كل التحية للأستاذ الفاضل أبي هشام والأستاذين محمد وعبد الحفيظ ورمضان مبارك عليكم جميعاً : هذه العصبية التي تتحدث عنها والتي عانينا منها جميعنا ولا بد في بلدانناتتخذ هنا في بلاد الاغتراب شكل العنصرية المقيتة ، وهي عنصرية مؤلمة ومدمرةومجرمة أحياناً ، بل هي من مكابدات الحياة اليومية التي نعيشها وأقصى مايعانيه المغترب من الصعوبات ، ولو فتحنا ملفاً خاصاً بها لغاص بثقلهمن شدة الانتفاخ . سأكتفي اليوم بتسجيل ظاهرة ربما تبدو وكأنها غير مهمة بالقياس إلى الجرائم الكبيرة المادية والنفسية التي ترتكبها العنصرية في كل يوم ، لكنني أرى فيها دلالة مهمة على عبثية هذا السلوك وغبائه : في كل مرة تجري فيها مباريات لكرة القدم في الملعب القريب من سكننا ، يتم نشر المئات من رجال الشرطة ، منهم فرق خيالة ، لمنع حوادث الشغب ، والفصل بين أنصار الفريقين المتباريين . كذلك داخل الملعب ، يتم الفصل بين المتفرجين ، وهذا كله معروف لدى الجميع . غير أن مناصري الفريق الباريسي ( باري سان جرمان ) ينقسمون بدورهم ، وفي هذا الملعب الذي أتحدث عنه لأنه ملعبهم ، إلى عدة منصات " متحاربة " فيما بينها :فريق منهم متعصب للعرق الأبيض ( ويجلسون في منصة خاصة بهم ) ، وفريق آخر يضم ذوي الأصول العربية والإفريقية ( يجلسون أيضاً في المنصات المخصصة لهم ) . ولو صادف أن التقى أصحاب منصة البيض بعربي أو إفريقي خارج الملعب لأشبعوه ضرباً رغم أنه مؤيد للفريق ذاته . الأكثر غرابة في هذا الموضوع هو أن هؤلاء " المتعصبين " للعرق الأبيض يأتون لمناصرة وتشجيع فريق باري سان جرمان الذي يضم لاعبين هم في غالبيتهم عرباً أو من ذوي البشرة الملونة ( إفريقيا السوداء أو البرازيل ).ولله في خلقه شؤون .
وكل الشكر لك أستاذ عمر هذه الفوائد اللامعة :يقال بأن شطر البيت الذي افتتح به حافظ الشيرازي قصيدته الأشهر التي ذكرتها لنا : " ألا يا أيها الساقي أدر كأساً وناولها " هو من نظم يزيد بن معاوية وكان قد قال : أنا المسموم ما عندي = بترياق ولا راقي أدر كأساً وناولها = ألا يا أيها الساقي وقد بحثت عنها لكني لم أجدها . فهل لديك علم بهذا الموضوع ؟
أستاذنا الكريم الدكتور عمر خلوف : أشكر لك أدبك الجم وكل ما تجود بهعلينا من الفضل في هذا الملف وغيره من الملفات . توقفت منذ مدة طويلة عن التدخل في توجيه هذا الموضوع لأنه تحول بالسجية إلى سجل يؤرخ بشكل من الأشكال لما نفكر فيه ويدور فيما بيننا من نقاشات ، وهو كما يبدو لي اليوم ، عينة مختصرة تلخص حال المجالس . أجدني بمنتهى السعادة لما تكتبانه ( أنت والأستاذ زهير ) من فوائد ونوادر ممتعة في موضوع الشعر والتأريخ له ، وصدقني بأنني أتعلم منكم في كل يوم ، فلكم جزيل الشكر . أستأذن من أستاذي زهير ، للتركيز على كيفية لفظ الإسماء : بُوْيِهْ ، سيبُوْيِهْ ، وخَوارَزمْ وذلك بمحاولة إعادة كتابتها بالأحرف اللاتينية وكما يلفظها الإيرانيون : آل بُوْيِهْ : Alé Bou-yé سِيْبُوْيِهْ : Sibou-yé خُوْارَزْمْ : Khârazm
هذه فقرة من كتاب بعنوان " جولة في أقاليم اللغة والأسطورة " تأليف الأستاذ " علي الشوك " صادر عن دار المدى بدمشق عام 1994 وجدت فيها فائدة وإضاءة لبعض جوانب هذا الموضوع الذي توقف أستاذنا لحسن بنلفقيه عن المتابعة فيه منذ مدة طويلة ، أنقلها لكم هنا مع تحياتي لأستاذنا الجليل وتمنياتي له برمضان مبارك .
