناصر الأدب التي تفوقت، وتحديدا بالدعوة الى شكل او ضرب جديد يكون فيه مثل ذاك الصلح ممكنا.

ففي قراءة له لشعر ماريان مور، كتبها سنة 1923، يجادل إليوت بأن الثقافة الشعبية والفنون الجميلة مشروع واحد في الجوهر، رغم ان التعابير التي يناقشانها تخلق انقسامات مزعجة. وفي هذه القراءة يخطى، إليوت مقدمة جلنوي وسكوت لكتاب مور «الزواج " لانها تقيم تمييزا مفتعلا غير مهم بين الفن «البروليتاري" والفن «الارستقراطي". ويحذر من ان هذا التمييز يؤدي الى «نتأئج خطيرة ". ويقول ان هذا التمييز يفقر الاول ويقتل الثاني، ومن ثم يهاجم ما اوحي به وسكوت من ان الثقافة الشعبية تحط من قدر الفن الرفيع، ويقول: على العكس من ذلك، يجب ان تجد الفنون كلها جذورها فيما هو شعبي كي تغدو ممالحة. ويجادل: «الفن الرفيع مصفاة للفن الشعبي وليس نقيضه". وبأشكال متنوعة، يعتبر مبدأ «التصفية " هذا مبدأ مركزيا في مفهوم الجمال عنده، فنداءاته لاعادة استكشاف أمس الفن البدائي نراها دائما مقترنة باصرار على وجوب ان يفعل الفنان الحديث اكثر من مجرد اعادة ابداع الاسلوب البدائي. وبالمثل يجب على أي دراما شعرية جديدة ان تنمو من الاشكال الشعبية والكوميديات الموسيقية، لا ان تظل مجرد تكرار لها. وينطبق هذا المفهوم على اللغة الشعرية: فعل الشاعر «تصفية بدائية القبيلة " بالاعتماد على التعابير الشعبية. ويمدح اليوت مور، لا لأنها تتملص من خليط المجتمع الامريكي اللغوي العامي، بل انها تخلق منه بيانا شعريا. فدارج مور «تصفية لهزل... ذاك الكلام الذي يميز اللغة الامريكية، ذاك الهزل غير السهل، الواعي بذاته، والمقدس الذي يلهم ليس رطانة المختبرات اللغوية فحسب، بل وعامية الاشرطة السينمائية الكوميدية، ويجادل اليوت بأن الفن المعاصر لا يستطيع رؤية نفسه وقد غدا مناقضا للثقافة الشعبية، فحري بالفنون الجميلة ان تتواصل الفنون الشعبية، وهكذا يؤكد على زيف التجزيء الذي تنفصل على اساسه الضر وب الادبية عن فروعها. وعلى سبيل المثال، يكتب إليوت: «ان الحدود بين الدراما والميلودراما غير واضحة ". و"ان التمييز بين الصحافة والادب مصيره الفشل، ومهمة الفنان ان ينتح ليس فنا نخبويا، او فنا غير موبوء، بل حري به ان يغير الاشكال الشعبية فنيا".

ويوفر اهتمام إليوت بالبدائي بعدا اضافيا لهذه الحاجة، ان فرضت عليه قراءاته في الانثروبولوجيا الاقتناع بأن الفن لم ينشأ لاسباب جمالية غرضها المتعة، فبالأصل لم تكن الفنون مستقلة وطيفيا او منفصلة بعضها عن بعض، ولم يكن بالامكان فصل الشعر والسرد عن الموسيقى والرقص، عن الطقوس والدين، عن الجسدي والجنسي، فلم يكن الفن خاصا بل عاما، وكان نشاطا جماعيا شاركت فيه القبيلة كلها، والادب، كما ورثته الحضارة، اثر من آثار هذه الثقافة التابعة المدمجة. وهكذا تتعاشق دروس الانثروبولوجيا معا.

عند أية نقطة اصبحت محاولة تصميم موضوع من اجل الجمال وابداعه محاولة واعية ؟ وعند أية نقطة في الحضارة ظهر التمييز الواعي بضرورة التفريق بين ما هو غرض عملي او سحري، وما هو غرض جمالي ؟ من المؤكد ان مثل هذه النقلة لابد لها وان تكون دلالة على تغير في العقل البشري له اهمية جوهرية. وهنا يبرز سؤال لابد وان نسأله:. أيمكن للفنان، هذا المبدع لموضوعات جمالية ادبية، ان يستمر الى ما لا نهاية دون اغراضه البدائية، او بعبارة أخرى: أيمكن للموضوع الجمالي ان يكون موضوعا لافتا مباشرة ؟

والمعنى هنا، كما رأيناه في «ولكي كولنز ودكنز"، هو: من المستبعد ان يدوم الفن في اشكاله الواهنة وفي وظائفه المنوطة به الآن، وافضل مثال على ذلك هو الموضوع الذي رفع الى مقام الايقونة الجمالية.

وترتبط علاقة إليوت بالثقافة الشعبية ارتباطا وثيقا بالسياسة الطبقية، وبخاصة بالتناقض الحداثي مع الطبقة الوسطى، وتتذمر مقالته التي كتبها سنة 1922 المعنونة «رسالة لندن " من ان «الغوغاء المحترمة "، غوغاء الطبقة الوسطى المهذبة، قد استولت على الثقافة الرفيعة وحولتها الى قطعة متحفية تنفر «من المغامرة والتجريب ". وفي حرب اليوت على هذا الاستيلاء السافر يعتبر فنون الطبقة الدنيا خير حليف. وفي نهاية المقالة يجد إليوت منقذا في الشعر الانجليزي والشعر الامريكي الذي يسمعه في قاعات الموسيقى. وتظهر الاستراتيجية نفسها في مقالة «مريام مور"، اذ يصف إليوت «الفن البروليتاري والفن الارستقراطي" بأنهما حليفان، و«فن الطبقة الوسطى" بانه ظاهرة منفصلة تسود بوساطة "افكار خادعة وعواطف مزيفة، وحتى بوساطة شاعر مخادع ". ولا تتلخص المشكلة من وجهة نظر إليوت في كيفية تعزيز الفن، بل في كيفية سحب الفن بعيدا عن «الغوغاء المحترمة " لتوحيده مرة أخرى مع «الشعب ".

