يؤكد هيجل على أن السمة الأساسية للديانة الهندوسية داخلة ضمن تصورات الشرق الكلية. ففى الحدس الشرقي بشكل عام، والحدس الهندوسي بشكل خاص، يوجد عدد كبير من المذاهب الفلسفية والدينية، المؤمنة والملحدة، كلها مشتركة فى قاعدة واحدة بسيطة جدا ؛ حيث يمكن أن نميز فى الديانة الهندوسية المسترسلة فى الخيال- شيئا أخيرا هو البراهما، الذات العليا، العلة الأولى، روح الكون العليا وجوهره، إن البراهما هو الأساس وهو الوحدة العليا، ومن هذا الأساس ينبثق العالم بأسره، ومع ذلك فإنه يمكث فى الألوهة، فى الوحدة مع الألوهة. إن كل شيء صادر عنه، وناشئ منه. وهذه المنتجات هى الآلهة والأبطال والقوى الكلية والتكوينات والظواهر من جهة، وهى الحيوانات والنباتات والطبيعة غير العضوية من جهة ثانية. أما موقع الإنسان فهو الوسط بينها. وليس من الصواب- فى نظر هيجل- اعتبار هذا المعتقد الهندوسى هو النظرية المسيحية فى الخلق أو شئ قريب منه، لأن الكون فى نظر المسيحية هو العالم الحالى، وهذا العالم عادى، لكنه فى نظر الهندوسية إلهى مثل البراهما نفسه. ولذا فإن الهندوسى يؤله بفضل خياله الخصب كل الحاضر لدرجة الإيهام.
لكن من جهة أخرى فإن الهندوسية تتصور المطلق على أنه الكلى اللامتمايز واللامتعين بالمرة، ويفتقر هذا الغلو فى التجريد إلى مضمون خاص، ولا تقابله أية شخصيةعينية، ومن ثم لا يصلح لأن يصاغ ويقولب من قبل الإدراك ؛ فالبراهما ذلك الإله الأسمى المحايد يفلت من الإدراك الحسي، ولا يمكن التفكير فيه([i]).
أولها البراهما (المذكر)، ثم الفيشنو وبالأخص فى صورة كريشنا، ثم شيفا أو مَهَديفا، أما الضلع الأول من الثالوث، وهو براهما (المذكر)، فإنه صاحب النشاط المنتج والمنجب، فاطر العالم، كبير الآلهة، الخ. وهو يتميز عن البراهما (المحايد) الكائن الأعلى، أما هو أى براهما المذكر- فهو أول مواليده، لكنه من جهة أخرى يتداخل من جديد مع هذه الألوهية المجردة([ii]).
وإله تريمورتى الثانى هو فشنو أو كريشنا، الذى يحفظ ويصون، والذى يتجسد فى أشكال كثيرة لا حصر لها([iii]).
والتجليات المقابلة لهذه الآلهة الثلاثة لا تقع تحت حصر، وإذا نظر إلى عمومية مدلولاتها فإن نشاطاتها لا متناهية العدد، وبعضها يتعلق بالظواهر الطبيعية، وعلى الأخص العنصرية، وعلى سبيل المثال فإن فشنو يختص بكل ما له صلة بالنار. أما البعض الآخر فعبارة عن أنشطة روحية، علما بأن كلا النوعين من الأنشطة يتداخل ويتراكب بصورة بالغة التنوع.
وفى الواقع أن الإله الثالث فى الثالوث الهندوسى، ليس هو الكلية العينية التى تجمع بين الإلهين الأول والثانى فى المسيحية حسب منظور هيجل، بل هو فقط متمم للإلهين الآخرين، وبدلا من أن يرتد إلى ذاته، لا يتعدى كونه تحولا، تغيرا، تد ميرا.
ولهذا يذهب هيجل إلى أنه لا مناص من الامتناع عن طلب الحقيقة العليا فى مثل هذه العقيدة التى ما هى إلا تعبير عن خطوات العقل الأولى، وإذا كان فى هذه العقيدة نوع من التلميح إلى التثليث المسيحى، فليس من الجائز اعتمادا على التشابه الرقمى اعتبار هذا التثليث الأصل الأول الذى صدر عنه التثليث المسيحى، لأن الإله الثالث فى الثالوث الهندوسى ليس وحدة مركبة من الإلهين الأولين، كما أنه لا يمثل عودة الجزئي إلى الكلى في لحظة ثالثة هى لحظة الفردية. فضلا عن أن الآلهة الثلاثة ليست متضمنة فى الجوهر وغير مؤثرة فى طبيعته الداخلية، بل هى مجرد ثلاثة تجليات خارجية للجوهر الواحد، ومن ثم فهى لا تمثل وحدة عينية مثل الفكرة الشاملة ومثل وحدة الأقانيم الثلاثة فى المسيحية. وانما هى تجليات متباينة([v]).
والأسلوب الذى يلجأ إليه الهندوسى للقضاء على الهوة القائمة بين المتناهي واللامتناهى، هى الجهاد من أجل التماهي مع هذا الجوهر، وغاية الهندوسى هى الصعود بلا توقف نحو ذلك التجريد الأقصى، وقبل أن يفلح الإنسان فى بلوغ درجته القصوى يكون كل شيء قد تبخر وتلاشى: المضمون العيني ووعيه بذاته على حد سواء. لهذا لا يعرف الهندوسى من تصالح أو تماهٍ مع البراهما، بمعنى أن الروح الإنساني لا يعي هذه الوحدة، وإنما تتحقق الوحدة بالنسبة إليه متى زال كل شيء: وعيه ومضمون العالم ومضمون شخصيته على حد سواء. ويعتبر هذا الفناء- الذي يصل إلى حد غيبوبة الوعي التامة- أسمى حالات الغبطة التى بفضلها يغدو الإنسان قادرا على الوصول إلى الله الأسمى وعلى صيرورته هو نفسه برهمانا.
إن غاية الهندوسى هى التوحد مع الواحد، الارتفاع إلى الوجود كفكر. ويكون الوجود كفكر مباشر لدى طبقة البراهمة باعتبارها أسمى طبقة، وهم يكتسبون ميزة الاتصال بما هو إلهي بفضل مولدهم، وهم أيضا موضع تكريم من الآخرين كبراهمة، كآلهة.
وتوجد طريقة أخرى يسلكها أولئك الذين ينتسبون إلى الطبقات الأخرى لكي يعودوا إلى ذواتهم، تتمثل هذه الطريقة فى إماتة الذات والتخلص من الحياة الخارجية ومن كل حيوية. كما أن هناك من يمكثون مثلا عشر سنوات واقفين فوق قاعدة، ثم يبقون جالسين لأمد مماثل! ويعتني أصدقاؤهم بمأكلهم ومشربهم. وبفضل هذا السلوك الذى يسمى باليوجا يجعل الهندوسى من نفسه فكرا خالصا لا يفكر فى أي شيء. وهذا الفكر هو البراهما ذاته الذي يعتبر الوجود فيه هدفا أعلى للهندوسى. أما الإنسان المستغرق فى الرغبات والحسيات بشكل عام فإنه لا يبلغ هذه المرتبة، ويكون بعد الموت فى حالة جديدة وفق عقيدة التناسخ، فيبقى فى الزمان، فى الوجود التابع، من خلال حالة حيوانية([vi]).
