جاء الإسلام في المرحلة النهائية من مراحل ارتقاء الدين، واستوعب كل العناصر الإيجابية في الأديان السابقة عليه، وخلص مفهوم الألوهية من كل ما علق به من تصورات تشبهه بالبشر،أو تخلط بينه وبين الطبيعة،أو بينه وبين أي مستوى من مستويات الوجود ؛فهو : ( ليس كمثله شيء) ،وهو الذي يجب تنزيهه عن كل ما يصفه به البشر: (سبحانه وتعالى عما يصفون)،وهو الذي لا يمل المسلم في كل صلاة من تكبيره :" الله أكبر"، أكبر من كل تصورات البشر،أكبر من كل شيء،أكبر من كل قيمة، أكبر من كل ما هو طبيعي أو إنساني أو حيواني.وهو الذي لا يمل المؤمن من تسبيحه في كل صلاة ،أي تنزيهه عن كل ما لا يليق به، تارة :" سبحان ربي العظيم" في الركوع، وتارة "سبحان ربي الأعلى" في السجود.
والإسلام دين التوحيد المحض والبساطة فى الاعتقاد ؛ حيث ينظر إلى الله باعتباره روحا خالصا، وباعتباره إلها مجردا وليس محسوسا عيانيا. وهذا التجريد هو المسئول عن نبذ الإسلام للوسائط التشبيهية والتجسيمية وتحريم التصوير التجسيمى، درءا لمشابهة أعمال الله؛فالله ليس له شبيه وكذلك أعماله.
فالتجريد الإسلامى للألوهية بلغ بها إلى قمة ترقى الوعى بالإلهي . ولذا فالإسلام لا يخاطب الناس بالمعجزات الحسية،ولكن بالآيات العقلية الفكرية:تارة بالاستشهاد بالطبيعة،وتارة بالاستشهاد بالاستنباطات البرهانية، وتارة بالاستشهاد بالسنن التاريخية .
ويفصل الإسلام بين مستويات الوجود دون خلط بينها،ودون طغيان لمستوى على مستوى؛ فالألوهية غير الطبيعة ،وغير الإنسانية،وغير الحيوانية.وكل طرف من هذه المستويات غير الآخر.والدخول من مستوى إلى مستوى ليس خاضعا لنوع من الإرادة العمياء،وتدخل الله في الطبيعة ليس عشوائيا؛ لأن القرآن يؤكد وجود سنن طبيعية وقوانين كلية لا تتغير ولا تتبدل،وأن الله خلق الأشياء وفق قانون أو قدر: ( إنا كل شيء خلقاه بقدر){القمر:49}..(سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا).
والقرآن لا يتحدث عن صفات لله؛ إمعانا في التنزيه، وإنما يتحدث عن أسماء لله،فالله ليس سرابا مثل البراهما ؛ وهي أسماء له باعتبار أفعاله :العدل ،العلم، القوة، الرحمة…الخ. فالروح الإلهي يخرج من تجرده، فيحقق ذاته فى الكون عبر أفعاله الإبداعية.
وأفعال الله إبداعية، لكنها ليست سحرية، بل : ( كل شيء عنده بمقدار ){الرعد:8}..(والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم){الأنعام:96}..(وخلق كل شيء فقدره تقديرا){الفرقان:2}..(وكان أمر الله قدرا مقدورا){الأحزاب:38}…الخ.
وهو رب العالمين: الموجودات كلها، والبشر كلهم:المؤمن والكافر ،والتقي والعاصي.
وهو ليس في زمان لأنه خالق الزمان،وليس في مكان لأنه خالق المكان،ومع ذلك(فأينما تولوا فثم وجه الله).
فالإسلام هو دين الروح المطلق،لأنه يتكشف فيه الروح من حيث هو روح كلي مجرد على نحو مطلق. والروح الإلهي ليس غارقا في الطبيعة ،بل متعالٍ عليها،كما أنه لا يحل في أي حيز أو مخلوق،ولا يتحد مع بشر في طبيعة واحدة،ومع ذلك فقد نفخ الله في الإنسانية من روحه؛ فهو منبع الحياة العاقلة؛ لكن ليس معنى هذا وحدةالإنساني والإلهي، فمستويات الوجود متمايزة:الإلهي، الطبيعي،الإنساني.
وشكراً لك أستاذنا العزيز الغالي ، هذه قصيدة تحفة قل لها نظير ، وعبير خميلة شاعر فيه من الوفاء والجمال ما قل له مثيل . جئت خيمة الأستاذ أحمد في هذه الصبيحة لأكتب دورين من العتابا فتفاجأت بإشراقة هذه القصيدة الرائعة تعترض طريقي وتملأني بالدهشة ، كأنها كانت تناديني دون أن أسمع . ليتني أستطيع يوماً أن أكتب كلاماً مماثلاً ، فتحيتي لك ولكل من ساهم عن قصد أو عن غير باصطياد هذه السمكة الزاهية من بحور شعرك ، أولهم الأستاذ ياسين ، ولمياء وذووها ، وندى وعبد الحفيظ ، وأمير العروض الأستاذ عمر ، والأستاذ أحمد عزّو . كنت قد جئت لأكتب لندى دوراً ( أو بيتاً كما نقول بالعامية ) من العتابا وجدته في كتاب سبق لي ذكره بعنوان " روائع الزجل " يقول :
مساء الخير أستاذي وكل التحية والسلام لراعي الوراق أستاذنا الفاضل الشاعر محمد السويدي وتمنياتنا له بوافر البركة في العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم . أكتب على عجل لضيق الوقت بغاية لفت انتباهكم إلى مجال للبحث أظن بأنه سيقودنا إلى الجواب ، فلقد طالعني أثناء بحثي عن أصل " المواليا " ومن خلال تداولنا لأحاديث ومعلومات تتعلق بالشعر الشعبي في ملف الأستاذ أحمد عزوّ بأن هذا النوع من الشعر ، أي المواليا ، هو من اختراع الأنباط ، وأنه نوع الشعر الغنائي الذي كانوا يؤدونه أثناء قيامهم بعملهم لدى أسيادهم العرب بعد أن أصبحوا أجراء وموالي بعد الفتح الإسلامي ( وهذا يفسر ربما لهجة الازدراء التي رافقت ذكرهم في الشعر العربي ) . تجدون هنا مقالة نقلتها عن الأنترنت فيها معلومات تتعلق بهذا الموضوع :
ألوان الغناء الشعبي الفراتي ( العتابا والمولية)
نشر الدكتور محمود النجرس دراسة بعنوان ( الوان الغناء الشعبي في وادي الفرات ) ضمنكتاب (الرقة مهرجان الفرات للثقافة والتراث ايلول 1998)
تحدث خلالها عن مختلف الوان الغناء الشعبي من العتابا والمولية والسويحلي ونستعرض اليوم العتابا والمولية:
انالاشعار الغنائية كانت تخضع في شكلها اللغوي واللحني وفي مضمونها من حيثالغناء والتطور الاولي للبيئات التي نشأت فيها او التي هاجرت إليها ,إناداء النوع الواحد منها يختلف ومن منطقة لاخرى وعندما تنتقل اغنية او لونمن الغناء من البادية الى مراكز الحضارة المدنية فإنها تخضع الى مؤثراتبيئية تكون وراء مايعتريها من تغير اللهجة واللفظ واللحن لتكون مناسبةللاذواق والمناخات الجديدة .
