البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات ضياء العلي

 85  86  87  88  89 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
أبحث عن الخلاص    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

رأي الوراق :

صباح الخير وكل التحية لكم جميعاً : أعتذر من أستاذنا الغالي ياسين الشيخ سليمان ومن استاذنا الغالي زهير عن تأخري بكتابة هذا التعليق لأنني لم أتمكن من الوصول إلى الكومبيوتر للكتابة حتى هذه اللحظة رغم أنني كنت قد قرأت تعليقيهما ( على كومبيوتر لا يكتب بالعربي ) اللذين أصاباني بالدهشة . كلماتك يا أستاذ ياسين ، رحم الله والديك وأسكنهما فسيح جناته ، وكذلك كلمات الأستاذ زهير ، مستني في الصميم  : أشعر أستاذي بأنني ولدت في معتقل ، وبأنني عشت في معتقل ، وبأنني في تقلبات ظروف حياتي التي تنقلت فيها كثيراً كنت أنتقل من معتقل لآخر ، وأنني في كل ما أعمله ، صبحاً ومساء ، أسعى إلى الخلاص . اعتقلتني الظروف البائسة والمهينة التي عشت فيها أحياناً ، واعتـُقلت من قبل أشخاص أحببتهم وأحبوني في أحيان أخرى ، أهلي ، زوجي ، رفاقي ، أصدقائي ، واليوم أبنائي ، ... وفي الوقت الذي قمت به بدوري باعتقال أشخاص آخرين يتمنون الفكاك مني ، لا بد ، وفي كلتا الحالتين كنت رهينة . ليست الحرية التي أسعى إليها هي الحرية المادية ، أو حرية السلوك أو المعتقد أو إبداء الرأي فحسب ، بل هي حريتي في أن اكون " أنا " التي أشعرها في قرارة نفسي . أن أكون تلك البنت الضعيفة والودودة والمسكونة بالأحلام المستحيلة التي تضج في مخيلتها ودون أن تعرف كيف تلائم بينها ، التي عشت معها دائماً في داخلي ،والتي اخاف عليها وأداريها لأنها لا تعرف كيف تحمي نفسها . تلك البنت التي كان عليها أن تتحول عبر السنين والثقافة والتجربة والمعاناة لتصبح امرأة وأماً وصديقة ورفيقة درب ومربية ودون أن تفقد شكلها الحقيقي والذي هو جوهرها وحقيقة الإنسان الكامن فيها . هذه هي قصة حياتي التي عشتها بأشكال كثيرة وأعيشها اليوم معكم وبينكم بشكل من الأشكال ، لأنني لا زلت أبحث عن الخلاص ، وأنا أعلم بأنني سأبحث عنه حتى الرمق الأخير . ما أبحث عنه اليوم بالذات ، وفي هذه التجربة الفكرية والوجدانية التي أتاحتها لي ظروف لقائي بكم ، هو إعادة هيكلة وتنظيم أفكاري ، والبحث عن آلية جديدة للنظر تأخذ بعين الاعتبار ، وكما لاحظت أستاذ ياسين ، كل هذه الحاجات المادية والعاطفية ، والتي تهدف إلى تمكين العقل من التفكير الحر ، أي تمكينه من عدم الرضوخ لحاجات الساعة ، ومن عدم الاستسلام لحاجة الرغبة في الحماية والتفكير ضمن إطار المجموعة التي ننتمي إليها بالطبيعة ، بل الخروج نحو إطار أوسع يتضمن عدة مجموعات وأكثر من وجهة نظر ، هذا فيما يخصني . إن ما أشعر به في كل يوم هو تلك السياط التي تلسعني وتجبرني على المسير ، بل على الركض احياناً باتجاه مصير لا أعرف عنه شيئاً ، وكل ما أرجوه هو العتق والخلاص من أسر نتوارثه جيلاً بعد جيل يجعل منا أحياناً مخلوقات تافهة لا تفتأ تردد وتكرر وتعيد ارتكاب ذات الأخطاء في دورة أزلية لا تنتهي إلا بالموت  .
تحياتي لكم جميعاً ، ولأستاذي الكريم زهير ، ولراعي هذا الموقع الأستاذ السويدي ، ودمتم جميعاً بخير .

24 - نوفمبر - 2008
نشرة الحديثي لديوان أمية بن أبي الصلت
على الطريق ...    كن أول من يقيّم

 
اغتيال الغد العربي.. العرب يأكل بعضهم لحوم بعض
لم تعد المشاهد المفجعة لنتائج الحصار »الفلسطيني« ـ العربي ـ الدولي والإسرائيلي لغزة تؤثر في »المتفرجين« عليها فتحرك وجدانهم وتدفعهم إلى الشوارع يهزون قبضات الغضب ويطلقون شعارات الثورة على المتخلين عن المليون ونصف المليون من الأطفال والنساء والشيوخ والعجائز، فضلاً عن الرجال، ممن هم ـ أو أنهم كانوا؟ ـ في عداد الأهل الذين لا يقعون تحت حصر...
صارت المآسي الجماعية، المموهة بعناوين الخلافات السياسية بين الإخوة، هي عنوان الحياة العربية المعاصرة.
لقد اختلفت الحال عن ذي قبل بعدما تبدلت ملامح »العدو«، فاختفى الإسرائيلي، أو أنه صار في خلفية الصورة، ليتقدم عليه »الشقيق الفلسطيني« داخل »الوطن السليب« و»الأخ العربي« في الأقطار الأخرى التي في طريقها لأن تصير »سليبة«، على امتداد المساحة بين المحيط والخليج.
واختلاف الحال وتبدل ملامح العدو يتجاوز حدود فلسطين التاريخية ليشمل كامل الأرض العربية، حيث صار العربي عدو العربي بالمطلق... وفي داخل القطر الواحد صار »المواطن« هو عدو »المواطن« الآخر، إما لاختلاف الدين أو الطائفة أو العنصر أو الانتماء السياسي...
لكأن العرب يأكلون لحوم بعضهم البعض، داخل أوطانهم، وفي المحيط من حولهم، الأقرب فالأبعد...
 
