كل الشكر للحبيبة لمياء على إجابتها الشافية الوافية بالشرح والصورة ، والشكر موصول لوالدتها الكريمة التي يبدو أننا سنتعلم منها الكثير : كل عام وأنتما بخير ، أعاده الله عليكما وعلى جميع العائلة باليمن والبركات . وسلامنا إلى راعي هذا الملف الأستاذ أحمد عزو ووالدته الكريمة ، وإلى الأستاذة خولة والأستاذ عمر خلوف ، وتهانينا لكم جميعاً بالعيد . رحم الله والدك يا أستاذ عمر وطيب ثراه . هذا شعر جميل وقوي . شكراً لك رعايتك لهذا الموضوع وكل ما أضفته إلى معرفتنا به من معين زادك الوافر .
كلالشكر لك يا ندى على مشاركتك المضيئة : أتمنى لو تكون الشمس ملك أيمانكم يوماً ،وكل التحية لك ولعائلتك الكريمة وكل عام وأنتم بخير . تذكرينني دائماً بتلك البنت التي كنتها يوماً ، وهي لا تزال تعيش معي ، كأنني أنا هي رغم السنين التي مرت وغيرت من أحوالي :تعنُّ على بالي أغنية فيرزو " يا دارة دوري فينا " . لم أجد لها رابطاً . وتقول فيها : تعى لنتخبَّا من درب الأعمار وإذا هنِّي كبروا ، نحنا بقينا زغار وسألونا وين كنتو ؟ وليش ما كبرتو أنتو ؟ منقلُّن : نسينا واللي نادى الناس ، ليكبروا الناس راح ونسي ينادينا ...
كل التحية والسلام للأستاذ القدير خالد صابر وشكرنا على كل ما تجود به نفسه السمحة من عبارات الود والدماثة وتمنياتنا له ولعائلته الكريمة بعيد سعيد ومبارك . نتمنى كل تتمناه يا أستاذ صابر ، ولا بد أن يأتي وقت تتحقق فيه هذه التطلعات التي يهدف إليها ملايين البشر ، مهما طال الوقت أوقصر . وأنا مثلك كذلك أشكر أستاذي على هذه المعلومات القيمة المتعلقة بالتقويم الشمسي والقمري وما أضافه من الشواهد القرآنية والتاريخية والشعرية : علاقة الإنسان بالزمن هي علاقة أساسية رافقت بدايات وعيه منذ أقدم العصور . استوقفتني ظاهرة تسمية الأشهر الرومية البيزنطية التي نستخدمها حتى اليوم والتي قاومت الكثير من المتغيرات التي طرأت على المنطقة وبقيت محافظة على وجودها لأسباب أظنها تتعلق بملائمة هذا التقويم وهذه التسميات لدورة الحياة الزراعية التي هي أساس حضارة منطقة الهلال الخصيب التي هي من أقدم المناطق الزراعية في التاريخ ، إذا لم تكن أقدمها على الإطلاق ، والتي يبدو أنها تعود إلى زمن حمورابي كما جاء في كتاب الأستاذ علي الشوك الصادر عن دار المدى بدمشق العام 1994 وهو بعنوان " جولة في أقاليم اللغة والأسطورة " وقد جاء فيه ( الصفحة 195 ) :
(وفي زمن حمورابي ، أي في أيام الأموريين ، كانت قائمة الشهور على الوجه التالي : 1ـ نيسانو ، وهو من نيسو أي يحرك ، يقفز1 2 ـ أيارو ، وهو من آرو ، وتقابل مادة آر السامية التي تفيد عن معنى النور، أو من Ir يشطأ الزرع أي يُنبت أوراقاً جديدة ، وهو والحالة هذه شهرالأزهار . 3 ـ سيفانو Sivanu الذي يقابل حزيران 4 ـ دُزو ( تموز ) واسمه الكامل بالسومرية : دوموزيد ابزو ( الابن الأمين لمياه المحيط الجوفي ) 5 ـ أبو معادٍ ( بسبب حرِّه ) وهو رأي موس أرنولت ، ويرى السيد هانيالراهب أنه من الأب والرب والشمس أسماء لرمز واحد . ( يقابل آب ) . 6 ـ ـ ألولو Ululu ( أيلول ) والكلمة مشتقة من الولولة والتهليلة على تموز . 7 ـ تشريتو ، ويعني ( أصل ، بداية ) ويقابل تشرين الأول 8 ـ أرخا ـ سمنا ( أي الشهر الثامن ) ويقابل تشرين الثاني 9 ـ ـ كسيلفو Kislivu ويقابل كانون الأول . 10 ـ ذابيتو ، أي الشهر العابس أو المظلم ، ويقابل كانون الثاني 11 ـ شباطو ، أي المدمر ، ويقابل شباط 12 ـ أدَّارو ، وتعني الشهر المعتم أو المكتظ بالسحب ، ويقابل آذار)