الإنسان وحساب الزمن
إحساس الإنسان بالزمن قديم جداً . لكن محاولاته الأولى في التقويم أو تأشير أيامه ترقى إلى العصر الحجري القديم الأعلى على الأقل . ففي أوكرانيا الجنوبية عُثر على ناب ماموث عمره بين 30 ـ 35 ألف سنة ، حُفرت عليه خطوط يُعتقد أنها ترمز إلى أيام الشهر القمري . وفي " كولنا " بتشيكوسلوفاكيا عُثر على عظم يرقى إلى حوالي 27 ألف سنة ، يوجد في نهايته 16 حزَّاً من أعلاه إلى أسفله ، وإلى جانبها 15 حزاً صغيراً من فوق ، ومثلها من تحت ، ويعتقد أن كلاً منها يمثل نصف شهر . وفي الخزانة رقم "1 " في المتحف الوطني للآثار بباريس يوجد عظم نسر عثر عليه في منطقة Le Placard وعمره بين 13ـ 15 ألف سنة تقريباً ، توجد عليه خدوش صغيرة على شكل حرف Y مقلوب . بعد دراستها بالمجهر تبين أن هذه الخطوط تتألف من مجموعات 7 ، 15 ، 29 خطاً ويُعتقد أن هذه الأرقام لها علاقة بأوجه أو عدد أيام القمر . وعلى ضفاف بحيرة إدوارد ، إحدى منابع نهر النيل في إفريقيا الاستوائية ، وجد تجمع لصيد الأسماك قبل 8500 سنة . هذه المجموعة من البشر تركت مخلفات ، من بينها عظم عثر عليه في منطقة إيشانغو توجد في نهايته كسرة من الكوارتز ، لعلها كانت تستعمل للحفر ، أو الوشم ، أو لغرض شبيه بالكتابة . لكن الشيء الملفت للنظر ، أكثر من مادة الحفر في هذه اللقية ، هو مجموعة العلامات ـ الخطوط ـ المحفورة على هذا العظم ، التي تورث انطباعاً بأن إنسان إيشانغو الذي عاش قبل 8500 عام في أواسط إفريقيا ، كان ذا عقل رياضي متطور ، كأن يكون ملماً بفكرة المضاعفة ، أي الضرب بإثنين ، وبالنظام العُشري . كما أن هناك مجموعات من الخطوط يساوي مجموعها 60 ، وهو ما يدعو للاعتقاد بأنها قد تعني شهرين ، أي أن لها دلالة تقويمية . لكن الأثر الأكثر مدعاة للدهشة من ذلك كله في رأينا ، هو اللقى التي عثر عليها في المجر عام 1981 ـ 1982 وهي قطع حجرية غريبة الشكل عمرها بين 16ـ 17 ألف سنة ، ترمز لأشكال بشرية بلا تفاصيل تظهر الوجه واليدين ، إنما الشيء الذي يرتدي أهميه بالغة الدلالة في هذه الأشكال الحجرية المنحوته ، هو أن عليها خطوطاً عددها سبعة على كل جانب منها . فإلامَ يرمز العدد سبعة هذا الذي توفر الدليل هنا على وجوده قبل البابليين بأكثر من عشرة آلاف سنة ؟ إن وجود الخطوط السبعة بهذه الصورة التي لا لبس فيها في أثر عمره بين 16ـ 17 ألف سنة يضع حداً ، برأينا ، للاعتقاد السائد باقتران هذا العدد بالبابليين ، ويقدم دليلاً آخر على أن التقويم القمري كان معروفاً قبل البابليين بزمن بعيد ، وعلى أن العدد سبعة ربما كان رقماً تاماً ومدوراً ، كالعشرة حالياً . وهو ماسنحاول مناقشته في بحث قادم بعنوان ( هل افترقت الأقوام السامية الحامية عن الأقوام الهندية الأوروبية عند العدد V . ) ... وبالمناسبة كان عدد أرغفة الخبز التي خبزتها أوتو ـ نبشتم لجلجامش سبعة ، وعدد الأيام التي أشرتها عندما نام هذا الأخير سبعة أيضاً . ( صفحة 178 ـ 179 ) .........
تابع التعليق السابق وهو :فقرة من كتاب بعنوان " جولة في أقاليم اللغة والأسطورة " تأليف الأستاذ " علي الشوك " صادر عن دار المدى بدمشق عام 1994.
