البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات عبدالرؤوف النويهى الحرية أولا وأخيرا

 76  77  78  79  80 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (5)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

الفصل الثانى
مذكرات 2
تقنيات اللقاء
 
 لا أقرأ ، لا أدرس ، لا أعمل ، لا أرتاح ، لا أحلم . أثرثر قليلاً ، وأضجر كثيراً  كثير....االيوم ، رأيت أميري !  يا للنكسة ، ماكان أتعسه من لقاء.ما أتعسني في هذه الحكاية ! أنا لا أفهم هذا الإنسان : طلب بأن يراني ويتحدث معي . ولما ذهبت   للقائه ، صار يناقشني في أوضاعي ، ويحدثني عن دراستي . طلب مني بأن لا أترك  " دار المعلمين "  "هو أضمن من الجامعة " برأيه . نصحني أيضاً بأن أعمل دورة إنكليزي ، الفرنسي لم يعد نافعاً ، قال .......... استمعت إليه بضجر .... لا أعرف كيف يفكر هذا الناصح ، يختلق الأعذار لكي يراني ، ثم ما أن نصبح معاً ، حتى يبدأ بتصنع دور الفقيه العالم . لا يبادلني شيئاً من اللطافة ! ولا أي كلمة حلوة ترضيني . يكلمني كأنه أبي ! هو أكبر مني بعشرة سنوات ، لكنه ليس أبي . لست بحاجة لأب آخر ?
 
  أنا  بدوري ، لا أبدي شيئاً من اللطف نحوه . أستمع إلى وعظه دون حماس ، أعامله بجفاء وتحفظ بينما أنتظر منه الكثير الكثير من الحب , هذا سخف ، أحلم بالمستحيل !
 
  اليوم بعد الظهر ، توترت الحالة الأمنية من جديد ، قاموا بتفجير ما كان مكتباً لقوات الصاعقة بالقرب من بيتنا ، ثم توتر الوضع الأمني على إثرها ... هذا يعني حبس في البيت إلى ما شاء الله... لا أعلم كم من الوقت سوف أنتظر لكي أراه من جديد .
لما كلمته ، في هذا الصباح ، سألني متصنعاً المزاح ، إذا كنت قد اشتقت إليه ? 
  ـ " لا ، لِمَ ? " قلت بتعجب . 
  كنت قد انتظرت خمسة أيام قبل أن أكلمه ، حتى تفتق ذهني عن حجة لا يمكنه أن يشك فيها إطلاقاً . هكذا حسبت . إلا أنه قال بأنه يريد بأن يراني ،" لي معك حديث " قال .
 ـ " لا أرغب بالخروج " ، أكدت . ثم، لا أعرف كيف غيرت رأيي  وذهبت للقائه في نفس الساعة .
 أنا أغبى واحدة على هذه الأرض !
 
الرسالة الثانية
الحب المستحيل
عزيزتي صفاء :جئت اليوم ، لأكمل إليك ما بدأناه من حديث . آتيك دائماً في الصباح مع ركوة القهوة التي أبحث لها عن مكان ، منذ عشر دقائق ، فلا أجده ، بسبب هذا الكم الهائل من الأشياء غير الضرورية المركونة أمامي على المكتب ...........................................................................................
كنت قد أصبحت بالعشرين ، وكانت الحرب من حولنا لا زالت تبدل أثوابها و تبدي لنا في كل يوم تشرق وتغرب فيه الشمس ، جانباً من وجهها القبيح  . ومع أن ما سأحكيه لك هو قصة حبي الأول والتي لا ترتبط مباشرة بالأحداث الدائرة ، إلا أن مزاجي وتحولاتي ، وما تبدى عني من انفعالات ، هو وليد ما كان يحيط بنا من ظروف كانت تنسج من حولنا كخيوط العنكبوت .
لم أعد أذكر بالتحديد كيف نشأت هذه العلاقة الملتبسة . كأنها كانت قد بدأت من دون انتباه مني ? ...... لا شك بأن الإعجاب كان الأسبق فأنا كنت أعرفه منذ زمن طويل ، دون أن أفكر فيه ، أو أن يخطر ببالي بأنه من الممكن بأن تنشأ بيننا علاقة ما أياً كان نوعها . كان صديقنا ورفيقنا منذ وقت طويل ، وكانت خطيبته صديقتنا . المدينة كلها كانت تعرف قصة  حبهما التي كانت قد استطالت عشر سنوات بدون نتيجة . الحرب والضائقة الاقتصادية حالت دون زواجهما . كانا يعيشان علاقتهما  بحرية ، وهو ما كان وجه الاستثناء بالنسبة لجيلهما ، ومع أن هذا النمط من العلاقات كان مقبولاً في دائرتنا الخاصة ، إلا أنه كان مستهجناً في مدينة محافظة كمدينتنا .
 
لم يكن الإعجاب الذي كنت أكنه له في السابق حباً ، لكنه ساعد على تأسيس الوهم الذي اخترته لنفسي وبنيت حوله صرحاً من المبالغات، حول : شكله ، دماثته ، أخلاقه ، وذكائه المنقطع النظير ، ولكن خصوصاً حول طيبته ، ونيته الخالصة نحوي .... صنعت له تمثالاً براقاً تضمنته عاطفتي وأوهامي وكل ما كان يجول في نفسي من رغبات ، وكل ما ورثته من الأفكار والتصورات التي كنت أعرفها عن الرجل المثالي  .. بهذا ، جاءت عاطفتي نحوه مزلزلة ، جارفة كبيرة كبيرة ، بغير حدود .
 تلك العاطفة  المستبدة ، كانت من صنعي أنا ، وعندما بدأت أشعر بخطورتها وأردت كبحها ، كان المارد قد خرج من قمقمه وأفلت من بين أصابعي . جربت فيما بعد ، أن أستعيض عنها بطرق ملتوية : كأن أحب غيره مثلاً ، أو أن أبتعد وأعمل لنفسي شلة أصدقاء جدد . جربت أن أذهب إلى التعاقد للتدريس ، لأشغل نهاري كله .......... كل هذا جربته لأجل احتوائها ، لكنها كانت تعود في كل مرة بقوة أكبر ، لتفيض عن كياني بعد أن استحلته ، وملأته ، وكان بإمكانها أيضاً أن تملأ السموات والأرض .
 