وخلال العشرينات كانت قاعة الموسيقى موقع إليوت الرئسيي الذي وجد فيه صلته بالثقافة الشعبية، ففي هارفور حضر باستمرار حفلات الفودفيل. وكان يصحبه اليها دائما كونراد اكتر، وفي لندن واظب مع وندام لويس على مظاهرة قاعات الموسيقى. وتمتع إليوت بالاغاني الشعبية التي كان يسمعها في قاعات الموسيقى، وظل يملك ذاكرة رحبة لما سمعه منها، وأعاد تمثيل بعض الادوار الكوميدية التي شاهدها في تلك القاعات امام اصدقائه، وتشير مقالته الى العروض المفضلة لديه، وهي عروض: تيلور والاس، جورج جريفز، لوينو لين، روبرت هيل، لتل تك، ايرني لوتنجا، وجورج روبي- وهذه قائمة تشمل تنوعا واسعا من الاساليب. ويعتبر تكريم إليوت للكوميدية الراحلة ماري لويد الذي كتبه سنة 1922 من اكثر عتالاته اثارة للمشاعر وكشفا للشخصي في ذاته، اذ وصف لويد بأنها «أعظم فناني قاعات الموسيقى في عصرها في بريطانيا"، وينسب اليها شرف تمثيل "ذاك الجزء من الامة البريطانية الذي تمتع بأكثر ما يمكن من الحيوية والاثارة ". ويقول ان فوادتها كامنة في «قدرتها على التعبير عن روح الشعب » و«اضفاء السعادة عليه"، أما «تعاطفها» مع الجماهير فيمنحها منه كل التناء، وفي هذا التكريم، كما في مقالة كتبها سنة 1921، عنوانها «الانسان البريطاني وروح الكوميديا ووظيفة النقد" يبدي إليوت تعاطفا مع جمهور الطبقة العاملة "المثالي ". ويبدو واضحا فيها ان انجذابه الى قاعات الموسيقى نابع من خبرته بأهمية الشعور المشترك الذي يشعر به المشاهدون طوال مدة العرض، فقاعة الموسيقى موقع فريد تقوم فيه المشاعر الجماعية بتهدئة اغترابه الحداثي.

ويتمثل العصر الاساسي لبنية قاعة الموسيقى عند اليوت بمشاركة الجمهور- وهذا تعارض صارخ مع سلبية الطبقة الوسطى تجاه "الفن "، في فـ"رجل الطبقة العاملة الذي يذهب الى قاعة الموسيقى ويشارك الكورس، يكون هو نفسه مؤديا لجزء من المشهد". ويوضح اليوت الامر فيقول: «كان ذاك الرجل متعاونا مع الفنان، وذاك امر ضروري لكل فن، وبخاصة للفن الدرامي". ويقبع خلف مثل هذه الاقوال التي يطلقها اليوت نموذجه عن المجتمع البدائي الذي كان فيه الفن نشاطا عاما مشتركا، وهكذا، تصبح قاعة الموسيقى «مكانا لطقس انجليزي قبلي ".

ويعتقد اليوت ان المشاركة في مثل ذاك الطقس تولد تضامنا جماعيا في المجتمع القبلي،. وحسبما يقول دور كهايم: يسمح الطقس عند اليوت "لاعضاء القبيلة بمشاطرة بيئة طبيعية واحدة يستثنى منها الآخرون ". ويظهر هذا الاستثناء جانبا أخر مهما محيرا في تفكير اليوت. اذ اوضح ديفيد سيسبير- على سبيل المثال. ان انموذج «التكافل القبلي البدائي الرفيع " هذا، يتضمن لا سامية تم التعبير عنها في اعمال من مثل: «في اثر الآلهة الغرباء"، وبالمثل يتضمن عناصر عنصرية جنسوية تقوي الطقس القبلي، وتسمر للانا بنفي الآخر. ويمثل هذا النفي للآخر الجانب المظلم من مثال اليوت. وهو مثال يتحدث عن جماعة عضوية يتحقق وجودها بالممارسة الطقسية الجماعية.

ومما يوضح اضفاء إليوت قيمة كبيرة للمشاركة الجماعية، ارتيابه من وسائل الاعلام الجديدة، مثل الحاكي والسينما التي يتم تلقيها سلبيا بشكل فردي لا جماعي. ومن وجهة نظره، تمثل السينما بخاصة، خطرا على التحالف الثقافي الذي يسعى الى تشكيله، فهو يعلن: «ان موت لويد حدث مهم في التاريخ الانجليزي" يمثل بداية رمزية لنهاية ثقافة الطبقة الدنيا المستقلة التي يريد توحيدها بالفن الرفيع. يقول إليوت:

«ما زالت الطبقة الدنيا باقية، لكنها قد لا تظل موجودة لفترة طويلة، فمع انحطاط قاعات الموسيقى، ومع تعدي السينما عليها، تميل الطبقات الدنيا الى السقوط الى نفس الحالة البروتوبلازمية التي سقطت اليها البورجوازية ".