صار العربي يطلب الانفصال عن شريكه في الوطن، وينزع عنه الهوية التي تجمعه به حتى لا يؤخذ بجريرتها.
صار العربي عدو العربي، داخل الوطن المعني أو خارجه...

من فلسطين إلى لبنان، إلى العراق، فإلى فلسطين مجدداً، فإلى العراق كرة أخرى، فإلى فلسطين مرة ثالثة: صارت المذابح الأهلية بعض الأخبار اليومية التي لا تستوقف اهتمام أحد...
صار »العرب« يتفرجون على مشاهد القتل الجماعي، أو على النتائج المفزعة لحصار دول بكاملها، أو مناطق تضم مئات الألوف من السكان المستضعفين، وقد تحجرت عواطفهم وشلت إراداتهم، فيكتفون بمصمصة الشفاه، وقد تبكي بعض النساء لمنظر طفل يموت أمام عيون الأمة جميعاً، لأن طبيبه عجز عن إنقاذه بعدما قطعت الكهرباء عن المستشفى، ومنع إقفال المعابر وصول الأدوية إليه...
والحقيقة أن »الكهرباء« قد انقطعت عن العقول وعن العواطف، فتناقص التضامن إلى تعاطف والتعاطف إلى إشفاق والإشفاق إلى كره للذات في ظل العجز عن الفعل، أي فعل.

إن العرب يتفرجون على اغتيال غدهم بعيون مفتوحة...
لقد شهدوا مأساة فلسطين الأولى، فالثانية، فالثالثة،
وشهدوا مأساة لبنان التي تكررت فصولاً على امتداد ثلاثين عاماً أو يزيد،
وشهدوا مأساة العراق الأولى في الحرب على إيران، ثم الثانية في غزو الكويت، ثم الثالثة في الاحتلال الأميركي بكل ما حفل به من قتل جماعي وتشريد الملايين وتدمير أسباب الحياة في أغنى بلد عربي، ونسف ركائز الدولة الواحدة الموحدة فيه.
... وها إن العراق مهدد بأن يصير دولاً عدة، بحسب أعراقه وطوائفه والمذاهب،
وها إن حصار الجوع المضروب على غزة، بكل آثاره المدمرة على أهلها، قد بات يصوّر على أنه مسألة حزبية... في حين أن الضفة الغربية مسألة حزبية أخرى، أما فلسطين الأرض والشعب والقضية، فلسطين الثورة والشهداء وحبة العقد في الوطن العربي، قد تراجعت لتصبح في مكان ما بين الذكرى وبين الحلم.

إن الصورة التي تنقل من غزة لا تجسد مأساة أهلها فحسب، بل إن لها دلالاتها العميقة في السياسة، خصوصاً إذا ما جُمعت إلى الصور التي تنقل من العراق مشفوعة بخطب قيادات زمن الاحتلال، وإذا ما جُمعت إلى بعض الدعوات الانفصالية التي عادت إلى التداول في لبنان بلسان نفر من أبطال الحرب الأهلية و»الصلح« مع إسرائيل بشروطها...
ومع التقدير لكل الجهود التي تبذل من أجل حماية حق الفلسطينيين الذين شردهم الاحتلال الإسرائيلي بين أدنى العالم وأقصاه، في العودة إلى أرضه، فإن حماية بقاء الفلسطينيين في فلسطين يكاد يتقدم على كل ما عداه في هذه اللحظة.
إن الحصار المفروض على غزة ليس عقاباً لحماس. إنه عقاب جماعي للشعب الفلسطيني كله، في غزة والضفة الغربية والشتات
.
 
إن المؤتمرات لا تطعم الجوعى ولا توصل الدواء إلى المهددين بالموت، سواء منها تلك التي تعقد تحت راية »السلطة« في رام الله، أو تحت راية »حماس« داخل غزة وخارجها... بل إن هذه المؤتمرات قد »تشرعن« الانفصال وتبرره، خصوصاً أن لكل منها من يرعاه ويعتمده وسيلة لاستيلاد »فلسطينه«.
كذلك فإن الحوار الممذهب بين الأديان، بعيداً عن القضية الوطنية، بل وعلى حسابها، يلغي فلسطين ـ الوطن، ويجعلها بنداً في الاختلافات الفقهية بين العلماء الأجلاء من شيوخ وأحبار وحاخامات... خصوصاً أنه يتجاوز واقعة تفصيلية بسيطة مفادها أن إسرائيل ما تزال تحتل فلسطين بكاملها، عملياً وواقعياً.

إن فلسطينيي غزة، بالذات، وربما كل الفلسطينيين، يرددون ما سبق لهم أن قالوه ألف مرة من قبل، ثم قاله من بعدهم اللبنانيون وتلاهم العراقيون: إن حصار الجوع الذي تصحبه العودة الاضطرارية إلى ما قبل اختراع النار واكتشاف النفط (الذي يستعدي العالم على العرب) إنما تشترك فيه الدول العربية وإسرائيل، جنباً إلى جنب... بل إن الدور العربي فيه أقسى وأشد مضاضة.

وبقدر ما يستحق القاضي المصري الذي اتخذ القرار الشجاع بضرورة وقف الغاز المصري عن إسرائيل (ولو بسبب اقتصادي يتصل بالمخادعة في الأسعار) فإن الموقف الرسمي المصري يستعصي على أي تفسير إلا إذا اعتبرناه ابتزازاً لحماس، يكلف المليون ونصف المليون من الفلسطينيين في غزة (الذين يرون أنفسهم »مصريين« إلى حد كبير) أن يرجعوا القهقرى قرناً بكامله، فيأكلوا قمح الطيور، ويعيشوا لياليهم في ضوء السراج أو الشموع، ويعيدوا استصلاح »بوابير الكاز« التي كانوا يفترضون أنهم قد تجاوزوا بالكهرباء والغاز الحاجة إليها...
من حق تلك الأم الفلسطينية أن تقول، بغير ما ضلوع في التحليل السياسي، إن العرب واليهود يشتركون في حصار غزة... وأن تشير إلى المصابيح المشعة فوق جدار الحد الفاصل بين إسرائيل والقطاع، وهي تقول: ماذا كان جرى لو أن مصر، أمنا، خصتنا ببعض هذا الغاز الذي ترسله إلى اليهود فيفضح من أرسله مرتين؟!