وهكذا نلاحظ أن الهندوسية- كما يفهمها هيجل- هى دين الوحدة المجردة، دين الجوهر الواحد، وهذا الجوهر مجرد، وغير متعين، وبغير تمييز داخلى؛ ومن ثم فهو لاشكل له، وكل تعيين إنما يتمثل خارجه. ولذا فإنه ليس روحا، لأن الروح كلى متعين، بل إنه هو الذى يعين ذاته بذاته، حيث يخرج من داخله الجزئي بوصفه مبدأ التعين، ثم يعود فيمتص هذا الجزئى- الذى أصبح آخر- فى داخله، حيث يصير هذا الآخر مضمون الكلى بعد أن استرد وحدته، وتصالح فيه الجانب الكلى مع الجانب الجزئي فى شكل جديد هو الفردى.
تعتبر البوذية واللامية آخر مرحلة من مراحل أديان الجوهر. ولقد اضطرب موقعها فى نسق هيجل الدينى اضطرابا ملحوظا، حيث جعلها تارة قبل الهندوسية، وذلك فى محاضرات 4 82 1 م، و827 1 م، بينما يضعها بعد الهندوسية فى محاضرات 1 83 1 م. ولاشك أن الوضع الأخير هو الصواب إذا أردنا الدقة التاريخية حسب البحوث الأكثر حداثة، لأن البوذية جاءت كرد فعل على الهندوسية، أى إنها لاحقة عليها، ذلك لأن " سيد هارتا" (563- 483 ق. م) مؤسس البوذية، الذى يطلق عليه اسم " بوذا "- أى الرجل المستنير أو الملهم أو اليقظ أو البصير- قد ارتد عن الديانة الهندوسية بسبب فوارقها القبلية المقدسة وطقوسها المعقدة فى عبادة الآلهة والتضحية لها، وسعى إلى التحرر من الألم، بواسطة الكمال الأخلاقى الذى يمكن بلوغه بالانسحاب من الحياة (الانعتاق الجميل)، والانغماس فى النيرفانا. وقد أنكر بوذا وجود الله الخالق، وأنكر أيضا ديانة الفيدا، ولكنه قبل تعاليمها عن دورة الميلاد والممات (السانسارا)، وعن الجزاء (الكرما) التى تشير إلى أن تناسخ الأرواح لا يتوقف على القبيلة التى ينتمى إليها إنسان ما، ولا على التضحيات التى قدمها، وإنما يتوقف على حسنات الإنسان وسيئاته فقط.
إذن فخلاصة الأبحاث الحديثة حول البوذية تكشف عن أن الوضع التاريخى لها هو بعد الهندوسية وليس قبلها. وهذا ما تبينه هيجل فى محاضرات 1831 م، وإن كان لم يتبينه فى محاضرات 1824 و 1827 م.
ونظرا لأن بوذا وضع ديانة بلا إله، فقد نظر إلى الجوهر بوصفه عدما. فالأصل فى الوجود هو العدم، والنهاية كذلك هى العدم. ولهذا فإن المبدأ الأساسى للوجود فى حالة سكون أبدى بلا نشاط أو إرادة، ولا يمكن أن يتغير فى ذاته. والأشياء الموجودة فى العالم ما هى إلا صور فى حالة تغير، وعند تحليلها فإنها تفقد كيفيتها، حيث إن كل الأشياء واحدة فى جوهرها الذى هو العدم([vii]).
ولقد جاءت طريقة الخلاص فى هذه الديانة تبعا لتصورها للجوهر. فلما كان الجوهر هو العدم، فإن الخلاص يكون عن طريق التوحد مع العدم والانعتاق من الوجود- من الحياة بكل مظاهرها:الوعى، العواطف، الإرادة([viii]) .فالسعادة هى فى الاتحاد مع العدم، والتحرر التام من الوجود، ويقترب الإنسان من السعادة القصوى بمقدار تحرره من مظاهر الوجود، بل إن الإنسان يمكنه أن يتحرر من الشيخوخة والموت والمرض عن طريق التأمل والعودة إلى الباطن والوصول إلى حالة النيرفانا، وبوصول الإنسان إلى حالة النيرفانا يكون قد نجح فى عملية التوحد والتحرر من عملية التناسخ([ix]). ومن هنا يطلق على هذه الديانة وصف " الديانة المستغرقة فى ذاتها .
ويشير هيجل إلى أن بوذا يعبد فى الهند بنفس هذا الاسم " بوذا "، وفى الصين تحت اسم " فو Foo”.وفى سيلان تحت اسم " جواتاما ". لكن البوذية تأخذ بين التبت والمغول فى وسط أسيا وسيبريا- شكل اللامية، حيث معبودهم يدعى "اللاما". ويفوق عدد أتباع البوذية عدد المسلمين، كما أن عدد المسلمين يفوق عدد المسيحيين([x]).
ويوجد ثلاثة من اللاما، أكثرهم شهرة هو "الدلاى لاما" الموجود فى لهاسا بالتبت، وثانيهم هو "التشو- لاما" الموجود فى تشو- لامبو، ويدعى أيضا بانتشن رينبوتشى، أما الثالث فهو الموجود بجنوب سيبيريا([xi]).
وتعتبر اللامية متطورة عن البوذية، والجانب المشترك بينهما هو وجود علاقة بإنسان ما بوصفه حاملا للوحدة الجوهرية للمطلق، لكن البوذية الأصلية- عند هيجل- تدرك هذه العلاقة على أنها علاقة بإنسان ميت، بينما في اللامية هي علاقة بإنسان حي هو اللاما. لكن هذا لا يعنى الارتباط بما هو جزئي في الإنسان، وإنما الارتباط بما هو كلى فيه، بما هو ماهوى فيه ومعبر عن الوحدة الجوهرية للروح، ومن ثم فإن هذا البوذا أو اللاما يمثل نبع العطاء الروحي، لكن لا يعنى هذا أنه سيد للطبيعة بحيث يمكنه القيام بالسحر والمعجزات، وإنما يعنى فقط أنه متميز عن الطبيعة بكل ما فيها من جزئيات. ومن هنا نفهم كيف أن البوذية، واللامية بوصفها صورة معدلة منها، قضت على الديانة " الشامانية " في منغوليا القائمة علي السحر والمعجزات والشعوذة([xii]).
