رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (15)     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
الفصل الثانى عشر مذكرات (12) تهيؤات في لحظة اكتمال الدور أمشي في ذلك الليل الطويل .. أمشي يكتنفني ذلك الألم الكبير أحس به في داخلي ومن حولي وأمشي .... أهرب إلى تلة خضراء فسيحة كأنها صحراء ذات عشب ! ليل أحمر يغطي المكان ، موسيقى حزينة تشبه أجراس النجوم ، أسمعها من البعيد .. حفيف اهتزازات شفيفة يشق المدى .. في الأفق ، ألمح حصاناً طائراً بجناحات بيضاء يتهلل في قبة السماء : الحصان الطائر يحوم فوق التلة فارداً ريشه الوثير مظللاً به عتمة الليل ... قلبي يخفق بشدة ! قلبي يرتعد ويرفرف في صدري الذي يكاد أن ينشق عنه ، يريد أن يطير إليه . أمد كلتا يدي نحوه وبكل الرجاء الذي يعتريني تجاهه أستطيل ... أحاول أن أتشبث بجناحيه وأستطيل .. لا أصل إليه .. أراه يبتعد وحده . يضم جناحيه بانكسار وهو يحني رأسه بحزن ظاهر ، ويبتعد .... قلبي ينخلع من مكانه ثم يهوي .. أسقط من الخيبة ، أتدحرج عن التلة لأتهاوى في الفضاء السحيق ولا شيء من حولي إلا العدم ....... لا نبي من حولي ، ولا أرض ، ولا سماء .......... النبي الذي كنت أعرفه وأحفظ كلماته ، مر من قربي ولم نلتق ! كنت أريد أن أسمعه يردد تلك الكلمات التي كنت أعرفها ، لأعرف بأنه هو ! كنت تمنيت لو كان أخذ بيدي وسار بي ..... لكنه مر بقربي دون أن يراني ، ورأيته يمشي متجهاً إلى عكس المكان ....... أسمع صوت الله يناديني قائلاً : " لقد ظلمت نفسك ! " ...... " ما أغناني عنه ما قلته يا ربي ! وسأدفع الثمن ! " ، أقول في نفسي ......... أهوي وأهوي في عراء ذلك الفضاء اللامتناهي والخاوي إلا من خوفي القاتل . في لحظة ما ، أرتطم بذكرى ......... يوم قذفني أبي إلى العالم وصرت أتساقط في ذلك الفضاء السحيق ، قبل ان أغرق في الملوحة ! ووجدتني أسبح ، ثم أسبح ، بكل ما أوتيت من قوة نحو رغبة عمياء تدفعني إليها بصيرة لا أعرف لها قراراً ........... وحدي ، ولا ألوي .......... كيف وصلت إلى هنا ? أمشي أجر قدمي العاريتين ....... لغط كبير في سوق الخضار ، باعة ومشترون وسط أكوام من الزبالة والليمون المتعفن . مسلحون في لاند عسكري ، عليه مدفع "دكتاريوف" ، يجمعون التبرعات للمقاتلين ، ويتخاطبون مع تجار السوق بصوت عال ........ رائحة التفاح تختلط برائحة النعناع والبصل الأخضر في تلك الصناديق المكدسة رتلاً طويلاً ومنفرجة عن ممرات ضيقة تمر فيها قدماي العاريتان .......... نسيم شجيرات الآس القادمة من المقابر المجاورة تملأ المكان ...... أشعر ببيت جدتي يقترب مني وأنا أقترب منه . أسمع أزيز المنشرة يصم الآذان ، كلما اقتربت أكثر ، ونشارة الخشب الناعمة بدأت تدفأ لي قدميَّ ........ أمام باب الدار القديمة ، أجدني مبطوحة على بطني ، لأبدأ بصعود الدرج المظلم ، مستندة إلى أكواعي المرتجفة ! برودة درجاته الإسمنتية الناعمة صارت تمدني بخدر خفيف . في البهو الكبير ، أمام البيت ، اجتمع الجيران من حولي : " الحمد لله على السلامة ! " ، سمعتهم يقولون . أبتسم ، أهز لهم برأسي ، " الحمد لله على السلامة ! " ، يزحفون نحوي بالعيون ....... عيونهم تتفرس بفضول ، أسمع غوغاءهم وهم ينكبون فوقي ، ماذا يريدون أن يعرفوا ? أتساءل ! أرفع إليهم ببصري وللمرة الأخيرة ، ينصرفون عني بصمت ....... أمام العتبة التي تفصلني عن بيت جدتي ، أستجمع قواي الأخيرة لأدفع بنفسي إلى الداخل ........ كان صوت إغلاق الباب هو آخر ما سمعته ، ولم أعد أرى شيئاً ........... الرسالة الثانية عشرة والأخيرة دائماً أبــي .... عزيزتي الغالية : هي آخر رسالة أكتبها إليك ، صفاء ، حول هذا الفصل من حياتي ، الذي انتهى على هذا الشكل المؤلم . فالباقي تعرفينه ، وتعرفين أنني لم أمت رغم أن الدواء أتلف أحشائي ، وأنني عانيت من المرض وآثاره لمدة طويلة . إلا أن أسوأ ما خرجت به من هذه التجربة ، كان ما تركه علي الانهيار العصبي من ندوب في نفسي ، لم أشف منها أبداً . بقيت حوالي الشهرين في عزلة تامة ، كانت أمي خلالها تعتني بي بصبرها المعهود ، وصمتها المضني ، دون أن تسألني شيئاً ......... تغير لي الشراشف ، وتعطيني الدواء ، وتشتري لي عصير الخرنوب ، وتسألني إذا كان باستطاعتي أن آكل لتصنع لي بعض الحساء ........ تغطيني عند اللزوم ثم تذهب إلى أمورها الأخرى ........ تترك لي بقرب المخدة ، عينيها الباردتين ، بكل ما فيهما من ملامة وقسوة ، وكرمها الزائد في العناية بي ، بكل ما فيه من عزاء ورحمة ........ تعيدني إلى طفولتي التي عشت فيها دائماً معها في هذا الحد الفاصل ، بين تلك الأمومة الباردة ، وطقوس الواجب المقدس ......... أبي ، كان يصل به ما تبقى لديه من علائق بأمورنا وحياتنا ، ما تبقى لديه من حنان الأبوة ، إلى باب الغرفة ، دون أن يجتازه يوماً . فيقف هناك ، عند العتبة ، ليلقي علي نظرة من عينيه السوداوين الكبيرتين ، وأنا متكورة في فراشي ، دون أن يدفعه فضوله ، أو يتجرأ أن يكلمني أو يسألني شيئاً . نظرته كانت تعذبني وتعيدني إلى حزني القاتل ، حزني المسجى في فراش مريح ، كان قد تمطى وأصبح طويلاً تحت تأثير الدواء ............ حزني صار هو حزنه ، وخيبتي هي خيبته ، وانهزامي هو انهزامه السحيق المزمن ......... ثم يعود لينسحب ببطء من حيث أتى ، إلى عالمه هو المنهار أيضاً والمطبق عليه ......... هو لا يعرف كيف حدث كل هذا ، هو لا يعرف كيف وصلنا إلى هنا ، هو كان يظن أنه أسد وأننا جراؤه . وكان يظن أنه قادر على أية حال على إطعامنا وحمايتنا ......... حوله ، كنا نجلس على الطاولة ، في غرفة الطعام الكبيرة ، فنأكل ونشرب ثم نتبارى بالشعر : ـ " اشرحي لي هذا البيت " : ـ " صنت نفسي عما يدنس نفسي ........ " ، أسمعه يقول . اليوم ، وأنا أنظر إليه أتذكر : " لا أنت أنت ولا الديار ديار ..... " ........................................................................................ هكذا عزيزتي ، بدأت رحلتي الجديدة مع الغربة الثانية ، ومع ما خرجت به من تجربتي الأولى من استنتاجات . كانت تلك أول مواجهة فعلية لي مع الحياة ، وخسرتها بالضربة القاضية . بمرور الأيام ، شفيت ولم أشف .... انكسر الحلم في داخلي ، ماتت الأسطورة ! لم يعد عندي مسكن لذاتي الحائرة بين ذلك الوهم المتسربل بالبراءة ، والواقع المخيب ... لم أنجح بتبديل أسطورتي بما يماثلها ، لأستعيد معها الحلم وأستعير منها شهوة الحياة . نأيت بنفسي عن الأحداث لأحميها ، بقيت خارج اللعبة ، أرقبها من بعيد ، دون ان أجرؤ على الانضمام إلى هذا المهرجان . صرت أحسد أولئك الذين لا يزالون ، بدون كلل ، يستبدلون الأبطال بالأبطال ، والقرابين بالقرابين ، في زمن يدور ، وفي احتفالات صاخبة ، تموت فيها الذاكرة في كل يوم ، مرات ، إلى ما شاء الله ، تمجيداً لدورة الحياة السرمدية ............ في هذا الزمن المتحول أبداً ، المنتج أبدأ لعناصر ديمومته ، صرت أشعر وكأنني ، بت خارج التاريخ . في رحلة الحياة والموت هذه ، لحظات من النداوة تتبدى لي أحياناً في تخيلات ألقيها على الواقع لأخفف عني من عبء وطأته . أخلق منها الحلم ....... ومن الحلم ، وجودات متعددة أخترعها لأسلي بها وحدتي ، ثم تستعصي على فهمي أحياناً ! أتتبعها طويلاً في خيالي وفي ذاكرتي المنتقصة لأستعيد منها رغبة الوجود ......... في العمق ، لا تزال شعلة ضئيلة تنتج في داخلي ذلك الشوق إلى الوجود الذي يستعصي ويتمرد على الذاكرة ........ أتعبتك معي ، لا شك ، أتعبتك وأنا أعلم بأنك لا تشاركينني مواقفي وأفكاري ، وأعلم بأنك أكثر مني حذراً وتعقلاً واعتدالاً وربما " واقعية " ? لكنني أردت أن أشرح لك ، بكلام لم أخترعه أبداً ، شيئاً تعرفينه ، لكنك تنسينه . أردتك أن تعرفي مني ، بكلمات تأتي من القلب ، الذي ظننت يوماً أنني فقدته إلى الأبد ، أو أنه قد أصيب بالصمم والبكم والعمى والكساح ........ حتى إنني ظننت يومها أنه قد مات ! ويومها فقط ، عرفت أن السمع مركزه القلب ، والنظر ، مركزه القلب ، والحلم مركزه القلب ، وأن الكلام يأتي من القلب أو لا يأتي أبداً . سلامي لك كبير صفاء ، وعلى أمل بأن نلتقي قريباً ، لك مني كل المودة . إلى اللقاء . |