  كل هذا العنف ، كان يجب أن أجد له مبرراً مقنعاً . نحن دائماً بحاجة لأن نخلق لأنفسنا مبررات مثالية نغلف بها عواطفنا وميولنا . بهذا ، نمنحها شرعيتها . بهذا ، نجعلها متسامية عن حاجات البشر " العاديين " . لذلك ، جعلته بنظري مثالياً ، وحجرت عليه عواطفي ورغباتي التي لا يمكن أن ترضى بأقل من هذا . طبعاً ، عزيزتي ، هذا كله ، هو منه براء . هو على الأرجح لم يكن يعلم ماذا يدور في  " رأسي الصغيرة " .
 أما الحقيقة ، فهي أنه ، ومنذ أصبح بيننا عمل حزبي مشترك ، وصرنا نرى بعضنا باستمرار ، صارت نظرته إليّ تتغير مع الوقت .
في البداية ، استغربت وتجاهلت الموضوع . ثم صرت أتغاضى عن بعض الابتسامات الغير مبررة والتي بدأت تشغل رأسي المليئة بالأوهام . كنت أراقب اهتمامه بي وأنا أقول لنفسي بأن هذا مستحيل ! لا يمكن أبداً ! هو عاقل ، وشبه متزوج ، وكل الناس تشهد بجديته ورصانته ، ولم يعرف عنه مغامرات في السابق ، فلماذا اليوم ? ومعي أنا بالذات ? ربما أفهم دماثته نحوي على شكل خاطئ ? ربما يستلطفني فقط  وهذا كل شيء
ولما صارت نظراته تتكرر في شد وجذب ، دون أن تكون واضحة ،  صارت أفكاري تحوم حولها ، لأجد نفسي ، شيئاً ، فشيئاً ، مشدودة نحوه بخيط من حرير . مزيج من الشك واليقين ، مزيج من الخوف والمتعة ، الذي يضعك تماماً عند الحد الفاصل بين العقل والرغبة ، حيث تتبلبل الأشياء   ...............  ثم صار وجوده يملأ من حولي فضاء كان بحاجة لمن  يشغله .  شيئاً فشيئاً ، صرت أتنسم هواءه دون أن أشعر .
 نظراته نحوي ، عكرت مياه البحر التي كانت راكدة حتى ذلك الحين . نظراته ، أشعلت بركاناً كان خامداً : سخونة ، تشبه رياح الخماسين ، صفراء ، دافئة ، بدات تهب هادئة ، ثم تتحول رويداً رويداً إلى ريح عاتية تدور في أرجاء نفسي دون أن تجد لنفسها متنفساً أو طريق . خلال وقت قصير ، صرت أسيرة ذلك الدفء المزلزل . حدث معي أنني ولأول مرة ، أشعر بعيون رجل تقع على جسمي ! عيونه ، كانت تراني كما لم يرني أحد من قبل ، كأنني كنت حتى لحظتها ، خفية عن عيون الرجال .  نظراته ، كانت تخترقني وتلتف من حولي و كنت أشعر بحرارتها من دون أن ألتفت ، تتغلغل في ثنايا جسمي واستداراته  وكل ما بدا منه تحت بنطلوني الضيق ، تتمرغ فوق جلدي لتوقظ شياطينه كلها .............
  العالم كله يصبح وقتها مساوياً لكثافة اللحظة ! العالم كله يصبح  قطعة من جسد آدمي ّ!
  هكذا كان ، أشعل البركان الذي سوف يحرق أمامه الأخضر واليابس ، حتى صار جسمي هو مركز العالم الذي صرت أعيش فيه .  تحفز مستمر ، وانجذاب دائم . هو، كان يشعر بهبوبي هذا ويأكل منه . عيونه كانت تأكل بنهم ، أما جسده ، فلم أكن أعرف عنه شيئاً . كان بعيد المنال .
 أعرف بأنه كان يبدو عليه التوتر . حركاته كانت تبدو عصبية فلا يستطيع الركون في مجلسه لوقت طويل . يداه ، كانتا تنطقان بتمردهما وسعيهما الدائم لالتقاط أي شيء من على الطاولة أمامه والعبث به ثم التخلي عنه بعد لحظات .
كان يستدير بكليته لأدنى حركة لا تستدعي الالتفات ، لالتقاط ورقة ، لالتقاط قلم ، يضعه هنا ، يضعه هناك ، يوقعه أرضاً ، ثم يسترده بتأفف مطلقاً نحوه وابلاً من الشتائم ، ليعود ويعتذر عنها في الحال ............. كان يغيب أحياناً ، لثوان داخل أفكاره ثم ، ينتفض فجأة بقوة وكأنه اكتشف للتو بأنه كان بيننا .......
  ذلك الانجذاب ، واحدنا للآخر ، كان يشكل من حولنا حقلاً مغناطيسياً تنتقل عبره إشارات غريبة تجعل من هذه الكيمياء السحرية شيئاً ممكناً ، كأن ذرات الجسم كلها تتفكك وتتخفف بفعل جاذبية الآخر فتصبح قادرة على الطيران ، ويصبح الصراع معها لإبقائها داخل حدود الجسد الهامد ، شيئاً عصياً .
 هذه الرغبة ،كانت تأكلني ليل نهار . مساماتي كلها كانت مسكونة بتلك الرغبة . توتر فظيع بمجرد أن أخلو إلى نفسي أو أن أفكر فيه ....... كنت أفكر فيه طول الوقت . كل جوارحي كانت مهيئة لاستقباله ، وطول الوقت إجتياح مؤلم وجائر ، إحباط مدمر، هو ذلك الشعور الذي يشبه تفتح الزهرة التي تتوق إلى الشمس والنور ، ولا تجد من حولها إلا الظلمة والعماء .
 الليل كان مؤرقاً ، والنهار كان ترقباً ، حتى صار الأمر متعباً وغير محتمل . اللحظات التي كنا نلتقي  فيها ، دائماً بين الآخرين ، أو نتحدث فيها بالهاتف ، كانت تزيد من توتري وانفعالي وتمدني بتساؤلات وتهيؤات لا فائدة منها سوى إشغال  "رأسي الصغيرة " بتخريفات مصطنعة : كنت أبحث لنفسي عن دور في حياته ، دوراً يكون مقبولاً ، فمن أكون أنا بالنسبة إليه ?هكذا عزيزتي ، كانت تمر بنا الأيام . هكذا بقينا ، لوقت طويل بعلاقة ضبابية مؤرقة ، مزعجة ومحجبة بألف قناع .
أتركك الآن لأعود إليك غداً أو بعد غد ، فانتظريني .
 
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (6)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

الفصل الثالث
مذكرات 3
 
أين البديل ?
 
  يا إلهي ! ما الذي أفعله !
 اليوم أمضيت أغلب وقتي في الجامعة . ضحكنا وتسلينا كثيراً مع أصدقائي الجدد خارج أوقات المحاضرات .  هناك من يغازلني في هذه الشلة ولقد أسميته "بالبديل ". هو لطيف ومؤدب ويناسبني تماماً، لمَ أتركه يحلم ? لمَ لا أحبه عن جد ?
 الآن أشعر بالضيق .
  صفنا له رأسان : الأول ، من لقبناه "بمكتبةالبغدادي" على اسم مكتبة أبيه . كأنه قد ولد فيها ، أو كأن أمه كانت تطبخ لهم الكتب في الحلة ، بدلاً من الخضار . هويحفظها كلها عن صفحة قلبه . يتهيأ لنا بأنه يمكننا بأن نفتح رأسه ونقلب فيها عن صفحات الطبري وابن خلدون ورسالة الشافعي والكتاب الذي نريد في الفقه و التفسير و الصرف والنحو أو في التاريخ  ،.غير أنه جاف ومتزمت ولا يعير دفتره لأحد .
 الثاني ، الياس ، موسوعة في اللاهوت وتاريخ الديانات والمجامع المسكونية . وله دراية كبيرة في فلسفات القرون الوسطى والقديس اوغسطين وتوما الأكويني وكل ما سبق وتلا الثورة الفرنسية من تنظيرات لاهوتية .... لكن عصر النهضة يبقى مجاله المفضل . مأساته أننا برأيه ندرس الفلسفة على طريقة الأزهر : فقه ، تصوف ،فلسفة إسلامية ، علم كلام ، هذه كلها برأيه مادة واحدة . نحن بالكاد نعرف شيئاً عن الفلسفات الحديثة ، يقول، فكيف سنعرف ماذا يجري في العالم ? ثم لم لا ندرس اللاهوت المسيحي ?  يتساءل هو أيضاً لا يعير دفتره لأحد .
 البغدادي يقول : البرنامج مبتور ، لا يوجد فيه علوم القرآن والحديث ، وليس فيه مادة اللغة العربية كأساس لا بد منه . دون علوم اللغة لن نفهم شيئاً . يتناطحان طوال الوقت ، بهدوء أحياناً و ببعض العصبية أحياناً أخرى . ما يعرفانه يتجاوز غالباً معرفة الأساتذة بكثير، لذلك هم يتحاشون نقاشاتهم خلال المحاضرات. أما ما بيننا وبينهم ، فمسافات شاسعة تفصلنا . غير أنه ، لما يمتد نقاشهم هذا إلى خارج الصف فإننا كثيراً ما ننقسم تلقائياً إلى فريقين، كل بحسب انتمائه .  
صديقتي " آليسار" تحب شاباً مسيحياً . هما مرتبطان منذ المرحلة الثانوية وتكاد تحصل مذابح بين العائلتين بسبب هذه العلاقة . هي مصرة على موقفها وتتحدى الجميع ولا تريد بأن تتزوج غيره . عمومتها لهم سطوة وهيبة والكل يرهبهم في منطقتهم إلا هي . هو الآن مسافر في أميركا ، وأتى اليوم في زيارة . هي من أرسله إلى هناك ليتمكن من إيجاد إقامة وعمل في ذلك المكان المحايد . سيرسل لها لتلحق به بمجرد أن يستقر وضعه . هكذا وعدها ، هكذا حكت لي وهي تحدثني عنه في كل يوم وتروي حكايتها التي تشبه إلى حد كبير حكاية " عنتر وعبلة " حتى اقتنعت فعلاً بانه فارس " بني عبس" . اليوم تعرفت إليه وأخشى أنني فهمت ما لم تفهمه " آليسار "  كيف لها بأن تفهمه وهو أميرها ? !   ..... بدا لي متورطاً بهذه العلاقة دون أن يكون له أية كلمة يقولها . يبدو أنه إنسان مسالم ولا يحب المشاكل بل ويتحاشى المواجهات . " آليسار " كانت تتكلم في هذه الجلسة بحماس واندفاع كبيرين . كل ما قالته كان باتاً ، مقرراً ، ولا يقبل النقاش . بدا لي مذعناً ولكن بدون كبير اقتناع .
 يا إلهي !  من منا يستطيع الدخول إلى عقل الآخر ليعرف كيف يفكر ?
  ما أعمانا عن الحقيقة وهي تعيش بقربنا ، تأكل وتشرب من حمقنا وبلادتنا . ربما كان من الأفضل أن نظل نجهل حقيقة الأشياء لكي نظل نحب ، ونحلم ، ونتمنى . ضعفنا وشوائبنا ، هي الخمير التي يطلع بها هذا العجين . لولاها ، لتوقفت الحياة عن الدوران ، لولاها لعقمت .
خيالنا ، رحم الوجود . رغباتنا ، ماء الحياة !
 