........... ويقول مارتن نلسون : " لم يكن التقسيم الرباعي للشهر معروفاً عند الشعوب البدائية ، لأنه على نقيض التقسيم النصفي ، لا يستند إلى وجوه محددة تماماً ، كما لا تنم أوجه القمر بما يوحي بضرورة التقسيم الرباعي ، كما هو الحال في التقسيم الثلاثي . ذلك أن شكل القمر في اليوم الثامن أو الثاني والعشرين لا يختلف إلا قليلاً عن اليوم السابق أو التالي له ، ولا يشكل نقطة تحول كالبدر . من أوجه القمر لا يمكن استنباط تقسيم رباعي : إن أسطعها جميعاً ، أي البدر ، له وضع استئنائي في هذا التقسيم . ويمكن اعتباره كتنصيف لنصفي الشهر فقط ، وهذا يفترض أن تغيّر الضوء يُعتبر وحدة ويجزَّأ إلى أجزاء ، ولا تبدأ الشعوب البدائية على أية حال بالوحدة المجردة ، بل بالأوجه العيانية ... ولهذا فإن التقسيم الرباعي نظام عددي في جوهره ( بمعنى أنه ليس ظاهرة فلكية بارزة للعيان ) . ولئن كان قد ترسخ في أذهاننا إلى حد أن العلماء الأثنولوجيين لم يعد بإمكانهم الفكاك منه ، فذلك يعود إلى اقترانه بالأسبوع السباعي الذي يعتبر جزءاً من الشهر " . ويقول أيضاً : " ولهذا يجب أن لايعتبر التقسيم الرباعي أساسياً ( يختلف الأمر عندما يضاف زمن اختفاء القمر كوجه رابع إلى الثلاثة الأخرى ) . وحسب معلوماتي ظهر هذا التقسيم أول الأمر في بابل ، وترسخ مفهومه مع السباتو sabattu إي اعتبار كل يوم سابع من الشهر يوماً محرماً taboo وأصبح معروفاً عندنا انسجاماً مع الأسبوع السباعي ، الذي تم اعتباره كجزء من الشهر . أما التقسيم الثلاثي فهو طبيعي لأنه مبني على الظاهرة العيانية للقمر وليس تقسيم الشهر إلى أجزاء تتألف من عدد معين من الأيام . وهنا يأخذ البدر موقعه المناسب ، الذي يفتقر إليه في التقسيم الرباعي " . Martin Nilsson , Primitive Time Reckoning . English translation by F.J.Fiedan (oxford Uni , press , 1922 لكننا نتساءل : من أين جاءت الأهمية الاستثنائية للعدد 7 ، حتى قبل البابليين ؟ كانت له في زمن مبكر كالعصر الحجري القديم دلالة أخرى غير كونه نصف أيام عدة اكتمال البدر على نحو ما جاء في ملحمة الخليقة البابلية : " ... وفي اليوم السابع نَصِّف القرص " . صفحة (193 ـ 194 ) .
كل الشكر والتقدير لما يقدمه الأستاذ وحيد الفقيهي من إضاءات ستسهم في بلورة وجهة نظره إزاء موضوع " الدين والفلسفة " ، وهذا ما بدأ يلوح لنا من خلال المقالات التي كتبها حتى اليوم والتي تعبر عن موقف شريحة هامة من المثقفين لهم دورهم الهام والفاعل فيما نعيشه من تجاذبات وتناقضات فكرية . ضمن هذا السياق ، سأقدم اليوم دراسة تعرض لنظرية تطور الأديان كما تبدت في فكر هيغل ، كتبها الباحث المعروف الدكتور محمد عثمان الخشت :
تطور الأديان
د.محمد عثمان الخشت
كلية الآداب-جامعة القاهرة
توجد نظريات متعددة تحاول تفسير حركة ارتقاء الوعي الديني عند الإنسان،وتسعى لاكتشاف المنطق الذي يحرك سير الأديان عبر التاريخ، ويمكن تصنيفها في طائفتين من النظريات :
الطائفة الأولي: النظريات التطورية:
تذهب النظريات التطورية إلى أن شأن الإنسان مع الدين كشأنه مع مظاهر الحضارة الأخرى من فن وعلم وفلسفة. فإذا كـانت حركه الحضارة الإنسانية عامة هى حركة تطور وارتقاء، فإن الدين بوصفه نشاطا إنسانيا قد مر بمختلف مراحل التطور والارتقاء من أدنـى الى أعلى .... بدءا من النظرة التعددية إلى الآلهة، مرورا بالنظر إليها نظـرة هراركية أو هرمية، حتى وصلت الإنسانية إلى الوحدانية، ومـع اتفـاق النظريـات التطورية حول هذا المعنى العام لحركة الدين، فإنها تعود لتختلـف فـى تحديد طبيعة كـل مرحلة من مراحل التطور، ولاسيما المرحـلة الأولى، مرحلة النشأة. حيث نجد عده تفسيرات، لعل من أهمها:
- التفسير المثالي المطلق : الذي يعتبر تطور الأديان هو شكل من أشكال تطور الروح المطلق،الذي بدأ منغمسا في الطبيعة ،وهو ما ظهر في أديان السحر،ثم تحرر منها شيئا فشيئا،عبر مراحل مختلفة،حتى وصل إلى الدين المطلق الذي تحرر فيه الروح تحررا كاملا.وهذه هي نظرية هيجل.