ولقد انتشرت البوذية فى الصين، والهند، وسيلان، وأنام، وبورما. وأخذت شكل اللامية- كما سبقت الإشارة- عند المغول. لكن هيجل لا يشير إلى تحول الكثيرين من المغول إلى الإسلام بعد غزوهم للعالم الإسلامي، وكيف أنه في الوقت الذى انهزم فيه المسلمون أمامهم، انتصر الإسلام عليهم([xiii]).
وينبغى ملاحظة أن هيجل رغم وعيه بالفروق والتمييزات الدقيقة داخل الهندوسية،فإنه لم يكن على مستوى الوعى نفسه بالبوذية وفرقها المختلفة، ولم يعرف التيار الإنساني الأصلي داخلها، وهو المعروف بالهنايانا، والذى ينظر إلى البوذا على أنه حكيم لا إله. كما أن معرفة هيجل بالتيار المؤله لبوذا، وهو تيار متأخر، كانت ناقصة إلى حد بعيد. فللبوذية تاريخ طويل، تبدلت فيه عقائدها على مر الزمان، وتنوعت مدارسها تنوعا كبيرا([xiv]).
باستعراض الديانة الصينية، والهندوسية، والبوذية واللامية، نكون قد انتهينا من ثاني مرحلة فى تطور الأديان وفق المنظور الهيجلى، وهى تلك المرحلة التى يدعوها هيجل بأديان الجوهر. لكن ليس معنى ذلك أننا قد غادرنا بعد أديان الطبيعة، فنحن لا نزال فيها، لأن أديان الجوهر تمثل فقط الشق الثاني من أديان الطبيعة. لكن الفكرة ستأخذ في التطور وتعمل جاهدة على الخروج من هذه المرحلة إلى مرحلة أديان الفردية الروحية. بيد أنها لا تصل إلى هذه المرحلة مباشرة، وإنما عبر محطة وسطى انتقالية تظهر فيها أديان جديدة تتجلى فيها بعض عناصر الروح بشكل جزئي. وهذه الأديان التي يدعوها هيجل " أديان التحول " تشمل الديانة الزرادشتية، والسورية، والمصرية.
ولا تمثل أديان التحول مرحلة مستقلة تماما عن مرحلة أديان الجوهر،بل هى تابعة لها، إذ ينتمى الاثنان إلى مرحلة أكبر تضمهما معا (بالإضافة إلى ديانة السحر المباشر) هي مرحلة أديان الطبيعة، لكن تتميز أديان التحول بأن الفكرة فيها تحاول الانعتاق من الطبيعة، لكنها لا تنجح فى ذلك نجاحا تاماً حيث يظل مفهوم الجوهر له حضور قوى بجانب ظهور عناصر جديدة روحية فى تصور الإله، ولا تكفى تلك العناصر الروحية الآخذة فى الظهور للحكم بأن الإله أصبح في الوعي الإنساني روحا حقيقيا متعينا، وإنما هو في مرحلة وسطبين الجوهرية والروحية([xv]).
(26) Hegel, Lectures on the History of Philosophy ,pp. 138 ff.
- Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 270 ff.
(27) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 275.
(28) Ibid., p. 277.
(29) Ibid., p. 279.
(30) Ibid., p. 429..
(31) Ibid., p. 383 ff.
(32) Ibid., p. 256.
ومحاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 139.
(33) Ibid., p. 256.
(34) Ibid., p. 253 ff.
(35) Ibid., p. 251.
(36) Ibid., p. 264.
(37) Ibid., p. 265 ff.
(38) انظر: فيليب خورى حتى، تاريخ العرب، ج 2، 635.
(39) د. سرفبالى رادا كرشنا، و د. شارلز مور، الفكر الفلسفى الهندى، ترجمة ندره اليازجى، بيروت، دار اليقظة العربية، 1967، ص 353- 5 35 وما بعدها.
(40) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 292 ff.
تظهر مرحلة البين بين هذه أولا فى ديانة زرادشت (660- 583 ق. م)، ورغم أنها سابقة على البوذية، إلا أن هيجل لا يعبأ بهذا، فالمهم عنده هو تركيب منطقه على تاريخ الأديان، بصرف النظر عن الموضوعية التاريخية.
والديانة الزرادشتية تؤمن بنوع من ثنائية الإلهى: الأول باسم أهورامزدا، وهو الإله المضىء والظاهر فى ذاته،ونقيضه هو أهريمان، أى الظلام، وهو نجس فى ذاته.
ومع أن الإلهى مع الزرادشتية أصبح أكثر تحديدا وتشخيصا عن الإلهى فى الديانات التى ذكرها هيجل من قبل، فإن هذا التشخيص سطحى للغاية من وجهة النظر الهيجلية، فأهورامزدا ليس ذاتا حرة متحررة عن الحس نظير إله اليهود، كما أنه ليس ذاتا روحية وشخصية نظير إله النصارى الذى يُمثَّل كروح واع لذاته ولشخصيته الواقعية، بل يبقى من حيث هو نور غير قابل للانفصال عن الموضوعات الحسية رغم توجيه الابتهالات إليه باسم الملك والقاضى والأكبر...، الخ.
إن أهورامزدا إذن هو كلية جميع أشكال الوجود الخاصة التى يتحقق فيها الإلهى والنقى مع النور والأنوار، لكن هذه الكلية لا تزال غير قادرة على التجرد من الموضوعات التى هى غارقة فيها..، إنها كلية كامنة فى الخصوصى والفردى مثل كمون النوع فى الأجناس والأفراد. نعم إن أهورامزدا من حيث هو هذه الكلية، يحتل مكانة فوق الخصوصى، ويعد هو الأول والأرفع،.. لكنه لا يوجد إلا فى كل ما هو مضيء ونقى، مثلما لا يوجد أهريمان إلا في كل ما هو قاتم، ومظلم، وفان، ومريض..
إن الواقع فى الديانة الزرادشتية- وذلك فى جانبه الخير- ممثل لوجود أهورامزدا. ذلك أن كل ما هو مصدر للنماء والحياة وكل ما يصون البقاء، متمركز فى النور والطهر والنقاء، وبالتالى فى أهورامزدا،، والحقيقة والحب والعدل، وكل كائن حى، والروح، والغبطة.. إلخ، كل ذلك يعتبره زرادشت مضيئا وإلهيا فى ذاته،. دون تمييز بين ظاهريات الطبيعة وظاهريات الروح، تماما مثلما أن النور والصلاح، الصفات الحسية والروحية، تتطابق و تتداخل فى أهورامزدا ذاته.
