 | تعليقات | تاريخ النشر | مواضيع |  | بمناسبة أسبوع شوقي(4) كن أول من يقيّم
تَرْجَمَةُ الشِعْر للسيد مُحب الدينِ الخَطيب ذهبَ الأستاذُ المازني إلى أن مقياسَ جَودةِ الشعْر عنده: أن الجيدَ في لغةٍ جيدٌ في سواها. وفي صدقِ هذه القضية نظر, لأن الشعر في لغة إذا نُقل إلى لغةٍ أخرى فإن الذي ينتقلُ إلى اللغة الأجنبية إنما هو عنصرٌ واحدٌ من عناصر الجمال في القطعة الشعرية وهو المعنى, وتبقى عناصرُ أخرى كانت تبعثُ الروعة والاعجاب في نفوس قراء الشعر بلغته الأصلية وهي مما لا يمكنُ نقلُه, لأنها ترجعُ إلى روابطَ خاصةٍ بين تلك اللغة وعقلية أهلها, كما ترجعُ إلى الملابسات لا تعدو أبناءَ اللغة الأولى, كالاشارة إلى مثلٍ خاصٍ بهم دون غيرهم أو إلى حادثة لها في قرارة نفوسِهم ذكرياتٌ لا يشعرُ بها غيرهم. ولعل شعرَ الحِكْمة والتصَوف- كشعر المعري والخيامِ وتاغُورَ- هو بعد الشعر القَصصي أكثر من غيره احتفاظاً بجماله إذا نقل من لغة إلى لغة, ومع ذلك فإن تاغور يرى أن قوة البيان لا تكون واحدة في اللغتين المنقول منها والمنقول إليها, لأن لكل كلمة جواً خاصاً بها في لغتها, وإذا أمكن ترجمة تلك الكلمة فإن هذا الجو لا يترجم وإذا كان المترجَمُ شعراً فإن موسيقى الشعر بلغته الأصلية لا تنقل بالترجمة إلى لغة أخرى, حتى لو كان مترجمها باللغة الثانية هو صاحب الشعر باللغة الأولى. يقول هذا الكلام تاغور الذي عانى هذه الصناعة وتولى بنفسه نقل شعره إلى اللغة الانكليزية التي أجمع كل الذين سمعوه يتكلم بها أنه يجيدها إجادة لا مطمع لأحد بالزيادة عليها. وأذكرُ أنني لما كنتُ في القسطنطينية كتبَ الأستاذ السيد مصطفى صادق الرافعي إلى ابن عم له هناك ملحا في أن يحملني على ترجمة شيء من الشعر التركي الحديث ليطلع على أساليب القوم ومناحيهم, فكنتُ آخذُ المقطوعة البديعة جداً من المقطوعات الشعرية التي كنا نقرأها بشغف, فأترجمها محتفظاً بأدق ما فيها من المعاني, ثم أعلق عليها بذكر ما يلابسها من نكات يعرفها القارئ التركي دون غيره, فإذا أعدت النظر فيها وقارنتها بالأصل أجد من الظلم العظيم لصاحبها أن أرضى لشاعريته بالصورة التي ستنتقش في ذهن الأستاذ الرافعي عند قراءته ما أترجمه من شعر ذلك الشاعر. ولما كتبتُ بحثَ ( الأدب التركي في ثلاثة أدوار) وظهر بعضه في المجلد الثالث من (الزهراء) عاد فطلب إلي أن أترجم شيئاً من شعر عبد الحق حامد, فوجدتُني لا أزال الآن على رأيي الذي كنتُ عليه لما كنت في القسطنطينية. ومع ذلك فإن الأستاذ كرد علي يقول إنهم جربوا ترجمة (دِمَشقية شوقي) بالفرنسية فأعجبوا بها, ولست أدري إلى أي حد تقيدوا بأغراض شوقي ومعانيه عند نقلها. هل الفن للفن, أم الفَن للفضيلةِ والخيْر? زعم المشتغلون بتعريف الفن فيما مضى أن الغاية منه (التعبير عن الجمال). ثم بدت لهم حقيقة رائعة وهي أن الجمال عند قوم قد يكون قُبحاً عند آخرين, فما تراه الغادة اليوم جمالاً في شَعرها كانت تعتبره أمها قبل عشر سنين في منتهى القبح, وما تعتبره المرأة الصومالية جمالاً تتحدثُ عنه المرأة الايطالية بتنقص وازدراء. وزعم آخرون أن غاية الفن تقليدُ الطبيعة, وقد خُدعتُ بهذا المذهب في طفولتي فقلت: كأنما الطيرُ فوق الطرْس ينظرُ لي شَزْراً يقبح ما في الطرس من فِكَرِ يقول: سُخطاً لشعر رام قائلُه وصفَ الجمال فلم يرسمه كالصور فهل يرى القارئ أن الصورة الشمسية لمشهدٍ من مشاهد الطبيعة تعد قطعة من القطع الفنية? الواقع أنه لا يراها كذلك. وذهب(إبيولِتْ تِنْ) إلى أن الغرض الذي يرمي إليه الفن بيان الصفة الممتازة في طبائع الأشياء, ثم يكون ما بعدها من الصفات- سواء كان من لوازمها أو من الصفات المشتركة- تبعاً لتلك الصفة الممتازة. وهذا كلامٌ حسن, لكنه يصبغ الفن بصبغة علمية, لأنه ينكر شخصية المتفنن وما لها من أثر جوهري في أسلوب البيان أو طريقة الأداء. وقد انتبهَ إلى ذلك (إميلْ زُولا) فقال في حد الفن: هو الطبيعةُ منظوراً إليها من مزاجِ المتفنن. فالمتفنن لا يعبرُ عن الحياة وعن الطبيعة بحقيقتهما الواقعة, كما كنتُ أظُن أيامَ الصِبا, بل يعبر عنهما كما يرتسمان في مزاجه, ومن هنا كان لشخصية المتفنن والعناصر التي يتكون منها إيمانه وتفكيره وحُكمه دخلٌ عظيم في قيمة الآثار الفنية التي تصدر عنه إلى الناس. ولكن هل يجوز أن يكون