ولانهم مشاهدون سلبيون «سيقوم المتلقون بعملية الاستقبال دون ان يمنحوا الفن شيئا، وبلامبالاة هي لا مبالاة الطبقتين الوسطى والعليا اللتين لا تعتبران الترفيه من الفن ". وهكذا يكون قصد اليوت من اعادة جمع العناصر الثقافية المتفرقة، ليس انقاذ الثقافة الرفيعة التي تتعرض للخطر فحسب، بل وانقاذ اشكال محددة من الثقافة الشعبية.

وظلت قاعة الموسيقى مهمة لإليوت في اوائل الثلاثينات حينما اعرب عن رغبته في ان «يكون كل شاعر... قادرا على التفكير بان له فائدة اجتماعية ما". ويقول: ان الشاعر يصبو الى «الرضا" عن نفسه، "حينما يرى له دورا مهما في المجتمع يوازي اهمية الممثل في قاعة الموسيقى «:فهو يود ان يكون مرفها بشكل ما". ومنذ بداية عمله، حلم اليوت بلعب هذا الدور الذي تتآلف فيه موهبته بالواقع الاجتماعي في «يستحق التقدير"، وفي هذا الاطار آمل بدراما شعرية. وفي مقالات من مثل: «البلاغة والدراما الشعرية " و«امكانية وجود دراما شعرية "، راعى هذا الضرب قبل اعوام من تطوير هذه الافكار، وعاد الى القيمة نفسها في فترات متقطعة من حياته (راجع مقالاته الآتية:"حوار حول الدراما الشعرية " و«الشعر والدراما" و«وضرورة الدراما الشعرية "). وتنبأ إليوت باستمرار، بأن عبقريته الشعرية ستتجاوز ما صرفت نفسها فيه، وتوقع ان يحول انتباها كليا الى الدراما، وأعد نفسه لذلك التحول مرارا وتكرارا، وحينما لقت «حفل الكوكتيل " نجاحا شعبيا سنة 1949 وسنة 1950 اعتبر نجاحها نصر حياته.

وفي ضوء الموقف الجمالي الذي اقتبسته من مقالات إليوت يغدو مصدر سهولة تعابيره الشعرية واضحا. فلكي يحقق المرء مصالحة مع الثقافة الشعبية في المجتمع الغربي المعاصر، عليه جعل تعابير» عامة وفنه شعبيا. اما قاعة الموسيقى التي تصبح شاعرية (او «مصفاة ") فهي افق اكثر احتمالا، بخاصة ان استطاع المستمعون فيها الانسجام معها:

«اؤمن بأن من الطبيعي ان يفضل الشاعر الكتابة الى جمهور اوسع متنوع بقدر ما يستطيع، كما اؤمن بأن من يعترض طريقا الى هذا الهدف هو نصف المثقف او سييء الثقافة، وليس غير المثقف: فأنا شخصيا افضل مستمعا لا يستطيع القراءة او الكتابة ".

ورغم ذاك، لن يلقى هذا الضرب الذي ارتآه اليوت قبولا من مستمعي الطبقة العاملة الاصليين فحسب، بل ومن كل «شرائح الذوق العام، وهي شرائح تعبر، ربما، عن تفكك المجتمع ". ان الدراما الشعرية المتجذرة في قاعة الموسيقى يمكنها- في الاقل - البدء بلأم الجرح الذي اصاب الحساسية المعاصرة المفككة.

19 - يناير - 2010
ت.س.إليوت والإنقسام الثقافى
الأرض اليباب    كن أول من يقيّم

قد تبدو علاقة اليوت النظرية بالثقافة الشعبية مناقضة لممارسته الفنية. ويبدو ان دفاع الغموض الحداثي عن «الشعراء الميتافيزيقيين " اخذ بالاعتبار المرأيا الاخاذة لشعرية اليوت نفسه، اكثر مما اخذ بالحجة القائلة بوجوب اعادة دمج الثقافة الرفيعة بالفنون الشعبية.

ورغم ذاك، فانني لا اؤمن ان بالامكان تفسير عمل اليوت من خلال المبدأ الاول دون الثاني، اذ يكشف تفحص شعره الحضور الدائم للثقافة الشعبية في سيرورة ابداعه. لكنه تحول، بعد العشرينات، ليكتب الدراما طريقا لجسر الهوة في الانقسام الثقافي. وعند هذه النقطة، كاد اليوت ان يتخل عن كتابة الشعر للسبب نفسه الذي ورد في مقالة «فائدة الشعر وفائدة النقد".. فالشعر وسيط غير كاف للاتصال العام و«لا يمكن لاي شاعر امين ان يطمئن الى القيمة الدائمة لما يكتب ". ولاحظ اليوت: «قد يكون ذاك الشاعر اضاع حياته وخربطها لا لشي ء".

وبعد سنة 1927، غدا هدف اليوت من اعادة التكامل الثقافي غير منفصل عن هدفه من اعادة التكامل بين الكنيسة والحياة البريطانية، وعلى سبيل المثال، يمزج اليوت في «الصخرة " عناصر قاعة الموسيقى بتعظيمه للتاريخ الديني. وتمتاز «الصخرة " بأن ثلاثا من شخصياتها الرئيسية هم من عمال الطوب في "كوفني" افتر احياء لندن. وفورمان هؤلاء الثلاثة رجل يدعى بيرل، وهو ذكي علم نفسه بنفسه، اما الآخران، الفرد وادوين، فيجيدان الاستماع، ومستعدان للتعلم، ويشير عنصر هذه المسرحية الكوميدي الى قاعة الموسيقى مباشرة: فعلى سبيل المثال، يوضح الفرد كيف ان مهرج المحكمة «رجل على بركته، يقوم بدور المضحك ". يجيب ادوين: تماما، مثل جورج روبي". ويهجو اليوت ذوي القمصان السوداء الفاشيين لانهم: «ادخلوا مجموعة منهم في التشكيلات العسكرية " ولانهم يطنون وهم يتسكعون (بشعر يعتمد تفعيلة الدكتيل):

"أتينا هبة وبركة

رغم اننا نفضل الظهورفي البرت.