- التفسير الطبيعى الذى يحدد النشأة الأولى للدين فى صورة عبادة مظاهر الطبيعة([i]).
- التفسير الحيوى الذى يزعم أن أقدم دين فى تاريخ الإنسان هو الاعتقاد فـى الأرواح الفردية وعبادتها([ii]).
- التفسير "الما- قبل الحيوى" الذى يرى أن الإنسان البدائي لم يكن يستطيع التمييز بين روح وروح، حيث لم يكن يعرف ويعبد إلا روحـا كلية واحدة سارية فى الوجود كله([iii]).
-التفسير الاجتماعى بأشكاله المختلفة عند سان سيمون، وكونت، وفيبر،ودوركايم([iv]).
·الطائفة الثانية:النظريات الاعتقادية:
هي تلك الطائفة من النظريات التي تأخذ بوجهة نظر الكتب المقدسة في تفسير نشأة الاعتقاد الديني.
وهي تؤكد أن البشرية ما بدأت، أول بدأت بالتوحيد، الذى تكشف لها إما بالتأمل النظرى أو بوحى إلهي، والذي لم يكـن الشرك إلا مظهرا من مظاهر فساده. حيث حـاد الإنسان عن التوحيد وسقط في الشرك والتعدد والوثنية.
وهناك من الفلاسفة و العلماء الذين أخذوا بهذه الوجهة من النظر،ليس لأن الكتب المقدسة قالت بها،ولكن بناء على منهج علمى وضعـى أو تحليل فلسفى عقلى، مثل بسكال، و لانج، وبتانزونى.
التفسير المثالي المطلق لتطور الأديان:
تعد النظرية الهيجلية هي أكثر هذه النظريات شيوعا – في نطاق فلسفة الدين- رغم ما بها من ثغرات، ولعلها أول نظرية –من الناحية التاريخية- تسعى لتفسير تطور الأديان كلها في تاريخ فلسفة الدين.ولذلك سنقدم لها تحليلا نقديا فيما يلي.
يفرق هيجل بين الدين المطلق و الأديان المحددة،والدين المطلق هو المسيحية ،أما الأديان المحددة فتشمل مجموعتين جزئيتين:أديان الطبيعة،وأديان الفردية الروحية.
وتتضمن المجموعة الأولى منهما، وهى أديان الطبيعة،على ثلاث مجموعات فرعية:
أولها : ديانة السحر.
وثانيها : أديان الجوهر، وهى الديانة الصينية والهندوسية والبوذية واللامية.
وثالثها : أديان التحول، وهى التى يتم فيها الانتقال من أديان الطبيعة إلى أديان الفردية الروحية، فهى محطة انتقالية وسطى بين مرحلتين رئيسيتين داخل الأديان ا لمحددة، وأديان التحول تضم الديانة الفارسية، والديانة السورية، والديانة المصرية.
أما المجموعة الثانية من الأديان المحددة، فهى أديان الفردية الروحية التى يرتفع فيها الروحى فوق الطبيعى، وتشمل ثلاث ديانات: هى اليهودية، والإغريقية، والرومانية.
أولا : أديان الطبيعة (الدين المباشر):
أديان الطبيعة هي التي لا يعرف الوعي الإنساني فيها الروح الإلهي إلا ممتزجا بالطبيعة، وغير متصف بالحرية. فالروح اللانهائي غارق فى الطبيعة النهائية على نحو مباشر، أي هناك وحدة مباشرة بين الكلى والجزئي لكن على نحو فج. ومن ثم فهي أديان الحس المباشر، والروح الإلهي فيها غير متحررة؛ لأنها لم تتمكن بعد من السيطرة على الطبيعة والتعالى عليها، وإنما لا تزال كامنة فيها ومختلطة بها،.. يقول هيجل:
"المرحلة الأولى بالنسبة لنا هى دين الطبيعة. وهو يعرف بوصفه وحدة الروحى والطبيعى، حيث الروح لا تزال فى وحدة مع الطبيعة، والروح ليست حرة بعد، فالموجود بهذه الطريقة لم يعد بعد واقعيا بوصفه روحا"([v]).