                                                الرسالة الثالثة
 
                                                  الحب الكبير
عزيزتي صفاء:
عندي عمل كثير اليوم لكنني قررت تأجيله إلى ما بعد القهوة وجلستنا الصباحية . لقاءاتي بأميري ، لم تكن تتجازو إطار الصداقة الذي رسمناه لأنفسنا . وخلوتنا الخاصة ، كانت نزهات بالسيارة ، على الطريق الساحلية التي نادراً ما كنا نبتعد عنها . طريق سهلية بموازاة البحر جنوباً ، وحتى  "حاجز البربارة " الذي كان أبعد نقطة ممكن الوصول إليها في ذلك الحين . ثم ، نعود أدراجنا ، على مهل ، لأن الوقت كان يمضي سريعاً ، بشعور يشبه شعور الأولاد بعدما تتوقف " المرجوحة " ، ويصير لزوماً بأن ينزلوا منها .
بدأت تلك الرحلات بأن كان يقترح أحياناً توصيلي إلى البيت . ثم صارت الطريق إلى بيتنا تطول بقدر ما أخذت الأحاديث بيننا تتعمق وتتواصل بمتعة غريبة . ثم تحولت رويداً رويداً إلى تلك النزهات البحرية الحميمة ، يرافقنا خلالها صوت " فيروز " في مسجل السيارة ، ونسائم دافئات غنمناها أحياناً من عطاء البحر الكريم .
 صيفاً  ، شتاءً ، زرعنا تلك الطريق بمشاويرنا ، وهي لحظات الدفء الوحيدة التي نجت من إعصار تلك العلاقة المضنية . لحظات من السلام نادرة في خضم ذلك البحر الهائج .
 أحاديثنا بمجملها كانت تدور عن أخبار الجامعة والرفاق . كنا نتندر بقصصهم وأحوالهم ، ونحلل شخصياتهم ، ونتمازح في تعليقات من هنا وهناك كنت أكتشف معه جوانب لم أكن أعرفها في البشر، لأنه كان أكثر خبرة واطلاعاً مني . ورغم أنه كان يظل حذراً ومتحفظاً في حديثه ، فلا يجرّح بأحد أو يبالغ في الحكم عليه ، ولا يقول أكثر مما يتوجب الحديث ، إلا أنه كان كريماً جداً في شتائمه ، يغدقها بدون تردد ، على من يستحق أومن لا يستحق ، تحبباً منه أحياناً . تلك الشتائم كانت هي لحظة التراخي الوحيدة في حديثه المضبوط تماماً .......  كنت أشعر دائماً بأنه يعرف أكثر مما يقول ، بينما كنت أنا أقول أكثر مما أعرف . صراحتي وبداهة أحاسيسي ، كانت تعطيني مصداقية خاصة أتجاوز بها الحدود والمسافات التي كانت تفصلنا عن بعضنا . حواجز كثيرة منها حرص بشدة على أن لا أتخطاها ، إلا أن مساحات شاسعة منها كانت تتهاوى أمام سذاجتي الأفلاطونية .
كانت حرباً بلا هوادة ، بين عقله الصارم ، وسليقتي الفطرية ، كنت أتجرأ فيها على كل المواضيع حتى تلك التي لم أكن أعرف عنها شيئاً .
 كنا نتكلم كثيراً بالسياسة ، ورغم معرفتي القلية بالقياس معه إلا أن موقفي من الأمور ظل واضحاً بدون لبس، لأن علاقتي بها كانت دون طموح . أحياناً ، كنا نتكلم في العلاقات الدائرة حولنا ، ومن خلال أحاديثنا عن الآخرين كنا نفصل وجهة نظرنا . كنت أتكلم بجرأة جعلته يظن بادئ الأمر بأنني صاحبة تجربة ، لكن صراحتي كانت في الحقيقة تشبه شجاعة الطفل الذي لا يقدر حجم الخطر لأنه لم يجربه بعد . علاقاتي الحميمة ، عشتها في الخيال فقط ، والحب بالنسبة لي كان قصة رومانسية " كروميو وجولييت " . في أعماقي ، كنت أعتقد بالحب الكبير الذي لا يقهر ، وبأن الإنسان يحب مرة واحدة في حياته يعيش عليها العمر كله . صدقاً ، لم يكن باستطاعتي تخيل شيء آخر .
 دهشته كانت كبيرة عندما صار يتكشف له بأنني كنت ملاكاً ، لا زلت ! أأقول خيبته ربما ? على أية حال كانت مفاجأة لم يكن يتوقعها ولم يكن ليفهم ذلك طالما أنه كان بإمكاني أن أعيش حياتي " بحرية " :
" لم أحب أحداً بعد ! " ، قلت كأنني أبرر ذنباً اقترفته .
" لا يوجد حب كبير ، الإنسان ممكن أن يحب مرة واثنتين وثلاثة ، وهو في كل مرة سوف يظن بأنه الحب الكبير . " ، قال .
  لم أقتنع ، حالتي وما كنت أعيشه كانت تؤكد لي بأن هذا غير ممكن . ما كنت أشعر به في داخلي نحوه كان كل طاقة الحياة وما دونها هو الموت فكيف نحيا و نموت مرة واثنتين وثلاثة ? لم أقتنع .
اليوم ، عزيزتي ، وبعد أكثر من عشرين سنة ، لا زلت أتساءل ، من منا كان على حق ? : صحيح أن الإنسان يحب أكثر من مرة في حياته ، ولكن لو نظرنا إلى شريط حياتنا من بعيد ، أفلا نجد بأن الحب الكبير سوف يبقى بارزاً فيها تماماً ، كما الهرم الكبير بجانب الأهرامات الصغيرة ?
 سوف أتركك الآن  ، وأعود إليك في أقرب فرصة . حتى ذلك ، كوني بخير ، وإلى اللقاء .
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (7)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

الفصل الرابع
مذكرات 4
  من أين الطريق ?
 أزداد نحولاً يوماً بعد يوم !
 قصصت شعري ويا ليتني لم أفعل فأنا لم أجد طريقة مقنعة لتسريحه .
" نهال" ، سوف يترشح لأمانة سرالخلية بدلاً عني ، يحاول تطبيق الرفاق من وراء ظهري، وهو لا يعلم بأن هذا آخر ما أفكر فيه .
منذ مدة طويلة تراودني فكرة ترك التنطيم ، أشك بجدوى كل ما نفعله . من الممكن قريباَ ، أن أطلب تعليق عضويتي .
الأسبوع الماضي ، كنت قد قرأت مقالاً ل :" جوزيف سماحة " ينتقد  فيه " برنامج الإصلاح السياسي " الذي طرحته " الحركة الوطنية " ويتهمه بأنه ذو منحى إسلامي، ولا يراعي مشكلة الأقليات المسيحية في لبنان . اقتنعت بوجهة نظره وسأطرح الموضوع للنقاش داخل الخلية . أعرف سلفاً بأن الموضوع سوف يرفع لأمانة المنطقة وربما إلى أعلى لأنه ليس على مستوى رفاق الخلية . سنحصل فيما بعد على تبريرات من نوع : بأنه يراعي  " ظروف المرحلة التاريخية " ، وبأن " حتمية العلاقة والتحالف المصيري مع المقاومة الفلسطينية يستدعي ........ " ، وأن " قاعدة التحالفات الوطنية العريضة تستلزم ........ " ، نحن مجرد مؤسسة ضمن باقي المؤسسات . كل ما نقوله أو نفعله لا نقرر فيه شيئاً ، كأننا موظفون درجة عاشرة .
  في الماضي ، كنت قد أثرت موضوع المساعدات المالية التي تأتينا من " العراق " والتي تحولنا بفضلها إلى شيء مضحك يشبه ال " تشي غيفارا " ببدلة وربطة عنق . ورفضت المشاركة في حملة جمع التبرعات   قالوا لي وقتها بأن  " الظروف تغيرت ، وأننا لم نعد في مرحلة التقشف وبأننا لم نعتد على ذلك بعد .... إنما جمع التبرعات هو للحفاظ على العلاقة بالجماهير ...."  ، وقالوا : " بأننا يجب أن نتحلى بالواقعية السياسية ! " ، من فينا أكثر واقعية ، الذي يدفع أم الذي يقدم الخدمات ? من يخدع من ? لا زلت أتساءل ...........
وجهي مليء بالبثور هذه الأيام . أجد نفسي رهيبة ومفزعة . عندي اجتماع بعد الظهر ويجب أن أراه بعد الاجتماع .......... هذه البثور تنغص علي حياتي . كيف أواجهه ? هل سأتجرأ اليوم على أن أطلب منه بعض التوضيحات ? سوف يتهرب بدون شك لكنني سوف أواجهه !
 