مزاج المتفنن طليقاً من كل قيد, أم تشمله القاعدة التي تجعل للحريات حدوداً? أو بتعبير آخر: هل يستوي الشاعر الذي يقف مواهبه لخير الجماعة والشاعر الذي لا يبالي بما يصدر عن مواهبه من خير أو شر? والمشتغلون بالأدب اصطلحوا على أن يتساءلوا في هذه القضية: هل الفَن للفن, أم الفن للفضيلةِ والخيْرِ? هنا أمران يجب أن يلاحظهما كل من يخوض في هذا الحديث: الأول: أن الشاعرَ وكُل متفننٍ هل يعيش لنفسه أم للجَماعة? وإذا كان يعيشُ للجماعة هل يريد أن يكون فيها كالكوكايين يَلَذ ويؤذي, أم يريد أن يكون كالوردة يَلَذ وينفع? الثاني: هل الاعتبارات الأدبية واحدة في كل أمة, أم أن الآداب للأمم كالغذاء للأفراد فما يُتسامح به في الأمة القوية ربما كان وبالا على الأمة الضعيفة? الذي أفهمُهُ أنا هو أن هذا الشرقَ يجبُ أن ينتفضَ من سِنَةِ الكَرى التي امتلأتْ بها عيناه, وأن يقتصد في الوقت فيتخذ من كل قوةٍ مدداً لحياته: وما دامَ الشعرُ قوةً ذاتَ سلطانٍ على النفوس فيجبُ أن تنصرف هذه القوة للجد لا للهزل, وللعمل لا للكسل, وللرجولة لا للتخنث, ولتوجيه القوى القومية إلى آفاق المجد, وتحويلها عن جو الفناء الضائعة فيه الآن تحت سقوف المقاهي والملاهي... لقد سئمَت النفوس كتابَ حلبة الكميت وديوانَ رامي, فغذوها بمثل شعر كيلنغ الانكليزي ومحمد أمين التركي. إن أممَ الشرْقِ في خَطرٍ, فدَعونا من هذيانِ الفَن للفن فيما لا يتفِقُ مع الفضَائلِ الفَرْدية والقَوْمية. إن الشاعرَ لا يعيشُ لنفسه بل يعيشُ لقومه. وهذه الشعوبُ الناطقةُ بالضادِ أحوجُ إلى شاعرٍ يأخذ بأيديها إلى معتركِ الحياةِ ومَيدانِ العملِ, منها إلى شاعرٍ يأخذ بشبانها وشاباتها إلى باب الحانَة بأحابيل الغَزَل. إذا كانت أممُ الغرب آمنةً بأساطيلها وجيوشها وجامعاتها ومصانعها ومصارفها من الأخطار القومية والعلمية والاقتصادية, وعندها متسعٌ من الوقت تتمتع فيه بالفن الذي صيغ للفن, فنحن معشر الشعوب الناطقة بالضاد موجودون في وسط حريقة, فهل يشعر بذلك شعراؤنا?
| 18 - مايو - 2007 | دفاعا عن أمير الشعراء ( أحمد شوقي) |  | الحلْقة الأخيرة كن أول من يقيّم
الاصْلاحُ الذي نَحْتَاجُ إليْهِ في شِعْرِنَا للسيد مُحب الدين الخَطيب أما الأسلوبُ والديباجةُ فيَجِبُ أن يبقيا عَربيين كما كان ينظمُ بشار والبحتري والشريف الرضي, وكما كان ينثرُ عبد الحميد وابنُ المقفع والجاحظ. وكما لا يجوز أن تمتد اليدُ الآثمة بالتشويه إلى الفََن الذي أُبدِعتْ به جبهةُ الحمراءِ وأقواسُها ونُقُوشها, ومعالمُ مسجدِ السلطان حسن ودقائقه وبدائعه, كذلك أسلوبُ العربية الصحيحة الخالدَة بالقرآن يجبُ أن يبْقى ما بقي القرآن. وأما فيما عَدا ذلك فكما يجوزُ لنا أن ننشيء وراء مثل جبهة الحمراء غُرفاً مهندَسة بأنفع أساليب الهندسة الاقتصادية التي وصلت إلى معرفتها مداركُ البشر, كذلك يجوز لنا أن نُعدل بعضَ نظرياتنا في الشعر, ما قضت بذلك حياتُه وحياةُ الأُمة به. يَحسُنُ بنا بعد الآن أن نعتبرَ القطعةَ الشعرية بمجموعها, كُلاً مؤلفاً من عناصرَ لا يتم إلا بها. أي أننا يجب أن نعدل عن نظريتنا القديمة التي تعتبر البيت كلا مستقلاً, ويصبح الكل في نظرنا هو القطعة بمجموعها. وهذا لا يمنع أن تتخلل القطعةَ أبياتٌ استطرادية يكون الواحد منها مضربَ المثل يتحدثُ الناسُ به في مقام الاستشهاد لحقائق الحياة, وآيةً في الحكمة ترتلها الألسنة في مواقف العظة والاعتبار. وما دمنا قد اعتبرنا القطعة الشعرية كُلا مؤلفاً من عناصر لا يتم إلا بها فمن مقتضى ذلك أن يجتنب الشاعرُ هذه الاستطرادات في القصيدة الواحدة, وألا يتنقل فيها من موضوع إلى موضوع آخر ليس من جنسه, وأن يعرض إلى الأبد عن تقديم النسيب بين يدي الأغراض الأخرى التي هي مقصودة بالقصيدة دونه, ومن مقتضى اعتبار القطعة بمجموعها كلاً أن يُعنى الشاعر بمَغْربها عنايته بمطلعها, فيفرغ في البيت الأخير من القوة ما يبقى رنينه في النفس طويلاً, كما يكون لتلك الضربة الشديدة التي ينتهي بها الدور في موسيقى الجيش. ومما يحسنُ ملاحظته أن يكون حجمُ القطعة الشعرية متناسباً مع ما يحتمله موضوعها, فقد تكفي السبعة الأبيات ليؤدي بها الشاعر كل غرضه, ويحيط فيها بما أراده, وتكون لها عند قرائها من الحرمة والمكانة ما للقصيدة الكبرى. وقد كان شوقي أولَ من جرب الشعر