(1) د. على سامى النشار، نشأة الدين، حلب، مركز الإنماء الحضاري، 1995، 61 وما بعدها.
(2) د. محمد عبد الله دراز، الدين : بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان. الكويت، دار القلم، 1990 ، ص 127.
(3) د. على سامى النشار، نشأة الدين ص 55.
(4) د. زيدان عبد الباقى. علم الاجتماع الدينى، القاهرة، مكتبة غريب، 1977، ص 95 وما بعدها.
(5) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p.207.
أولهما : أن هيجل يستخدم اصطلاح الدين الطبيعى استخداما خاصا مباينا للاستخدام الشائع فى الفلسفة الحديثة، ولا سيما القرن الثامن عشر؛ حيث كان الدين الطبيعى هو ذلك الدين القائم على العقل والتحرر من كافة المعتقدات الدينية المرتكزة إلى أساس غير عقلانى، ويرفض الأديان السماوية الموحى بها؟
فالعقل من وجهة نظر الدين الطبيعى فى القرن الثامن عشر قادر على معرفة الحقيقة وليس بحاجة إلى أنبياء أو كهنة، واذا كانت هناك مرجعية فهى فحسب مرجعية العقل الذى من حقه التعامل مع الطبيعة بوصفها براعة وفطرة وتحررا، ومن ثم ينبغى أن نفرق بين أديان الطبيعة عند هيجل التى هى أديان المرحلة البدائية فى تاريخ الإنسانية وفى بداية سلم التطور، وبين الدين الطبيعى عند فلاسفة القرن الثامن عشر باعتباره دين العقل والحرية والنقاء، أى قمة التطور والتفكير الدينى، وهيجل نفسه يشير إلى هذا الاختلاف فى المعنى بين استخدامه هو والاستخدام الشائع فى العصور الحديثة لاصطلاح " الدين الطبيعى"([i]).
وثانى الأمرين- أن هيجل متأثر بمفهوم كنط عن الحرية والطبيعة، حيث يرى كنط ان مجال الطبيعة هو مجال الضرورة التى تتعارض بدورها مع مجال الأخلاق الذى هو مجال الحرية. ولذا فإن هيجل اعتبر أن انغماس الروح فى الطبيعة جعلها غير محبوة بالحرية، لأن الطبيعة تقوم على الضرورة والحتمية.
يعد هذا الدين أول صورة من صور الدين فى تاريخ تطور الروح، حيث إنه يمثل أول مرحلة من مراحل الدين الطبيعى([i])، ومن ثم فهو عبارة عن صورة بدائية لعلاقة اللامتناهى بالمتناهى، حيث لا تكاد تتصور ديانة السحر أى انفصال بين الاثنين، فهما فى حالة اختلاط تام، بل لا يكاد يوجد أى نوع من الوعى باللانهائى أو الكلى فى هذا الدين، فكل ما هو موجود جزئى، ولا وجود للروح الخالص الكلى، والموجودات الجزئية موجودة على نحو منفصل لا يربط بينها خيط كل جامع. حتى شعور الإنسان بنفسه وتميزه عن سائر الكائنات لا يكون نتيجة شعوره بكونه موجودا عاقلا كليا، وإنما بوصفه موجودا جزئيا بكل ما فى هذه الجزئية من أنانية ورغبة وغريزة وهوى. ورغم هذا الشعور بالتمايز النسبى، فلا يزال الإنسان ينظر إلى نفسه باعتباره جزءا من الطبيعة.
ولا يعرف الإنسان الروح الإلهي فى الديانة السحرية إلا باعتبارها قوة قادرة على التدخل فى مجرى الطبيعة وتحويلها لصالح رغباته وأهوائه، أى أنه لا يعرف الروح بوصفها كلية عاقلة ذات انفصال، وإنما هى قوة كامنة فى الطبيعة.
والاتصال بالروح يكون فى ديانة السحر عن طريق الإرادة السحرية التى تتحقق عبر طقوس وشعائر غاية فى السطحية والفجاجة، وليس عن طريق الصلاة.
ودين السحر لا يكاد يستحق اسم " الدين "، يقول هيجل:
"... أول مرحلة من دين الطبيعة هو دين السحر الذى ربما نعتبره غير جدير باسم الدين "([ii]).