جئنا بطرق جديدة الى بلاد الاحرار هذه،

فنحن نجعل الاصم يسمع والاعمى يبصر،

ونحن من يحافظ على القانون

ويشرع قانونه الخاص،

نرحب بالدين يريدون الالتحاق بالقضية

وبمن يجمعون الصفائح",

وعندما تقترب المسرحية من نهايتها، يغني بيرت اغنية ثنائية مع زوجه. وتعتبر «الصخرة " عينة من الفن الجماهيري الذي امل اليوت بانتاجه، ورغم ذاك، وبعد ان كتب «الصخرة " في مطلع سنة4 193، و«جريمة في الكاتدرائية " خلال الاثني عشر شهرا اللاحقة، كان مشروعه الاساسي (القصيدة التي كتبها خلال خمسة اعو ام) هو قصيدة «بيروت نورتون " التي بالكاد يمكن القول انها موجهة الى «متلقين مخلفين كثيرين ". ومن ثم تعاملت المسرحيات مع الفن الجماعي او الطقسي: فالقصائد المتأخرة " صعبة «بقدر ما يتطلب العصر الذي تتحدث عنه ذلك.

اضافة الى ذلك، ففيما يعتبره اليوت اول حركة رئيس لشعره- الفترة التي تنتهي بقصيدة «الخاوون " وتحوله الى الانجيلية - كانت الثقافة الشعبية مهمة باعتبارها موضوعا ولانها مؤثرة. وعكس البديهي السائد، وجدت في نقد اليوت لهذه المرحلة ان شعره المبكر يعكس ازدواجية عميقة. ففي صراع دائب مع اليوت الذي انجذب الى اشكال شعبية عديدة نجد التقليدي شديد الحماسة لتقليديته الذي ألفه القراء، وليس هذا التقليدي الا إليوت الذي توقع انتصار الساكسفون وتنبأ بمستقبل بربري وغنى اغنية شعبية فاجرة امام احد اصدقائه، لينكر لاحقا انه سمع بها. ولكن إليوت النخبوي هذا هو وحده الذي كان باستطاعته كتابة شعر اليوت الذي ما كان ليصدر الا نتيجة صراع يعتمل في داخله.

ففي «صورة سيدة "- على سبيل المثال - يعبر هذا الصراع عن نفسه في اغتراب المتحدث عن أنواع الثقافة كلها. ويختفي خلف المواجهة بين الراوي والسيدة صراع بين ثقافة رفيعة متهاوية وبديل حديث غير مقنع. وفي هذا الاطار، تشكل الموسيقى ارضية المعركة التي تجري فوقها المناوشة. وفي بداية المعركة نجد السيدة الجيمسية والسيد المتأنق جدا وقد عادا لتوهما من تدريب على موسيقى شوبان الذي تعلق عليه السيدة بكليشيه سائدة ويعلق عليه السيد ساخرا (فليس عازف البيانو الا "آخر بولندي" في سلسلة طويلة من العازفين السلاف حاسري الرؤوس) وبالمثل تتجسد رومانسية السيدة البالية بعبارات موسيقية:

"وهكذا ينساب الحديث

بين رق ورق

فيعبر بدقة عن أسف

يتخلل ألحان الكمان

ويمتزج بصوت بوق بعيد

ويبدأ..."

وليست هذه الموسيقى "الواهنة " الا تعتبرا عن ثقافة بائدة في عالم تلك السيدة.

ويسأل الراوي اذا كان شوبان عالمها، فما عالمه؟واذا كانت الثقافة الرفيعة القديمة غير كافية،فهل في الثقافة الحديثة كفاية؟ لا تجد القصيدة جوابا واحدا عن هذين السؤالين،لكنها تقترح اجوبة جزئية عديدة لهما:

" بين تموجات الكمان

وانغام البوق المحطمة

تبدأ في دماغي دقات بلهاء

تشبح عبثا مقدمتها

بمجرد نزوة لحن مفرد رتيب

او - في الاقل - بملاحظة خاطئة أكيدة".

إذن،فالحديث يشمل،من بين أشياء أخرى البدائي - دقات قادرة على ازعاج عالم السيدة المنظم بكل تفاصيله الى حد الهوس.لكن البدائي يلعب عنا دورا مدمرا فقط.وبيدو أن هذه البدائي المزعج غير النفيد لا يمنح أسس العقب الحديث لثقافة السيدة المتفسخة،رغم ذاك،تتحدث عبارة في مقطع القصيدة الثاني عن هذه

المشكلة:

"ألحظ بخاصة

ان كونتيسة انجليزية خشبة المسرح،.

وان يونانيا يقتل اثناء رقصة بولندية

وأن مدينا لبنك قد اعترف".

ويتمتع الفن الحديث بثقافة جماهيرية تسنده، بما في ذاك تلك الثقافة التي يحبذها إليوت لتجزئة وقته، منة الاشرطة الكوميدية والدراما والملاكمة (في

«صفحة الرياضة " في الصحيفة) وقصص الجريمة المثيرة. ولكن، تظهر في الثقافة الجماهيرية الفجاجة والمادية والغرباء المزعجون. ويجد الراوي ان الصحافة المثيرة تلهي المرء إلى درجة أنه يقرؤها يوميا،. لكنه لا يشعر بالراحة في عالمها:

"أحتفظ برزانتي دئما

وأظل متماسكا

ألا اذا سمعت عازف البيانو

يردد في الشارع

تعبا ويشكل ميكانيكي

قرب الحديقة التي تفوح منها

رائحة احجار السفير الكريمة،

اغنية قديمة

لا تذكر الناس إلا بما

رغب الاخرون به ".