التمثيلي في رواية (علي بك) قبل خمسة وثلاثين عاماً, ونظم القصيدة الكبرى غير مرة. لكن هذا النوع من النظم المطول يجب أن تتداوله الأقلام الكثيرة وتتعاون عليه, ويجب أن يسعفه المسرح ويوالي التجربة فيه, ويحتاج إلى أن تكون في الشباب روحٌ أدبية تتلقى ثمراته بإقبال, ليوالي كُفاتُها عملهم بنشاط. وفي القصيدة الكبرى, وفي الملحمة, يحسن تنويع الموضوعات والتنقل فيها. ويحسن تنويع الوزن والقافية على ما تقتضيه المعاني, وعلى ما تقتضيه موسيقى تلك المعاني: من أوزان تلائم الروح الهادئة, إلى أوزان تسعف النفس الهائجة, إلى نغمة لائقة بمقام الحزن, إلى رنة تكمل معنى الابتهاج, وكذلك الأمر في القوافي. وبعدُ, فقد كان أشرفَ ينابيع الشعر التي شرب منها شوقي وغير شوقي من شعرائنا ينبوعان: الطبيعة والتاريخ. وأبدع مظاهر شعره وشعرهم الوصف, وما دمنا نتكلم في الاصلاح والتجديد فيجدُر بنا أن نلتمس من شعرائنا- وفي أيديهم مفاتيح القلوب- أن ينتقلوا بنا إلى أدب آخر غير أدبنا الحاضر, إلى أدب التوحيد الذي تشترك فيه الشعوب القارئة لهذا الشعر, وإلى أدب الحياة الذي تعرف به هذه الجماعات طريق القوة, وإلى أدب التقوى الذي نخرج به من رذيلة الضعف ونبرأ به إلى الانسانية من جريمة الخنوع. نريد أن نحيا وتمنعنا أدواء: في الشعر علاجها, ونريد أن نسير وفي الصدور رهبة لا تزيلها غير صرخات الشعراء تهيب بنا إلى ميادين الشرف. إن الغربَ لما أراد أن يملكَ رقاب الشعوب التي تقرأ شعركم يا شعراء العربية استهواها بملاهيه وزخارفه وأهوائه وموبقاته. ولا خلاص لهذا الشرق العربي من شِراك الغرب إلا إذا عدل أهله عن تلك الزخارف والموبقات إلى ما في الغرب من صناعة ونظام ومعرفة, وهل من قوة تستطيع تحويلَنا عن ذاك إلى هذا أشدُ تأثيراً من المدرسة للبنين والبنات, ومن قوة الشعر للفتان والفتيات? إن الشاعر ترجمان الالهام, ولا يكون الشاعر صادقاً فيما يترجمُ عنه من مُلهمات الطبيعة والفضيلة والحياة إلا إذا كان متصفاً بما يدعو إليه من صفاتٍ ومحامدَ وأخلاق. هو قائد الأمة وحامل رايتها إلى المطمح الأقصى في الأغراض القومية, وإلى المثَل الأعلى في الفضائل الانسانية, ولا يستطيع الشاعرُ خوض غمار المعركة في هذه القيادة إلا إذا كان مؤمناً بما ينطق به من إرشاد, وعاملاً بما يتغنى بذكره من مبادئ, وصادقاً فيما يأمر به من معروف وينهى عنه من منكر. أما الكلام الجميل الذي يصدر عن اللسان فإنه يمر بالآذان ضيفاً ثم يذهب طنينه مع موجات الريح, وأما الكلام الصادر من القلب فهو الذي يملأ القلب ويسكن في قرارة النفس, وذلك هو الشعر, وصاحبه هو الشاعر. | 19 - مايو - 2007 | دفاعا عن أمير الشعراء ( أحمد شوقي) |  | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة 1 كن أول من يقيّم
بداءةُ الزَّجَل: وأوليةُ هذا الأمرِ كان كما وقع في المقدمة لابن خلدون: ’’لما شاع فنُّ التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقتهم بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعراباً، واستحدثوا فناً سموه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب واتسع فيه للبلاغة مجال، بحسب لغتهم المستعجمة’’.اهـ رُؤوسُ الزجَّالة المغاربة المذكورون وأول من تكلَّم بالزَّجل: اختلف الناس في أوَّلِ من تكلَّم بالزَّجل, لكنَّهم اتَّفقوا على أنَّ رأسَ هذه الطَّريقة الهزْليَّة البديعة وعَلاَّمَها غير مدافع هو أبو بكر بنُ قُزمانَ القُرطُبي(ت555) من بيتِ بني قزمانَ في قرطبة, وهو بيتٌ جَليلٌ منه أعلامٌ ونبهاء, وكان أديباً بارعاً, ولَوذعياً محسناً, به ظهَر الزجلُ وانتشرَ في مرابع الأندلس, وحواضر المغرب والمشرق, حتى قيل إنه آية هذه الطريقة الزجلية المعجزة, وحُجَّتها البالغة, وفارسها المُعْلِم, والمبتدي فيها والمُتمم. ووصفه ابنُ حِجَّة الحموي في صدر كتابه بلوغ الأمل في فن الزجل بأنه:’’ اخترع فنا سماه الزجل لم يسبق إليه، وجعل إعرابه لحنه، فامتدت إليه الأيدي، وعقدت الخناصر عليه’’.