ولا يزال هذا الشكل البدائي للدين باقيا عند بعض القبائل الأفريقية والاسكيمو. كما أن الرؤية السحرية للعالم لا تزال تسيطر على بعض من اتباع عديد من الديانات التى كانت فى الأصل تحررا من الرؤية السحرية
لا تزال هذه الديانة ديانة سحرية، طبقا لمحاضرات 1827 م، وإن كانت قد حققت تطورا لهذه الديانة([i]).
ورغم أن هذا التصنيف يفتقد البرهنة الحاسمة فى محاضرات 1824 م، فإن معالجة هيجل فى محاضرات 1827 م تقدمت إلى حد كبير وتجاوزت ما سبق أن قاله فى حاضرات 1824م، حيث تغلبت على تلك النقطة التى كان من الصعب فيها البرهنة على أننا فعلا مازلنا فى مرحلة دين السحر.
ويميز هيجل فى البداية بين ثلاث حالات للديانة الصينية:
الحالة الأولى: الدين الأقدم، دين السماء، وهو دين الدولة للإمبراطورية الصينية.
الحالة الثانية : دين الداو أو الطاو( أي العقل),
الحالة الثالثة : البوذية الصينية التى نشأت فى القرن الأول للميلاد([ii]).
وسنتحدث الآن عن الدين الأول والثانى، على أن نتناول لاحقا الدين الثالث.
وفيما يتعلق بالدين الأول، وهو الدين الأقدم لسلالة تشو الحاكمة، فإن هيجل قد اعتمد على تلك الدراسة الدقيقة للجزويت المسماة" ذكريات متعلقة بالصين " 1776- 1814 م، بالإضافة إلى المجلد السادس من التاريخ الكلى للرحلات 1750 م، وتعرف هيجل من خلال هاتين الدراستين على أن العبادة فى هذا الدين ليست عبادة الإمبراطور، فما هو إلا رمز دينى سام للسماء التى تمثل قوى الطبيعة، بالإضافة إلى كونه مثلا للأخلاقية الراقية([iii]). والسماء تدل على الكلية المجردة وغير المحددة تماما. ونظرا لما في السماء من تجريد، فإن الإمبراطور هو الرمز المشخص المهيمن على الأرض بكل ما فيها من قوى طبيعية وأرواح، وهووحده المرتبط بالسماء الفارغة، وكل شيء متعين مستمد من الإمبراطور وخاضع لسيطرته المباشرة([iv])، ولهذا السبب فإن هيجل يرى أنها لا تزال ديانة سحرية. ولقد عاد هيجل إلى البيئة الطقسية التى تأسست فيها السلالة الحاكمة الجديدة، بما فيها دور الشن الذى وجه له انتباها خاصا فى محاضرات 1824 م.
ويطلق هيجل على دين الصين القديم: دين الطبيعة، فقوامه تكريم السماء بوصفها قوة عليا، سامية، والخوف منها، وإجلال الأرواح الكائنة فى جميع أنحائها. ولما كان الإمبراطور هو القمة فى هذا الدين، وهو وحده الذى يملك الاتصال مع قوى الطبيعة، وهو المجسد للسلطة والرئيس الأعلى للدولة ولدينها، فإنه هو الوحيد الذي يقدم القرابين فى الأعياد، ويقوم بتقديم الشكر للسماء على وفرة الحصاد، والتضرع إليها التماسا للبركة عند بذر البذور. ويعتقد الصينيون- وفق هيجل- أن السلوك الطيب يرضى السماء، ويجلب البركة، أما السلوك الآثم، فإنه يغضب السماء التى تعاقب مقترفيه بأن تلبسهم لباس الحاجة والفقر.
وإذا كانت العلاقة العامة للإمبراطورية مع السماء متوقفة ومحصورة فى الإمبراطور، فإن هناك مجالا لعلاقة خاصة، إذ يوجد روح حارس لكل مقاطعة، وكل مدينة، وكل جبل، وكل نهر، وتخضع كل تلك الأرواح لإمرة الإمبراطور([v]).
والأخلاق التى يقوم عليها دين الطبيعة الصينى هى التى تبلورت مع كونفوشيوس الذى قام بتقديم وتطوير مذهب أخلاقى اعتمادا على عناصر أخلاقية موجودة فى التاريخ الصينى. وكونفوشيوس معلم أخلاقى وليس فيلسوفا تأمليا من وجهة نظر هيجل([vi]). ويطلق هيجل على هذه الأخلاق: أخلاق الدولة، وهى ذات طابع أبوى بطرياركى، فهناك الواجبات تجاه الإمبراطور، وواجبات الأبناء نحو الآباء، وواجبات الآباء نحو أبنائهم، وواجبات الأشقاء والشقيقات تجاه بعضهم البعض.