يعاني الغرب الليبرالي حالياً ، ونخبته المثقفة بالذات ، بعد هزيمة الشيوعية وانهيار جدار برلين ، من أزمة هوية تتمظهر في تخبطه المعياري الأخلاقي. لأنه وفي الوقت الذي انتصرت فيه مجموعة الأفكار التي يمثلها والمتعلقة بالنظام الاقتصادي الليبرالي الحر ( مدعومة بحلف الناتو ) على الإشتراكية السوفياتية ، وبعد أن كان قد قضى أبان الحرب العالمية الثانية على فكرة الدولة القومية كما عبرت عنها ألمانيا النازية واليابان ، انخرط هذا الغرب تحت قيادة أميركية في مغامرات إستعمارية طموحة بغية إحكام سيطرتهالعسكرية والاقتصادية على العالم ، وتعميم صورة نموذجه الإجتماعي ـ الاقتصادي كخيار أوحد لا بديل عنه لكل البشر . تعميم هذه الهوية ( التي كانت ملامحها العامة قد تم رسمها في عصر الأنوار ) ومحاولة توسيعها إلى أقصى حد ممكن أضعف محتواها " العقلاني " لأن عقلانية الأنوار بقيت إيديولوجيا النخبة خارج الغرب الأوروبي ، وخصوصاً في أميركا بالذات ، ولم تتمكن من الوصول إلى القاعدة الشعبية العريضة التي بقيت على شكل مجموعات إثنية ودينية متباينة.من هنا ، وبعد الانتصار الساحق الذي حققته الرأسمالية العالمية ممثلة بالإدارة الأميركية ، جاءت الحاجة لإعادة النظر في محتوى هذه الرسالة الإنسانية التي بنت عليها إيديولوجيتها ، لتنضيدها وتكييفها مع الواقع الجديد ، ومن هذه الزاوية بالذات ينبغي النظر إلى ما تمخضت عنه الثقافة الغربية الحديثة التي تقودها أميركا والتي يمكن تلخيصها في عصرنا الحالي ، على الصعيد الفلسفي ، بنظريتي فوكوياما وهنثنغتون .
لأنه ، وفيما عدا قوته الاقتصادية والعسكرية ، يأتي هذا التوجه العالمي مدعوماً بشبكة إعلامية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً على الإطلاق ، ومن مفارقات هذا التوجه الإعلامي الأميركي أنه شديد العالمية والانفتاح في رسائله التي يبثها نحو الخارج ، كثير الانغلاق والمحلية في رسائله التي يبثها نحو الداخل الأميركي . مجتمع الاقتصاد الحر ، مجتمع " الإعلام والمعرفة " هي صورة تصدر إلى الخارج ، وهي الأسطورة التي تمتلك خاصية الجمع بين الليبرالية الحرة ، والتطور التكنولوجي الذي سيكون بمتناول الجميع ( كما يعدوننا ) ، وهي الفكرة الطوباوية التي ميزت " عقلانية " عصر الأنوار ، كما قلنا ، والتي ارتكزت على أفكار " كانت " الفلسفية ، فكان أن تبناها فوكويوما في عصرنا الراهن بعد أن أضاف إليها جدلية هيغل ( الذي لم يأخذ منه سوى وجهة تطور التاريخ المتصاعد الذي أعلن نهايته ) وتفسيرها : أن العقل الإنساني قد توصل بالفعل إلى معرفة الحقائق الأساسية المتعلقة بوجوده وأن هذه الحقائق غدت مكتسبة في المجتمع الغربي وبشكل نهائي لا رجعة فيه وسيجري تعميم هذه المبادىء كنظام عالمي جديد يحمل في داخله " ميكانيزماه " الخاصة التي تتلائم مع طبيعة النفس البشرية ، أي العلاقات الإقتصادية الحرة والصراع الإجتماعي المؤطر ضمن قوانين اللعبة الديموقراطية . هذا النظام قادر على تشكيل محرك ( دينامو ) خاص به يتمكن من خلاله من تجديد نفسه بشكل مستمر .