اهـ ووقع في كلام ابن خلدون ما يدل على أنه قد سُبِقَ إليها لكنها لم تشتهر إلا على يديه, فنُسِبتْ إليه, قال في المقدمة: ’’وأولُ من أبدعَ في هذه الطريقةِ الزجَلية أبو بكر بن قُزمان، وإن كانت قيلتْ قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها, واشتهرت رشاقتها, إلا في زمانه. وكان لعهد الملثمين، وهو إمام الزجالين على الإطلاق. قال ابن سعيد: ورأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رُخامٍ يصب الماء مِن فِيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال: | وعريش قد قام على دكـان | | بحـــــــال رواق | | وأسد قد ابتلـع ثـعـبـان | | من غـلــظ ســـاق | | وفتح فمه بحـال إنـسـان | | بيه الـــفـــــراق | | وانطلق من ثم على الصـفاح | | وألـقـى الـصـــياح | قلتُ(طه): و(بحال) هنا بمعنى مثل أي مثل رواق, ومثل انسان, ولا تزال مستعملة بكثرة في العامية المغربية لهذا العهد. ولم يستعمل كاف التشبيه في بحال لأن استعمالها من العيوب عندهم في الزجل. وقد أورد له ابن سعيدٍ في (المُغرب في حلى المغرب) أزجالاً كثيرة منها هذه القطعة: | اش نقل لك بقيت كذا مبهوت | | وأخذني فزع بحال من يمــوت | | وقفز قلب مثل قفز الحــوت | | وضرب بالجناح بحال برطــال |
وقال ابن حجة في بلوغ الأمل ما نصه: ’’واختلفوا فيمن اخترع الزجل، فقيل: إن مخترعه ابن غزلة(1)، استخرجه من الموشح لأن الموشح مطالع وأغصان وخرجات، وكذلك الزجل والفرق بينهما الإعراب في الموشح واللحن في الزجل وقيل: بل مخلف بن راشد، وكان هو إمام الزجل قبل ابن قُزمان. وكان ينظم الزجل بالقوي من الكلام، فلما ظهر أبو بكر بن قزمان ونظم السهل الرقيق مال الناس إليه وصار هو الإمام بعده، وكتب إليه ينكِّتُ عليه في استعمال يابِسِ الكلام القوي: | زجلك يا ابن راشد قوي متين | | وإن كان هو بالقوة فالحمالين | يريد: إن كان النظم بالقوة فالحمالون أولى به من أهل الأدب. وقيل: بل مخترعه مدغليس وهذا الاسم مركبٌ من كلمتين أصله مضغ الليس والليس جمع ليسة وهي ليقة الدواة، وذلك لأنه كان صغيراً بالمكتب يمضغ ليقته، والمصريون يبدلون الضاد دالاً فانطلق عليه هذا الاسم وعرف به وكنيته في ديوانه أبو عبد الله بن الحاج، عُرف بمدغليس والصحيح أنه ليس بمخترعه، لأنه عارض ابن قزمان، وهذا دليل على أنه معاصره أو متأخر عنه’’.اهـ ومما يُستأنس به في تاريخ هذه الطريقة الزجلية ما ذكره الأستاذ الأكبر مصطفى صادق الرافعي في تاريخه العظيم (تاريخ آداب العَرب) ولم يسنده إلى مُؤَلِّفٍ معلوم, ولا مُؤَلَّفٍ موسوم, قال: ’’ورأيت في بعض الكتب أن ابن قزمان هذا أول من تكلم بالزجل، وسبب ذلك أنه وهو في المكتب عشق بعض الصبيان، فرفع أمره لمؤدب فزجره ومنعه من مجالسة الصبي، فكتب في لوحه: | الـمـلاحُ ولاد أمــاره | | ولا وحاش ولاد نصاره | | وابن قزمان جـا يغـفـر | | ما قبلوا الشيخ غـفـاره | فاطلع عليه المؤدب فقال: قد هجوتنا بكلام مزجولٍ، فيقال إنه سمي زجلاً من هذه الكلمة. ولست أثبت هذه الرواية ولا أنفيها’’.اهـ | 27 - مايو - 2007 | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة |  | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة 2 كن أول من يقيّم
هذا وقد اشتهر مع ابن قزمان من معاصريه بهذه الطريقة القاضي أبو عبد الله محمد بن حسون (ت 519) من أهل مالقة وقد يكون سابقاً لابن قزمان وهو من أئمة هذه الطريقة ومن مطالع بعض أزجاله: | لي تقـدير شـهـر | | منذ عشقت الفلانية | | لم نطـيق سـهـر | | ولا لقيت ليلة مهنية | وممن عاصروا ابن قزمان أيضاً من كبار الزجالة: عيسى البليدي, وأبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي, وأبو الحسن المقري الداني, وأبو بكر بن مدين, وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود وكلهم دون إمام الطريقة ابن قزمان بالاجماع. (وأزجالهم مذكورة في المقدمة لابن خلدون وغيرها فانظرها فيها ). ثم جاءت بعدهم حلبةٌ كان سابُقها عبد الله بن الحاج المعروف بمَدْغلِّيس من أهل القرن السادس, وهو الخليفة الأوحد لابن قزمان في زمانه وقد وقعت له العجائب في هذه الطريقة, ونقل العلامة المقري في نفح الطيب عن أهل الأندلس قولهم: ''ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبِّي في الشُّعراء، ومَدْغلِّيس بمنزلة أبي تمَّام، بالنظر إلى الانطباع والصِّناعة، فابن قُزمان ملتفتٌ إلى المعنى، ومدغليس ملتفتٌ للَّفظ وكان أديباً معرباً بكلامه مثل ابن قزمان، ولكنه لما رأى نفسه في الزجل أنجب اقتصر عليه''.