ليس علينا سوى أن ننتظر الحرب الأهلية الفلسطينية، التي نشهد حلقاتها السياسية تتوالى ممهدة للانفجار الهائل الذي قد يصاحب »الانتخابات الرئاسية والتشريعية« التي تعهّد بإجرائها رئيس »السلطة« مع انتهاء ولايته...
وعسى أن تكفي السلال الغذائية التي أرسلت إلى غزة على عجل، والبالغة قيمتها ثلاثة ملايين دولار، حتى ذلك الحين!
 
 
السفير اللبنانية 24\11\2008

24 - نوفمبر - 2008
أوقفوا الحرب على لبنان...
مولد السيد المسيح    كن أول من يقيّم

مساء الخير ، وكل التحية والسلام لكم جميعاً :
حول ملاحظة الأستاذ زين الدين المتعلقة بمولد السيد المسيح عيسى عليه السلام ، هناك شبه إجماع من المؤرخين حول عدم صحته انطلاقاً من العام صفر للسنة الميلادية الحالية لأن زمن الولادة  كان في فترة حكم هيرود الذي توفي في السنة 4 ـ ( الرابعة قبل الميلاد ) . وبمقارنة ما جاء من معلومات غير دقيقية في الأناجيل يقدر القاموس الفرنسي Petit Robert لأسماء الأعلام بأن ميلاده كان في السنة الرابعة أو الخامسة قبل الميلاد ( 4 ـ ،5 ـ ) ، بينما تؤرخ الكتب المدرسية التي تعتمدها المناهج الرسمية ميلاده في السنة السادسة قبل الميلاد ( 6 ــ ). هناك دراسات أخرى أكثر دقة اعتمدت على مقارنة الإحصائيات وعمليات المسح التي كان يقوم بها الرومان في مقاطعاتهم الكثيرة بهدف جباية الضرائب وتوصلت إلى تحديد زمن الولادة بالسنة الثامنة قبل الميلاد ( 8 ــ ).
بناء على هذا ، سيختلف تاريخ الوفاة أيضاً ، بالاضافة إلى أن بلوغه سن الثالثة والثلاثين عند الوفاة هو موضوع أخذ ورد من قبل المؤرخين .

26 - نوفمبر - 2008
من يعرف تاريخ مولد النبي محمد (ص)
بيروت في مذكرات طالب يمني    كن أول من يقيّم

الـدرس اللبنانـي
نزار غانم :

أعادتني دعوة كريمة جاءتني، مؤخراً من بيروت، وتحديداً من السفير اليمني بلبنان، لملف وجداني ساخن دفنته في أعماقي منذ عقود، وتراكمت عليه منذ ذلك الزمن الجميل في السبعينيات ملفات أخرى عديدة مختلفة في المكان والزمان. والدعوة من الزميل العزيز فيصل تعنى بإلقاء محاضرات في مواقع ثقافية لبنانية أقدم من خلالها عدداً من تجاربي الإبداعية والاجتماعية ليحس اللبنانيون ان اليمنيين يتواصلون معهم في الضراء والسراء. وهآنذا أتصفح مع القارئ ذلك الملف الوجداني الأثير.

عندما غادر والدي وكره الهادئ في عدن مطلع السبعينيات ليحصل على العلاج الجراحي المتواصل في الخارج والذي لم يكن متوفراً في عدن. رأى مع والدتي ان أسافر الى لبنان للدراسة الاعدادية، بينما يذهب هو ووالدتي الى جيبوتي للعمل هناك مع أخيه في تجارة ساعات (السيكو). وكان هذا يعني ان أقطن في داخلية المدرسة التي كانت في منطقة (عاليه) وهي من المصايف التي يفد اليها السياح العرب في لبنان ودائماً ما يحيي الفنان الخالد فريد الأطرش حفلة له فيها في منطقة (البيسين) أي المسبح. ولأن السفر من عدن يومئذ كان لا يسمح فيه للمسافر الا بدراهم معدودة يحملها معه الى الخارج، فقد خاطت لي والدتي بطناً داخلياً في الكوت وضعت لي فيه بعض المال ليعينني على تكاليف الغربة. سافرت عبر الخطوط الجوية اللبنانية التي كان وكيلها في عدن صديق لنا من آل باهارون الذين انشأوا اول شركة طيران خاصة تحت اسم (باسكو). غير ان الأسرة الغانمية اطمأنت الى هذا القرار على صغر سني وتجربتي في الحياة، لأن على الطرف الآخر في بيروت كانت تنتظرني يد حانية هي يد زميل والدي في الدراسة بالجامعة الاميركية ببيروت في الثلاثينيات السياسي والشاعر السعودي ـ الحضرمي الجذور ـ عبد الله بلخير رحمة الله عليه. نعم لقد كان في انتظاري في مطار بيروت ومن هناك نقلني بسيارته الى مدينة عاليه، حيث التحقت بداخلية المدرسة، على ان أزوره في عطلة نهاية الاسبوع. ومنذ تلك الليلة أدركت أنني وصلت متأخراً عن بدء الدراسة، وكان عليّ أن أبذل جهداً خرافياً لألحق بالآخرين في مواد لم يكن لي عليها سلطان، فهناك الرياضيات الحديثة وهناك اللغة الفرنسية وهناك عائق اللهجة التي لم أكن أعرفها، وبدا لي ان النحس يلاحقني في مراحل الدراسة المختلفة، ويكفي أن أقول إنني خلال مرافقتي لوالدي إلى لندن حيث ناقش أطروحته في شعر الغناء الصنعاني تنقلت بين ثلاث مدارس مختلفة أدرس فيها السنة السادسة الابتدائية وكنت ما إن أستقر في مدرسة الا واضطر الى التحويل لمدرسة أخرى مجاراة لتنقل والدي في السكن هنا وهناك.