أما على المستوى الشعبي ، فكان لا بد من نظرية أخرى تتلائم مع واقع الحالي الأميركي الداخلي من جهة ، وطموحه الاستعماري من جهة أخرى ، فكانت نظرية " صراع الحضارات " التي لا يخفى على أحد نزعتها النفعية ولا توقيت ظهورها بما يخدم التوجهات العسكرية الأميركية واستراتيجتها السياسية الهدف منها : تشكيل نواة داخلية صلبة يكون التحالف اليهودي ـ البروتستانتي ( كما يظهر لدى المحافظين الجدد ) فيها رأس الحربة وبحيث تدفع فكرة صراع الحضارات لدى الجمهور الواسع إلى تأصيل جذور الخلاف بين الشرق والغرب ، وهذه الفكرة تعزز الشعور بالخوف من الآخر ( العربي ، المسلم ) في المجتمعات الغربية وتؤسس لتشكيل نواة كرة صغيرة بإمكانها أن تتدحرج في أي وقت ، في حال الشعور بالخطر ، لتتحول إلى كرة كبيرة تجذب من حولها الغرب الأوروبي كله ( العقلاني ) وأصدقاء آخرين عليهم أن يظهروا مودتهم وتعاطفهم باستمرار لكي لا يتحولوا إلى أعداء محتملين كاليابان بلدان أميركا اللاتينية وكتلة بلدان أوروبا الشرقية ... وهذا الخطر المحتمل ( صراع الحضارات ) يمكنه أن يشكل مبرراً إيديولوجياً كافياً للعدوان والتعارض وتبرير السباق الدائم إلى التسلح ، أي إبقاء عامل الحذر قائماً من بلدان أخرى ( شرقية حسب تصنيف هنثنغتون )والتي يمكن أن تتحول إلى عدو محتمل في أي وقت ، كروسيا والصين .
الكيل بمكيالين هو أساس هذه المشكلة ، فكيف سيكون الرد عليها ؟
الأستاذ الفاضل إدريس القري : كل التحية لك والسلام . يسعدني كثيراً تقييمك الإيجابي لما قمت به من مجهود في كتابة هذا الملف بغاية توضيح نقطة مفصلية هامة كثيراً ما تغيب عن أعين الدارسين والمهتمين بالثقافة وهي الخلط بين البورجوازية كطبقة ثرية ، ومفهوم البورجوازية كطبقة إجتماعية لها خصوصياتها المتعلقة بنشأتها التاريخية وتكوينها ، ومشروعها الحضاري الذي قادت من خلاله حركة التغيرات الهائلة التي عاشتها أوروبا خلال القرون الماضية . نحن لا زلنا ، كما أشرت بنفسك ، نعيش إرهاصات هذه المرحلة ، أي عصر النهضة وعصر الأنوار التي ، غيرت مفهوم السلطة ، وغيرت مفهوم الثقافة . وكان طموحي ، أو تصوري للخطوة التالية هو : إنشاء ملف يهتم بالحركة الأدبية في عصر الأنوار وكيف رافقت هذه الحركة متغيرات الأحوال السياسية ، سواء لجهة التعبير ، أم لجهة التأثير .أما فيما يتعلق بالواقع الراهن فبإمكانك مشاهدة ملف بعنوان " في سبيل النهضة " في مجلس الأدب العربي تناولنا فيه بإيجاز هذا الموضوع ، أو قراءة ملف " لماذا لا يوجد لدينا فلاسفة ؟ وهل عقمت الأمة العربية ؟ أم أننا خارج التاريخ ؟ " . وآخر ما كتبته في هذا الخصوص كان تعليقي بالأمس على موضوع في مجلس الفلسفة ( بين فوكوياما وهنثنغتون ) . لكنني وكما يقول المثل الشعبي " بكون عم بحلق ، بصير قبِّع ضراس " ( وهو يشير إلى مهنة الحلاق الذي كان يقوم في الوقت ذاته بخلع الأضراس ) . أظن بأنه من الصعب لأي مثقف في عصرنا أن يأتي بما هو جديد على مستوى التنظير والأفكار. وليس ما نقوم به ، عن حسن نية ، إلا محاولات لإعادة تنظيم وهيكلة ما اختزناه من أفكار ومعارف وإعادة رصفها في بناء جديد يجعلها قريبة منا ، أي يجعلها بمتناول اليد . هذا يشبه عملية ترتيب البيت التي لا نفتأ نعيدها ونكررها في كل يوم بغية إدخال النظام إلى حياتنا والتمكن من العثور على الأشياء الضرورية التي نحن بحاجة إليها في كل يوم . لذلك ، فإن على المثقف في عصرنا الراهن ، أن يعي ويعرف ما نحن بحاجة إليه كأفراد ومجتمعات في وقتنا الراهن . وهو لن يتمكن من هذا طالما أن الغالبية العظمى من مفكرينا ومثقفينا تعيش حالة من الاغتراب والعزلة شبه التامة عن مجتمعاتها . ومن هنا تأتي الحاجة إلى التواصل والنقاش والحوار ، الذي يتيحه الأنترنت ، والذي يمنحنا فرصة اللقاء بالآخرين البعيدين عنا جغرافياً بتنوعاتهم واختلافاتهم الفكرية والعقائدية ، وفهم مخاوفهم وحاجاتهم ، بل بالتفاعل والتعاطف معهم في أغلب الأحيان وكأننا نراهم ونعرفهم منذ زمن طويل . من هنا أيضاً ، أجدني أميل إلى الفن والأدب ، أكثر مما أميل إلى الفلسفة والتحليل . من هنا ، أيضاً ، تسعدني وتشرفني مشاركتك معنا في هذا الحوار الذي أرجوه مفيداً وبنَّاءاً لنا جميعاً . ودمت بخير .
في الأيام الأخيرة من شهر تشرين الأول، ومنذ أربع وثلاثين سنة بالضبط، كنت أقبع في هذه الظهيرة الخريفية وحيدا في غرفة شبه مظلمة (كم أعشق هذه الدرجة من النور). فتح أبي الباب بحرص، ظل لفترة حائرا، يلهي نفسه بالبحث بين أشياء الغرفة، وألقى عليَّ النبأ الحزين. - صاحبك تعيش أنت. - من؟ - طه حسين. رفعت عينيَّ إلى رسمه المعلّق على الجدار (نقلته عن صورة شهيرة له) وكان خليطا من الماء واللون. كانت البلاد تعيش حالة الحرب (*)، فالجنود عبروا إلى الضفة الشرقية للقناة، وتأجل فتح الجامعات، وحالي مثل بلادي، في مفترق الطرق. حصلت على الثانوية، وفي انتظار الخروج من حيز بلدتي الصغيرة إلى حلم القاهرة الذي يخايلني منذ البكر.
هذه هي القاهرة أخيرا، ما بالها حزينة رغم انتصارها؟ إنني ارحل بين شوارعها المترقبة إلى حي "أم المصريين" لأنضم إلى جماعة من أهل، سبقوني إلى هناك. ما هذه الحياة الفقيرة؟ هل هذا هو المصير المنتظر؟ أبداً... أبداً... فأين ما رأيت إذاً من مشاهد الأفلام؟ على هذه المدينة الكبيرة أن تتوقف قليلا عن لهاثها، وتنحني لضيفها القادم، ولكنها لم تعرني التفاتة واحدة، عليها أن تتزين وترشّ العطر على جسدها الممدد على شاطئ النيل. لم ألمح طرفا من عينيها يجفل، وهذا الحادث الكوني الذي عاش في تلافيف عقلي لم يعن لها شيئاً بالمرة، سأقهرك أيتها القاهرة – المقهورة، سأجدع شظية من أنفك لتصيري شبيهة بصنمك المعبود. اكتفيت بتمضية الليلة في مقاومة سهد الفراش مع أبناء بلدتي، واستيقظت صباحا ألملم عظامي المحطمة من برد الشرفة.
هذه هي الجامعة اذاً...