إذن يحرك لحن شعبي الراوي، في حين أن شوبان فشل في ذلك، وذكره بأنه

مهما تمتع بالكوميديات لن يكون واحدا من الجماهير. ويظل الراوي محبوسا بين عالمين الى نهاية القصيدة. فبينما تبقى السيدة مؤمنة بمعتقداتها وكليشاتها وحفلات شايها، يبقى الراوي الذي نجا منها في الظلمة. وهنا، نجد ان الثقافة الرفيعة المتدهورة والثقافة الجماهيرية الصاعدة تتنافران حتى الموت، بينما يظل إليوت او راويته، مغتربا عن كليهما.

وتمثل «الارض اليباب " حالا أكثر تعقيدا- جزئيا لان القصيدة التي كتبها

إليوت تختلف عن تلك التي نشرها الى حد كبير. فقد كان يمكن لـ«الارض اليباب " أن تكون نصا حداثيا للثقافة الشعبية لو أن عزرا باوند لم يحذف منها كل مرجعية للثقافة الشعبية. فعلما أن باوند، مثله مثل إليوت، هاجم بشدة «الفكرة الضارة القائلة بأن أي كتاب جيد لابد وان يكون بالضرورة كتابا مملا" الا انه لم يحمل الثقافة الشعبية المعاصرة على محمل الجد باعتبارها ترياقا محتملا يسعف الأدب من ملالته. وبكل بساطة، جعل تحرير باوند القصيدة باوندية: فقد هدم منها كل مستوى من مستويات دعواها الثقافية، بينما ترك فيها راسخا بعديها الاممي والتاريخي، معيدا سبكها لتكون اول هجوم مضاد رئيسي لموقف الثقافة الرفيعة الاخير. ومن المؤكد أن تعديلات باوند كلها قد حسنت القصيدة، ووافق إليوت على توصيات «الصانع الماهره" جميعها تقريبا، ورغم ذلك، ضاع جزء من نبض إليوت الاصلي في «الأرض اليباب " لأن علاقة باوند بالانقسام الثقافي تخلف عن علاقة إليوت به. ولو ان إليوت حسن من قصيدته في ضوء توصيات باوند بدلا من حذف العبارات التي أدانها لمنح عجلة الحداثة الأدبية دورة مختلفة.

يظهر مخطط «الأرض اليباب " إليوت وهو يؤسسها على اغنية شعبية أكثر مما يؤسسها على اسطورة جريل كما ظهرت في النهاية. ذلك ان المقطع الطويل الذي كان يحب أن تفتح به القصيدة أخذ بالاعتبار عدة ألحان شعبية مستقاة من التمثيليات الموسيقية، يقتطف إليوت من عرض موسيقي لجورج. ام. كوهان العبارة الآتية: "افتخر بكل نقطة دم ايرلندية تجري في عروقي / إذ لا يوجد شخص يستطيع قول أية كلمة ضدي"؟ ويشكل من اغنيتين شعبيتين تراثيتين المقطع الآتي «قابليني تحت ظل البطيحة او الكرمة/ يا إيقا، ايفا، أوفا"؛ ومن كبانولا جلايد يأخذ "ضايق، اهصر أحب، تودد / قل لي يا صبي ما تفعل ". ومن ثم تجر فورة ليلية الشخصيات الى بار اعتاد إليوت ارتياده بعد مشاهدة ميلودراما في مدينة بوسطن. وفي البار نسمع:

"جلسوا في البار بعد الاوبرا،

خلطوا الجن بالماء،

لعبوا لعبة الفلينة،

وغنى السيد في اغنية خادمة الطاحون".

تعقيبا على تقنية التشكيلة المتنوعة من المقتطفات المتعارضة المأخوذة من التراث هذه، يقترح مايكل نورث وجود علاقة مباشرة بينها وبين شكل «الأرض اليباب " نفسه. وقد يضيف المرء وجود علاقة مباشرة بين القصيدة ومزايد قاعة الموسيقى الانجليزية التي تحدثنا عنها سابقا. هذا ما بدا في مسودة «الارض اليباب "، وظلت الاشارات الى الأغاني الشعبية فيها مكسوفة بأوهام «العليم " التي سيطرت على القصيدة. وعلى سبيل المثال، وحسبما يقول جرجوري جي: لأن المقطع الافتتاحي الأصلي من القصيدة حذف، وضعها السطر الأول في اطار تقليد الشعر الانجليزي العظيم. لقد شكلت قصيدة طويلة تسمى «الأرض اليباب » وتبدأ بالسطر الآتي «نيسان أقسى الشهور" مجرى الأدب والنقد الادبي لسنوات لاحقة. ولا يستطيع المرء إلا تخيل أثر قصيدة تسمى "إنه يقلد الشرطة بأصوات مختلفة " وتبدأ بالسطر الآتي «في البداية احتسينا كأسين من المرطبات في بيت توم ".

