الإسهامات الحضارية للمرأة المسلمة5 كن أول من يقيّم
وعن التِّفاصيل التَّعليميَّة لحياة لمرأة المسلمة نجد مثلاً الذّهبي في كتابه تاريخ الإسلام قدَّم نبذة سريعة عن أم الفتح والمنهج الدِّراسي الذي تعلمت منه فذَكر فاطمة القرطبيَّة وعدَّدَ أسماء الكتب التي حفظتها أو درستها ومنها كتاب الكامل في اللُّغة والأدب للمبرِّد، وصحيح مسلم، والسِّيرة لابن اسحاق ثمَّ ذكر أسماء مَنْ تعلَّم منها وماذا أخذ عنها (ص 10382). رابعة العدوية من ألمع الشَّخصيات التي نادت بالتَّربية الزُّهديَّة، والاعتناء بتنقية القلب وكان الْعُلَمَاء يزورونها في دارها فيتعلَّمون من كلماتها الشَّيء الكثير. عاشت رابعة في القرن الثَّاني الهجري (ت 185 هـ = 801 م) في مدينة البصرة. تتبَّع الْعُلَمَاء حِكَمَها التي أَثْرت التُّراث العربي ونسج النَّاس حولها الأساطير ونسب الصُّوفيون إليها بعض الأقوال منها الصَّحيحة ومنها غير ذلك. قال ابن كثير "هي رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك العدوية البصرية العابدة المشهورة" ذكرها كثير من العلماء وأثنى عليها أكثر النَّاس. جاءَ في الأذْكَار النَّوَويَّة عن رابعة العدوية: "استغفارُنا يحتاجُ إلى استغفار كثير". أي أنَّنا إذا استغفرنا ثم أصررنا على فعل المعاصي ولم نُقْلِع عن الذُّنوب فإنَّ توبتنا في هذه الحالة تحتاج إلى توبة أخرى صادقة. ميراث رابعة وسيرتها جزء مُتمِّيز في ثنايا الثَّقافة الشَّعبية والدِّينية في تاريخنا الإسلامي منذ أكثر من 1200 سَنة. يرى بعض المستشرقين أنَّ شَخْصِيَّة وأفكار رابعة العدوية – بصورة أو بأخرى – ظهرت في تُراث الغرب قبل عدّة قرون خاصة في فرنسا (Knsyh, 2000, p. 32). شَخْصِيَّة أخرى عُرفت بالزُّهد والقنوت هي شَخْصِيَّة فاطمة بنت عبَّاس (ت 714 هـ = 1314 م) الموسومة بالخير والفضل. كانت عالمة فقيهة فصيحة لها خاطر وقّاد. حضر النَّاس مجالسها وانتفعوا من سمتها وتاب خَلق على يديها في دمشق ومصر وزارها الْعُلَمَاء، وكانت من مفاتيح الإصلاح في عصرها. كانت فاطمة المعروفة بأمّ زينب لها هيبة في النُّفوس ووجاهة في المكانة عند الخاصة من الْعُلَمَاء والعامَّة من النَّاس وكانت ذات مَواعظ مؤثِّرة في الجميع. وسمّاها ابن كثير الشَّيخة الصَّالحة العابدة النَّاسكة وذكر أنَّها كانت من العالمات الفاضلات تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ما لا تقدر عليه الرِّجال وقد كانت تحضر مجلس الشَّيخ تقي الدِّين بن تيميَّة فاستفادت منه ذلك وغيره وقد سَمِعْتُ الشَّيخ تقي الدين يُثنى عليها ويصفها بالفضيلة والْعِلْم ويذكر عنها أنَّها كانت تستحضر كثيراً من كتاب المُغْني أو أكثره وأنَّه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحُسن سؤالاتها وسُرعة فهمها. وممن أخذ القرآن عن فاطمة بنت عباس تلميذها عائشة بنت إبراهيم بن صديق (ت 741 = 1340 م) زوجة الحافظ جمال الدين الِمزِّي وكانت عديمة النَّظير في نساء زمانها لكثرة عبادتها وتلاوتها وإقرائها القرآن العظيم بفصاحة وبلاغة وأداء صحيح يعجز كثير من الرِّجال عن تجويده. قرأ الكثير من النِّساء عليها وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدّنيا وتقلّلها منها مع طول العمر. عاشت عائشة بنت إبراهيم 80 سنة أنفقتها في طاعة الله صلاة وتلاوة وكان زوجها العالِم مُحسناً إليها مطيعاً لا يكاد يخالفها لِحبّه لها طبعاً وشرعاً فرحمها الله وقدَّس روحها ونوَّر مضجعها بالرَّحمة آمين (ابن كثير، باختصار وتصرُّف). المرأة المُسلمة يكون لها الفضل دائماً في دعم أمَّتها ففاطمة الفهرية هي بانية جامعة القرويين بمدينة فاس المغربية وذلك في مُنتصف القرن الثَّالث الهجري (انظر الميلاد، 2001 م، ص 133) وهي من أقدم جامعات العالم. كثير من قاعات جامعة الأزهر ومرافقها بَنَتها امرأة اسمها الخازندارة على نفقتها وكانت امرأة صالحة مُحِبَّة للخير والأيتام. الكثير من عُلَمَاء الأزهر مدينون أدبياً ومادياً للخازندارة صاحبة العطاء المُتدفِّق وجملة من أكابر عُلَمَاء الأزهر، وقادة الفكر الإسلامي - في القرن الماضي واليوم - أتيحت لهم فرصة التَّعليم في قاعات المبنى الذي أنشأته "الخازندارة" ملحقاً بمسجدها الجامع الفخم (مُحَمَّد الغزالي، 1990 م، ص 85). ورد في كتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي أنَّ المدرسة الحجازيَّة في القاهرة كانت مَدرسة مُحترمة إلى الغاية بل كانت من أبهج مدارس القاهرة "أنشأتها السِّت الجليلة الكبرى خوند تتر الحجازيَّة ابنة السُّلطان الملك النَّاصر مُحَمَّد بن قلاون زوجة الأمير بكتمر الحِجازيّ وبه عرفت. وجعلت بهذه المدرسة درساً للفقهاء الشَّافِعِيّة ودرساً للفقهاء المالكيَّة وجعلت بها منبراً يخطب عليه يوم الجمعة ورتبت لها إماماً راتباً يقيم بالنَّاس الصَّلوات الخمس وجعلت بها خزانة كتب وأنشأت ورتبت بشباك القبَّة وعندها عدَّة قرَّاء يتناوبون قراءة القرآن الكريم ليلاً ونهاراً وأنشأت بها مَنَاراً عالِياً من حجارة ليؤذن عليه وجعلت بجوار المدرسة مَكتباً للسبيل فيه عدة من أيتام المسلمين ولهم مُؤَدِّب يعلِّمهم القرآن الكريم ويُجري عليهم في كل يوم لكل منهم من الخُبز النَّقي خمسة أرغفة ومبلغ من الفلوس وكل منهم له كِسوتي الشِّتاء والصَّيف وجعلت على هذه الجهات عدَّة أوقاف جليلة يُصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم السَّنية وكان يُفرّق فيهم كل سنة أيام عيد الفطر الكعك والحلوى وفي عيد الأضحى اللَّحم وفي شهر رمضان يطبخ لهم الطَّعام" (ص 1759 باختصار وتصرُّف). وكانت المرأة ربَّما حضرت حفل افتتاح مدرستها ويدوِّن المؤرِّخون هذه الأيام المشهودة كما حدث في القرن السَّابع الهجري في افتتاح مدرسة الصَّاحبية، التي بنتها الصَّاحبة ربيعة خاتون (ابن العماد، ج 7، 289 بتصرُّف). |