ويعتقد هيجل أن فى أخلاقهم نواحى عديدة ممتازة. بيد أنه سرعان ما يوجه لهم انتقادا عنيفا، إذ أنه يرى أن الواجبات الأخلاقية عندهم، ذات طابع صورى شكلى، وهى غير نابعة من شعور حر، داخلى، ولا ترتكز إلى حرية ذاتية، فالجميع بما فيهم العلماء خاضعون للمراقبة ولأوامر ا لإمبراطور.
ولا يقوم هيجل بتوجيه هذا الانتقاد على أساس أنه معبر عن جانب واحد من جوانب تكوين الشعب الصينى، بل أنه يعتبره سمة السمات فى شخصيته.. يقول: " السمة التى يتميز بها هى أنه كان بعيدا عن كل ما يتعلق بالروح، أى عن الأخلاقيات الحرة، الذاتية منها أو الموضوعية، وعن الوجدان وعن الجانب الباطنى للدين..."([vii]).
ويفرع على هذا الحكم العام حكما آخر هو: مبلغ ضآلة الاحترام الذى يكنونه لأنفسهم كأفراد وكبشر بصفة عامة([viii])، وافتقادهم للشعور بالكرامة([ix])، لكنه يناقض هذا الحكم فى موضع آخر عندما يقول: " يمكن أن يقال عن الصينيين أنهم حساسون ضد الإهانة إلى أقصى درجة "([x])، ويدلل هيجل على هذا القول الأخير بأن الشخص منهم قد يلجأ إلى قتل نفسه لكى يدمر خصمه دفاعا عن كرامته!
أما الديانة الأخرى،فهي الطاو (العقل أو الطريق)، فيعتمد هيجل فى عرضها على ذكريات الجزويت، وذكريات وآراء قابيل راموزا عن لاوتسى([xi]). ويسمى أتباع هذه الديانة بـ " الطاو- سيين "، وهم ليسوا مثقفين أو موظفين، كما أنهم ليسوا مشاركين فى دين الدولة، وغير منتسبين إلى الدين البوذى.
والذى طور هذا الدين، هو لاو- تسى المولود آخر القرن السابع قبل الميلاد، وهو أقدم من كونفوشيوس، ولكنه عاصره فى جزء من حياته. ويذكر هيجل أنه ليس بمؤسس للمذهب، وإنما مطوره([xii]).
وتحتل أعمال لاوتسى مكانا مرموقا عند الصينيين، وإن كانت لا تحظى بالمرجعية التى تحظى بها أعمال كونفوشيوس.
ويحتوى كتاب لاوتسى الرئيسى على جزعين، هما: الطاو- كينج، والطى-كينج. ويشار إليه عادة باسم " طاو- طى- كينج " ،أى كتاب القول والفضيلة. والطاو هو العقل الأصلى الذى خلق العالم والذى يسوسه مثلما يسوس الروح الجسد، ومعناه أيضا: الطريق، المنهج، الجوهر، المبدأ... وإذا ما تم تكثيف كل هذه المعانى فإنها تلتقى فى معنى رمزى ما ورائى يشير إلى الطريق بوجه عام، الاتجاه، مجرى الأشياء وأساس وجود كل شيء([xiii]).ويجب أن يكون الإنسان بدون هوى حتى يمكن أن يتأمله فى بهائه ؛ فالأهواء تجعل الإنسان لا يراه إلا فى نقصه، أى لا يراه إلا محدودا.
أما الطاو- سيين، فيعنى أنصار العقل، وهم يكرسون حياتهم لدراسة العقل، ويؤكدون أن الذى يعرف العقل فى جوهره يملك العلم الكلى، الوسيلة الكلية للخلاص، الفضيلة الكاملة، ومن ثم فإنه يكتسب قوة تفوق الطبيعة، ويكون قادرا على الصعود إلى السماء،وهو يطير عبر الأجواء، ولا يموت أبدا([xiv]).
ويشير هيجل إلى مقطع شهير فى كتاب لاوتسى يثير كثيرا من التساؤلات، ولاسيما من قبل المبشرين المسيحيين، يتحدث فيه لاوتسى عن أن العقل خلق الواحد، والواحد خلق الاثنين، والاثنان خلقا الثلاثة، ولكن الثلاثة خلقت العالم بأسره. ولقد ا عتبر بعض المبشرين هذا المقطع محتويا على مفهوم قريب من مفهوم التثليث المسيحى([xv]).