انالغناء اعلى اشكال التعبير عن الروح وهو شعور انساني نبيل يعبر عن همساتالنفس ويفصح عن خوالج القلوب والأغاني الشعبية في واقعها هي لوحات تعبيريةعن خصائص ولهجات كل شعب من الشعوب وصفحة معبرة عن حياة كل أمة وواقعهاوصورة عن طبائعها وأهوائها واستعارتها وتشبيهاتها في شتى مناسبات الحياة .
لقدخلد الشعب نفسه في أغانيه وعلى مدى العصور الانسانية لم يكن الغناء بدعةأو ملء فراغ او هربا من حياة صعبة الانقياد وإنما كان الغناء الشعبي لوحاترسمت بدقة متناهية بريشة الشعب وبمداد من معتقداته وايمانه لتصور مختلفاوجه الحياة لقد كانت الأغنية رفيقة الانسان في بيته وحقله ومرعاه وشكلتلنا مع الزمن تراثا ضخما يضاف الى أي تراث تعتز به منطقة الفرات وتفتخربوجوده .
تمتازالأغنية الشعبية بصفات اساسية البساطة في الكلمات والعمق والمعنى كما انهاتعتمد بشكل اساسي على أدوات موسيقية بسيطة كالربابة والدف والمزمار ومنخصائصها الاخرى الصدق والعفوية فالاغنية الشعبية تلبي حاجات الانسانورغباته اكثر من الأغنية الفصيحة لانها أقرب الى القلب بمضمونها ومعناهافالألوان الغنائية الشعبية متعددة ومن أهم الألوان الرئيسية :
منقمم الأدب الشعبي الغنائي في منطقة الفرات ومن أشهر الألحان التراثية علىالاطلاق هناك أراء كثيرة حول اصل تسمية هذا اللون بالعتابا ولكن يؤكدالباحثون ان العتابا كفن من فنون الاغنية الشعبية جاءت من العتابوالمعاتبة .
شاعرالعتابا يعاتب حبيبه لما يبديه من الصد والهجران ويلوم صديقه على مجافاتهوصدوده ويلوم دهره ويعاتب دنياه وقومه ويصور نفسه وكأنه الوحيد المستهدفمن دون سائر البشر وهو لون بدوي ريفي اداه الانسان الفراتي مع بداياتالاستقرار عندما انتقل الانسان الفراتي من حياة التنقل والترحال الى حياةشبه مستقرة على ضفاف الانهار حيث يعتمدون على الاقتصاد الزراعي الثابت وهوحصيلة التفاعل بين أغاني الصحراء النقية- الاغنية البدوية - وبين الأغانيالريفية .
تغنىالعتابا مع الربابة وهذا ما كان شائعا قديما ويجوز غناء العتابا بدونالربابة أي ان تقرأ كالشعر وتغنى كذلك مع الفرقة الموسيقية الشرقية وهذااللون لايغنى بشكل جماعي بل يغنى بشكل افرادي من قلب الشاعر او المغني .
ترافقغناء العتابا بعض الألوان الغنائية كالنايل والسويحلي لاراحة المغني منأداء العتابا كما ترافقه بعض أنواع الدبكات لاضفاء نوع من السرور على جلسةالعتابا كالميمر والمولية والهلابا.
طرقتالعتابا اكثر اغراض الشعر العربي حيث شملت المدح والفخر والغزل والوصفومعاتبة الدهر وبيت العتابا يشكل وحدة معنوية كاملة يعتمد على فن بديعيجميل هو الجناس بالاضافة الى اجازة البليغ ومافيه من قدرة الشاعر على حشراقصوصة صغيرة او معنى جميل في بيت من العتابا وقلما نجد بيت عتابا إلا فيهصورة من صور التشبيه والاستعارة
تركيب العتابا
يتركببيت العتابا من اربعة اشطر الاشطر الثلاثة الاولى متحدة في اللفظ مختلفةفي المعنى اما الشطر الرابع ويسمى قفلة العتابا او الرباط فيجب ان ينتهيبالألف والباء او الألف الممدودة او الألف المقصورة ويجوز ان ينتهي بقوافاخرى على الالف والهاء المهملة او التاء المفتوحة وإن كان بشكل قليل.