اهـ ومن قوله في زجله المشهور: | ورزاذ دق ينـــــزل | | وشعاع الشمس يضـرب | | فترى الواحـد يفـضـض | | وتـرى الآخـر يذهـب | | والنبات يشرب ويسـكـر | | والغصون ترقص وتطرب | | وبـريد تـجـي إلـينـا | | ثم تستـحـي وتـهـرب | وظهر بعد هؤلاء بإشبيلية ابنُ جَحدر الأشبيلي في النصف الأول من القرن السابع, وكان إمام الزجالين في عصره, وإبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي(ت649) وقد عَدَّه المقري في نفح الطيب من شعراء اليهودية وقيل إنه مات على الإسلام, وبعضهم ينفي ذلك كأبي الحسن علي بن سمعة الأندلسي فإنه قال: ''شيئان لا يصحان: إسلام إبراهيم بن سهل, وتوبة الزمخشري من الاعتزال'' وله أزجال ذكرها ابن حِجَّة الحموي في بلوغ الأمل لكنَّهُ نبغ في فن الموشحات وبه اشتهر وفيه مهر, ثم جاء من بعدهما إمام الأدب أبو الحسن سهل بن مالك, ثم كان أبو الحسن علي بن عبد الله النميري المعروف بالششتري(610-668) وكان باقعةً في الزجل والشعر والتصوف, وصفه ابن الخطيب في الاحاطة بقوله:'' عروس الفقراء، وأمير المتجردين, وبركة الأندلس، لابس الخرقة, أبو الحسن. من أهل ششتر، قرية من عمل وادي آش معروفة, وزقاق الششتري معروف بها. وكان مجوداً للقرآن، قايماً عليه، عارفاً بمعانيه، من أهل العلم والعمل''.اهـ وقد خَلُص بعض الباحثين إلى أن الششتري هذا كان أوَّلَ من استعمل الزَّجل في المعاني الصوفية, والمقامات العرفانية, كما كان الشَّيخ محي الدين بن عربي أوَّلَ من استعمل الموشح في ذلك.(2) وقد أكثر الششتري التَّطواف في البلاد الأندلسية, ورحل إلى المغرب واجتال أقاليمها, حتى ألقى عصى التَّجوال في دمياط من بلاد المشرق ودفن بها. | 27 - مايو - 2007 | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة |  | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة 3 كن أول من يقيّم
وقد أولعَ إخوانُنا المشارقة لهذا العهد بمقاطيع من أزجاله وتغنوا بها ولحنوها, حتى إن رائعته الشهيرة (شويخ من أرض مكناس) قد لحَّنَها مُلحِّنٌ منهم فتتابع على غنائها أكثر من سبعة من مطربيهم من أصحاب الأصوات الندِيَّة.(3) وهذه قطعةٌ منها كما وردت في إيقاظ الهمم لابن عجيبة وقدم لها بقوله: ’’الششتري كان وزيراً وعالماً وأبوه كان أميراً فلما أراد الدخول في طريق القوم قال له شيخه لا تنال منها شيئاً حتى تبيع متاعك وتلبس قشابة وتأخذ بنديراً وتدخل السوق ففعل جميع ذلك فقال له ما تقول في السوق فقال قل بدأت بذكر الحبيب فدخل السوق يضرب بنديره ويقول: بدأت بذكر الحبيب فبقي ثلاثة أيام وخرقت له الحجب فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق ومن كلامه رضي الله عنه | شويخ من أرض مكناس | | في وسط الأسواق يغني | | آش علي من الـنـاس | | وآش على الناس منـي | ثم قال | اش حـد مـن حــد | | أفهموا ذي الأشـاره | | وأنظروا كبر سـنـي | | والعصا والـغـراره | | هكذا عشـت بـفـاس | | وكـد هـان هـونـي | | آش علي من الـنـاس | | وآش على الناس مني | | وما أحسـن كـلامـه | | إذا يخطر في الأسواق | | وترى أهل الحوانـت | | تلتفت لو بالأعـنـاق | | بالغرارة في عنـقـو | | بعكيكـز وبـغـراف | | شيخ يبني على سـاس | | كأنشاء اللـه يبـنـي | | اش علي من الـنـاس | | واش على الناس مني | ومن أئمَّة المتقدِّمين أيضاً ممن ذكرهم ابن حجة في بلوغ الأمل: الحييط البرذعي, وابن المليكة, وأبو الحسن بن عمير. وذكر فيه أن مدائن المسلمين المختصة بالزجالين في الأندلس لذلك العهد أربع: وهي إشبيلية, وقرطبة, وبلنسية, ومالقة. | 27 - مايو - 2007 | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة |  | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة 4 كن أول من يقيّم