هناك في آخر الأفق يبدو برج الساعة، وهنا في المقدمة قبة القاعة. جامعة يتيمة باكية، رحل عنها أبوها المؤسس. رفعت على طرفي بوابتها الحديد لافتة من قماش أبيض كُتب عليها بخط عريض كلمة توفيق الحكيم: "لقد غادرت روحك مصر، بعدما عادت الروح الى مصر".
ادخل القاعة... فتصادفني وجوه المشاهير. انقذني يا الهي، ولا تجعل روحي تصعد من مكمنها قبل أوانها. رجال الأدب جميعا، ورجال الفن، ورئيس الوزراء مرتديا الزي العسكري، والوزراء، وكبار المقرئين، وأعلام الصحافة والاذاعة والتلفزيون. قلت لنفسي: اثبت. ورددت الكلمة التي واجهت بها أبي حين استنكر رغبتي في حضور الجنازة. - لست أقل منهم، هم تلاميذه وأنا كذلك. كم أنا حزين لضياع حلمي بالجلوس بين يديه، لأقول له: يا سيدي العميد لقد طالعت كتبك جميعا، ولا انسى أبدا فضلك العظيم في تشكيل رؤيتي للعالم، فأنت البداية، ومثال الارادة ضد العجز فيك تلخص الوطن حين أراد الخروج من الظلمة الى النور.
الآن... هذا أنت جسدا ملفوفا في كفن يرفعك تلاميذك على الأكتاف ليمرقوا من باب الجامعة حيث تسير الجنازة ما بين كلية الهندسة وحديقة الأورمان، ثم نمر بتمثال نهضة مصر، والتفت الى وثبة الأسد – الانسان ورغبته الأبدية للانعتاق من صلاة الحجر، واليد الحانية لتلك الفلاحة الفارهة تحثه على القيام. الآن نسير كتلة بين أسوار كوبري الجامعة ومياه النيل بيننا على الجهتين تتأمل ذاتها، واتشجع فأرفع صورتك التي خطتها يدي الطفلة، وتكون هي والنعش فوق رؤوس المشيعين.
هذا نص جميل جداً ، يتميز بحساسيته النسائية الخاصة ، مأخوذ من رواية «الأمواج» للبريطانية فرجينيا وولف (1882 – 1941) التي صدرت في العام 1931. ترجمها الى العربية مراد الزمر ونشرت في القاهرة عن «دار الكاتب العربي» في 1968.
لا أستطيع أن أحيا حياة متناثرة، أو أن أعيش في عزلة. لقد بعث بي الى المدرسة، بعث بي الى سويسرا لاستكمال دراستي. اني أكره كساء الأرض، أكره أشجار الموسكي، وأكره الجبال.فلأستلق الآن فوق هذه الأرض المنبسطة تحت سماء شاحبة تسير فيها السحب مبطئة. العربة تزداد وضوحاً وهي مقبلة على طول الطريق. الأغنام تتجمع وسط الحقل، الأطيار تتكتل في منتصف الطريق، لا حاجة بها الى أن تطير. دخان الخشب يتصاعد. بدأت خشونة الفجر تتلاشى. النهار يحبو. انه يسترجع لونه. المحاصيل تكسو النهار بلونها الأصفر. الأرض عالقة في ثقل تحت قدمي.
لكن من أكون؟ أنا التي أستند الى الباب وأرقب ظل أنفي محاطاً بدائرة من النور؟ يطوف بفكري في بعض الأحايين (لم أبلغ العشرين بعد) أني لست امرأة، وأني لست إلا ذلك الضوء المتساقط على هذا الباب، على هذه الأرض. يخيل إليّ أحياناً أني فصول السنة، أني يناير، مايو، نوفمبر، أني الرغام، الضباب، السحر. لا أستطيع أن يدفع بي الى جانب، أو أن أسير بهوادة، أو أن يقوم بيني وبين الناس ألفة، لكني الآن وأنا مستندة هنا الى الباب حتى كاد يترك أثراً على ذراعي، أشعر بالثقل الجاثم بين جوانحي.لقد كنت أحمل بين أعطافي شيئاً صلباً ثقيلاً في المدرسة، في سويسرا. لم يكن هذا الشيء زفرات وضحكات، ولا عبارات عميقة تدل على الحذق، أو الخيالات الغريبة التي تمر بذهن رودا عندها تنظر عبرنا من فوق أكتافنا، أو دوران جيني حول نفسها في كتلة واحدة أطرافاً وجسداً.ان ما أهبه شيء قاسٍ. لا أستطيع أن أسير هنا وأقيم بيني وبين الآخرين ألفة، أني أؤثر حملقة الرعاة عندما يلتقون في الطريق، ونظرات الغجريات وهن الى جوار عربة في أخدود يرضعن أطفالهن كما سأرضع أطفالي، سرعان ما سيأتي من أحب وقت الظهيرة الحارة.عندما يطن النحل حول الأزاهير. سيقف تحت شجرة الأرز. سأجيبه بكلمة واحدة على الكلمة الوحيدة التي تصدر عنه. سأهبه مكنون نفسي. سأنجب أطفالاً. سوف يكون لي خادمات يرتدين المبدعات، وخدم يحملون المذراة، ومطبخ يجلبون اليه الحملان المريضة في سلال لتدفأ... سأكون مثل أمي، أغلق الصناديق وأنا صامتة.