هنا في هذه المحطة وجدت أن فيصل امين أبو راس كان قد سبقني الى هذه المدرسة الداخلية نفسها فتبرع بتعليمي قواعد الرياضيات الحديثة، بينما تبرع الزميل اليمني الآخر محسن شانف شعفل، ابن أمير الضالع سابقاً، بتعريفي على أسس قواعد لغة أبناء السين أي الفرنسية. وأقولها بملء الفم انه لولا عون هذين الزميلين لما كان لي ان الحق بالزملاء اللبنانيين بل ولم أكمل السنة الا وأسمي على لائحة الشرف. وبعد ذلك لحق بنا الزميل رجل الأعمال الآن عبد الله بن علي السنيدار، وبقينا جميعا هناك حتى كشرت الحرب الأهلية اللبنانية عن أنيابها فتفرقنا أيدي سبأ.

عبقرية المكان في لبنان تختزل كل حضارات العالم في ذلك البلد الصغير مساحة والعملاق ثقافة وإنساناً.

حوار حضارة :
الحياة في الداخلية تصبح ممتعة إذا تمكّنت من عقد صداقات وطوعت نفسك على ان لا استراحة سوى في عطلة نهاية الأسبوع وهي يوما السبت والأحد هناك. ويبدو لي أنني كنت نهماً في القراءة حتى أنني كنت أقتني كتب جبران خليل جبران وقصص مارون عبود وأتلذذ بقراءتها، إضافة الى المنهج الدراسي المتنوع باللغات العربية والانكليزية والفرنسية. أما التلفزيون فلم يكن يسمح لنا بمشاهدته إلا ليلة السبت، وكان البرنامج المقدم من بطولة دريد لحام واسمه (غوار الطوشه). ومثلما كان المدرسون من مختلف الطوائف اللبنانية بل وبعض الأفغان، فقد كان الطلبة من كل الفسيفساء اللبنانية والعربية لا سيما الخليجية. مدرسة الجامعة الوطنية بعاليه كانت أشبه بكوكتيل من الأديان والأعراق، وهكذا يتعلم المرء الدرس اللبناني الاول ألا وهو »عش ودع غيرك يعش«. ويعزز هذا الشعور أنه لا تكاد تجد لبنانيا ليس له بعض من أسرته تعيش في المهجر الافريقي والاسترالي والأميركي وهلم جراً. واللبنانيون مارسوا العولمة والحوار الحضاري قبل باقي العرب بكثير، ولذا ينسب الأدب المهجري اليهم. وأذكر أنني فيما بعد زرت مدينة بوسطن الاميركية وكنت أتساءل ان كان بالإمكان ان أرى مقر الرابطة القلمية التي كان جبران من أهم اعضائها ذات يوم هناك. وهذا الوله برومانسية جبران دفعني الى زيارة قبره في بشري في المرتفعات الشمالية من لبنان ذات يوم غطى فيه الثلج وجه الأرض. وفي فترة قياسية انطلق لساني باللهجة اللبنانية وصرت محل تشجيع معظم أساتذتي كعامر صعب وأنطوان عاصي وعكيف السبع ووليد أبو شقرا، لا سيما مدرس اللغة الفرنسية الذي كان على مسيحيته يتردد على المساجد الإسلامية والأضرحة الدرزية ربما تحقيقاً لمقولة ابن عربي) ـ: ادين بدين الحب. (...).
وقيض الله لي صديقين الأول سعيد فرحات الذي لم يكن يسكن معنا في الداخلية، إلا أنه كان يبقى ليقضي معي عطلة نهاية الأسبوع فنتناقش في كل شيء بما فيه المعتقد الدرزي الباطني ومعتقدات اخرى كالبهائية وشهود يهوه، وكنا نستمع بالكاسيت لأغنيات المطرب الايرلندي توم جونز الذي يغني بإحساس شرقي، وطبعاً نفاضل بين جمال الزميلة فلانة والزميلة علانة وينتهي بنا الأمر الى سوق عاليه لمشاهدة أفلام الكراتيه الشائعة يومئذ، وكذا أكل الكنافة بالجبنة، هروباً من مائدة الداخلية الروتينية!

وكان تفوقي في الدراسة سبباً لكثير من الغيرة المهنية اذا صح القول بين الزملاء الذكور ومنهم ريمون طوق وعبد الكريم حدرج أما الزميلات ومنهن ريما نطفجي وندى قشوع، فقد كنت ايضاً فاقد الشعبية بينهن، وكن يعقدن المقارنة بيني وبين الزميل السنيدار الذي كان أنيق الملبس لبق الحديث مع الجنس الآخر، ويصرف الكثير على تسريحة شعره، لكن الحقيقة بقيت أن اسمي واسم زميلي فيصل لم يغادر لائحة الشرف منذ أن دخلها، وهذا تحديداً ما فرض وجودي.

الصديق الآخر كان محمد خير، وكان يأنس لرفقتي كما كنت أساعده في الدراسة، وظل محمد هذا يراسلني حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية ويقول لي إنني نسيت العشرة وتركتهم يواجهون حرباً ضروساً. وكنا جميعا نعرف ما معنى الحرب على الأقل في الجو، اذ ان الصراع بين الطائرات السورية والإسرائيلية خلال حرب اكتوبر ١٩٧٣ م كان يجري أمامنا في السماء وكنا نرى الصواريخ المضادة للطائرات التي زودت أميركا بها الجيش الإسرائيلي فغيرت من موازين القوى.