ومن ثم يذهب زرادشت إلى أن تجلى الخليقة يعبر عن جوهرية الروح والقوة وجميع أشكال الحركات الحيوية، وذلك بقدر ما تنزع إلى صون ما هو صالح، وإلى إزالة ما هو طالح وضار فى ذاته، على اعتبار أن ما هو واقعى وصالح لدى الناس والحيوانات والنبات ما هو إلا النور، وحسب درجة هذا الضياء وكميته يرتهن تفاوت تجلى أو سطوع ا لأشياء([i]).
لكن مملكة النور لا تستقل وحدها بالعالم عند زرادشت، وإنما تقف على النقيض منها مملكة الظلام، وعلى رأسها أهريمان. وينتمي إليها الشر الروحى والطبيعى، وبصفة عامة كل ما هو هدام وسلبى. غير أنه غير مسموح لأهريمان إله الشر أن يوسع نفوذه ويبسط سلطانه، حيث إن العالم فى مجموعه يسعى إلى تدمير مملكة الظلام وإزالتها نهائيا، وتأمين حضور أهورامزدا وسيطرته على كل مناحي الحياة ([ii]).
ووفق هذا التصور لطبيعة الإلهى، تأتى العبادة فى الزرادشتية، حيث ينبغى على الإنسان أن يكرس حياته كلها من أجل مملكة النور، فيعمل على تطهير جسمه وروحه، وإشاعة الخير حوله، وأن يتعبد بالقول والفكر لأهورامزدا وكل ما هو منبثق عنه، ومحاربة أهريمان وكل نشاط منبثق عنه.
أى أن المجوسى لا يوجه صلواته فقط إلى أهورامزدا، وإنما كذلك إلى جميع ما انبثق عنه تبعا لدرجته ومقامه من الطهارة والصلاح. فبعد الصلاة إلى أهورامزدا يصلى المجوسى إلى " الأمسشسباندات "وهى الانبثاقات الأولى لأهورامزدا والأكثر سطوعا وتجليا، والتى تحيط بعرشه، وتساعده فى حكم العالم.
وتستهدف الصلاة التى توجه إلى تلك الأرواح السماوية- خواصها ومهامها بالتحديد، فإذا كانت من الكواكب، فإن الصلاة توجه إليها فى زمن ظهورها، وترتفع الابتهالات إلى الشمس نهارا، وتختلف طبيعة الابتهالات تبعا لحالة الشمس، من شروق إلى تعامد إلى غروب. ويصلى المجوسى فى فترة الضحى لأهورامزدا فى المقام الأول حتى يزيد من سطوعه وتجليه، وعندما يأتى المساء يصلى توسلا لأهورامزدا من أجل أن تتم الشمس مسارها.
وعندما جاء الإسلام نهى عن الصلاة فى تلك الأوقات درءا للتشبه بالمجوسى وحرصا على التفرد.
كما يوجه المجوس صلواتهم إلى الأرواح الطاهرة من السلف، أيا كان الوطن الذى تستوطنه، وخاصة إلى روح زرادشت، وزعماء المدن والطبقات الاجتماعية..
ويصلى المجوس كذلك إلى " مترا " إله العدل وقاضى الأموات، ومخصب الأرض والصحارى، والمدافع عن السلام ضد عوامل الحرب والصراع.
ويرفعون ابتهالاتهم أيضا إلى مظاهر الطبيعة من حيوانات وأشجار وجبال.. باسم أهورا مزدا، تقديرا لخدماتها للإنسانية.
وتوصى " الزندافستا " بإلحاح على وجوب التمرس على فعل الخير وطهارة الفكر والقول والعمل، والاقتداء بأهورامزدا وكل الأرواح الطيبة، والسعى إلى تطهير الطبيعة، وإشاعة نور الحياة، من خلال الصدقات، وعيادة المرضى، وغرس النبات، وحفر الآبار...الخ([iii]).
إذن فلقد أصبح الإله مع الزرادشتية- حسب هيجل- أكثر تحديدا فهو الخير،على العكس من " براهما " الذى كان بلا تحديد، وعلى عكس الجوهر عند البوذية الذى كان عدما. لكن لا يزال هذا الإله أحادى الجانب، لأن هناك إلها آخر يناقضه هو أهريمان إله الشر. ومع أن كلا منهما ذو بعد شخصي إلا أن مفهوم الشخصية لا يزال هنا- من وجهة نظر هيجل- مفهوما سطحيا، حيث إن نقيض أهورامزدا لم ينبع من داخله، وإنما هو خارج عنه، عكس الإله الكلى المتعين الذى يضع نقيضه من داخله، ثم يتوحد معه فى شكل جديد.
فالكلي فى الزرادشتية له آخر، وهذا عنصر روحي شخصي لا يزال غير كاف لأن هذا الآخر مستقل تماما عن الكلى. ومن هنا يعتبر هيجل إله الزرادشتية بين الجوهرية والروحية، وإن كان ما يزال قريبا أكثر من مرحلة الجوهر، لأن الثنائية الإلهية مفتقدة للوحدة التركيبية. وهذا هو مكمن القصور فى المبدأ الفارسى، إذ إنه لم يتعرف بشكل تام على وحدة التعارض([iv])؛ فالصراع يقع خارج الكلى وليس في داخله، والآخر ليس نابعا منه، بل هو مستقل عنه تمام الاستقلال .
(41) Ibid., p. 304 ff.
(42) Ibid., p. 301, 304, 312 .
(43) هيجل، الفن الرمزى والكلاسيكى والرومانسى، محاضرات فى علم الجمال، ترجمة جورج طرابيشى، بيروت، دار الطليعة، 1986 م، ص 42 وما بعدها.
لم يذكر هيجل الديانة السورية إلا فى محاضرات 1831 م، فى حين أنه تجاهلها أو جهلها فى المخطوطة وفى كل من محاضرات 1824 و 1827 م([i]).
وتمثل الديانة السورية، بوصفها ديانة الألم عند هيجل، مرحلة أكثر تقدما بالقياس للديانة الزرادشتية، لأن الانقسام فيها يقع داخل الكلى ذاته، فالإله يتضمن سلبه، ولا يعد هذا السلب خارجا مستقلا عن الإله. وفى ذلك يتحقق أكثر عناصر الروح أهمية عند هيجل، وهو الانقسام والتمايز داخل الفكرة الإلهية. ويتضح هذا من خلال أهم عقيدتين في تلك الديانة، وهما عقيدتا العنقاء وأدونيس.
فالعنقاء طائر أسطوري يحترق ذاتيا ثم ينبعث مرة أخرى من رماده، أى أنه يتضمن سلبه، ومن ثم تشتمل الفكرة الإلهية فى داخلها على " الآخر "وعبر ذلك "الآخر" تعود مرة أخرى إلى ذاتها([ii]).
أما العقيدة الثانية فهى مبنية على أسطورة أدونيس الذى يموت، ويظل ميتا ثلاثة أيام، ثم يسترد حياته مرة ثانية.