 
الرسالة الرابعة

 حب أم صداقة ?
عزيزتي صفاء :
 أعود إليك اليوم ، أحاول من جديد  أن أتذكر معك ما حصل معي من مواقف  لم أصرح بها لنفسي أحياناً ، وأستعيد عملاً صعباً بدأته، وأتمنى أن أصل إلى نهايته ، لعلني أقدر ..........
كانت تلك الطريق التي كنا نقطعها ذهاباً وإياباً في كل مرة ، شاهداً على حالنا المسكونة برغبات لا تجرؤ في الإفصاح عن ذاتها ... خلالها ، كنا نملأ الجو من حولنا بأحاديث تريد أن تواري ما كنا نشعر  به ، ما كنا نخجل منه ونريد أن نخفيه ............
اهتمامه بي ، كان تحرياً عن أحوالي التي لم يهتم بها أحد من قبل :  أكلي ، شربي ، نومي ، جامعتي ، أساتذتي ، وحتى البثور التي كانت تظهر على وجهي أحياناً كان يراقبها :
" لا تعبثي بها ! اتركيها " ، كان يقول بلهجة الآمر ! .
انتباه كامل لأدنى حركة ، أو كلمة ، أوأي التفاتة مني داخل السيارة . يسألني إذا كنت مرتاحة في جلستي ، إذا كان يجب أن يغلق النافذة ? إذا كانت الأغنية في المسجل على ذوقي ??? .... رهافة حركاته وحميمية تلك الكلمات التي كانت تحيطني بكل الرعاية ، كانت تغلفني بوشاح من الحرير، وهذا الاهتمام الدؤوب بكل التفاصيل كان يحتويني بدفء وترف ، خياليين ،  فأشعر كأنني أميرة في قصر من الأحلام .
ثم يعود ليسألني ، لما لا يكون عندي صديق " خاص " .
 " لم أحب أحداً بعد !  لو حصل فسوف تكون أول من يعلم ! "
مناورات ساذجة كان يفهمها بوضوح . غالباً ، كان يليها السكون ........
 غير أن السكون الذي كان يأتي بعدها ، كان فاضحاً ! مقاطع الصمت التي كانت تجلل ذاك السكون ،  كانت تشي بالمستور ........  مقاطع الصمت تلك  كانت ترخي معطفاً من الوقار ، ينسدل باستحياء  شديد ، فوق أنفاسنا المتلامسة بحذر . عندما ينطفىء الكلام ، تطفو الحقيقة على سطح الهواء ، كسمكة تعوم في بحر هادئ . هكذا كانت تعوم زهرة اللوتس المسكونة بالرغبة ........
 لقاؤنا ، كان يزهر في السكون ، يتجلى في ردائه الشفاف ، ليعلن عن حقيقته الأصلية . خلف إطار   " الصداقة " الصارم ، كانت اللوحة تخفي فضاء لا حدود له من الأحلام ...  شساعة لا يحدها خيال الصداقة . حقول من النسيم ، تجري فيها خيول بلون الفضة  ، لم يلامسها خيال الصداقة أبداً ......... 
ما أبعد هذا عن الصداقة ، عزيزتي !
ما أبعد الصداقة عما كنا فيه من هذيان الروح ! من خفقان يشبه قرع الطبول . من تحفز ، يشبه هبوب العاصفة . الفضاء من حولنا كان كان اضطراباً أحمق . توتر كان يغلفنا ويتململ فينا متصاعداً ليكون من حولنا ملاذاً هشاً لأحاسيسنا ، ملاذاً يشبه فقاعة الصابون ........... المدى من حولنا كان يشتعل بشرقطات خفيفة ، تومض ثم تخبو في الخفاء ........... غيمة من ندف ذلك الوجد المكنون كانت تطفو برفق فوق سماء عالمنا .. تتأرجح  بخفة الوجد المتصاعد ، فتنأى قليلاً ثم تعود ، ودون أن تبتعد كثيراً عن مصدر الدفء المهيمن .
 هذا الفضاء الساحر ، عزيزتي ، كان جنتي وناري . كنت بأمس الحاجة إليه ، كنت بأمس الحاجة إلى هذه اللحظات ، أكتشف فيها نفسي  .هذا المزيج من الحنان الدافق ، والتألق الحسي ، كان بالنسبة لي ، انبعاثاً ، لروحي ولجسدي ، من ثبات عميق . هذه الأوقات ، كنت أعيشها كأنها انبلاج الصبح في أسطورة حياتي . كنت فيها أتمرد على ذلك الثقل الذي يجذبني إلى الأرض لأطفو على مسامات جلدي ، هنيهات ،  وربما خرجت منها أحياناً ، هنيهات ،  لألامس شفافية لحظات من الوجود ، آسرة .
  شيء من الأبوة في كلامه ، كان يشعرني بأنني مسيجة بألف وردة . وذلك الارتجاج العنيف من الداخل ، والذي يهز الروح ، يغربل الأحاسيس وينخلها ثم يرمي شرارة وجد في القش المنثور من حولها ليشعل شموسها السخية كلها ، لتزهر فيها ألف أقحوانة .
كيف أضع كل هذا في خانة الصداقة ? وأية صداقة هذه التي سوف تقلب كيانك وتجعلك عبدة لها ومملوكة من أطراف أهدابك وحتى مضغة القلب الذي لم يعد يعرف الاستكانة ? أي نفاق هذا بأن ندعي على أنها صداقة ? ما أبعد الصداقة ، صديقتي ، عن ذلك الذي كنا فيه .
هذا الوضع ، سوف يتسبب لي بجرح مؤلم لأن كل واحد فينا ، ورغم ما كنا فيه من عشق مؤكد ، ظل محتفظاً بمشاعره لنفسه ، منكراً لها تجاه الآخر ......... يبدو بأننا كنا نشعر بأنها كانت عيباً كبيراً وجب التستر عليه ، حتى من أنفسنا ?
هذا ما سأحدثك فيه في رسالتي القادمة ، حتى ذلك أتمنى لك يوماً هادئاً وإلى اللقاء .
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (8)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

 
الفصل الخامس
مذكرات 5
فى حصار الواقع


في الليل ، تجتاحني الكوابيس . في المساء ، أراقب أبي وهو ينهار في كل يوم . يعد أرقام الخسارة ويذوي بظلها . أتشاجر معه أحياناً ، أهزه ، أحاول إيقاظه ، أرسل إليه نداءات استغاثة لا يسمعها وهو بالكاد يجاوبني . هو يبتعد عنا في كل يوم مسافة .
 في النهار ، أرى أمي ، في كل يوم ، تتحايل على الواقع لتخرج منه ما نأكله لنقتات به في نهارنا . هي أيضاً تبتعد ، تقترب منا بقدر الواجب ، ثم تبتعد . ترمي إلينا بحبوب نتلقفها بسرعة بمناقيدنا الشرهة ، ثم تعود إلى نفسها لتغلق محارتها على خوف أعمق من المحيط .............
 أتشاجر مع أخواتي على فستان استعارته مني إحداهن دون استئذان ، وأحياناً على مطرح على الكنبة بقرب التلفزيون ......... الجو كئيب ، الجو مقلق ، وأنا عصفور في الريح ......
 