وكما يحاجج جرجوري جي: يبرز هذا المقطع الافتتاحي ميل إليوت الى «تقليد اصوات الطبقة العاملة... الامر الذي يعني احتراما لحيرات الناس العاديين ومشاعرهم، لكن هذا الاحترام مفسد" بما يشبه القرف من الوجود المادي، من العالم الموضوعي الذي يعني الطبقات الدنيا. ويمكن ابداء الملاحظة نفسها عن «الراية الشكسبيرية " التي يقتبسها إليوت في «لعبة شطرنج". فالتلميح يشير هنا بسخرية الى الدرجة التي انحدرت الثقافة اليها بعد عصر شكسبير، ورغم ذلك، ومن منظور القارىء، يأتي ورود هذا التلميح وسط أكثر مقاطع «الارض اليباب " إيلاما، ليسعف القارىء. وفي «موعظة النار" كعب الاغنية الشعبية الاسترالية التي تفنيها السيدة بورتي دورا مشابها، بأنه حياة في مقطع مظلم عن الانحطاط الثقافي. وفي الاطار نفسه، يبدو عدم التوقير الساخر في الحديث عن «الراية الشكسبيرية " موازنا- في الاقل - لانعدام الثقافة. وطبعا، من المستحيل القول إن كان إليوت قد استمتع بالاغنية او اشمأز منها، لكنها ظلت معه تراوده عشرة أعوام الى ان اختفت من القصيدة.

ومرارا وتكرارا. تطفو الى سطح «الأرض اليباب " المسائل الطبقية التي شغلت بال إليوت وهو يخطط لمعالجة الانقسام الثقافي. وحسب ماري لويد، يشبه الملل المميت الذي سيتبع تحلل ثقافة الطبقة الدنيا الى «بروتوبلازما بورجوازية " حاكي طابعة يلازمها موضوعيا فيخدرها ميكانيكيا ويساعدها حتى في ممارستها للحب وفي أمور عاطفية ميكانيكية أخرى". لكن لوحة الطابعة ولوحة الحاكي العقيمتين تنحلان الى بعضهما بعضا في لحظة سكينة نادرة من لحظات القصيدة، وهي سكينة يزودنا بها، مرة أخرى، شكل من أشكال الثقافة الشعبية يجد فيه إليوت حيوية دائمة:

"مدينة يامدينة، أكاد أسمع أحيانا

جوار حانة في آخر شاع التيمز

انين ماندولين شجي

وجلبة وثرثرة من الداخل

حيث يهجع اسماوكون في الظهيرة..."

فمثل الاغنية الشعبية التي رأيناها تعزف على بيانو الشارع في «صورة سيدة "، يمكن اختبار مشهد زمالة الطبقة العاملة هذا عن بعد فقط، فالمتحدث لا يستطيع المشاركة في «الجلبة " و«الثرثرة »، ولكن يبدو أن الماندولين وبيانو الشارع يمثلان نوعين من الفن يحتفظان بتأثيرهما في عالم الطبقة الوسطى الذي يفقد فيه الفن قدرته على تحريك العطافة أكثر فأكثر.

وتتاخم الثيمات التي مازالت موجودة في النسخة المنشورة من «الأرض اليباب " نسخة المخطط الذي رسمه إليوت لها. وعلى سبيل المثال، تواصل أغنية «بنات التيمز" السير على نفس المسار الذي رسمه لـ«موعظة النار». فبعد ان يترك القراء السماكين والماندولين خلفهم، يدخلون عالما جافا تنسب فيه أول بنات التيمز الى البورجوازية بوضوح:

"هايبري أضحرتني، أطفال هايبري

لعبوا أسفل الاشجار في المنتزه المغبر.

كان أهلي متواضعين محافظين

كما لم يكن الاغنياء ولا الطبقة العاملة.

كان لأبي عمل صغير، في مكان ما من المدينة،

عمل صغير،عمل مقلق، يوفر لنا فقط،

منزلا في هايبري، وثلاثة أسابيع في بوجنر".

ويكرس مطلع «موعظة النار" غير المقصوص لفرسكا البورجوازية المتغطرسة، وهي مضيفة صالون وأديبة هاوية، يهاجمها إليوت بشدة في سلسلة طويلة من الكوبليهات الهجائية. في «عواطف فرسكا الزائفة، وشهيتها الحقيقية " رجع صدى لما تقوله مريان مور عن: «الافكار المرائية، والعواطف المرائية، وحتى الاحاسيس المرائية " التي تميز فن الطبقة الوسطى وباليهات الكان كان (رقصة نسائية) والسينمات. لكن الصوت الشعبي يحتل خشبة المسرح في السرد الطويل الذي محي من «الموت بالماء " المليء بصور بحارة أصليين، وهنا نلاحظ أن تعاطف إليوت مع البحارة البائسين يناقض ازدراءه لفرسكا، ومرة أخرى يأخذ الانقسام الثقافي الذي يدينه شكل الصراع الطبقي وفي «سويني أجونستي "، مشروع اليوت التالي لـ«الارض اليباب " نراه يبتعد، لأول مرة، عن الشعر وسيطا خاصا، ويحاول واعيا الوصول الى جمهور متلقين واسع، باستعمال أشكال عامية. فـ «سويني" التي تعتمد قاعة الموسيقى وموسيقى الجاز عناصر لها، تطمح بالوصول الى «شروط الطقس" باعتباره عملا ثقافيا شعبيا مصفى. فمن قاعة الموسيقى تستمد عناصرها الفودفيلية، واغانيها الساخرة، وحوارها السريع، وشخصياتها المزدوجة التي تقفز عادة الى قلب الحدث لتقدم نمرا موسيقية، وثرثراتها الايقاعية التي يقفز فيها سطر بشكل كوميدي بين كلام متحدثين، ويشبه المشهد الذي يضم كلبستين وكرمباكر ويعقب نهاية التمهيد روتين كوميدي يتواتر فيه التنابز بالالقاب المضحكة("Kip and Krup") والاعترافات المتبادلة (حيث يجيب كل رجل عن الأسئلة الموجهة الى الآخر) والاسفاف المتكرر («هل نحب لندن ؟ هل نحب لندن ؟ هل نحب لندن ؟ ما وأيل يا كب ؟"). بأخذ إليوت هذا الاسلوب من الكوميديا الفجة ليبني به حوارا خرافيا.