ثم استقل بها في أول المائة الثامنة أبو عبد الله اللوشي(4) وكان من المجيدين لهذه الطريقة وله فيها قصيدة طويلة الذيل يمدح فيها السلطان ابن الأحمر ذكرها ابن خلدون في المقدمة منها: | تحت العكاكن منها خصر رقـيق | | من رقتو يخفي إذا تـطـلـبـو | | أرق هو من ديني فيمـا تـقـول | | جديد عتبك حـق مـا أكـذبـو | | أي دين بقا لي معاك وأي عـقـل | | من يتبعك من ذا وذا تسـلـبـو | | تحمل أرداف ثقال كـالـرقـيب | | حين ينظر العاشق وحين يرقبـو | قلت:والعكاكن مأخوذة من عُكَن الثوب أو الدرع وهو ما تثنى منها على اللابس إذا كانت واسعة. والمعنى أن هذه العُكن المتثنية من الثوب تخفي تحتها خصراً رقيقاً لطيفاً. ثم محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش, وعصريه الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملة الاسلامية غير مدافع كما وصفه صديقه ابن خلدون وهما من أعيان القرن الثامن. وقد كان العامة من أهل الأندلس في المائة الثامنة يتخذون من الطريقة الزجلية فنهم ومذهبهم, وفيها نظمهم, حتى إنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر, لكن بلغتهم العامية, ويسمُّونه الشِّعر الزَّجلي كما ذكر ذلك ابن خلدون في مقدِّمته فكان هذا اللَّونُ يجمع بين لحن الزجل ووزن الشعر, مثل قول شاعرهم: دهر لي نعشق جفونك وسنـين وأنت لا شفقة ولا قلب يلــين حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السمكة بين الحدادين الدموع ترشرش والنار تلتهب والمطارق من شمال ويمــــين خلق الله النصارى للغــزو وأنت تغزو قلوب العاشقـــين قلت وفي ما قاله ابن خلدون نظر فإن نظم الزَّجَل في بحور الشِّعر كان منذ انطلاقة الزَّجل الأولى فهذا ابن حجة الحموي يقول في بلوغ الأمل: ’’وأوَّل ما نظموا الأزجال جعلوها قصائد وأبياتاً محررة في أبحر عروض العرب بقافيَّةٍ واحدة كالقريض لا يغايره بغير اللحن واللفظ العامي، وسموها القصائد الزجلية، فمن ذلك للشيخ أبي عبد الله مَدْغلِّيس قصيدة في بحر الرّمل عدتها ثلاثون بيتاً مطلعها: | الهوى حملني ما لا يحتـمـل | | ترد الحق ليس لمن يهوى عقل | | ليس نقع في مثلها ما دمت حيّ | | إن حماني من ذا تأخير الأجل | ثم دخلتْ المائةُ العاشرةُ فسطَعَ في المغرب نجمُ زجالها الأكبر, ونِقْرِيسِها الأعظم: سيدي عبد الرحمن المجذوب(ت 976) وكان مشهوراً بالانطباع والصنعة في الأزجال, وهو اليوم عند المغاربة أكثر الزجالة شهرة, وأبعدهم صيتاً وحظوةً على الإطلاق, وإن أزجاله لعلى طرف كل لسان, ومحفوظة في الصدور والأذهان.وسيأتي الكلام عليه بعدُ. <><><><> <<>><<>><<>> | 27 - مايو - 2007 | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة |  | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة 5 كن أول من يقيّم
الزجلُ لحنٌ في اللغة لكن...: والزجلُ كما تَرى كسائِر الكلام المنظُوم والمنثُور: حسنُه حسن, وقبيحُه قبيح, ويَتَوخى فيه أهلُه أقربَ الوجوه إلى الفصيح, وكان أكثرُ القائمين عليه من الفُصحاءِ الأبْيِناءِ لعهدٍ سبقَ, ويأتون به على وجه التفَنُّنِ في الكلام, أما اليومَ فقد باتَ كلاماً سائلاً على الطرُقاتِ, يتخطَّفُه كل مِنْقارٍ, ويَرمي به كلُّ شِدقٍ, فهُجِّنَ كما هُجِّنتْ سائرُ الآدابِ فصيحُها وعَامِّيها. وإنك لواجدٌ في بعض الزجلِ مع كونه لحناً: مسحةً من الجزالة, وفي ألفاظِه وصُوره عذوبةً وسلاسة, ولا ينحَط به إلا كونه لحناً, واللحنُ عند العَرب عيبٌ في اللسان, وهجنةٌ في البيان. لكنه يبقى في مذهب الأقدمين صَنعة العوام, وطريقة الزعانف والطغام, لأنه لحنٌ في اللغة, وعادة العامة الانحراف باللسان, واقتباس الأخف من اللغات والألفاظ, وإن كانت أضعف في أصل اللغة وأقل استعمالاً. وربما تناولوا حروفاً من الكلام, وأدوها على الوجه الذي يستقيم لهم, وإن كان معوجاً ملحوناً. فلا يعبأون في لغتهم بالصِّيَغ الصحيحة, وإقامة الوزن, وإعراب الكلام, لأنها لغة الحاجة الراهنة, ولغة السوق التي هي لغة الأرزاق والدراهم. ولذلك كان العلماءُ الأولون يصفون اللفظ العامي الساقط المبتذل بالسُّوقي. لأن الأسواق وما أشبهها هي مادة اللحن, وفساد الألسن, وابتذال الكلام, وسفكه من الأفواه كيفما ارتضته الطَّبائع المدخولة, والسَّلائق اللينة, دون مراعاة لأحوال اللغة ومقتضياتها. بيد أننا لا نقف مع الزَّجل وهو لحنٌ في اللغة, مَوْقفَ الأقدمين مع اللَّحْنِ بالاطلاق, فقد عدوا اللَّحْنَ في المنطق مُطلقاً: أقبح من آثار الجدري في الوجه, وجعلوه هجنةً على الشريف- ولكننا ننهجُ للتمييز طريقاً, ونفتق له مَهْيعاً, لأن من الناس من في طبعه ذوق الأدب, والنكت الأدبية, لكنه ليس من فرسان العربية, ولم يتعاط الآلة في العلوم, ولم يتأدب بتلك الآداب والفنون,فتجده بما رُكِّب في طبعه من ملكة أدبية يأتيك من الأزجال ما يُستطابُ استطابةً, ويُستملحُ في الأذواق استملاحاً حسناً كما علمتَ, وربما أمتع بأكثر من امتاعِ الجزل الفصيح من الكلام. <><><> | 27 - مايو - 2007 | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة |  | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة 6 كن أول من يقيّم