الرسالة الخامسة
 
معنى السعادة ?
 
  صديقتي العزيزة :
  تحية وسلاماً يظللان يومك الذي أتمناه لك جميلاً وهادئاً .
كانت تلك العاطفة المهولة تسكنني بمكر واستبداد ، ولم أك أستطيع حيالها شيئاً . كانت حياتي تسير على وقع الانتظار المضني ، وترقب الأيام والساعات ، والشمس والمطر ، والأحوال الأمنية ، وتوقع رنين التلفون ، وتصيد الفرص واقتناصها ، حتى ولو كلفني ذلك ساعات ، بل نهارات من العناء في ترتيبها وتغليفها بالبراقع لكي تظهر كانها ، " طبيعية وبالصدفة "   لم أك أعرف كيف أواري كل تلك العاطفة . كنت أريد منه ، على الأقل ، اعترافاً صريحاً بأن ما بيننا يتجاوز إطار الصداقة من بعيد . كنت أرغب في أن يعلن لي شوقه واشتياقه الصريح ،   ربما كان ذلك كافياً في لحظتها ، لإعادة التوازن إلى ميزان روحي الذي كان مختل الكفتين .  ورحت أنتظر ....... سنتين قضيتهما في ترقب كلمات لم تأت أبداً . لم أكن أتوقع منه أن يعلن لي " الحب الكبير " ، كنت أدرك بأن هكذا تصريح ثمنه فادح ولن يقوى عليه . لكن ، أن  يعترف ب " الخاص " في علاقتنا ، وبهذا الرابط الذي يجمعنا ويتجاوز إرادتنا إلى ما هو أقوى ......... كنت أظن أنه لا زال يكابر وبأن الأيام القادمة سوف تنصفني .......... وظللت أنتظر ، بصبر كبير . كنت أترك للأمل متسعاً بيننا دون أن أجرؤ أبداً على المواجهة أو طرح الأسئلة المحرجة . صبرت كثيراً على هذا وحيرني فيها سؤال : إذا لم يك ذلك حباً ، فكيف يكون الحب إذاً ?
 أذكر أنه كان يحلو له بأن يمازحني أحياناً قائلاً :
ـ  " لا تحبيني ! " .
 كان يجد في ذلك ربما مناسبة لإفهامي بأنه غير قادر على التورط عاطفياً . من جهتي كنت أجد كلماته مهينة ولم يك بإمكاني أن أرد عليها .
 هكذا ، عزيزتي ، عذبتني طويلاً كل تلك التساؤلات التي جهلت فيها معنى الحب في قاموسه ......... حتى اقتنعت بأنني غبية وبأنني لا أفهم هذه الأشياء ........ جربت أن أتعلم ، أن أدرب نفسي على معان جديدة للحياة والسعادة ، بدون فائدة . رويداً ، رويداً فهمت أن الخروج من حلمي ذي الأبراج العالية ، والدخول إلى عالم " الرؤية الواقعية " لن يكون   مجانياً ، فهل سأقوى على دفع الثمن ?
  ـ " أتمناك سعيدة ، سيرة " .......... كان يردد . كيف ? كنت أسأل نفسي وأنا لا أرى السعادة إلا معه ومن خلاله ....... كيف يتمناني سعيدة وهو يبخل علي بالأمان الذي أبحث عنه ? حتى سمعته يوماً آخر يقول لي : " لو كان الأمر بيدي ، لجعلتك سعيدة ! أنت لا زلت تجهلين معنى السعادة . لو كنت على غير ما أنت عليه لجعلتك سعيدة ، كنت تعلمت مني أشياء كثيرة ......... الجنس مهم ، بل هو  أهم ما في الحياة ......... تعالي لعندي بعد أن تتزوجي لأشرح لك ما أقول ... " كنت أستمع إليه كالبلهاء ، كيف يمكنني بأن أعود إليه بعد أن أتزوج ? كنت أشعر بالإهانة وأن شيئاً في هذا المنطق يستعصي علي فأصمت .
وفي مرة أخرى ، أضاف :" هناك تفاصيل لا يعرفها كل الناس ، حتى المتزوجون من سنين ، أغلب الرجال لا يفهم جسد المرأة ، لا يمكنني أن أشرح لك ،  أتمنى لك أن تتزوجي واحداً يعرف كيف يسعدك " .كنت أصغي كالمشدوهة . حقيقة ، لم أكن أعي ما يقول . كأن هذا الكلام كان يأتيني من عالم آخرغيرالعالم الذي كنت أعيش فيه . السعادة ? لم أكن أحلم بأكثر من أن يضمني إلى دفء صدره لكي أشعر بالسعادة . هكذا كنت أعتقد !
 ستقولين : " بلهاء " ? . من أين يأتي البله ، عزيزتي ? أليس من الأفكار المتناقضة التي نراكمها فوق بعضها دون وعي منا بتناقضها ? أوليس من الأحاسيس التي لم تورق إلا في الخيال ? من أن تضعي ثقتك المطلقة بفكرة ، برغبة ، بشخص ، بأي شيء خارج عن ذاتك السحيقة ! لكنني كنت بلهاء ، بدون شك ! عمياء ، ربما ? وربما كنت مجرد عاشقة . وفي ذات مرة قال لي باضطراب ظاهر :
 ـ  " أحلم بأن أراك ممددة أمامي وعارية تماماً ! " .
  " أنا ? " ، قلت مندهشة ........  استغربت ذوقه ، ولم أفهم !
أحلم بأن يطوقني بذراعيه بقوة ، بأن ينقض علي كما ينقض الأخطبوط على فريسته ، وأن ينغرس في جسمي كله فنختلط معاً ونصبح شيئاً واحداً وإلى الأبد . لكن ، من كان يتجرأ بوقتها على قول هذا ?
هكذا عزيزتي ، صرت أرى ولا أرى . أفهم ولا أفهم . كل شيء كان واضحاً ومفهوماً ومع ذلك ظللت أتمرد وأعاند على الحقيقة .
رغبتي التي كانت تجذبني إليه كانت تحاول تخدير عقلي .. شيء ما في صدري كان يحبه ولا يقوى على التخلي عنه .. شيء ما في صدري كان يرفض هذا المنطق ويتمرد عليه ..............
 سأعود إليك صفاء ، غداً أعود إليك لأصف لك كيف وصلنا إلى ذروة هذا التناقض فانتظريني ..............إلى اللقاء .
 
 
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (9)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

الفصل السادس
مذكرات6
المساواة في الجحيم !
 
 
  اليوم ، رأيت أميري .......... بالأمس ، رأيت البديل !
  ربما لهذا السبب رأسي تؤلمني وأشعر بكل هذا التوتر ?
 