نصوص من العتابا
أريد ابجي على روحي وناحي
بعيني ضاكت الدنيا وناحي
اخوي المانفعني بيوم وأنا حي
شلي بيه يوم ردات التراب
المواليااو الموليه
مناشهر فنون الشعر والغناء الشعبي في الوطن العربي عامة وقد جذب هذا الفناهتمام مؤرخي الادب العربي ودارسيه لاباعتباره شكلا من اشكال الابداعالشعبي ولكن باعتباره واحدا من الفنون الملحونة انحرفت عن الفنون القوليةالمعتبر عند النقاد ودارسي الادب الفصيح تلك الفنون التي تخضع للقوالبالتقليدية في التعبير ولاتشذ عن الاطار اللغوي ..
والمواليالون من الوان الشعر الشعبي الذي يمكن التعبير عنه بأنه برزخ بين الادبالفصيح والشعبي او أنه نشأ في بيت مجاور للفصيح وسمي بالبرزخ لأنه منالفنون الشعرية التي تحتمل الاعراب واللحن وإن كان اللحن فيه اجمل وأليقمثال عنالموالياالقديمة :
يانفس قاسي صبابات الهوى قاسي
الحب من بعد لين قد غدا قاسي
وقد ملا من مدام الهجر لي كاسي
حتى غدا بثياب السقم لي كاسي
فهذا البيت منالمواليايمكن قراءته معربا وكأنه من الشعر الفصيح ويمكن ان نقرأه ملحونا عن طريق تسكين اواخر الكلمات
اختلفتالآراء حول نشأته وأصله فمنهم من يقول انه نشأ في أواخر العهد الاموي فيواسط في العراق وعندما اخترعه الواسطيون العرب تعلمه عبيدهم ومواليهمالمتسلمون عمارة بساتينهم وحقولهم فكانوا يغنون به في رؤوس النخيل وعلىسقي الماء وينهون غنائهم بكلمة يامواليا اشارة الى ساداتهم الجدد من العربفغلب عليه هذا الاسم وعرف به.
وآخرونينسبونه الى الأنباط الذين كان يسكنون سواد العراق ومشارق بلاد الشامفهؤلاء عندما أفلت دولتهم اصبحوا فلاحين ومزارعين لدى سادة المنطقة الجددمن العرب وذلك بعد الفتح الاسلامي لتلك المناطق حيث كانوا يغنون بأغانخاصة بهم أثناء العمل في المزارع والحقول وينهون غنائهم بكلمة ياموالياومنه جاء غناءالمواليا.
ومؤرخونآخرون نسبوه الى أهل بغداد حيث كان لعامتهم نوع من الشعر الملحون يسمونهالمواليات مثال هذا البيت الذي استشهد به ابن خلدون في مقدمته :
طرقت باب الخبايا قالت من الطارق
فقلت مفتون لاناهب ولاسارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق
ورجعت حيران في بحر ادمعي غارق
هناك من يقول سمي بالمواليا لتوالي القوافي المتشابهة وكل رأي من هذه الآراء له مؤيدون من المؤرخين.
نستنتج من كل ماسبق أنالموالياكصفة ادبية منبعه العراق سواء أكان من واسط ام من بغداد.. اما من حيث زمن ظهوره فيمكن ان نربط نشوءالمواليابعصر امتزاج الثقافات واختلاط الانسال وتقهقر اللغة العربية الفصحى أمامانتشار اللهجات العامية ولعراقة الترعة الشعرية والغنائية عند العرب مالتعاميتهم الى الشعر الملحون بدلا من الشعر الفصيح وخاصة إذا علمنا ان ..............
عزيزتي لمياء ، عزيزتي الحاجة الكريمة أم نوفل : لكما مني الاعتذار الشديد عن تأخري بالرد حتى هذه اللحظة رغم كل السعادة التي أشاعتها في نفسي هديتكما الكريمة ، وذلك لأسباب خارجة عن إرادتي طبعاً . كم هي جميلة هذه الأشعار التي تعج باللوعة والحنين ، وكم هو جميل لحنها : يا لِيلْتِي فَاطْمَة يَا لِيلْتِي فَطُّومْ
إذَا كُنْتِ فَ السْمَا نَبْعَثْ لَكْ سَلُّومْ
وْ إذا كُنْتِ فَالبْحَرْ نَبْعَثْ لَكْ عَوّامَة
وْإذا كُنْتِ فَالقْبَرْ حْسِيبَكْ يَا مُولانَا هذه " البوقالات " هي على وزن الموال البغدادي الذي نتحدث عنه ، فهل مصدر هذه التسمية هو فعل " قال " لأن شاعر الزجل يسمى عندنا بالقَّوال وجمعها " قوَّالة " ؟ لقد تذكرت عند قراءتي لها مطلع موال كانت تغنيه جدتي عندما كانت تريد التعبير عن حسرتها وقلة حظها فكانت تقول : " حطيت حظي على طاحون ما دارت ......... " وهو يشبه موال العتابا تماماً كما الشعر الذي ذكرته ، غير أن القافية غير مجنسة . ولكما كل الشكر والتحية والمودة الخالصة . وكل شكري وعرفاني لشاعرنا الكبير الأستاذ عمر خلوف وتحياتي له ومودتي وتقديري لكلماته الطيبة وموهبته الأصيلة ، كذلك شكري لسفير الورود الأستاذ عبد الحفيظ على الأغنية الجميلة وكلماتها الدافئة وكل ما تنطوي عليه من اللباقة والنداوة ومشاعر الوفاء الصادق . شكري وتحيتي أيضاً لأستاذنا الغالي زهير والأستاذ ياسين الشيخ سليمان . تهانينا يا أستاذ أحمد : فلقد فهمت من حديثك بأن " ست الحبايب " في ضيافتكم هذه الأيام ، بلغها منا السلام ، وتمنياتنا لكم ولها بوافر الصحة وإقامة سعيدة بين أبنائها وأحبابها ودمتم جميعاً بخير .