<><><><> ذكْرَى المَجْذُوب: ولقد كُنتُ في العاشرة من سِنِّي وقد طَوَّحَ بي الدَّهرُ إلى قريةِ الطوالع العربيَّةِ على فحوص إقليم ابن سليمان من المغرب الأقصى, فيقع إلي ديوانٌ عتيقٌ ذو ورقات معدودة للزجَّال المغربي الزاهد الشهير: سيدي عبد الرحمن المجذوب ابن يعقوب الصنهاجي. والمجذوبُ هو كلمةُ الزجل الدائرةِ على ألسنةِ عَوام المغرب الأقصى, والحكمةُ المنخولةُ, والزبدةُ الممخوضةُ لمجموع حقائق الحياة, ومعانيها المطروقة, صِيغتْ في قالبٍ من الكلمة العربية الملحونة. وهو معدودٌ في أقطاب الصوفية, وأوليائها الأكابر, بل إنهم دَسُّوا اسمه في سلسلة الحقيقة الشهيرة عندهم, التي ينتهي علمُها إلى أمير المومنين علي كرم الله وجهه بما خصه النبي عليه السلام به من علم الحقيقة, فكان عَليٌّ أوَّلَ من تكلَّم فيه وأظهره, وأخذه عنه الحسن البصري إلى أن يتَّصِلَ السَّندُ بالمجذُوب ويجاوزه إلى من بعده من أكابر الصوفية (انظر إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 2 نشرة الوراق). وقد قرَّرَ ابنُ تيمية في بعض رسائلِه أنهُ سندٌ مُرَكَّبٌ مَصنوعٌ, وخبرٌ مختلقٌ موضوع لا يصح, وهو الحق والله أعلم. <<>><<>><<>> لفتُ انتباهٍ وتوجيهُ نَظرٍ : ولقد أثْبَتَ المجذوبُ في لغةِ أزجاله أن العاميَّةَ المغربيَّةَ ألصقُ بالعربية وأقربُ إلى الفصحى, خلافاً لما يظنه كثيرٌ من الناس اليوم من أن عاميةَ المغاربةِ خليطٌ من العربية والبربرية والفرنسوية والإسبانية, وإن كان لا يُنكرُ أنهم عَلقوا ألفاظاً من هذه اللغات نتيجةَ ملابسةِ الأمم الأعجمية, لكنها قليلةٌ نِسبةً إلى الألفاظِ العربية الغالبةِ عليها, والظاهرةِ فيها. لكنَّ مَنشَأَ هذا الظَّنِّ الشَّائعِ بين النَّاس, إنما هو من كَيفيَّةِ النطْقِ الذي يُغطِّي على المنطق في المسامع على ما يعطيه حقيقةُ الكلام, فالعاميةُ المغرِبية حينَ النُّطقِ بها مُعطَّلةً عن الإعرابِ, محذوفةَ الحركات, ممزوجةً بمادَّة العُجمةِ- يستعجم على المشرقي فهمُها وتمييزها, فإذا فُصِّلَت الألفاظُ وفُصِلَت الكلمات, كما في الزجل نطقاً أو كتابةً بان مأخذها, ورأيتها في عُظمها مُضريةً خالصةً, فإن كيفيةَ النُّطْق قد تُنشِئ لغةً أحياناً كما قرره الرَّافعي في موضعٍ من تاريخه. فقد وقع في (تاريخ آداب العرب) لشيخنا لسَانِ العربيَّة مُصطَفى صادق الرَّافعي رضي الله عنه ما نصه: ’’وقد سمعنا بعض شعرائهم من المعاصرين- يريد البدو والأعراب- ينشد في رثاء الحسين عليه السلام شعرا بدوياً مطلعه: تِمِنتْنِ بَلفِين فوقِ احْصنا يُومْ كرْبلا وِونجِيه قبل الجَنا وألقى الشَّطر الأول مُتلاحِقَ الكلمات, مُختَلَسَ الحركات, فلم نفهم منه شيئاً حتى كَشفَ لنا عن معناه, فإذا ( تمنيتُني بألفين فوق أحصنةٍ) يريد نجدةَ الحسين عليه السلام بفرسانه قبل أن يستشهدَ, وانظر أين ما نطق مما أراد’’. اهـ | 27 - مايو - 2007 | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة |  | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة 7 كن أول من يقيّم
وهذه مقاطيع من أزْجَال المجذوب وهي غاية في الانطباع, ولا يرتاب في قُربها الشديد من العربية, لكنَّ كيفيةَ النُّطق بها ينشئها في الأسماع خلقاً جديداً, حتى يحسبها السَّامعُ مُخَلَّفةً عن لُغةٍ أعجميَّةٍ: -لا تخمم لا تـدبر لا تحمل الهم ديمة الفلك ما هو مسمر ولا الدنيا مقيمة ديمة هنا من: الدوام والديمومة - الصمت الذهب المشجر والكلام يفسد المسألـة إذا شفت لا تخــــبر وإذا سألوك قول: لا لا -كل مهذار مسوس يجيب الهلاك لراسه يستاهل ضربه بموس حتى يبانوا أضراسه - الصاحب لا تلاعبه والناعر لا تفوت عليه اللي حبك حبه أكثر واللي باعك لا تشتريه والناعرُ لفظٌ فصيح ومعناه المخالفُ المعاندُ, وفي حديثِ الحسن: كُلما نعر بهم ناعرٌ اتبعوه, أي ناهضٌ يدعوهم إلى الفتنة ويصيح بهم إليها. - آه يا محنتي عُدت خدام والتبن أعمى عــيوني خدمت عند عرّة النـاس في وجبة العشا يطردوني والعُرةُ: هي الجَرب. -يا قلبي نكويك