  أبحث عن مخرج بأي ثمن لكنني لا شك مخطئة وإلا لما شعرت بهذا الضيق كله ......... أحتاج لمن يأخذني بيدي ويبعدني عنه فلا أعود أراه أو أفكر فيه لكنني لم أنجح بالتعلق بمن اخترته بديلاً .
أميري يعاملني بود ظاهر لكنني لا أريد منه هذا !
   يريد أن يفهمني بأنه يحبني لكنه لا يستطيع أكثر من هذا ?
  كأنه يقول : " تعالي لنأخذ من هذه العلاقة ما نستطيعه وأما الباقي فهو خارج عن إرادتنا ........... "
  لو صدقته أكون مجنونة . لو صدقته أكون مغفلة !
  يطلب ويلح علي بأن ألاقيه إلى بيروت !
  تباً له ولبيروته تلك التي يحبها ويحدثني عنها كأنها معشوقته ، فأنا لن ألاقيه لا إلى بيروت ولا إلى أي مكان آخر وليذهب إلى الجحيم .............
  والله ، كنت ذهبت معه إلى الجحيم لو أراد ، أما بيروت فلا !
  في الجحيم ، سوف نتساوى هناك . أما بيروت فستكون له ، جنته هو ، سأكون له بكليتي وبكل الحب الذي يكتنفني تجاهه وسيكون لي بعضاً  منه ، لساعات ، نذراً من الوقت لن يزيدني إلا جوعاً وظمأً ......... سأكون له مجرد خدينة !
 اليوم ألغيت موعداً مع أصدقاء الجامعة لأنه طلب مني بأن ألاقيه إلى المركز . ألح علي بأن آتي وقلت له : " بشوف " .
  لما وصلت إلى هناك ورآني ، طار من السعادة . كان مسروراً لاستجابتي . تحدثت مع الجميع ما عداه . أغظته ، تجاهلته ، وفعلت كل ما بوسعي لاستثارة غيرته .
   بعد وقت ، ودعتهم ، ثم انسحبت دون أن أسأله عما كان يريد مني .
 لا أعلم لما فعلت هذا !
  توقعت بأن يتصل بي في المساء ، لكنه لم يفعل .
   تأملت بأن يتصل بي في المساء ، لكنه لم يفعل .
  أكيد فكر كثيراً بأن يتصل ، لكنه عاد وتراجع لما فكر .
   دائماً يتراجع عندما يفكر .
  ثم يتصل ذات مرة ، هكذا ، دون تفكير .
  دائماً يعيدني بتردده إلى الدوامة ذاتها .
  كم أتمنى في هذه اللحظة بأن أشتمه ، وأن اقول له كل رأيي فيه !
  كم أتمنى في هذه اللحظة لو أقتله ، ثم أبكي عليه العمر كله فلا أشبع !
 لا أطيق نفسي ! لا أطيق هذا العبث !
  إلى متى سوف نبقى على هذا الحال يا ربي ?
 " يا أيها الناس الذين أحبهم
صبراً على الغضب
ضعوا بين العيون الشمس
والفولاذ في العصب " .......
لا أذكر من هو قائل هذه الأبيات ، ربما هو علي القيسي أو عمران القيسي . سأقوم لألعب الورق مع إخوتي فهم ينادونني .
 
 
الرسالة السادسة
أبحث عن دلفين ينقذني
 
 
  عزيزتي صفاء :
 
 
  الطقس هنا ، عاد إلى برودته المعتادة ، ولذلك تجدينني قد تسلحت بالرداء السميك ، والجوارب الصوفية ، أبحث من خلالها عن الدفء المهاجر ........ قهوتي بردت بسرعة ، سأقوم لتسخينها ثم أعود إليك في الحال .
 
  لم أكن حتى ذلك الحين ، كما أخبرتك ، قد تجرأت أبداً بالسؤال عن أحواله الشخصية . كان يضرب حصاراً حول الموضوع يجعلني أتهيب على الخوض فيه ، لذلك ، ظلت ظروف علاقته بخطيبته ضبابية خصوصاً وأنها كانت قد اختفت عن الأنظار منذ مدة طويلة .
 
  هذا الغموض المتعمد منه ، كما أظن ، سمح لخيالي بالمراهنة على بعض الأوهام المتفائلة جداً من نوع : ربما يكونا قد انفصلا ، أو ربما يكونا على خلاف أو برود ولكن الموضوع لم يحسم بعد  .... وإلا ، فلماذا تقرب مني في هذه الفترة ? ..... كنت أبحث عن بصيص أمل أخدع به نفسي ، مع أنني في قرارتي كنت مقتنعة بأن ذلك مستحيل وبأن علاقتهما أقوى من الخلافات العادية لأنها ملزمة أخلاقياً ، في العرف العام صارت أقوى من الزواج منذ أصبحت علنية . رغم هذا ، ظللت أحلم بأعجوبة ، بدلفين ما ينقذني مما أنا فيه من غرق .......... صرت أتمنى بأن تكون مثلاً قد انسحبت من حياته . افتراضات حمقاء كهذه كنت أحيكها في سري ، ثم أبحث لها عن دلائل وقرائن من نوع بأنه : لم يكن ليتجرأ على التحرش بي لو لم يكن حل من ارتباطه الآخر . أو : لا بد أنهما على خلاف حتى تبتعد عنه كل تلك المدة ............... كنت أبحث عن خشبة خلاص أتعلق بها لأصون كرامتي الجريحة ، وهذه التخريفات المصطنعة كانت نوعاً من المكابرة على واقع كنت أشعر به مهيناً دون أن أتمكن من مواجهته . لكن التناقض كان واقعاً بين ما تبقى عندي من تقدير لنفسي  ، وما أرغب به بجنون . التناقض كان صارخاً ولا يمكن الهروب منه إلا بهذا البله المصطنع ............
أن ينظر إلي على أنني فتاة سهلة ?
   أن يفكر بأنني من الممكن أن أرضى بعلاقة جانبية ?
  أن يظن بأنني من الممكن أن أتقاسمه مع إمرأة أخرى وأن يتقاسمني مع رجل آخر ?  هذا تخريف لا بد !
 مستحيل بأن يفكر هكذا ، مستحيل بأن يراني على هذه الصورة ، مستحيل !
  كل الماضي الذي أتيت منه كان نقياً ، وكل ما أشعر به وأتمناه هو حب  صاف ومطلق لا تشوبه الشوائب . ثم ، لماذا سوف أرضى أنا بهذا الدور الهامشي الذليل ? وهل الحب بنظره هو هذا ? هل السعادة هي هذه ?  لو كنت أبحث عن أي علاقة ، أفلن يكون في مقدوري بأن أجد متطوعاً آخراً بديلاً عنه ? لا ، لا يمكن أن يكون تفكيره بهذه السطحية أبداً !
 مدة مديدة تجاذبتني فيها كل تلك الأفكار . رحت أقاومها وأحاول بأن أصرعها كمن يصارع طواحين الهواء . كنت خلالها " دون كي شوت " الحب بدون منازع . طويلاً ، طويلاً ، ولوحدي ........... التجأت إلى الأوهام تحميني من ملامة عقلي الذي لم يستطع كبح جماح رغبتي  ،ولم يستطع تقديم البديل .
 حتى ذلك اليوم الشهيد !
  حتى ذلك اليوم الفاصل ، ظللت أتأرجح بين النار والنار ، ودون أن أنجح في اجتثاث بذور الأمل الكاذب . ظللت أحلم بأنه سوف يكون لي ، ربما ، يوماً ما ، بكليته ، بكل مافيه من مكر ونعومة، وكل ما في سريرته الخبيثة نحوي من طمع . ببسمته الساحرة وبذاءة لسانه عندما تعتريه حمى الشتائم القليلة الحياء ........... بلسانه المراوغ ، وكل الشبق المطل من عينيه لما ينسى بأنني أراه . أن أحتويه بجوارحي كلها وأنا كما أنا ، بقوتي ، وعنفواني ، وعزة نفسي ، التي لا ترتضيه إلا كاملاً ........... كنت أظن بأنني قادرة على أن أطير به ، لنطوف البلدان والشطآن ، لأباهي به العالم ، وأحميه من الجوع ، والبرد ، والمرض ، والتعب ، وصيبة العين الغادرة ، التي لم يكن يؤمن بها .
  حتى ذلك اليوم الشهيد !
   ما حدث في ذلك اليوم ، هو ما سوف أحكيه لك في رسالتي القادمة .
  حتى ذلك ، كوني بخير ، وإلى اللقاء .
 
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (10)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

الفصل السابع
مذكرات  (7)
بين الرماد والورد
 
 
 
    " يأتي وقت بين الرماد والورد ، ينتهي فيه كل شيء ، يبدأ فيه كل  شيئ "
 
 
أبحث عن وجهي في المرآة ولا أجد ما أبحث عنه . يلزمني الكثير لكي أصبح" حلوة" ، يلزمني أيضاً الكثير من الأناقة لكي أشعر بالثقة .
 