اني الآن جوعي، سوف أتحدث الى طيفي، اني أفكر في الخبز المقدد والزبد والصحاف البيضاء في حجرة مشمسة. سأعود ثانية عبر الحقول. سأمضي على طريق الحشائش هذا بخطوات قوية رتيبة، انحرف حيناً لأتجنب بركة ماء خلفها المطر، وأقفز حيناً آخر برشاقة الى كتلة من الخشب(...)
هو السؤال الوجودي الأول الذي ينغص حياته والذي يطرحه الكاتب على نفسه ليأخذنا عبره إلى زمن الحكاية وفضائها:
الحكاية كالكائنات تهوى الإقامة في الأماكن التي تحبها . والأمكنة التي تحبها هي التي تغذيها . تزيدها متعة وغواية . تجعلها ذات شعاع متألق . تمنحها أبعاداً ما كانت تحلم بها في أرضها الأولى ... فالحكاية لا أرض لها ... الحكاية إذن هي فلسفة الحياة الأولى والسفر هو كتابها ... عظمتها تأتي من كونها حدثاً ثانوياً لم يكن مخططاً له من قبل . فهي لا يمكن أن تُتَخَيَّل متكتملة . ولذا هي ، إبداع حر ، يتنامى تدريجياً ، أو يتطور ، أو يتغير ، بلا توقف . ويمكن له أن يأخذ ما لا يحصى من الأشكال ، ويحمل ما لا يحصى من العوطف والاضطرابات ، ويلجأ إلى ما يستهويه من الحيل والأفانين ، حسب ما تقتضيه أقانيم السفر ... زمن السفر الذي لا تملؤه إلا الحكاية " ( المقدمة ص 4 ـ 5) .
و" الطريق إلى قونية " حكاية تسير في الاتجاه المعاكس للزمن ، لأنها رحلة البحث عن لقاء طال انتظاره ، لقاء يحتوي الحكاية الأصل . هي عودة إلى عالم الطفولة بمعناها اللفظي والمعرفي ، عالم غادرناه مبكرين ، دون زاد ، ودون أن نفهم سر علاقتنا به بكل أبعادها : والأب في هذه الحكاية هو الأصل القديم الذي عشنا بقربه ، دون أن نعيش معه ، وهو أصل الحكاية . هو ذلك " الأسد الذي ملَّ من الافتراس حتى أصبح لين المراس " والذي تسعى هذه الحكاية إذن ، إلى اللقاء به في فضاء محايد لا تملؤه إلا عاطفة الحب التي تجمعنا به والتي تشبه تلك العاطفة الغريبة التي جمعت بين شمس الدين التبريزي ومولانا جلال الدين . و" الطريق إلى قونية " رحلة شتائية ، تأتي في عزِّ كانون ، " أستعيد قول أبي : في كانون ، أقعد في بيتك ولا تكون مجنون " : " أنا لست ذاهباً من أجل جلال الدين ، ولكن مدفوعاً بصوتك القديم الأسمر صوت " حادي العيس " الذي يحكي برهبة عن " قونية " التي لم يكن قد رآها ، أبداً من قبل . المعرفة ليست زيارة جغرافية ، إذن ، وإنما هي التمثل العميق لمآثر الكون ، حتى تلك التي لم نعرفها . وهو الذي يجعلني أتصورك ، الآن ، مفارقاً لي : أنا ذاهب ، وأنت كنت آيباً من هناك ، دون أن تبرح مكانك . أنا ذاهب لأرى ، وأنت كنت آيباً من هناك ، من فكرتك الجميلة عن مكان كنت تحسبه جميلاً . أيكون كذلك ؟ وما تهم الإجابة في الوجود ، وهي ليست أكثر من كذبة نصطنعها نحن لئلا نشعر بالعدم المرافق لأفعالنا ؟ أولسنا نقضي العمرفي بحثاً عن امتلاء لفراغنا الإنساني الذي لا يمتلىء ؟ إلى قونية يا أبي . ولكن ، تراني من أخاطب في هذا الفجر المشتمل بالبرد ؟ أنت ، أم من كان هو وراءك ؟ تَذَكَّرْ نُجودنا في فيافي الجزيرة البعيدة ، في سهل " الذُرو " الشاسع كالعين ، وأنت تمشي بين شجيرات الحرمل والشيح والقيصوم ، مشمراً عن رَبْلَتيك . بهدوء تمشي ، ودون أن تلتفت خلفك ، مثل أسد ملَّ من الافتراس ، فصار ليِّن المراس . تمشي وتحكي مستريحاً ، لكأن الفضاء الخالي لا يمتلىء إلا بالكلمات . تَذَكَّرْ ، كنت تمشي وتحكي عنها ، عن " المزارة " التي كنت تحلم بها ، هذه التي أنا ، الآن ، في طريقي إليها . لكم أحب أن أحقق أحلامك " ( ص 6ـ7 ) . فالرحلة إلى قونية إذن ، هي هذا : هي حوار مع الأب ، الأصل والمنشأ ، السلطة والامتداد الطبيعي للذات ، الرغبة المقموعة التي تتفجر حباً صاعقاً يبحث عن متنفس له ، الشعور بالرهبة والسعي إلى الانفلات من شروط حياة قاسية تدفعنا إلى الهاوية ، وقونية هي المكان المحايد الذي سيجري فيه هذا الحوار الكاشف بين حبيبين يدركان معنى الخطيئة والضعف الإنساني : "بجاه الغروب والنبي أيوب توديني قونية وأتوب " كان أبي يقول .
أسعد الله مساءك بكل الخير أستاذ إدريس : كلامك سيدي بهجة للروح ، نعم هو كريحانة جدتي بهجة للروح . ليس لي اعتراض عما قلته لكني لا أجرؤ على التفاؤل : الحياة وخيباتها المتكررة علمتني الحذر ، وأنا لا أمتلك من المعرفة بهذا العالم الذي يحيط بي إلا ما يستدعي الحذر . أجدني في كل يوم أعد أرقام الخسارة ( ولا حساب لي في البورصة التي تتهاوى حالياً ) ودون أن أصل إلى نهاية اللائحة . منذ مئة عام على الأقل ونحن نعيد ونكرر الأخطاء عينها ونبيع الغالي بالرخيص . جربنا ، خلال هذه المدة ، الكثير من الأفكار وأشكال الأنظمة والحكم ، وعشنا ولا نزال نعيش أزمات وحروب مريرة تجثم بثقلها فوق واقعنا فتقطع أوصالنا وتمنعنا من التنفس . لم نتعلم منها شيئاً ! ما دمنا نعيدها ونكررها في كل مرة فهذا يعني بأننا لم نتعلم منها شيئاً . والفكرة البسيطة البديهية التي أعرفها تقول ، أننا بحاجة لمراكمة كل هذه التجارب ، وسبر غورها ، والتنقيب فيها للعثور على مكمن الضعف ، وعلى الإجابات التي نحن بحاجة إليها . لا يمكن لهذا العمل أن يتم بطريقة خارجية ، ولا يمكن له أن يكون ثمرة عمل فردي مهما كان عبقرياً . من هنا أرى فائدة هذا الحوار ، وهذه الدراسات ، وهذه المجهودات التي ترفع من مستوى الوعي والتي يمكن أن ترقى بنا يوماً إلى مستوى الفهم بهذا العالم المجنون الذي يسير بنا نحو الهاوية . ولا زال اقتراحي حول ملف الأدب وأدباء عصر الأنوار قائماً .