بالنار وإذا شفيت نزيدك يا قلبي خلفت لي العار وتريد من لا يريدك - حبيبك حبــه والسر اللي بينكـم تخفيه إذا حبك حبه أكتر وإذا تركك لا تسأل عليه -يا اللي تنادي قدام الباب نادي وكن فاهــم ما يفسد بين الأحــباب غير النساء والدراهم -الطير ما ظنيته يطـــير من بعد مــــا والف ترك قفصي وعمر قفص الغير رماني في بحور بقيت تالف والف: بمعنى أَلِفَ, وتالف من التلَفِ: الهلاك والعطب في كل شيء, وهو يريد بهذا هجران زوجه له وزواجها بغيره بعد إلفٍ ومعاشرة فبقي بعدها كالتالف الهالك. ومما أورده له ابن عجيبة في إيقاظ الهمم (نشرة الوراق) نذكر قِطعاً مستحسنة, ونُتفاً مستملحة: -أحفر لسرك ودكو في الأرض سبعين قامه وخل الخلائق يشكو إلى يوم القيامـــه دكو: أي دُقهُ والكاف تنطق جيماً مصرية - من أين جئتي يا ذي الروح الهايما روحانية مقامها بساط العــــز أحوالها ربانية - اتفقوا على الدين تركوه تعاندوا في المالُ لْكساوي الثوب من فوق غسلوه وخلوا القلب الخــاوي -الناس قالوا لي بدعي وأنا طريقي منجورة إذا صفيت مـع ربي العبد ما منه ضرورة والقَصدُ أن طريقتَهُ في العبادة والسلوكِ سُنيةٌ صَحيحةٌ مُقتصِدةٌ, وقوله منجورة يَنظُرُ إلى قول الشاعر: ركبت من الطريق منجرهْ, قال ابن سيدَه: هو المَقصدُ الذي لا يعدل ولا يجور عن الطريق, راجع مادة نجر من لسان العرب. - سايس من النفس جهدك وصْبحْ وْمس عليها لعلها تدخـــل بيدك فتعود تصـطاد بها والمعنى يدور على محاربة النفس ومجاهدتها وقتلها, حتى يتحقَّقَ سيرُ السَّائرين, ورحيلُهُم إلى المحبوب. | 27 - مايو - 2007 | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة |  | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة 8 كن أول من يقيّم
شرطُ الزجَّل اللَّحْنُ: الزَّجل لونٌ من الكلام لا يحتملُ الإعراب عند الزجَّالة فهو ملحونٌ أبداً, ولا يجيزون فيه أن يختلطَ اللَّحنُ والاعرابُ فتكون بعض ألفاظ البيت معربة وبعضها ملحونة, وقد قرر هذه القاعدة واضع هذا الفن أبو بكر بن قُزمان في خطبة ديوانه لما قال: | وجردت فني من الإعـراب | | كما يجرد السيف من القراب | | فمن دخل علي من هذا الباب | | فقد أخـطـأ ومـا أصـاب | ومن أعرب في مواضع اللحن الأربعة: الزجل, والمواليا, والكان وكان, والقوما, فقد أساء و سموا ذلك منه تزنيماً, وعدوه عيباً فاحشاً. لكنَّ بعض زجَّالة المغرب قد وجَّهَ معنى أبيات ابن قزمان هذه إلى تَطلُّب الإعراب وتقَصُّده, والاستكثار منه قال: '' قال ذلك نهياً عن تقصُّد الإعراب وتتبعه والاستكثار منه لئلاَّ يغلب على معظم أزجالهم التَّزنيم، بدليل قوله, ولو نهى عنه مطلقاً أو عن اليسير منه ثم استعمله هو وقومه يصدق عليه قول القائل: | لا تنه عن خلق وتأتي مثله | | عارٌ عليك إذا فعلت عظيم | وإنما أراد بذلك الغالب، والعلماء يطلقون على الغالب حكم الكل مجازاً. اهـ من البلوغ. قلت: يشير بقوله: ''بدليل قوله'' إلى بعض الأزجال التي زنم فيها ابن قزمان نفسه, وأعرب في بعض ألفاظها وهو الناهي عن ذلك كقوله في بيت من زجل أورده ابن حِجَّة في بلوغ الأمل: | إذا انقطع زماني الأطول | | وعليه الثنا يكون ما بقيت | فقد فتح الياء في غير المنقوص في قوله زمانيَ وهو من علائم الاعراب ولولا ذلك لفسد الوزن. ومن الزجالة من قال إنما استعملها ضرورة وهو يعلم أنها عيوب ومنهم من قال: إن ذلك لم يكن مشروطاً عندهم وإنما عوام المتأخرين ابتدعوا ذلك, وكل تلك أقوالٌ أوردها ابن حجة في كتابه بلوغ الأمل المذكور. والحق ما عليه جمهورهم من كون الزجل لا يحتمل الإعراب وإلا فما الفرق بين الموشح والزجل : هذا معربٌ وهذا ملحونٌ. ولحن الزجل إعرابه. ما قيل في عِدَّةِ أوزان الزجل: أما أوزان الزجل فمن ذا يَحصرها ولم تزل متجدِّدة, وأي ذهنٍ يُحصيها وهي في الكثرة متعدِّدة, حتى قال الشَّيخ عزُّ الدِّين الموصلي:'' إن الزَّجل أوزانه ما انحصرت عدداً, وسبله متشعِّبة فهي تتلوا طرائق قددا'' وقالوا: ''صاحب ألف وزن ليس بزجَّال''. ولكنها أوزان غير جائزة في الشعر لخروجها عن البحور المعهودة, وبذلك يفهم مغزى قول ابن الخطيب المتقدم في وصف الطريقة الزَّجليَّة:’’ وتنفسح لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر.'' | 27 - مايو - 2007 | عجالة في تاريخ الزجل والزجالة |
|