وهنا يبرز مفهوم هام فى المنظور الهيجلى، وهو أن السلب (الموت) كامن فى الإله، وليس متخارجا عنه تماما مثلما كان الأمر مع الديانة الزرادشتية. الأمر الذى يشير إلى نشوء فكرة موت الإله، وهى فكرة عميقة ودليل على تقدم الروح عند هيجل! فبها يتحقق التطور الداخلي للفكرة الإلهية وفق المنظومة الهيجلية، وهى أن الإلهى يتضمن نفيه، والآخر جزء من الذات الإلهية، أو بلغة المنطق: الجزئى كامن فى الكلى، والشقاق بينهما هو شقاق داخلى. ويعتبر هيجل بروز هذا العنصر مؤشرا على ترقى الفكرة الإلهية من مرحلة الجوهر إلى مرحلة أكثر قربا من مفهوم روحانية الإله وشخصانيته!
وربما يكون من الجلى أن السبب فى أن هذه الديانة تكتسب أهمية خاصة عند هيجل، يرجع إلى أنها تشكل جانبا أساسيا فى تكون العقيدة المطلقة، لأنها تضع البذرة التاريخية لعقيدة موت الإله فى المسيحية، وهى الديانة المطلقة عند هيجل.
(45) P. C. Hodgson, EditorialIntroduction to Hegel’s Lectures on the Philosophy of Religion, p.48-9.
(46) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p.309,314.
مع الديانة المصرية يكون هيجل قد وصل إلى آخر محطة فى أديان التحول، والنقطة النهائية فى أديان الطبيعة، لأن أديان التحول تمثل الشق الثالث من أديان الطبيعة؛ حيث كانت ديانة السحر تمثل الشق الأول، بينما كانت أديان الجوهر تمثل الشق الثانى.
وهى تمثل المحطة الأخيرةلأن الروح تجاهد فيها من أجل التحرر من ربقة الطبيعة، وتنزع نحو الوحدة العينية التى توضع فيها الطبيعة فقط بوصفها الأساس لتجلى الروح.
بيد أنها لا تستطيع التحرر الكامل، وإن كانت قد تمكنت من تحقيق تحرر جزئى حيث لم تعد الوحدة بين الطبيعة والروح هى تلك الوحدة الأولية المباشرة مثلما كان الحال بالنسبة للأديان الأقل تطورا، وإنما أصبح هناك مع الديانة المصرية عنصران متناقضان، يكدح أحدهما للتحرر من الآخر، أى أن الروح الغارق فى الطبيعة يكدح من أجل التحرر منها.
ومن ثم تعتبر الديانة المصرية، عند هيجل، ديانة انتقالية من مرحلة أديان الطبيعة إلى مرحلة أديان الفردية ا لروحية، وهى ا ليهودية، واليونانية، والرومانية.
وإذا كان هيجل قد وضع الديانة اليهودية بعد الديانة المصرية فى محاضرات 1827 م، وهذا وضع دقيق، ويتفق مع محاضرات 1824 م، فإن الأمر عاد ليضطرب معه فى محاضرات 1831 م، حيث وضع الديانة المصرية بعد الديانة اليهودية!
الأكثرمن ذلك لفتا للنظر أن هيجل يضع الديانة المصرية- فى كل الأحوال- فى نقطة غير نقطة البداية، مع أن الديانة المصرية، رغم عمقها وتطورها الداخلى، هى أقدم الديانات نظرا لقدم الحضارة المصرية ذاتها.
بالإضافة إلى ذلك، إن هيجل رغم رصده لشيء من التنوع داخل الديانة المصرية، فإنه لا يشير إلى التقدم والتطور الحادث في تاريخ هذه الديانة ذاتها، فهي ليست ديانة واحدة، وإنما ديانات متعددة تتابعت على مر التاريخ القديم، ولقد بلغ تنوعها درجة التناقض الجذري بالتناظر مع التبدلات السياسية العميقة التي كانت تحدث آنذاك، وأسرع شاهد يتوارد إلى الذهن فى هذا الصدد هو ذلك الصراع بين أخناتون وإلهه آتون من جهة وكهنة آمون من جهة أخرى.
لا شيء يهم هنا مع هيجل إلا إثبات فكرته المسبقة عن انتقال الروح من الشرق إلى الغرب! والديانة المصرية بثرائها وتعددها وقابليتها للتأويل ربما تكون أكثر الديانات التى تسمح لهيجل بتقديم تفسير لها يساعده على إثبات فكرته بصرف النظر عن التتابع التاريخي الواقعي.
فلم يعجز هيجل عن قراءة أفكاره القبلية فى تمثال أبى الهول، فهو الدليل عنده على صحة تلك الأفكار ؛ إذ إنه لغز مبهم يدل على محاولة الروح التحرر من الطبيعة، فنصفه حيوان وهو الجانب الطبيعى، ونصفه الآخر رأس بشرى وهو الجانب الروحى([i]).
ويدل كذلك على محاولة الروح التحرر من الطبيعة عند هيجل أن الأرض عند المصريين منقسمة إلى قسمين: أحدهما مملكة الحياة، وثانيهما مملكة الموت، بل إن الآثار تدل على الفكرة ذاتها من وجهة نظر هيجل، فنصفها فوق الأرض والنصف الآخر تحت الأرض.
ونظرا لأن محاولة تحرر الروح من الطبيعة- حسب القراءة الهيجلية- لم تزل غير ناجحة، فإن الاثنين مازالا متحدين فى الوعى الدينى المصرى، ولذا نرى هيجل يفسر عبادة قدماء المصريين للحيوانات على أنها دليل اتحاد الروحى بالطبيعى، لأن الحيوان يشتمل على دائرتى الطبيعة الحية والروح الغامضة التى لا تزال منغلقة على ذاتها، ولقد تصور قدماء المصريين أن فى عالم الحيوان الشيء الباطن وما هو غير قابل للإدراك، ومن ثم فإن عبادة الحيوان تدلل على ارتباط الروحى والطبيعى، حيث إن الحيوان مشتمل على الجانبين. ولقد تحولت أشكال الحيوانات إلى رموز، فالصقر رمز التنبؤ، وأبيس رمز الفيضان، والخنفساء رمز التوالد والنشوء([ii]).
ويعتبر هيجل عبادة الحيوانات أنقى من عبادة مظاهر الطبيعة للأسباب سالفة الذكر.