   بالأمس ، كان لدينا محاضرة في " الجماليات " . الأستاذ الطريف جداً، الذي جاءنا حديثاً من أميركا ،  بعد أن درس وأقام فيها سنين طويلة ، يأتينا بأفكار طريفة على شاكلته . هي تشبه بألوانها توليفة ثيابه الصفراء والبرتقالية ، التي يبدو فيها كأنه صحن بيض بالبندورة . بساطته بالتعامل معنا فيها سذاجة مؤكدة ، رغم أنها تروق لنا كثيراً. لكنني أتساءل : كيف سيصمد بها أمام كل تلك المؤامرات التي تحاك ضده في الإدارة ?  يريد لنا بأن " نتحرر" ، ويظن بأن المشكلة هي في الكبت الجنسي ، وفي حرية إبداء الرأي . إن ما يتجرأ عليه بأفكاره عن " الحرية " وخصوصاً في حديثه عن الجنس ، الأكثرية يطبقونه بدون نظريات كبيرة ، لكن في الخفاء .............. أنا أسمي هذا أفكاراً مدللة لإناس مدللين ، لم يلمسوا قعر الهاوية . هو يقول بأنه يشعر بالإهانة في كل مرة يضطر فيها للوقوف على حاجز لقوات الردع .........  طبعاً ، هو لم يعش هنا أيام الحرب ، ولا يعرف أين يضع هذا النوع من الإهانة في سلم أولويات الحياة ، عندما يكون عليه أن يجد لها مكانها بين مشاعر أخرى أشد سطوة ،  مثل : الجوع والخوف والعيش بدون استحمام ، وفقدان الأمل بالعودة إلى الحياة العادية للبشر ......... لو جرب انقطاع الماء والكهرباء والاختباء في الملاجئ لمدة سنتين  متواصلتين ،  وكان عليه أن يحمل دلواً من الماء إلى الطابق الرابع صعوداً على الدرج المظلم ،  في كل مرة يضطر فيها لأن يقضي حاجته ، لفهم ما معنى الإهانة ..........
 
  بالأمس سألني ، خلال النقاش ، أثناء المحاضرة ، "هل من الممكن لي أن أحب رجلاً أشعر بأنه سهل المنال? " ........... كان يجب أن يختارني أنا بالذات لهذا السؤال ? ..... لما لا يسأل "أمال" ? . هي كانت قالت له : " والله حسب يا أستاذ ، فهل هو للسوق ، أم للصندوق ، أم لغدرات الزمان ? " . عندها سيضيع ، فهو لم يقرأ في مكيافللي هذا المثل  ........ ولَكُنا ضحكنا وقتاً طويلاً . لكنه سألني أنا ، وأنا قلت : " لا " .
 هو يظن أن ما نعانيه للحصول على الشيء ، هو ما يحدد قيمته بالنسبة لنا . وفي هذا وجهة  نظر ، لكنه برأيي ،  نصف الطريق . هذه أفكار أميركية صرفة : يظنون أن كل شيء له ثمن ، أو مقابل ، وأن قيمة الشيء ، تكون بقيمة الثمن المدفوع مقابله .........  بإعتقادي ، العكس هو الصحيح ،  أعتقد بأن حاجتنا إلى الأشياء هي التي تحدد قيمتها بالنسبة لنا ، وهي التي تحدد بالتالي : الثمن . إلا أنهم نجحوا في قلب المعادلة واختراع حاجات وهمية للإنسان ، وبالتالي قيماً وهمية . هذا هو الاستلاب بشكله الجديد ........ 
 
  على أية حال ، هو بسؤاله نبهني إلى شيء ما كنت غافلة عنه ! البديل ، يجب أن أحسم أمري معه .
 
الرسالة السابعة
اليوم الشهيد !
 
 عزيزتي صفاء :
 جئت اليوم لأحدثك عن يومي الشهيد ! ذلك اليوم سأصفه لك بكل تفاصيله التي لا أزال أذكرها  بوضوح ، فهو اليوم الذي دفنت فيه كل أحلامي ، وكل البراءة التي كنت أعيش فيها ، حتى ذلك الحين .
 
   كان شتوياً ذلك النهار ، إلا أن الجو كان رائعاً ، لأن الشمس كانت قد سطعت من بعد رعود وأمطار دامت كل فترة ما قبل الظهيرة . التقينا قبيل العصر بقليل ، في نزهتنا المعتادة على الطريق السهلية ،   البحرية ، وكان لي قلبٌ يومَها  له جناحات . الأرض كما السماء ، كانت قد اغتسلت بماء غزير، أعاد إليها رونقها ، وأعاد إليها هدوءاً كانت قد عكرته العواصف . حتى البحر ، بدا إذ ذاك أكثر إتساعاً وجاذبية ، تحت خيوط الشمس النحيلة . الطريق ، الشجر ، البيوت ،  بدت كأنها رسمت من جديد ، لأن حجاب البلل الشفيف الذي كان يغلفها ، ضاعف من عمق اللون فيها ، فانقشعت معالمها . كل شيء كان وضاءاً ، مشعاً ، واعداً بالحياة .
 
  كنت أرتدي كنزة صوفية ، زهرية اللون ، مفتوحة قليلاً عند الصدر، تحت سترتي التي تخليت عنها ، بمجرد صعودي إلى السيارة . الجو فيها كان دافئاً بحرارة التسخين ، وبهجة الألوان الصارخة ، واتقاد الرغبة المطلة من جسمي ، ومن عينيه . ووجدته على غير عادة ، وبدون أي كلام ، ينحرف عن الطريق الاعتيادية . ووجدتنا وقد توقفت بنا السيارة ، في مكان خال بين الشجر ......... فجأة ، صرنا وحدنا في حضن الطبيعة ، كأننا عدنا لمهدنا الأول . المشهد ، كان خيالياً ، المشهد كان أسطورياً ، و كل ما كان قبله ، وكل ما كان بعده ، هوالسراب ........
في تلك اللحظة الفريدة ، رأيته يرتمي على صدري . يهوي إليه كجرم هبط من السماء  الأعلى ،  ليتناثر فوقه كانشطارالنيازك . في دفعة واحدة ، صار يتدحرج على سفحه ، كانحدار الصخرعلى باطن الجبل .....  في دفعة واحدة ، لا تقبل الشك ، ولا التفكير ، ولا  التردد ، ولا الانتظار .......... في انحناءة ، تشع فيها العيون ، باتقاد غريب ، ويكاد يفر منها النظر ..... ثم ، وبنفس الوتيرة الصاعقة ، يدس يده داخل قبة الكنزة ، ليخرج من عشه ، طائراً ، كان قد أعياه الانتظار .  ليلتقط فرخاً ، كان لا  زال ، بطراوة اللحم . يحتضنه بباطن  كفه ،  بشغف وورع ، كـأنه الدر المكنون . نظراته  كانت مفترسة ، وذلك العصفورالمدلل ، كان شهياً ومثيراً ، ويحلم بأن  يطير . 
 كان شيئاً مذهلاً ما كنت أراه ، أهو صدري هذا المتحول ? هذا الحرون الجسور الذي يثب ويندفع بتلك الشهوة العميقة ? أهو صدري هذا ، الذي يعرف كيف يغري ويتغاوى برونقه وملمسه، وانزلاق النور عليه ، مشرباً بتلك الحمرة الخفيفة ? أهو نور الشمس ما جعله حقاً مضيئاً تلك اللحظة، أم أنه إنقشاع اللون عنه ، ليختلط فيهما بنضرة وإشعاع غير عاديين ?
كان حقاً منظراً فريداً هذا الذي كنت أراه . صدري المسكون برغبات البوح الدفينة فيه دهوراً ، فم وشفتان طريتان لطالما اشتهيتهما  ، تجوبانه بالطول والعرض ، تتمرغان فوق ذلك السفح الدافئ ، في كر وفر ، كأنهما تسعيان إلى احتواء المكان .  ذاك التماس الصاعق كان مباغتاً ، ومتفجراً ، حتى بدت لي تلك اللحظة كأنها اختراق للقدر .
 
  دقيقة أو دقيقتان من العمر دام فيهما هذا اللقاء . ربما تكون ثلاث دقائق ، وأنا لم انتبه ? ممكن ! كنت كالمصعوقة ولم أنتبه . كنت كالمصعوقة ولم أعد أذكر أيهما كان أقوى عندي لحظتها : شعوري باللذة أم بالغرابة ?
 أذكر بأنني لم أنبس ، ولم أتحرك في مكاني ، كأنني أتفرج على لعبة مثيرة تجري أمامي . ثم ? ....
ثم توقف كل شيء ودفعة واحدة ! فجأة ، كما بدأ ، ارتد عني وهو لا زال متبلبلاً ، متهدجاً ، وكأن الخيط الذي كان بيننا قد انقطع ، كأن السحر قد توقف ، كأن الساعة قد دقت ، وعادت " سندريلا " إلى ثيابها الرثة .
هو الخوف ، على الأرجح من أننا لسنا في مكان آمن ، ما أعاد إليه عقله .
الرغبة كانت قد أفقدته صوابه ، والخوف أعاد إليه عقله .
 دقيقتان من العمر، كنا فيها معاً ، بدون خوف ، وبدون عقل .........
دقيقتان من العمر ، خارج حدود السلطة ، والإرادة ، والتيقظ  ، والحسابات ........... 
دقيقتان من العمر ، خارج حدود الأخلاق ?
ربما ، ربما هما كذلك ، عزيزتي ،  لكنهما دقيقتان ، لهما من السحر والقوة والجمال أسنان  حفرت في قلبي ، وفي ذاكرتي البعيدة .
ثم ، عاد كل شيء ، إلى فقره المميت .
 