وحوار إليوت هنا طافح بالعامية التي يستورد معظمها من العبارات والكلمات الامريكية، فمن العبارات يأخذ ”"you said it and all rightومن الكلمات swell, slick, gotta,gona,joint, pinched, ومن التحريفات اللغوية العامية يستورد whal yiuo going to do" 'l seen that' and 'that don,t apply". وقد نشرت المقاطع التي شكلت في آخر الامر «سويني»، لأول مرة، في Critarion تحت عنوان Wanna go home,Bab ويعتبر العرض الغنائي الموسيقي- وهو شكل مسرحي محبوب ساد في انجلترا وامريكا منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر الى القرن العشرين - مكونا آخر من مكونات "سويني"، فمن العرض المسمى «الأسمر والثلج " يفترض أن إليوت أخذ دوري تامبو وبونز، ومن العرض المسمى «تحت شجرة البامبو" أخذ «اغنية الزنجي التي كتبها بالاشتراك مع جيمس ولدون جونسون. أما قصص الجريمة التي تمتع إليوت بقراءتها في صحف الاثارة فقد بعثت الى الحياة في حديث سويني الغريب عن «الرجل الذي أدخل الفتيات الى بيته ".

ولأن إليوت لم يناقش موسيقى الجاز في نقده مثلما فعل مع قصص التحري وكوميديا قاعة الموسيقى، نمات المعرفة بخبرته بالجاز محدودة جدا. لقد هاجر إليوت (من الولايات المتحدة الامريكية الى انجلترا) سنة 14 19- وهذا وقت مبكر جدا جعل الفرصة تفوته لمعايشة نشأة الجاز في امريكا، لكنه وقت متأخر جدا جعله يعرف الموسيقى الأمريكية بكل تفرعاتها باعتبارها جزءا من الثقافة الامريكية. فمدينة سانت لويس التي ولد فيها إليوت مدينة معترف بأنها موطن الموسيقى الأساس في العقد الاول من حياة اليوت. ولأنه داوم على حضور حفلات قاعات الموسيقى الانجليزية طوال العشرينيات، بل وما قبل ذلك، فلابد وأنه واكب الجاز وهي تتطور. وطوال هذه الفترة، وبخاصة منذ سنة 1919، فصاعدا قام الموسيقيون الامريكيون الافارقة الذين مارسوا الموسيقى على اسلوب نيو أورلينز (الولاية الأمريكية التي تقع فيها مدينة سانت لويس) بتقديم عروضهم في قاعات الموسيقى الانجليزية.

وعلما أن «سويني" تخلو من اي ذكر للجاز، الا ان عديد عناصر المسرحية العامية، السخرية، البدائية، الادوار التي تلعبها النساء المشبوهات، الجو الاحتفالي - تعني ان الجاز- باعتبارها ليس مجرد موسيقى فقط، بل ظاهرة ثقافية عامة - قدمت للمتلقي المعاصر. وتقنيا، ايضا تعيد المسرحية خلق عنصري السرعة والزخم اللذين اعتبرهما مستمعو العشرينات المزايد الابرز للجاز. ويخلق وزن المسرحية اربع نبرات ضمنية في كل سطر شعري، وحين أقول ضمنية اعني ان اية واحدة منها يمكن ان تستبدل بالاخري او بفترات صمت فاصلة، رغم الاحساس بها. وتنفصل هذه الايقاعات الهادئة عن بعضها بعضا بمقاطع لفظية ضعيفة. ويقوم الترقب الايقاعي القوي الأعوم بالتكرار والقافية بقصر كل نصف سطر شعري على ما هو- تقريبا- الفترة الزمنية الفاصلة نفسها:

"دستي: وماذا عن بريرا؟

دوريس: ماذا عن بريرا؟

الامر لا يعنيني.

دستي:لايعنيك!

فمن يدفع الايجار اذن؟

دوريس: نعم، انه يدفع الإيجار.

دستي: حسنا، بعض الرجال لا يدفعون، وبعضهم يدفعون

بعضهم لا يدفعون وانت تعرفينهم ".

ويشير النمط الذي تؤسسه الاسئلة الأولى عن بريرا- وهي في المقيتة السطور الاول من المسرحية - الى ان توقفا قصيرا يتبع كل شطر من الحوار التالي. («الامر لا يعنيني... لا يعنيك !"). كما يشير الى ان «نعم " دوريس تسبق النبر. وهكذا يخلق اسلوب اليوت الذي يعتمد النبرات المتصاعدة بقوة ومن ثم المقاطع الوسيطة الضعيفة، يخلق الزخم الذي يميز الجاز.

كثيرا ما ينظر الى عناصر «سويني" الشعبية على انها تعبير عن الرؤية العدمية التي تميز الحياة المعاصرة. ويقول المحاججون ان اليوت يستثمر الجاز وأشكالا ثقافية شعبية أخرى ليكشف خواءها فقط - بكلمات أخرى، ليكشف فراغ التحديث الثقافي الروحي. في ضوء تأرجح إليوت الذي طالما أشرت اليه، قد لا يجد المرء سببا ليشك في صلاحية ما يقوله المحاججون جزئيا. ورغم ذلك، يوجد رأي بديل لوجهة النظر هذه وان لم يخالفها كليا. ويلخص هذا الرأي البديل بالقول: قصد إليوت أن تكون "سويني" ترويحا بمضمون إليوتي، فعناصرها الشعبية ليست سوى وسيلة يتم بواسطتها نقل رؤية إليوت المروعة الى «متلقين كثر متنوعين ». فإليوت يستعمل هذه الاستراتيجية أيضا في مسرحياته اللاحقة، حيث تتجسد فيها أفكاره اللاهوتية على شكل ما يسمى بكوميديا المرسم. فعناصر «سويني" الشعبية، مثلها مثل عناصر «الأرض اليباب "، يتم التعامل معها بود واضح الى درجة لا يمكن معها القول ان إليوت كان يستثمرها ليسقطها.