ولكن إذا كان قدماء المصريين قد عبدوا مظاهر الطبيعة، فإنهم قد أعطوها معنى روحيا، فالنيل رمز الحياة، والشمس رمز العطاء، وهو ما عبرت عنه أسطورة أوزريس. فأوزوريس كإله يعد جامعا لعناصر الفكرة الثلاثة عند هيجل، فأوزريس الإله الكلى يموت، أي يسلب نفسه ويستخرج نقيضه من داخله. وهنا يتحول إلى الجزئية، ثم يتغلب على الموت، فيسلب هذا النقيض، أى يسلب السلب، ويعود إلى ذاته، حيث يتحدد الكلى مع الجزئى فى الفردى. فإذا كان السلب هو الموت، فإن سلب السلب هو القيامة. وعليه إن الإله أصبح متضمنا فى داخله لسلبه، ومع أن الموت يأتى لأوزريس من الخارج من " تيفون " ([iii])- حسب هيجل- فإنه يعتبره داخلا فى جوهره، لأنه لا يظل خارجيا بالنسبة إليه، وإنما يصبح داخليا عندما يعانى أوزريس الموت.
ويمجد هيجل فكرة الخلود عند المصريين، ويعتبرهم أول مكتشف لخلود الروح الفردية ، ورغم أن هذه الفكرة تعنى أن الروح جوهر منفصل عن الطبيعة، فإن هيجل لا يريد أن يسجل وعى المصريين بهذا الانفصال، بل يمر عليه مرور الكرام، أو بالأحرى غير الكرام، لأنه يصدع قراءته من أساسها والتى يريد أن يؤكد فيها عدم قدرة الروح على التحرر والانفصال عن الطبيعة في الوعي الديني المصري.
(47) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p.313,327,354.
(48) Ibid., p322-3.
(49) تروى تواريخ الأساطير المصرية أن الذى تآمر على قتل أوزريس هو أخوه " ست" ليستولي على عرشه، ولكن إيزيس زوجة أوزريس كانت ساحرة كبرى، نجحت فى أن تلقح نفسها من أوزريس الميت، ثم أنجبت حورس الذي حارب عمه " ست " وانتصر عليه، واسترد العرش السليب. وقد اعتبر المصريون القدماء "ست" إلها للشر والانتقام، على نقيض أخيه أوزريس إله الخير والمحبة، وكان " ست " هو المعبود القومى للصعيد، وعاصمته أمبوس، وكان حيوانه المقدس كلبا بريا، وكان رمزه القوة والبأس والعواصف والرعود.
ثانيا : أديان الفردية الروحية (ارتفاع الروحى فوق الطبيعى):
يتطور التصور الإلهى مع أديان الفردية الروحية؛ حيث تتحرر الروح من الطبيعة بعد أن كانت غارقة فيها مع أديان الطبيعة التى جسدت الروح فى صور حسية. وحيثما ترتقى الروح فوق الطبيعة، فإن الإله يصبح شخصا ذا غايات محددة وحكيمة، وتتحقق فيه عناصر الروح أكثر من ذى قبل، لأنه صار كليا، ومع ذلك يتيح للجزئى أن يخرج عنه ويستقل، ثم يتصالح معه ويستوعبه فى الفردى، وإن كان هذا التصالح لا يلغى الجزئى على نحو تام. وإذا كانت بعض أديان الطبيعة، مثل الهندوسية، تملك تصورا مجردا للإله فى صورة" براهما " لكنه لم يكن موضوعا للوعى، ولم ينفصم عن الطبيعة من حيث كونه الوجود الكلى للطبيعة. وإذا كان التصور الإلهى قد أصبح موضوعا للوعى فى الزرادشتية، فإنه كان مصورا تصويرا حسيا على هيئة نور. بينما تحولت الطبيعة مع أديان الفردية الروحية إلى مجرد كائن مخلوق، عرضى ظاهرى، ومتناهى. وارتفعت الروح فوق الطبيعة؛ حيث غدت هى الخالق والوجود الأول([i]).
وتجلت أديان الفردية الروحية فى ثلاث صور، هى:
(1) اليهودية (دين الجلال):
اضطرب موقع اليهودية فى النسق الهيجلى إلى حد التناقض، فبينما يأتى لاحقا على الدين المصرى فى محاضرات 1824 و 1827 م، يأتي سابقا عليه فى محاضرات 1831 م، ضاربا بالتاريخ الحقيقى عرض الحائط!
وإذا كان الفن الرمزى يوازى أديان الطبيعة، والفن الكلاسيكى يوازى أديان الفردية الروحية، فإن هيجل يضع اليهودية- وهى من أديان الفردية الروحية- فى نطاق الفن الرمزى وليس فى نطاق الفن الكلاسيكى([ii]).
وفى "محاضرات فى فلسفة التاريخ" تأتى اليهودية قبل الحضارة المصرية،مع أن اليهودية نابعة من الحضارة المصرية، والوعي الديني عند اليهود مسبوق بالوعي الديني عند المصريين.
ويعتبر هيجل أن التصور اليهودى للإله باعتباره الواحد المجرد مشكلاً للانفصال بين الشرق الغرب([iii]). وينسى أن اليهودية شرقية، بل كل الأديان الموحى بها شرقية وليست غربية.
هذا، وبينما نظر كنط فى "الدين فى حدود العقل وحده " إلى اليهودية بوصفها مجرد تنظيم سياسى وغير مستحقة لاسم الدين؛ لافتقادها لعناصره الجوهرية، وهى خلود النفس، والنية الباطنة، والمبادئ الأخلاقية المستندة إلى الضمير، ومفهوم الإله رب العالمين([iv])، بينما نظر إليها كنط على هذا النحو، نجد هيجل يمجد اليهودية باعتبارها ، دين الجلال الذى قطع مرحلة فى تطور الروح أكثر تقدما من أديان الطبيعة. ويا ليته يقصد اليهودية الأولى، يهودية موسى وهارون، وإنما يقصد اليهـودية اللاحقة المستندة إلى العهد القديم فى شكله الحالى الذى أثبت علم النقد التاريخى تحريفه وخضوعه للتشكل والتبدل عبر عصور متلاحقة، وهى دين الجلال عند هيجل لأنها آمنت بالله ذى الجلال والسمو، خالق الطبيعة وسيدها والأساس الأول والمطلق([v]). فالتصور الإلهى تحرر معها من كل ما هو حسى وطبيعى، وتراجعت الطبيعة إلى مكانها كشيء متناهى وعرضى ومخلوق وغير إلهي ولم يبق فى مرتبة الإجلال غير الله الواحد، الشخص، المتعالى والمتحرر من كل ما هو حسى. فعندما تصور اليهودية الله متجردا من الشكل ولا ماهية له سوى الماهية الروحية المحض، بالتعارض مع العالم والطبيعة، فإنها تعتق الروحى من كل رباط له بالحسى والطبيعى، وتحرره من قيود الوجود المتناهى ، وقدمت المثال النموذجى للجليل، وعبرت عنه أنقى تعبير، فلأول مرة بالفعل تختفى فكرة التناسل، فكرة الولادة الطبيعية، لتحل محلها فكرة الخلق من قبل قوة روحية([vi]) "قال الله للنور: كن، فكان! ". ولا ريب فى أن الرب السيد، الجوهر الواحد، يتظاهر للخارج، لكن تظاهره يأتى فى منتهى النقاء، لا جسديا: إنه الكلمة المعبرة عن المفكر بوصفه قوة روحية، بأمرها يسقط للحال كل ما هو موجود فى حال من طاعة خرساء، بيد أن الله لا ينتقل إلى هذا العالم المخلوق وكأنه بالفعل واقعة، بل يبقى فى وحدته المتوحدة، من دون أن تتولد عن هذا الانفصال ثنائية حقيقية، فما هو خارجى هو صنيعه الذى لا يتمتع بأى استقلال عنه، وهو لا يوجد إلا ليكون شاهدا على حكمته ورأفته وعدله، وليس الواحد حاضرا فى أشياء الطبيعة، لكن أشياء الطبيعة هذه ما هى إلا أعراض عاجزة، وأقصى ما فى مستطاعها أن تنم عن ظاهر الماهية، بدل أن تكون تجسدها الحقيقى، وما دام الله الواحد مفصولا على هذا النحو عن عالم الظواهر العينية ومثبتا فى ذاته، ومادام العالم الخارجى، من جهته، متعينا على هذا النحو كعالم متناه وثانوى المنزلة، فإن عالم الطبيعة وعالم الإنسان يظهران للمرة الأولى فارغين من الألوهية، فليست الطبيعة تجسيدا لله، فالأرض أرض، والنبات نبات، والحيوان حيوان، والإنسان إنسان([vii]).