حقيقة أستاذي أنا لم أفهم أكثر ما قلته في تعليقك السابق : يتحدث الكتاب الذي ذكرته غالباً ( روائع الزجل : إعداد أمين القاري ) عن أوزان العتابا والميجانا بلغة مختلفة تماماً ، ويسمي بحوراً خاصة بالزجل تعتمد على عدد المقاطع الصوتية الموجودة في كل شطر ، فالعتابا تنظم على أربعة بحور هي : البحر المتناهي وفيه 18 مقطعاً ، والبحر السريع وفيه عشرون مقطعاً ، والبحر البسيط وفيه اثنان وعشرون مقطعاً ، والبحر اليعقوبي وفيه أربعة وعشرون مقطعاً صوتياً . أما الميجانا فلا تنظم إلا على البحر اليعقوبي . فهل يخضع نظم هذه الأدوار لمقاييس علم العروض أم أنه يقتصر على الالتزام بتوازن الوحدات الصوتية ؟ ( المقاطع ) . وفي هذه الحالة الأخيرة تكون الأبيات التي كتبتها في لمياء من البحر السريع .
على أية حال ، هذه محاولة أخرى ( للمزح ) كتبتها استناداً إلى رأي المؤلف ولتصححوا لي ما بدا لكم مشكورين : أّمـِيرِ الشـِّعـْرِ وْالأوزانِ عـِنـَّا = حـَمـَلـْتـُوا الـْهـَمِّ وْالأوزانِ عـَنـَّا وإذا لا الـْقـَافـِيةْ وْلا الـْوَزْنِ عـِنـَّا = يـا ضـِيـْعـَانـُو تـَعـَبـْكـُمْ وْالـْعـَذَابْ
فيصل دراج ناقد بالدرجة الأولى، لكنه النقد الذي يستند إلى رؤيا فكرية تجعل الناقد مفكراً ومنظراً. إنه النقد الذي يؤسس لنظرية كاملة تجمع الفني الى الاجتماعي الى السياسي والايديولوجي، النقد الذي هو موقف نقدي من الانسان والدولة والمجتمع والثقافة، كان لنا معه هذا اللقاء. يمر المشروع النهضوي اليوم بظروف خطيرة، يبدو فيها وكأنه فقد مشروعيته وحضوره؟ برأيك ما الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الخفوت وهل تعتقد أنه يمكن له أن يعود ليحضر مجدداً؟ ﴿ سؤال معقد ويستلزم إجابة طويلة وناقصة ومجزوءة في الوقت عينه. الأسباب التي أدت إلى انهيار المشروع النهضوي كما لو كان ذكرى بعيدة. يمكن أن تختصر بأربعة أسباب رئيسية: الأول هو أن هذا المشروع جاء منذ البداية مرتبكا وملتبسا ومتناقضافمن المفترض أن الحديث عن النهضة يعني التوجه إلى المستقبل والقبول بالقيم الكونية والتحرر من الماضي بعد قراءته بشكل عقلاني. لكن هذا الأمر لم يتحقق إلا لدى مفكرين تقريبا هما قاسم أمين وطه حسين وما عدا ذلك فقد استمر التوفيق بين التطلع إلى المستقبل والحنين إلى الماضي البعيد والقبول بالتنوير الأوروبي وبالفكر الإسلامي.الأمر الآخر هو أكثر خطورة جاء من صعود النزوعات الإيديولوجية ابتداء من أول أربعينيات القرن الماضي وأعني بذلك القومية والماركسية. فعوضاً أن ترى هاتان الإيديولوجيتان في التنوير الأول بداية ممتازة ينبغي تطويرها وإغناؤها ونقدها فقد قام القوميون كما الشيوعيون بالقفز كلية فوق طه حسين وغيره على اعتبار أن هذا التنوير ارتبط بالاستعمار والقوى الاجتماعية التابعة. وواقع الأمر أن الوعي التاريخي البصير والخصيب الذي تمتع به طه حسين افتقر إليه كليا هؤلاء القوميون والماركسيون مستبدلين بالمنطق التاريخ، منطق الانقلاب منجزين في النهاية أمرين: تدمير أو تهميش معطيات التنوير الأول والانتقال السعيد والسريع من المنطق العلمي والمعطيات الموضوعية إلى المقولات التبشيرية والشعارات الكبيرة. تمثل الأمر الثالث في الدور التدميري الذي أنجزته دولة التحرر الوطني التي طبقت سياسة تقوم على الإفقار الشامل: الإفقار الثقافي والسياسي والإفقار الفكري والإيديولوجي، مستعيدة شعار واقع الرعية الذي تميزت به فترة السلطنة العثمانية ومستعيدة بذلك أيضا تلك الثنائية البائسة عن وحدة السلطة والثروة، ولأن هذه السياسة في أشكالها المختلفة احتاجت الى القمع كسياسة موسعة فإن هذا القمع، كما استمراره لعقود طويلة، اجتث تقريبا كل المراجع الضرورية للفكر التنويري او العقلاني أو النقدي. وبهذا المعنى فإن الانقلاب الشامل على فكر التنوير لم يأت لا من الاستعمار ولا من الصهيونية ولا من القوى الحاكمة التقليدية وإنما من دولة التحرر الوطني ذات الشعارات الكبيرة وأولها الناصرية. السبب الأخير يقوم في قدرة السلطة المُجهّلة والقمعية والمعادية للنقد والثقافة والمعادية أكثر لمفهوم الفرد والعقل المستقل في »انجاب« مجتمع هو على صورة السلطة، ولهذا فإن الإقصاء الكلي للتنوير اليوم موجود لدى السلطة ولدى المجتمع ولدى المعارضات بأشكاله المختلفة، وهذا التجانس بقي في التحديد الأخير موت المجتمع والذهاب إلى الفكر القدري بأكثر أشكاله بؤساً والى الفولكلور الديني الذي لا علاقة له بالدين ضرورة. ينبغي التمييز بين القول بهزيمة المشروع