على العكس من ذلك، تعني مقالات «الانجليزي الرومانسي " و«ماري لويد" و"ماريان مور» ومحاولة إليوت كتابة «مسرحية جاز"، أن «سويني" قد كتبت لتدشن مهمة اليوت العامة الجديدة. ففي شهر ايلول سنة1924 ، كما يقول أكرويد، أخبر إليوت أرنولد بينيت أنه "تخللا بكل تأكيد" عن الشعر غير الدرامي. ولكن اتحاد الكتاب - كما يبدو- اعتبر «سويني" خروجا عن الخط، مما أوقع إليوت في حال من التشاؤم قوية، ودعاه للعودة والتركيز على متوالية غنائية عرفت فيما بعد باسم «الخاوون ". وطبعا، من الصعب القول كيف كان «المتلقي الذي ´لا يكتب ولا يقرأ" سينظر الى «سويني" بأسلوبها ووجهة نظرها السلبية من العالم، لو أنها عرضت. لكن جهود إليوت للعثور على شكل فني جديد في الثقافة الشعبية كانت جهودا أصيلة حقيقية.

أكثر من ذلك،. لم تكن مساهمة الجاز البنيوية الأساس في «سويني" مساهمة شاذة: فمن الواضح ان إليوت ترك فيها أثرا نفذ الى شعره قبل مدة طويلة منها. وتوضح دفاتر إليوت المبكرة، غير المنشورة الى الآن، أهمية الثقافة الموسيقية الجماهيرية في تشكيل اسلوبه الشعري. وعلى سبيل المثال، يتذكر بطل "حاشية المهرج " الاليوتي بحماسة مغامراته في شارع برودوي من خلال معارضة شعرية لأغنية شعبية. ويجلس راوي عمل آخر عنوانه «الدخان الذي تجمع فصار أزرق ثم هوى" في كباريه باريسي، فيفتر فمه عن مقطع شعري فيه حكمة بالغة المعنى، وفي مقطع الراوي الثاني تنتقل القصيدة خلسة الى شكل من القصيد جديد لا يمكن تسميته الا شعر جاز سابق لزمانه، اذ تصور القصيدة رقص جاز وتمثيل جاز أوليين، وتقتطف قصيدة غنائية فعلية، وتتضمن عامية مناسبة، وما هو أكثر أهمية أنها تقلد الايقاعات السريعة المقوقعة كما ايقاعات الاغاني الشعبية القصيرة التي كانت سائدة في تلك الفترة. ومن ناحية اسلوبية، تقع هذه القصائد غير المنشورة في منتصف الطريق الى قصائد الجاز الغنائية:

"طبعا سياتي وقت أتساءل فيه

"أأجرؤ؟» "أأجرؤ؟"

وقت أستدير فيه وأهبط الدرج

ببقعة صلعاء وسط شعري"

"لابد لي من تحمل كل شكل متغير

كي أجد التعبير الملائم وأرقص... أرقص

مثل دب يرقص

وأزعق مثل ببغاء، أثرثر مثل قرد،

فدعنا نستنشق الهواء في عشية تبغ ".

ورغم أن هذه السطور ذات وزن خماسي التفعيلة، فما يجعلها فريدة - ما يمنحها مزية خاصة يدركها المرء لأليوتيتها- أن أوزانها غير كلاسيكية، وظلت موجودة حتى في «الأرض اليباب " وبعدها بأعوام في «أربعاء الرماد":

"نزهة العام الجديد تبعث السنين

عبر سجادة دمع صافية،

تبعث الايقاع القديم بالقصيد الجديد،

تستعيد الزمان،

تستعيد الرؤيا التي لم تفسر في حلم سام ".

ولقد تعلم إليوت أصواته الخاصة- ايقاعاته المميزة، طرق استعماله للايقاع، تناغم أسطره - من أصوات الموسيقى الشعبية او اكتشفها منها، وفي كل مرة نراه يطلق صوتا «مثل صوته " يكون يلمح الى الجاز.

وأخيرا أقول: إذا كانت الفكرة القائلة بضرورة وجود «مهمة " حداثية لـ«الحفاظ على استقلالية الفن المؤسساتي وكرامته " لا يمكن تطبيقها على إليوت، فمن العدل أن نسأل: الى أي مدى، بعامة، يضللنا مفهوم الحداثة المهيمن ! وأقول. ان لم يشاطر معاصرو إليوت استعداده لتجاوز الحد الثقافي الفاصل (بين الثقافتين الرفيعة والشعبية)، فان كتابا عديدين آخرين توافقوا مع إليوت بطريقة او بأخرى، ومن هؤلاء: بيتس، شتاين، جويس، وولف، وليامز، كوكتو، بريخت، وأودن، وأظن أن علاقة الحداثة بالثقافة الجماهيرية معقدة الى درجة لا يحسن معها الاكتفاء بالتعميم المبسط لفهمها. وهكذا، يبدو أن إعادة تقويم الحداثة كمفهوم عام أصبح أمرا ضروريا، هذا إذا كان لفهمنا للتحول الثقافي الذي عم القرن العشرين أن يتطور.

مجلة نزوى العدد 17

19 - يناير - 2010
ت.س.إليوت والإنقسام الثقافى
 87  88  89  90  91