ونظرا لأن اليهودية تؤمن بأن الإله الواحد ذى الجلال هو إله الشعب فقط، فإنها ديانة مانعة على نحو مطلق([viii]).
أما عقيدة الآخرة وخلود النفس، فليس لها مكان في النسق الديني اليهودي. وفى هذه النقطة يتفق هيجل مع كنط. ولقد سبق لنا تحرير هذه المسألة عند الحديث عن موقف كنط من اليهودية، حيث تبين أن خلود النفس من العقائد الخلافية بين فرق اليهود، وثمة تناقض بين نصوص العهد القديم بشأنها، وليس من الدقة ما ذهب إليه كنط وهيجل من نفى هذه العقيدة عن مجموع اليهودية.
ومن المنظور الهيجلى، فإن عدم إيمان اليهود بخلود النفس يرجع إلى عدم الشعور بالاستقلال الفردى، وعدم حرية الروح العينى، والفردية لا توجد فى ذاتها ولذاتها، فليس مباح لأى شيء فى هذا العالم أن يتطلع إلى الاستقلال، إذ إن كل شيء موجود بقوة الله، وليس لوجوده من غاية سوى الشهادة على مجد الله وجلاله وعلى عرضية العالم. وفكرة الخلود غريبة عن تصور الجليل الذى ارتبط به لدى الإنسان إحساس بتناهيه وبالهوة التى لاقرار لها والتي تفصله عن الله الواحد الجليل، الذى هو وحده غير القابل للفناء، وكل شيء سواه متناه وغير حر وخاضع للولادة والزوال.
من هذا النص يولد الإحساس بدناءة الإنسان أمام الله، فالتسامى إلى الله يقوم على الخشية من غضبه والرغبة فى رضاه؛ ولذا جاءت العبادات اليهودية عبادات صورية.
أما الشريعة فهى نابعة من إرادة الجليل ذى الحكمة والقدرة على الفصل بين الخير والشر. ورضوخ الفرد للشريعة التى أنزلها الله، يعلي من مقامه ، ويضفى على علاقاته بالله طابعا إيجابيا. ثم لا يلبث أن يدرك أن كل الجانب السلبى من حياته وآلامه إنما هو عاقبة تمرده على الشريعة، بينما الجانب الإيجابي من حياته ورغد عيشه ومسراته إنما هو ثمرة انصياعه للشريعة. وهنا تظهر الأخلاق الحق، لأن الله يمجد عن طريق الاستقامة والعمل الصالح([ix]). وبينما يرى هيجل أن أخلاق اليهود أخلاق حق، يفند كنط الأخلاق اليهودية، ويجزم بأنها ليست أخلاقَ حقٍ، لأنها تفتقد عناصر الأخلاقية، وهى مجرد أفعال خارجية تخضع لقوانين إلزامية، وليست قائمة على النية الأخلاقية الباطنة أو الضمير. والمبادئ الأخلاقية لا تنتسب إلى اليهودية بما هى اليهودية، وإنما استعارها اليهود فى العصر الهلينى من اليونان([x]). ويبدو أن الخطوة التى كان تقدمها كنط إلى الإمام كان هيجل مصرا على أن يرجعها إلى الخلف!
(50) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 328 ff.
(51) هيجل، الفن الرمزى والكلاسيكى والرومانسى، ص 106.
(52) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 180.
(53) Kant, Religion Within the Limits of Reason Alone ,p. 116-8.
(54) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 365.
(55) Ibid., p. 360-1.
(56) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 182. وهيجل، الفن الرمزى والكلاسيكى والرومانسى، ص 110.
(57) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 371.
(58)Ibid., p. 372.
وهيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، 2، ص 182.
وهيجل، الفن الرمزى والكلاسيكى والرومانسى، ص 114.
(59) Kant, Religion Within the Limits of Reason Alone ,p. 116.
وفى الدين اليونانى تفوقت الروح على الطبيعة، حيث لم تصبح القوة الحقيقية للطبيعة، بل أصبحت للسياسة. وتتضح هذه العقيدة من خلال الإيمان بزيوس رب الأرباب والسلطة والقانون، الذى انتصر على العمالقة:قوى السماء والأرض والبحار. ولكن الروح تصالحت مع الطبيعة فى الفن حيث تم التعبير عن آلهة اليونان فى شكل حسى، فالروح تجلى فى العمل الفنى بتمامه، وغدا للآلهة شكل البشر وجسدهم بل وغاياتهم!وتصالح المعنى مع المادة، مع العنصر الحسى، مع الكائن لشيء آخر، ويتجلى الروحى بتمامه فى هذه الخارجية، وهذه الأخيرة تعنى الداخلى الذى يعرف بتمامه فى شكله الخارجى([i]).
ومع أن هيجل يدعو هذا الدين بالدين الجمالى، أو دين الجمال فى المخطوطة ومحاضرات 4 82 1 و 827 1، ودين الحرية والجمال فى محاضرات 1 83 م- مع ذلك فإنه يعتبره محدود الأفق، ضيق المجال، لكنه كان كذلك ممهدا للدين المطلق، لأنه تمثل الله على أنه ذو طابع إنسانى، وصور الإنسان على أنه ذو جوهر إلهى، ومن هنا مهد لعقيدة التجسد المسيحى، غير أنه ظل يفتقد لعنصر حرية الروح؛ لأنه جعل القدر والضرورة تحكم فى كل الأشياء بما فيها الآلهة([ii]).