الحمرا
كنت أقضي عطلة نهاية الأسبوع في بيروت، وكانت المنطقة المفضلة لي هي شارع الحمراء، حيث أتجوّل بين السينمات والمكتبات وهناك مثلاً قرأت كتباً كان دخولها إلى عدن ممنوعاً مثل (تحطمت الطائرات عند الفجر) للجاسوس الإسرائيلي باروخ نادل وكتاب (لعبة الأمم) وكتاب (العرب ظاهرة صوتية) للسعودي عبد الله القصيمي الذي تزوّج شاعرنا محمد أنعم غالب بكريمته، ولا أنسى ان أستمتع بوجبة الدجاج البروست مع الثوم في مطعم مروش كما أتذكر، ثم أتجول ماشياً بين صخرة الروشة وساحة الشهداء وتسمى البرج او البلد، لأنها قلب بيروت وكركون الدروز وشارع المكحول قرب الجامعة الاميركية، حيث يدرس أقربائي زهير شهاب وعصام لقمان، وحيث انظر بحنين الى الحجرة التي كان يتقاسمها والدي مع المرحوم عبد الله بلخير في الثلاثينيات داخل حرم الجامعة، وفي هذا يقول:
يذكرنا بعهد قد تولى   بأثواب الشباب وبالشباب
ببيروت الجميلة حيث كنا   رفاق العلم ندأب في الطلاب
وبعض الناس قد أفنى الليالي   هياماً بالمدامة والكعاب

وأقضي الليل في شقة قريبي قيصر عبد المجيد لقمان. أحياناً كنت أغامر فأذهب الى زحلة لأكل المازة اللبنانية او الى صيدا حيث أزور رجل الأعمال اللبناني الذي عاش طويلاً في عدن المرحوم عدنان هيماني والذي حللت ضيفا على ابنته الدكتورة ميادة هيماني في محطة أم بي سي بلندن فيما بعد.
لكن التغيير الاجتماعي الأكبر كان حينما لحق بي شقيقي المهندس الشاعر شهاب غانم ليعمل مديراً هندسياً بمصنع أترنيت للأسبست في مدينة شكا شمال لبنان، وكان هذا مدعاة لي لأزوره هناك وخاصة في القرية التي سكنها واسمها أنفة، وكان حضور الحزب القومي السوري قوياً فيها وقد كتب شقيقي شهاب بعضاً من أجمل شعره عن لبنان في تلك الحقبة.

ويكاد لا يوجد لبناني لا يفهم في الفن، وأذكر أن نقاشاً حاداً جرى بيني وبين المعلم او سائق التاكسي ذات يوم كنت متجهاً فيه الى طرابلس حول من هي مطربة لبنان الاولى صباح ام فيروز، وكنت كما هو الحال مع الدكتور عبد العزيز المقالح أرى ان فيروز هي الأفضل عربيا، فاستل المعلم مسدساً وهددني بالقتل اذا عدت وبخست صباح امام فيروز. لقد كانت تجربة مرعبة.

كانت صلتي باليمن لا تنقطع فهناك الصحف التي تتشيّع للجنوب ومنها (المحرر) وهناك الصحف التي تبايع الشمال ومنها (الحياة). والصحف والمجلات اللبنانية أحد أهم المنتجات الفكرية لذلك البلد. كذلك سمح لي التجول المستمر أن أشاهد الممثلة مريم فخر الدين والممثل نهاد قلعي والسيدة فيروز في شارع الحمراء ثم أحضر مسرحيتها (المحطة) التي غنت فيها لأول مرة دون أن يكون الى جوارها زوجها عاصي الرحباني الذي غادر للعلاج من جلطة دماغية، وهي تذكر ذلك في أغنيتها (سألوني الناس عنك يا حبيبي)، ومن الافلام التي أتيحت لي مشاهدتها هناك الفيلم الكويتي (بس يا بحر)، وفيلم (خلي بالك من زوزو) الذي غنت فيه الممثلة سعاد حسني وفيلم (حبيبتي) الذي يحكي قصة حب بين فاتن حمامة ومحمود يس في لبنان وقد وضع موسيقاه منصور الرحباني، والفيلمان الأخيران لفريد الأطرش (زمان يا حب) و(نغم في حياتي). وكان لفريد كازينو يحمل اسمه في بيروت في فترة لم يكن فيها على وفاق مع البعض في مصر ففضل أن يستقر بلبنان وفيها لحن أغنية (يا حلوة لبنان) و(كلمة عتاب يا حب) التي لم يكملها، وإنما غنتها بعده وردة الجزائرية فشوّهتها. وفريد هو الفنان العربي الوحيد الذي كان يحمل أربع جنسيات عربية هي المصرية والسورية واللبنانية والسودانية.

أعلام كبار
أما عندما كان والدي يحضر من جيبوتي لزيارتي في عطلة الصيف في لبنان فقد كانت تتاح لي الفرصة لأن أقابل بمعيته أعلاماً كباراً مثل منير او زهير البعلبكي والبير أديب صاحب مجلة (الأديب) وسهيل ادريس صاحب مجلة (الآداب) ويوسف ابش ومحمود الغول وإحسان عباس في الجامعة الأميركية. وقد قامت مجلة (الأبحاث) الصادرة عن الجامعة الأميركية بنشر النص الانكليزي لأطروحة شعر الغناء الصنعائي ثم قام الوالد بترجمته إلى العربية، حيث قام بنشره الفقيد النعمان الابن وكذا الشاعر الكويتي ـ الوهطي الأصل ـ أحمد السقاف، ومن اليمنيين السفير الشاعر احمد محمد الشامي الذي تكرم بمنحنا جوازات سفر للجمهورية العربية اليمنية، والمفكر الأديب زيد الوزير ونجله طارق وعرفت أنهم يمتّون بالقرابة إلى الزميل فيصل امين، والصحافي الفقيد محمد ناصر محمد صاحب جريدة (الطريق) العدنية وكان حينها يصدر مجلة ملونة في بيروت اسمها (اليمن الديموقراطية) ثم قضى في حادثة طائرة الموت بحضرموت، وكذا قابلت مع والدي الفقيد محمد احمد محمد نعمان وفيما بعد ذهبت الى مأتمه عند اغتياله في بيروت، ولا شك في أن سماعي باقتناص اليمنيين المعارضين للحكم بدءاً بمحمد علي الشعيبي صاحب كتاب (اليمن الجنوبية خلف الستار الحديدي) ثم رجل الأعمال الحروي والنعمان الابن ومحاولة اغتيال الشاعر الشامي جميعها أساء الى العلاقات اللبنانية ـ اليمنية. فحتى الصحفي اللبناني ميشيل ابو جودة الذي كتب محذراً من الغرباء القادمين من عدن ما لبثت قوى الظلام ان اختطفته لعدة أيام، وأذكر عند مقابلتي المرحوم احمد محمد نعمان والذي كان يحب أن يتكلم العربية الفصحى انه قال: (الموت شيء طبيعي، لكن طريقة الموت هي التي تهم)!
 