التنويري، وهذا واقع أكيد والقول بفقدانه شرعيته وهذا كلام ليس له أي معنى على الإطلاق. وذلك لسببين أولها أن جميع البدائل السياسية والثقافية والإيديولوجية التي رفضت التنوير انتهت إلى الإفلاس والخراب والبوار، وثانيهما أن المجتمع العربي اليوم لن يستطيع الوقوف ـ هذا إن استطاع الوقوف ـ إلا بالعودة النقدية إلى المقولات التنويرية من حيث هي مقولات كونية، وأعني بذلك القبول بسببية المعرفة والحوار المجتمعي وحقوق المواطنية والاعتراف المتبادل بين المجتمع والسلطة وبين القوى الاجتماعية ذاتها. وعلى الرغم مما وجه من النقد الشديد لكتاب »مستقبل الثقافة في مصر«، فأنا أعتقد أنه الكتاب الأكثر راهنية اليوم من وجهة نظر عقلانية ووطنية ومسؤولة. الإجهاض ÷ يثير جوابك الكثير من الأسئلة التابعة، أولاً كيف تفسر أن عملية الإجهاض الثقافية الشاملة جاءت من أحزاب تدعي بأنها أحزاب ثقافية بالأساس؟ ثانيا هل يمكن الحديث عن راهنية طه حسين، بمعنى ماذا فعلت الثقافة منذ تلك الفترة ولغاية اليوم، ألم تستطع إعادة طرح أسئلة خاصة بزمننا الحالي؟ ﴿ هذا النوع من الحوار يبقى في جميع الحالات مربكا لأن الأسئلة جزئية بشكل أو بآخر، ولأن الإجابات أيضا تبقى في جميع الحالات جزئية. بما يخص الأحزاب وأعني بذلك الأحزاب القومية والماركسية، أعتقد أنها كانت تنطلق من إيديولوجيا عامة أكثر من انطلاقها من تصور علمي للعام كما كانت تريد أو تقول أو تزعم أو ترغب الخ... فلو انطلقت فعلا من تصور موضوعي للمجتمع والقضايا الاجتماعية ومن سياسة ثقافية مشخصة لكان عليها أن تقوم بدراسة المرافق الاجتماعية في وجوهها المختلفة. مشكلة الفلاحين، العمال، المرأة، الجامعات، الطلبة، التراث، الخ... لكنها عوضا عن أن تقوم بتمييز الأسئلة اكتفت بالعمومية الإيديولوجية التي هي مجموعة من الشعارات: الحرية، القومية، الاشتراكية، تحرير فلسطين، هزيمة الاستعمار، ولأن المثقف الحقيقي أو المثقف بالمعنى الموضوعي لا يتكيف كثيرا مع العمومية الإيديولوجية فقد كان على هذه الأحزاب أن تقوم بطرد متواتر لمعظم المثقفين. الأمر الآخر أن هذه الأحزاب القومية والماركسية أو الشيوعية بأشكالها المختلفة أسست من قبل مثقفين بشكل أو بآخر. قسطنطين زريق كان مثقفا وكذلك ميشال عفلق ورئيف خوري وبشير الحاج علي في الجزائر، لكن تطور البنية الحزبية في هذه الأحزاب التي استلهمت بشكل سريع وبدون تحفظ شعار المركزية الديموقراطية واعتبارها أن هناك مثالا جاهزا ينبغي أن يحاكى مثل الحزب الشيوعي البلغاري على سبيل المثال، جعل هذه البنية في حد ذاتها طاردة للثقافة، ولذلك لا يمكن اعتبار قسطنطين زريق مسؤولا عن موقف القوميين العرب من المثقفين بعد أن تمأسس أو تعسكر ولا يمكن أن نعتبر أنور عبد الملك او رئيف خوري أو كامل عياد مسؤولاً أيضا عن أداء هذه الأحزاب وموقفها من الثقافة. وواقع الأمر أن نهاية الأربعينيات الذي جاءت بالتحرر الوطني ثم الوصول لاحقا وصعود المقاومة الفلسطينية أنتج أولا وأخيرا حركات شعبوية تطمئن إلى الشعارات العامة ولا تحتاج الثقافة أصلا. وهذا ما يفسر السهولة المروعة في التفكك السريع والتراجيدي لهذه الأحزاب التي لم تكن أحزابا حقيقية. التجمعات التي حملت معها جميع أمراض المجتمعات المختلفة مثل العشائرية والقبلية والطائفية. هذه الأحزاب بسبب مفهومها الانقلابي وفقر وعيها التاريخي احترفت منذ البداية التحالف مع السلطات كل السلطات، وهذا ما قام به الحزب الشيوعي المصري في الستينيات عندما حل نفسه، والذي مارسته أحزاب كثيرة أخرى من دون أن تعلن أنها حلت نفسها، لا غرابة والحال هذه إن كنا قد رأينا أن الكثير من الماركسيين شكلوا امتداداً للسلطة وأن الكثير من الأحزاب اليسارية هي مجرد ملحقات سلطوية لا أكثر. فإذا كانت السلطة المسيطرة قد ألغت الفضاء السياسي أو المجتمعي الذي هو شرط الحوار ونمو العقل والثقافة فإن هذه الأحزاب التي حلت نفسها بشكل واضح أو مضمر ساهمت أيضا في تدمير وتحطيم القضاء السياسي المطلوب لكل مجتمع حديث. أما الشق الآخر من السؤال ولا أقول إطلاقا إن الثقافة العربية الداعية إلى التنوير قد توقفت عند طه حسين، فهذا كلام لا معنى له بل فيه، بلغة طه حسين، السخف والكثير من السخف. لقد كان هناك قسطنطين زريق وهو مفكر كبير جدا وخاصة في كتابه الرائد »نحن والتاريخ« وهناك الياس مرقص وياسين الحافظ وهناك عبد الله العروي وبعض محاولات الجابري وفؤاد زكريا وكتابات الماركسي الراحل ميشال كامل، بالإضافة طبعا إلى سمير أمين، لكن الفرق الأساسي بين