(60) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 333 ff.
أما الدين الرومانى، فإن هيجل يدعوه دين الغائية، فهو يجمع بين الجلال والجمال. ومع ذلك فهو دين نفعى، لأن أتباعه ينظرون إلى الآلهة بوصفها وسائل تحقق رغباتهم، وهم يصلون إليها ويعبدونها عندما يحتاجونها ولاسيما فى أوقات الضرورة والحرب([i]). وهو دين سياسى ينظر إلى الدولة بوصفها الغاية القصوى([ii])، أما تصوره للإنسان فقد ظل يفتقد لكثير من العناصر، وأهمها الذاتية واللامحدودية، إذ إنه لا يعى أن الذاتية الخاصة وما تتيحه من تجاوز تتخطى إلى ما لانهاية كل نظام أقيم.
وقد بلغ استلاب الإنسان منتهاه فى الدين الرومانى، لا لأن الآلهة أصبحت ذات وظائف نفعية للإنسان والدولة، وإنما لأن الإمبراطور أصبح مهيمنا على كل القوى الإنسانية، وتمركزت فيه كل سلطات الألوهية، وأصبح يملك قدرة قدرية تعسفية أكثر مما تملك ا لآلهة.
لقد تم تكريم الإمبراطور بوصفه السلطة العليا، وعُظّم كإله، لأنه هذه السلطة اللاعقلية التى تحكم الأفراد . ويعبر جارودى بشكل مكثف عن فكرة هيجل وتوصيفه لهذا الوضع، فيقول:
" فى الإمبراطور تركز وتفرد كل سلطان البشرية المنخلع: كل الإلهى بات محتشدا فى هذا الكائن المحدود، وفى الوقت نفسه، إنه شقاء وألم الفرد الذى جرد من كل كينونته، من كل سلطته، من كل مستقبله"([iii]).
ومن ثم أصبحت الثقة فى قوانين الآلهة الأزلية ثقة خرساء، ولم تعد تماثيل الآلهة الآن سوى مجرد جثث هامدة فارقتها الحياة، ولم تعد الأناشيد الدينية سوى ألفاظ خاوية زال عنها أى مضمون إيمانى، وخلت موائد الآلهة من أى مضمون روحى، ولم يعد فى استطاعة الألعاب والاحتفالات أن تزود الوعى بذلك الإحساس السعيد بوجود وحدة بين البشر والآلهة. ولقد تحولت نشوة اليقين الذاتى الذى لا يتزعزع - على نحو ما عبر عنه الوعى الرواقى بتأكيده لذاته فى جرأة وشجاعة- إلى إحساس قوى بفقدان أى عنصر إلهى فى ضوء سيادة الوعى الشكي المصحوب بقلق حاد.. مما أدى إلى تداعى العالم الأخلاقى..([iv]).. يقول هيجل:
"الوعى الشقى هو علم هذا الضياع التام. وفيما يتعلق بهذا الوعى الشقى، ضاعت القيمة الداخلية لشخصيته المباشرة، والقيمة الداخلية لشخصيته المتوسطة، الشخصية المفكرة، سواء بسواء، لقد أصبحت الثقة خرساء فى آيات النبوة التى كان عليها أن تعرف الخاص. والتماثيل التى هى الآن جثث هربت منها نفسها. والأناشيد كلمات بدون إيمان. وباتت موائد الآلهة بدون الغذاء والشراب الروحيين، ولم تعد الألعاب والأعياد تعيد للوعى وحدته السعيدة مع الماهية، وتنقص أعمال ربات الإلهام قوة الروح الذى كان يرى يقين ذاته يتدفق من تصادم الآلهة والبشر. لقد صارت بالنسبة لنا: ثمار جميلة مفصولة عن الشجرة، منحنا إياها قدر صديق، كما تقدم فتاة جميلة هذه الثمار، بدون الحياة الفعلية لوجودها- هنا، بدون الشجرة التى حملتها، بدون الأرض، بدون العناصر التى تؤلف ماهيتها، بدون المناخ… أو تناوب الفصول التى كانت تضبط صيرورتها..، ولكن كما أن الفتاة التى تقدم ثمار الشجرة هى أكثر من الطبيعة التى كانت تعرفها مباشرة، الطبيعة المنتشرة فى شروطها وعناصرها، الشجرة، الهواء، الضوء، الخ، لأنها تركب فى شكل أعلى كل هذه الشروط فى بريق عينيها الواعية ذاتها وفى حركة تقديمها الثمار- كذلك فإن روح القدر الذى يقدم لنا هذه الأعمال الفنية هو أكثر من الحياة الأخلاقية لهذا الشعب ومن فعاليته، إنه روح قدر المأساة الذى يستجمع كل هذه الآلهة الفردية وكل هذه المحمولات للماهية فى البانثيون الوحيد، فى الروح الواعى ذاته كروح"([v]).
(62) Ibid., p. 385.
(63) Ibid., p. 387.
(64) روجيه جارودى، فكر هيجل، ص 238.
(65) قارن: د. زكريا ابراهيم، هيجل، أو المثالية المطلقة، ص 428.
(66) هيجل، ظاهريات الروح، ج 2، ص 261- 262، مقتبس من جارودى، فكر هيجل، ص 47 1- 48 1.
إن الألم الناشئ عن ذلك الوضع الذي آل إليه الدين الروماني، والشقاء الكلى، والتناقض بين المحدود واللامحدود، سيتغلب الروح عليها فى الدين الحقيقى للروح الذى يقدم تصورا متكاملا للعلاقة بين المحدود واللامحدود فى الإنسان، بين الطبيعة الإنسانية والطبيعة الإلهية، وما هذا الدين الحقيقى للروح عند هيجل إلا الدين المسيحى([i]).
ويذهب هيجل إلى أن جميع الأديان السابقة على المسيحية ما هى إلا معبرة عن جوانب من المسيحية ذاتها، وعندما جاء ت هذه الأخيرة استوعبتها استيعابا كاملا من وجهة نظر هيجل. رغم أن المسيحية تركز على الروح وملكوت الله أكثر مما تركز على الجسد والحياة! ورغم أنها تذيب الإنساني فى الإلهي! ورغم أنها تفتقد لمفهوم التنزيه والتوحيد المجرد الذى يعتبر أسمى العقائد فى الله حتى الآن من منظور عقلانى، ورغم أن مفهوم الشريعة كمنهج للحياة العملية غائب عنها، ورغم الانتقادات التى وجهت إليها من قبل علم النقد التاريخى، وهو العلم الذى لم يستفد منه هيجل البتة.
ولقد توقف العرض الهيجلي لتطور الأديان عند المسيحية دون ذكر للدين الذي جاء بعدها،وهو الإسلام.
(67) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 387.