ومن الطريف أن أذكر أن والدتي، رعاها الله، منيرة محمد علي ابراهيم لقمان كتبت الشعر للمرة الأولى، في مفارقتي لها حيث تقول:
(عاليه) يحميك العزيز العالي   فلقد أقام بك الحبيب الغالي
لولا طموح العلم ما فارقته   والنفس قد ضاقت بذي الأحوال
لم يبق لي من بعده أمل سوى   لقيا أبيه محقق الآمال
.
وإذا كتب لي أن أزور لبنان وهو يخرج من محنته الحالية فلا شك في أن (عاليه) ستكون محطتي، ولم لا فان حاجتي الى البكاء لا تضاهيها حاجة الشاعر الجميل احمد العواضي، لكنه الدمع يستعصي عليّ او كما قال الشاعر الطبيب ابراهيم ناجي في قصيدته (ختام الليالي) التي لحنها الفنان اليمني الراحل احمد قاسم:
غير أني أني/استنجد الدمع لا لا/ألقى مكان الدموع الا نحيــبا/جــفّ دمعـي دمعي فلست أبكي حبيبا/وبحبك يا لبنان!
* عن السفير اللبنانية 28تشرين الثاني 2008

28 - نوفمبر - 2008
أحاديث الوطن والزمن المتحول
طائر اليمن    كن أول من يقيّم

شكراً لك أستاذي تعقيبك على مقالة الأستاذ نزار غانم التي أعادتنا إلى أجواء الوطن الذي نفتقده بحسرة ، وشكراً لك تعريفنا بقصيدة الشاعر شهاب غانم التي تلخص حالنا جميعاً ، وهي من نسق شعر عبد العزيز المقالح الذي رافقت أشعاره منعطفات كثيرة في تحولات حياتنا ولا زلت أجد متعة كبيرة في قراءته لما فيه من نقاء وصدق . أما الأبيات التي سوف أنقلها فهي من شعر حافظ الشيرازي وكما عرَّبها شاعر آخر وافر الصفاء والنقاء هو محمد علي شمس الدين مهداة لأرض اليمن :
 
                            طـائـرُ الـيـمـن
هـلاَّ حَـمَـلتَ لنا يا طائرَ iiالَيَمَن
 
ياقوتَةَ الرُّوح من أرض بلا فِتَنِ ii؟
حـمراء تلمع في أعصاب iiشاربها
 
كـالـبرق  يَلمَعُ تَيَّاهاً على iiالدِمَنِ
حـتَّـى يعودَ لنا ما كان من iiزمنٍ
 
تبكي الخيول بِهِ في مصرَعِ الزمنِ

1 - ديسمبر - 2008
أحاديث الوطن والزمن المتحول
صدف وصدفة    كن أول من يقيّم

مساء الخير ، وكل عام وأنتم بخير ، وكل الشكر للأستاذ يحيى مصري معايدته الغالية ، حفظك الله ورعاك وأقر عينك برؤية أولادك وأحفادك وأحبابك من حولك وكل السلام والمودة للوالدة الكريمة ، أطال الله عمرها .
الصدفة ( المصادفة ) هي بالفرنسية : Hasard ، وأصل الكلمة من العربية Az Zahr ( الزهر ) أي أحجار الزهر ، أو أحجار النرد التي تستخدم في ألعاب الحظ وتعتمد على اتفاق رقمين عشوائياً ( بالصدفة ) .
فكرت بأن المعنى الذي جاء في تفسير المنجد وعند بطرس البستاني يحمل ذات الدلالة ، ثم فكرت : ولم لا تكون الصدفة بالعربية من الصَّدَف ( أي المحار ) أيضاً ؟ ألم يكن العرب يستخدمون الصدف للتنجيم برميه كأحجار النرد ؟ ولم لا يكون معنى الفعل صَدَفَ : أعرض وصَدَّ بمعنى نأى بنفسه واحتجب داخل قوقعة ؟
ولقد جاء في تعليق الأستاذ زهير بعنوان " تعقيب " :
وفي (أساس البلاغة) للزمخشري: (وصادفته: وجدته، وصادفه: قابله، وتصادفا: تقابلا، ومنه: صدفا المحارة: لتقابلهما).
 

2 - ديسمبر - 2008
صدفة
نداء الحيرة : حافظ الشيرازي    كن أول من يقيّم

من أجمل ما قاله الشاعر شمس الدين محمد الشيرازي المعروف ب " حافظ " من " غزل " وعرَّبه الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين ، أنقله عن كتابه الصادر في بيروت العام 2005  بعنوان " شيرازيات " :
 
الحـَيـْرة
عشقي لجمالـِكَ أصلُ الحَيـْرَةِ
ووصالـُكَ أصلُ كمالِ الحيرة
ما أكثـَرَ غرقى حالِ الوصل الواصل فيكَ لحال الحيرة
أرِني قلباً لم يأخـُذهُ الحالُ بـِحالِ الحيرة
لا الواصلُ يبقى لا الوصلُ يدومُ ولا يـَشفى منكَ مريضُ الحيرة
وأصـَخـْتُ بـِسـَمـْعي لمْ أسـْمـَع في الأرض سوى ما يتلوهُ نداء الحيرة
جاءَ صدى أسئلة تسألـُني عنكَ وعن معنى معنى الحيرة
وأنا من قـِمـَّةِ رأسي حتى أدنى قدَمـَيَّ أسيرُ أسيراً فيكَ
وفي أسرِ شـِباكِ الحيرة .

3 - ديسمبر - 2008
أحاديث الوطن والزمن المتحول
قيلولة يوم الثلاثاء (1)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

خرج القطار من الممر المترجرج بين الصخور الحمراء النارية ودخل في المساحات الهندسية المتوازية والمتشابهة لمزارع الموز التي تمتد إلى ما لا نهاية . أصبح الجو عندها رطباً ولم نعد نشتم عبق نسيم البحر ، وفي الوقت الذي دخلت فيه طبقة كثيفة من الدخان عبر باب المقصورة . على الطريق الموازية لسكة الحديد ، كانت تسير عربات يجرها البقر ، محملة بأقراط الموز الأخضر . في الجهة الأخرى ، وعلى مساحة من الأرض بدت وكأنها قد تملصت بأعجوبة من هيمنة الأرض الزراعية ، كانت تلوح للناظر مكاتب الإدارات بمراوحها الكهربائية ، ومبان من الطوب الأحمر ، ومنازل أمامها شرفات وضعت عليها مقاعد وطاولات بيضاء اللون ، وسط النخل وشجيرات الورد التي تراكم من فوقها الغبار . كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً ، وسهام الشمس المحرقة لم تشتد وطأتها بعد .
 
" سوف يمتلىء شعرك بالفحم ، قالت المرأة ، من الأنسب أن تغلقي الشباك . "
 
امتثلت البنت للأمر ، لكن ستارة النافذة الصدئة ظلت محصورة ولم تفتح .
 
كانتا المسافرتين الوحيدتين في هذه المقصورة المتواضعة من الدرجة الثالثة ، وكان الدخان لا يزال يتسرب إلى داخل المقصورة عبر الباب . نهضت البنت ، ثم وضعت على المقعد الذي كانت تجلس عليه ، الأشياء التي تحملها معها : كيس من البلاستيك يحتوي على شيء من الزاد وباقة زهور ملفوفة بورق الجريدة ، ثم ذهبت لتجلس عكس النافذة ، مقابل أمها . كلتاهما كانتا ترتديان ثياب الحداد السوداء ، إلا أنها كانت ثياباً رثة .
 
كانت البنت في الثانية عشرة من العمر وتسافر للمرة الأولى في حياتها . المرأة ذات العيون المعروقة والجسد النحيل الذي كان يبدو رخواً وبدون معالم واضحة تحت ثوبها المنسدل فوقه كجبة راهب ، كانت تبدو كبيرة السن لكي تكون أمها . وكانت طوال الرحلة ، قد ألصقت ظهرها بقوة إلى مسند المقعد الذي كانت تجلس عليه وهي تمسك بكلتا يديها ، فوق صدرها ، حقيبة من الجلد اللامع الذي تشقق بفعل الزمن . كانت تبدو على وجهها سيماء الطمأنينة الورعة لأولئك الذين اعتادوا الفقر في حياتهم .
 
بدأت الحرارة تشتد قرابة الظهر . توقف القطار لمدة عشر دقائق في إحدى المحطات الخالية للتزود بالماء . في ذلك السكون الغريب لمزارع الموز ، كانت الظلال التي نراها خارجاً تبدو نقية ، بينما يفوح من الهواء المتجمع داخل عربة القطار ما يشبه رائحة الجلد المسلوخ . لم يعد القطار يغذّ السير . توقف في قريتين متشابهتين تماماً طُليت بيوتهما بالألوان الزاهية . دلدلت المرأة رأسها فوق صدرها وراحت في سبات عميق . نزعت البنت حذاءها وتوجهت إلى دورة المياه لكي تضع زهورها الذابلة في الماء . 
 

4 - ديسمبر - 2008
قيلولة يوم الثلاثاء
قيلولة يوم الثلاثاء (2)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