هؤلاء المثقفين أنهم شكلوا بعد هزيمة ٦٧ حالات فردية متمردة نقدية تنويرية وذلك في سياق أصبح معاديا للتنوير. في حين أن ما ميز طه حسين هو جرأته على التقدم بمشروع اجتماعي ثقافي سياسي شامل. وبسبب ذلك كان يربط ما بين اجتهاده النظري وفكرة التحويل الاجتماعي بينما اكتفى من جاء بعده بتقديم أفكار متفرقة هنا وهناك، تحت هذا الموضوع أو ذاك. وواقع الأمر أن هزيمة ٦٧ هي أمر يريد أن يتجاهله الكثيرون وقد شكل هزيمة صاعقة أو كلية لجميع الأفكار التي تميل إلى التحرر ولهذا لم يأخذ المفكر الكبير العروي على سبيل المثال، وهو أكثر عمقا في بعض النقاط من طه حسين، المكانة التي أخذها عميد الأدب العربي ذلك أن هذه الهزيمة جاءت بصعود التيارات الدينية التي ساوقها كما نعلم جميعا صعود غير مسبوق لحضور الأجهزة السلطوية في المجتمع وهذا أدى إلى هزيمة الثقافة والتنوير والمثقفين. ينبغي القول إن دور الثقافة الاجتماعي لا يقاس بالمثقفين كأفراد سواء أكانوا لامعين ام غير لامعين، بل ينبغي النظر إليهم كعلاقة اجتماعية بين جملة علاقات اجتماعية أخرى. فلا الكتابة ينجزها فرد، إذ أنها تحتاج إلى القارئ وهذه علاقة اجتماعية كبرى مثلما أن القارئ يتحدد بالتربية والغناء الاجتماعي السياسي وأفكار الاعتراف والاعتراف المتبادل الخ... القول الأخير إن طه حسين كان في سياق اجتماعي يلبي ولو جزئيا المشروع الثقافي السياسي بينما وجد المثقفون التنويريون لاحقا بعد هزيمة ٦٧ في سياق اجتماعي مختلف يهزم جميع أنواع الثقافة بالمعنى الأخلاقي والنبيل. ولكننا نعاني اليوم أيضا من سياق اجتماعي مختلف. لم تعد الأصولية الدينية مجرد فكرة مطروحة، بل أصبحت واقعاً لا نستطيع تخطيه. بمعنى آخر، ثمة ثقافة أخرى اليوم تبدو وكأنها كسبت حربها ضد الثقافة التنويرية؟ ماذا تستطيع هذه الأخيرة بعد؟ ﴿ لا اعتقد كلياً أنه ينبغي الفصل بين الأصولية الدينية وبين الأصولية السياسية التي تحكم العالم العربي، فالقول بأن هزيمة الثقافة تعود إلى الفولكلور الثقافي الذي أنتجته القوى الأصولية لا يكفي. ذلك أن الدولة أو السلطة التي تملك الرقابة والأجهزة التعليمية والإعلامية والمدرسية وتضع شروط إنتاج الكتاب وطبعه وتوزيعه وتحديد ثمنه، إن هذه السلطة هي المسؤولة أولا، ليس عن انتشار الفولكلور الثقافي ولكن إنتاج بشر مستقيلي العقول، وعلى هذا فإن الأصولية الدينية هي الوجه الآخر للأصولية السياسية في العالم العربي وهما وجهان متكاملان، موحدان، متحالفان، على الرغم مما يبدو من خلاف وتناقض بينهماوكل منهما ترفض فكرة الإنسان المستقل والعقل النقدي المستقل وكل منهما تنشر شروط إنتاج الجماعة وإعادة إنتاجها أي إنتاج الرعية عوضا عن إنتاج مفهوم الشعب المرتبط بمفهوم حقوق المواطنة والمجتمع المدني والديموقراطية. لا غرابة أن يتوازع هذان الطرفان أي الأصولية الدينية والأصولية السياسية محاربة العقل والثقافة والنقد والفنون والشعر والرواية الخ... أكثر من ذلك أن المجتمع العربي اليوم يعيش ما يمكن أن يدعى بالأزمة العضوية الشاملة التي تعني أن السلطات عاجزة وراكدة ومراوحة في عجزها وركودها وأن القوى الأصولية تنتج فكرا يقوم بإعادة إنتاج هذا العجز والركود، وهذا ما يجعل المجتمع العربي يدخل في سيرورة سريعة أو بطيئة من التفكك والانحلال حيث المجتمع هو مجتمعات والطائفة هي طوائف والقبيلة قبائل... إن دور الفكر التنويري في السياق الراهن الذي نعيش هو ليس تقديم بديل اجتماعي سياسي شامل كما كان يفعل المثقفون في زمن مضى بل الاكتفاء بنقد واضح وموضوعي لممارسات السلطات السياسية التي تقوم بتدمير المجتمع وهي حالة من الحالات القليلة في التاريخ، وهذا ما يجعل المعارضة على صورة السلطة والسلطة على صورة المعارضة والمجتمع على صورة الاثنتين معا. إنه زمن الاكتفاء بالنقد الجزئي والاشارة إلى الأساسيات مثل حق الإنسان في الرغيف ومعنى الكرامة الوطنية وضرورة احترام القانون الذي كان موجودا خلال الفترة الاستعمارية والتمييز بين الجامع والجامعة والاعتراف بان علم الكيمياء لا يشتق من التراث وأن الشعر الحديث ليس دعوة استعمارية وأن الدفاع عن الفردية ليست زندقة وليست خيانة وطنية وأن الدفاع عن حقوق الكلام والتعبير والفنون هو أمر إنساني موجود لدى جميع المجتمعات. الرواية في مرحلة تكوين أنت اليوم واحد من أبرز نقاد الرواية في العالم العربي، هل تعتقد أن الرواية في العالم العربي استطاعت أن تؤسس حضورها الفعلي أم ما زالت بعد في مرحلة تكوين ما؟ ﴿ كثر الحديث في السنوات العشر الأخيرة عن ازدهار الرواية العربية او عن زمن الرواية بشكل عام. أعتقد أن الرواية العربية ما زالت في مرحلة التكوين وحتى لا أبدو متجنيا يمكن النظر إلى وضع الرواية في الكثير من البلدان العربية. هناك السودان التي حظها من الرواية قليل وقليل جدا والخليج العربي بشكل عام، وعلى الرغم من وجود أسماء مجتهدة، لا يزال في بدايته الروائية ولا أعتقد أن الرواية الجزائرية في طور ازدهار على الرغم من محبتي العالية لواسيني الأعرج، أما الرواية العراقية فقد انتقلت إلى المنفى والرواية الفلسطينية في طور الحصار. ما ينبغي أن أقوله إنه لا وجود للرواية العربية كظاهرة ثقافية ابداعية مزدهرة بل هناك وجود لمجموعة من الروائيين العرب المبدعين ومنهم مبدعون كبار. هناك ملاحظة أخرى، أنني كناقد متابع للرواية بشكل مجتهد نسبيا، لا أعتقد أن العالم العربي ينتج في العام أكثر من ٤ أو ٥ روايات عالية المستوى. هناك أمر آخر باستثناء الحالة اللبنانية التي اعطت في العقدين الأخيرين جملة أسماء مرموقة »هدى بركات، علوية صبح، ربيع جابر« وآخرون، فإن الرواية العربية لا تزال مستمرة وبفضل جيل من الروائيين ـ والمصريون منهم بخاصة ـ جاءوا من فترة الستينيات. الغيطاني وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر والبساطين، ولهذا فإن المحاولات الروائية المصرية الجديدة التي أعقبت مرحلة ما بعد محفوظ لم تعط حتى الآن شيئا كثيرا باستثناء أسماء قليلة جدا. وبما أنني أضع الرواية في إطار المحاولات الفردية المبدعة وليس في إطار الظاهرة الثقافية الواسعة، أستطيع أن أقول إنه ظهر في الأردن في السنوات الخمس الأخيرة رواية جيدة لإلياس فركوح وظهر في سوريا ٣ او ٤ روايات جيدة في السنوات العشر الأخيرة لممدوح عزام وفواز حداد وخالد خليفة صاحب العمل الممتاز »مديح الكراهية«، ولهذا عندما أتحدث عن اتساع الرواية العربية استعمل كلمة الربيع الزائف، لأنه ينبغي التمييز بين الكمي والكيفي ومثلما ما زلت أعتقد، وآمل أن أكون محقا، أن طه حسين هو العقل النقدي الأكبر في القرن العشرين فأنا أعتقد أيضا ان نجيب محفوظ لا يزال الوجه الأكبر في الرواية العربية علما أن عمله الكبير الأخير هو »الحرافيش« الذي كتبه في العام .١٩٧٧ إذا احتكم الإنسان إلى معايير المعرفة الأدبية بالمعنى العميق فسيجد أن المساهمة الشعرية أكثر عمقا ونفوذا وتطورا من الإبداع الروائي، على الرغم من ضمور جمهور الشعر منذ عشرين عاما على الأقل. ماذا تعني كلمة الرواية العربية، ما المقصود بها، كيف تعرّفها؟ ﴿ الرواية العربية هي الرواية المكتوبة باللغة العربية لا اكثر ولا أقل. ذلك أن الرواية جنس أدبي ديموقراطي كوني وأن القيم التي يلتزم بها هي قيم كونية وأن هويته الحقيقية ان كان لكلمة الهوية معنى محدد، هو الدفاع عن الحرية. الرواية العربية هي فقط الرواية المكتوبة بالعربية أما القول إن هذه الرواية لها مصادر ومراجع في الأدب العربي القديم أو أن هناك شكلا ومضمونا عربيين كما القول بأنه ينبغي ان يكون هناك نقد خاص بالرواية العربية هذا كلام ليس له معنى أو فقير المعنى على الأقل. الهوية الظاهرية للرواية العربية هي اللغة وهويتها الحقيقية هي ممارسة الحرية داخل الكتابة والدعوة إلى الحرية خارج الكتابة. جزء كبير من عملك النقدي ارتكز على قراءة الرواية والتاريخ. هل تعتقد أن الرواية هي تاريخ ما؟ ﴿ عندما أربط باستمرار بين الرواية والتاريخ فأنا أشير إلى ٣ عناصر: الأول، الرواية ظهرت تاريخيا في زمن صعود علم التاريخ (القرن ١٨) معلنة أن العقل المبدع هو الذي يميز باستمرار بين الحاضر والماضي. العنصر الثاني هو ان الخصوصية العربية بمعنى الهيمنة الاستعمارية السابقة وأنظمة القمع لاحقا أجبرت الروائي العربي عن التعامل باستمرار مع التاريخ سائلا بشكل مباشر أو غير مباشر عن أصول الدولة المستبدة. فتوفيق الحكيم عاد إلى التاريخ في روايته »عودة الروح« وعين نجيب محفوظ نفسه سكرتيرا للتاريخ وهو يؤرخ لمراحل المجتمع المصري روائيا في القرن العشرين واندفع القومي المهزوم عبد الرحمن منيف الى التاريخ ليكتب خماسيته الشهيرة عن »مدن الملح« ورجع نبيل سليمان إلى التاريخ وكتب »مدارات الشرق« وعاد بهاء طاهر في عمله الأخير »واحة الحروب« الى التاريخ... ان العودة الى التاريخ بهذا المعنى لا تعني ولعا بالماضي بل هي ضرورة منطقية تاريخية أراد بها الروائي معرفة الأسباب التي أدت إلى الخيبة العربية الشاملة. أما السبب الثالث الذي يجعلني أربط بإصرار بين المؤرخ والروائي فهو ان الرقابة السلطوية العربية المشددة في جميع المجالات الغت علم التاريخ كعلم وألغت دور المؤرخ الموضوعي وهو ما جعل الرواية العربية، في نماذجها الشرقية هي النص الوحيد الذي نقرأ به تاريخ العالم العربي في القرن العشرين. كيف تنظر الى المستقبل، مستقبل الرواية ومستقبل الفكر التنويري؟ ﴿ مستقبل الرواية العربية مستقبل مليء بالمفارقة فهي ستنمو وتتطور على مستوى الكتابة والتقنية وتطوير الأشكال بالمعنى الايجابي طبعاً، ولكن موقعها سيتحسن في اطار القراءة الاجتماعية ولذلك فهي جنس أدبي مغترب يكتبه مبدعون مغتربون لقراء مغتربين أيضا. فاذا كانت الرواية كما نعلم جميعا مرتبطة حميميا بالمجتمع المدني والديموقراطية وامكانية التخييل والذهاب الى المستقبل ونفي اليقين والقول بالاحتمال وتعددية التأويل واستعمال اللغات المختلطة... فان المجتمع العربي اليوم ينبذ هذه العناصر جميعها. اما مستقبل التنوير فهناك ٣ عناصر الاول هو انه لحسن الحظ يوجد بلغة ما، موروث ثقافي تنويري عربي يمكن الذهاب اليه والتعامل معه وتصديره أي أننا لا نبدأ من الصفر، وهناك ثانيا عولمة العالم وهذا ما يجعل المجتمعات العربية رغم انحطاطها ليست بمنجاة كليا من تغيرات العالم المتغير التي ستترك بشكل او بآخر آثارها على المجتمع العربي. وهناك ثالثا الأمل تلك الكلمة الغربية التي يحتاجها جميع المضطهدين في العالم ذلك ان الأمل ضروري لهؤلاء الذين لا أمل لهم، ونحن منهم. وكما قال محمود درويش فإن علينا اليوم أن نتقدم بـ»تربية الأمل«.
صباح الخير أستاذنا ياسين الشيخ سليمان : قرأت سريعاً بفضل الرابط الذي ضمنته مقدمتك بحث طه حسين في المجلة المذكورة ( الكاتب المصري ) والذي يشكل مشروعاً ونظرة متكاملة يلقيها على الأدب والتراث وواقع الثقافة الغربية وموقفه من كل منها . إن طرح هذا الموضوع للنقاش هو مسألة بمنتهى الأهمية نظراً لما يمثله طه حسين وللدور الهام والمؤثر الذي لعبه في نشأة وتكوين التيار الحداثي في الفكر والأدب العربي . سيكون هذا الملف ، الذي أتوقع وأتمنى أن يحظى باهتمام السراة والأصدقاء ، من جهة ، امتداداً لملف " في سبيل النهضة " الذي طرحه الأستاذ محمود الدمنهوري يوماً والذي لم يأخذ حظه الوافي من النقاش نظراً لصعوبته ، واستكمالاً للمواضيع التي طرحها الأستاذ زين الدين هشام عن دور الإستشراق وخصوصاً في ملفه الأخير عن كتاب " الاستشراق " لإدوارد سعيد ، من جهة أخرى . تمنياتي لك بالتوفيق وشكراً لك مجهودك الرائع .
صباح الخير عليكم جميعاً وكل عام وأنتم بخير : أتيت اليوم لأهنئكم بالعيد الذي لن نلاقيه هنا قبل صبيحة يوم الغد . قرأت في هذه المناسبة ردوداً وتعليقات جميلة وودودة من الأستاذة خولة والأستاذ ياسين وأبيات شعر مؤثرة أهداها الأستاذ عمر لذكرى أبيه في ملف الشعر الشعبي .ثم قرأت ههنا صلاة الأستاذ زهير . فأصابتني منها الدهشة . وليست الدهشة سوى إعصار من جمال يعصف في صدورنا ، وسحر يلفنا ، وفتحات في جدار الزمن تشبه الثقوب ننظر من خلالها إلى أعماق النفس التي أبدعت ورسمت لنا ما نراه ولا نراه ، ما نشعره ولا نحسن التعبير عنه ، إلا من صفت نفسه وشفت ، حتى انقادت له الكلمات وصار يلون بها أشكال المعاني . فما أرقَّ وأنصع ما كتبته أستاذي ، وما أحلى وأصفى ما جادت به نفسك وأبدعت رغم مرارة الواقع الذي تحدثت عنه . رحم الله من ماتوا وأنزل السكينة في قلوب ذويهم ، وأعاد علينا العيد ونحن في حال أفضل مما نحن عليه اليوم ، وسلامي لكل الأصدقاء الذين ذكرتهم في قصيدتك ، من غاب منهم ومن حضر ، وسلامي وشكري لك كاملين لا تحدهما الحدود .
أشكر الأصدقاء الذين كان لهم فضل السبق بتقديم التهاني حتى هذه الساعة الأساتذة : خولة ، زهير ، عمر ، ياسين ، وأتمنى لهم عيداً مباركاً . وأتقدم مرة أخرى بالتهاني إلى كل الأصدقاء والسراة ، وإلى رواد ومتصفحي الوراق ، وكل العاملين فيه من مهندسين وفنيين ، وإلى راعي هذا الموقع ومؤسسه الأستاذ السويدي ، وأفضل التمنيات بموفور الصحة ودوام النجاح ، والشكر لكل من ساهم ويساهم في إغناء واستمرار هذه المجالس العامرة بفضلكم . دمتم جميعاً سالمين وكل عام وأنتم بخير .
ولك الشكر أستاذ ياسين ، موضوعك القيم وكلماتك الصادقة الودودة ، ولنا عودة لمناقشة بعض نقاط هذا الموضوع في وقت لاحق بإذن الله. أشكرك أيضاً كل الشكر على معايدتك اللطيفة وأتقدم منك ومن عائلتك الكريمة بأحر التمنيات والرجاء إلى الله أن يحفظكم ويرعاكم ويزيدكم من فضله ، كباراً وصغاراً ، دمتم بخير جميعاً وكل عام وأنتم بأحسن حال .