ويشير إلى هذا المعنى أيضا مقطع آخر ذكره راموزا يقول فيه لاوتسى:" إن ذلك الذى تتدبرونه ولا ترونه يسمىJ، وإن ذلك الذى تسمعونه ولا تفهمونه يسمىCHI،وذلك الذى تبحث يدكم عنه ولا تستطيع إمساكه يسمى WEI ". أو حسب النص اللاتيني: " إنك تنظره ولا تراه، وباسمه يدعى J،وأن تصيخ السمع ولا تسمعه وباسمه يدعى CHI،وإنك تسعى وراءه بيدك ولا تبلغه، فاسمه WEI ". ونقرأ بعد قليل- فيما يقول هيجل-: "هذه الأمور الثلاثة لا يمكننا اكتناهها، فهى متحدة ولا تشكل إلا شيئا واحدا، وما هو أرفع منها ليس بأفضل منها، وهو أدنى منها ليس دونها (ليس أشد غموضا)، إنها سلسلة متصلة الحلقات، سلسلة لا نستطيع أن نسميها، وأساسها فى اللاوجود ". وغالبا ما تدور المسألة حول هذه الأمور الثلاثة: " إنه الشكل بلا شكل، الصورة بلا صورة، هو الشكل المطلق، الصورة المطلقة، الوجود الذى لا يوصف، وحين نمضى إلى ما يتجاوز ذلك لا نتعرف إلى أى مبدأ فلا شيء فى العلى "، أو" إنك تسير أمامه فلا ترى رأسه، وتجرى وراءه فلا ترى ظهره " ،وإن ذلك الذى يدرك الشرط الأول القديم للعقل والذى يمكنه أن يعرف ما هو موجود حاليا يمكن القول فيه أنه يملك سلسلة العقل([xvi]).
ويوضح هيجل فيها أنه ذكر التثليث لأن بعض المبشرين أرادوا أن يروا فيها أصلا لأشكال أخرى من هذا النوع .
ولما كان العدم هو الوجود الأعلى فى الديانة الطاوية، كما إنه كذلك فى ديانة فو، المنتشرتين فى الصين بالإضافة إلى ديانة الدولة التى تنظر إلى الإمبراطور بوصفه الرئيس على للدولة والدين معا، فإن هذا ترتب عليه أن الأفراد أصبح لديهم عن أنفسهم أسوأ مشاعر الذاتية. ومن هنا يرى هيجل أن: " الديانة الصينية لا يمكن أن تكون هى ما نطلق عليه نحن اسم الدين، لأن الدين عندنا هو العمق الداخلى للروح فى ذاتها بأن تتصور الروح نفسها فى ذاتها، أى فى أعمق أعماق جوهرها. وينسحب الإنسان فى هذه المجالات،إذن، من علاقته بالدولة أيضا، ويلجأ إلى عمقه الداخلى ويكون فى هذه الحالة قادرا على انتزاع نفسه من سيطرة الحكومة الدنيوية. لكن الدين فى الصين لا يرتفع إلى هذه الدرجة لأن الإيمان الحقيقى لا يكون ممكنا إلا حينما يكون (وجود) الأفراد فى ذاتهم أنفسهم ولذاتهم. (أعنى حين يكون فى استطاعتهم أن يوجدوا لأنفسهم) مستقلين عن كل سلطة قهرية خارجية. وليس للفرد فى الصين أى جانب من جوانب هذا الاستقلال، ولهذا فهو فى الدين لا استقلال له "([xvii]).
(9) Ibid., p. 253.
(10) Ibid., p. 236.
(11) P. C. Hodgson, EditorialIntroduction to Hegel’s Lectures on the Philosophy of Religion, p.43.
(12) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 237.-8.
(13) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، الجزء الثانى، العالم الشرقى. ترجمة وتقديم وتعليق د. إمام عبد الفتاح إمام، وراجعه على الأصل الألمانى د، محمود حمدى زقزوق، القاهرة، دار الثقافة، 986 1، ص 86 .
(14) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion, p. 246.
(15) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ،2/95.
(16) المصدر السابق، ص 96.
(17) السابق، ص 84.
(18) السابق، ص 82.
(19) P. C. Hodgson, EditorialIntroduction to Hegel’s Lectures on the Philosophy of Religion, p.43.
(20) Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion,p.246
(21) Ibid., p.244.
(22) Ibid., p.245.
(23) Ibid., p.246-7.
(24) Hegel, Lectures on the History of Philosophy ,pp. 124 ff.