عند عودتها ، كانت الأم بانتظارها لتناول طعام الغداء . قدمت إليها قطعة من الجبن ، نصف رغيف من طحين الذرة ، وقطعة من الحلوى الجافة ، ثم أخرجت من الكيس البلاستيكي لنفسها الشيء عينه . أثناء تناولهما الطعام ، اجتاز القطار ببطء شديد جسراً حديدياً ، ثم عبر قرية مشابهة تماماً للقريتين اللتين كان قد اجتازهما سابقاً ودون أن يتوقف هذه المرة رغم وجود جمهرة كبيرة من الناس في ساحة القرية .
كان هناك فرقة موسيقية تعزف لحناً راقصاً تحت أشعة الشمس المحرقة . في الجهة الأخرى من القرية ، في السهل الذي كانت أرضه قد تشققت من شدة الجفاف ، كانت نهاية المزارع .
توقفت المرأة عن الأكل : " انتعلي حذاءك " قالت .
نظرت البنت إلى الخارج ولم تر غير السهل الخالي الذي كان القطار يقوم باجتيازه . أعادت إلى الكيس ما كان قد تبقى معها من الحلوى ثم انتعلت حذاءها بسرعة . قدمت المرأة إليها مشطاً : " سرحي شعرك " قالت لها .
كان القطار يطلق صفيره بينما كانت البنت تقوم بتمشيط شعرها . مسحت المرأة بأصابعها حبيبات الدهن التي كانت تعلو وجهها ، والعرق الذي كان يبلل رقبتها ، وعندما انتهت البنت من تسريح شعرها كان القطار قد توقف على مشارف قرية أكبر حجماً من سابقاتها إلا أنها أكثر كآبة .
" إذا كنت ترغبين بالذهاب إلى المرحاض فافعلي حالاً ، قالت المرأة ، أما فيما بعد ، فلا تطلبي شربة ماء حتى ولو مت عطشاً ، والأهم من كل هذا هو أن لا تبكي . "
وافقت البنت بإشارة من رأسها . هواء جاف وشديد السخونة دخل من باب المقصورة مرافقاً لضجيج صفارة القطار وضوضاء عجلات عرباته القديمة . جمعت المرأة ما تبقى لديها من طعام داخل الكيس البلاستيكي ودسته في حقيبتها . لبرهة وجيزة ، القرية بتمامها لمعت من خلال زجاج نافذة القطار نهار ذلك الثلاثاء من شهر آب . 
لفت البنت زهورها بورق الجريدة المبلول بالماء ثم ابتعدت عن الباب وهي ترقب أمها التي أجابتها بنظرة حانية . كفَّ القطار عن الصفير ، خفف سرعته ، ثم توقف .
كانت محطة القطار خالية تماماً . في الجهة الأخرى من الطريق ، وعلى الرصيف الذي كان يستظل بشجرات اللوز ، وحدها صالة البلياردو كانت مفتوحة . القرية كلها كانت تعوم في قيظ محموم . ترجلت المرأة والبنت من القطار واجتازتا المحطة الخالية التي كان بلاطها قد بدأ يتشقق بسبب العشب النابت تحته ، وعبرتا إلى جهة الظل .
كانت الساعة قد اقتربت من الثانية بعد الظهر ، وكانت القرية في ظل ذلك الخدر المهيمن عليها تأخذ قيلولتها . المتاجر والمكاتب والمدرسة العمومية كانت جميعها مغلقة ومنذ الحادية عشرة صباحاً ، ولن تعود لتفتح أبوابها إلا قبيل الرابعة بقليل ، موعد عودة القطار . وحدها صالة البلياردو ، والحانة ، التابعتان للفندق الواقع بقرب المحطة ، ومكتب البريد الواقع بمحاذاة الساحة العامة ، لم تغلق أبوابها أبداً . بيوت القرية التي كانت جميعها قد بنيت على نموذج متشابه هو الطراز الموحد لشركة الموز ، كانت قد أحكمت إغلاق أقفالها وشبابيكها مع أن الحر كان خانقاً لدرجة أن بعض السكان كانوا يتناولون غداءهم في الفسحة أمام البيت ، بينما اتخذ البعض الآخر لنفسه موقعاً على الرصيف ، تحت ظلال شجر اللوز ، ليأخذ قيلولته هناك وهو جالس في الطريق العام .
 

4 - ديسمبر - 2008
قيلولة يوم الثلاثاء
قيلولة يوم الثلاثاء (3)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

دخلت المرأة والبنت القرية دون أن تعكرا صفو قيلولتها وهما تبحثان عن الاحتماء بظلال شجرات اللوز . توجهتا مباشرة إلى الأبرشية . نقرت المرأة بإصبعها على حديد الشباك . انتظرت قليلاً ، ثم أعادت الكرة . صوت أزيز مروحة كهربائية كان يتردد داخل الغرفة . لم يُسمع وقع خطى وإنما فقط صوت صرير الباب ومن بعدها بقليل ، بالقرب من حديد الشباك ، صوت يسأل بمنتهى الحذر : " من أنتما ؟ " كانت المرأة تحاول النظرمن خلال فتحة شباك الأبرشية .
 
" أريد مقابلة الخوري ، قالت .
ــ إنه نائم .
ــ الأمر عاجل " ، أصرت المرأة .
 
كان صوتها هادئاً وفيه نبرة مصممة .
 
فُتح الباب بحذر ، وبدون ضجة ، لتظهر فيه امرأة متوسطة السن ، بدينة ، شاحبة اللون ، وقد ابيض شعر رأسها . أما عيناها ، فلقد بدتا صغيرتين جداً من وراء الزجاج السميك لعدسات نظارتها .
 
" ادخلا " قالت ، وهي تفتح الباب على مصراعيه .
 
دخلتا إلى قاعة قد تشربت برائحة الزهور منذ أمد طويل . قادتهما المرأة نحو مقعد من الخشب وطلبت إليهما الجلوس . جلست البنت بينما بقيت الأم واقفة تتأمل وهي تحتضن حقيبتها وتضمها إلى صدرها بكلتا يديها . لم يكن هناك أية ضجة تُسمع خلف طنين المروحة الكهربائية .
 
عادت المرأة للظهور من خلال الباب الموجود في أقصى القاعة ، وهي تعلن بصوت خفيض :
" يقول إنه بإمكانكما العودة عند الساعة الثالثة ، لقد رقد منذ خمس دقائق ليس أكثر .
ــ سوف يعود القطار عند الثالثة والنصف " ، قالت الأم .
 
كان جوابها حازماً ومختصراً ، غير أن نبرة صوتها الهادئة لم تخف حزنه . ولأول مرة ، أخذت المرأة تضحك لهما .
 " حسناً " ، قالت .
 
عندما أغلق الباب الداخلي من جديد ، جلست الأم بقرب الفتاة . كانت القاعة صغيرة ومعدمة لكنها نظيفة ومرتبة . في الجهة الأخرى منها ، حيث منصة من الخشب كانت تقسمها إلى قسمين ، كان هناك مكتب صغير مغطى بقماش مشمَّع ، فوقه آلة كاتبة من الطراز القديم وبقربها إناء فيه بعض الزهور . سجلات الأبرشية كانت قد صُفَّتْ وراء المكتب بانتظام ، وكان من الممكن الاستنتاج بسهولة بأن هذا المكتب يحظى بعناية امرأة عازبة .
 
 

4 - ديسمبر - 2008
قيلولة يوم الثلاثاء
 85  86  87  88  89