ثم ، هذا اللا شيء البارد ، القاتل ......... العدم الكامل ، العماء .......
 
لا شيء بعدها يستحق أن نقوله ، أو نذكره ، أو نعود إليه . صدقيني ، صفاء: هبطنا من الأسطورة إلى اللاشيء ، العالم الحقيقي ? بل هو الوهم الكبير .............
 
عاد هو ليعتذر ، بكلمات من زمننا الأرضي : كانت هفوة ، لحظة ضعف ، أشياء كهذه نسيت تفاصيلها ، وينزلق في غمرة تبريراته ليشتكي ، بأنه لا يحلم إلا بأن يراني ممددة أمامه وعارية تماماً . كان ينطق عن الهوى ، كان لا يزال يهلوس ........ لم أعد أسمع ما كان يقول ، انبهاري ، وتوتري ، كانا يمنعاني من التفكير ، إلا في شيء واحد بوقتها : هو أن أعرف مصيري معه !
استجمعت شجاعتي ، كل شجاعتي ، لأنها كانت تلزمني كلها ودفعة واحدة ، وقررت اقتناص اللحظة التي لن تتكرر أبداً . لو سكت لحظتها  لسكت العمر كله ، دون أن أسأل شيئاً . بقوة انفعال تلك اللحظة ، التي شعرت للتو ، بأنها تنتمي إلى طقوس القرابين ، تكورت الكلمات داخل صدري . وبقوة انفعال ما كان يعتمل في صدري من ألم ورهبة ، دفعتها ناشفة ، خشنة ، تكاد تلتصق ببلعومي ، فخرجت تتدحرج ، كالدبش الثقيل ، وصرت أطردها طرداً، وهي تتشبث بحلقي ، كمن ينتزع حشرة ........
تأتأت ، بل ، غمغمت ، أو ربما حشرجت ، بصوت لم أسمعه من قبل ، ولا أعرف مصدره :
  ـ  " هل لا زلت ترى نهى ? " ، قلت .
  ـ  "نعم " ، أجاب .
 ـ  " وهل لا زلت تحبها ? " ، أضفت .
  ـ  " نعم " ، أضاف !
...................................................
   إنتهى الكلام وإنتهت مهمتي العسيرة !
ثم صمتنا دهراً .............
 دهراً طويلاً صمتنا ، عزيزتي .
  ثم عدنا إلى المدينة ...........
  إلى المدينة عدنا ، عزيزتي ، صامتين ، مكسورين .........
  سأتركك الآن ، صفاء ، يبدو أن وقت الذهاب قد حان ، ولأن لكل شيء أوانا ، وأشعر الآن بأنني أريد أن أرتاح .  سأعود إليك غداً ، فاعذريني ، وإلى اللقاء .

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (11)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

الفصل الثامن
مذكرات  8
في الطريق إلى الجحيم
 
 
 
  " شخص واحد هو من تفتقده ، ويصبح العالم خواء .........."             
                                                                      لامارتين  
   
                                       الرسالة الثامنة   
                                          رأسي الصغيرة 
     عزيزتي صفاء :
 
  عدت إليك لنستكمل ما انقطع بيننا من حديث ، ربما أكون قد تأخرت بعض الشيء ، فقد شغلتني عنك هموم الحياة اليومية ، التي نستلهك عمرنا في تصريفها . ما أشقانا بها !
 " نعم ! " ، عزيزتي ، قال " نعم ! " بكل بساطة ، وأناقة ، وفتور ..........
    ولم أعد أسمع شيئاً ! تلك الكلمة ، قطعت حبل الكلام ! قطعت حبل الشوق ، وحبل الوداد ،  وحبل الرغبة ، وكل الحبال التي كانت موصولة بيننا حتى تلك اللحظة ........  للتو ، شعرت بأنني ذبحت من الوريد إلى الوريد ! كما قربان المعبد ، ذبحت ! وراحت روحي تنتفض داخل  جسدي ، الهامد هو كلية ، كأنه ميت ..............  كان من الصعب علي احتباسها في داخلي ، روحي القتيلة ، لأنها كانت تنوح وتتلطم في حنايا صدري . روحي التي نزعت حجابها ، وشعثت شعرها ، وشقت قميصها، وصارت تنتفض كالملسوعة ، تركض وتتدافع  بداخل صدري ، تريد أن تخرج منه  ........ كرهتها ! كرهتها واحتقرتها ، وتمنيت لم أجهز عليها فأرتاح .......  ثم ، لا أدري كيف ، عقلتها ! كالفرس الجموح كانت تصهل وتتطاوح ، وعقلتها ! وذلك بأن أهرقت عليها أسيداً حامضاً من أحقاد نفسي الغاضبة ....... قلت لها :  " موتي ! "  أو " اهمدي ! " ، فهمدت ...  كأنني كنت أنا جدتي لما كانت تنهرني من بعيد ، بينما أحاول بأن أتسلق الشجرة ، ترمقني  بعينيها الصغيرتين الثاقبتين وتلوح لي بإصبعها وهي تقول : " اهمدي ! " فأهبط  للتو . أنصاع خوفاً ورهبة ، وأهمد ......... هي ارتدت إلى دهاليز نفسي ، روحي الذبيحة ، واختبأت فيها كما الفأرة الصغيرة الخائفة ، وكانت ترتجف ...........
 بالكاد استطعت السيطرة على ذلك الارتجاج العنيف ، وحبست نفسي داخل نفسي ، حتى أخذت أشعر بدوار كبير، كأن العالم من حولي ، بدأ يتفتت وينهار ...  كأن جبلاً في داخلي ،  قد قض قضيضاً ........... فجأة ، بت لا أشعر بما يحيط بي من موجودات ، وسط  هذا الدمار العارم . صار الدمار لي وحدي . وصرت وحدي ،  داخل عالمي المتفتت من حولي ، المتفجر في نفسي ، وكان لا بد أن أبتعد عن هذا الجحيم ، وبسرعة  ..........
 لم أنتظر لكي نصل لقرب البيت ، نزلت في أول المدينة ، عند ساحة التل ، ومن هناك ،  استقليت سيارة أجرة لتوصلني ، مع أن بيتنا ليس بعيداً كما تعرفين ، إلا أن رجليَّ لم تكونا لتحملاني إليه ، ثم إنني خشيت أن يفجأني انفعالي وأنا في منتصف الطريق ..........
  بالفعل ، ما أن أغلقت على نفسي باب السيارة ، حتى انفجرت بالدموع . سيلاً جارفاً منها كان يتصبب من رأسي ومن عيوني ومن خياشيمي وربما من أذني أيضاً ......... صرت أمطر بالبكاء !
 كيف السبيل لإيقاف هذا الطوفان ? كيف أعود إلى البيت وأنا على هذه الحال ? سائق السيارة احتار في أمره وأضناه الفضول ، إلا أنه لم يتجرأ بالسؤال أبداً ، كأنه شعر بخطورة الموقف ، فتهيب عن السؤال . فتحت محفظتي لأدفع له أجرته وأنا أرتعد . فجأة ، رأيت أميري المزعوم داخل المحفظة : أطل علي منها في صورة له على بطاقته الجامعية التي كان قد أعطانيها ، منذ مدة ، لأسجله للامتحانات القادمة . كان يبتسم ! لم أطق ساعتها أن أراه يبتسم داخل محفظتي ، وتولد عندي شعور غامض وكأنه يسخر مني ........... كل الناس تبتسم في الصور، لكنني كنت بحاجة لعذر وقتذاك  أبرر به فعلتي ..... وبتصميم عجيب ، تناولت البطاقة والهوية وطلب التسجيل وحتى الطوابع الأميرية التي كانت معها ، كلها بقبضة واحدة ، ثم ، فتحت شباك السيارة ، وألقيت بها إلى الطريق .......... سائق السيارة الذي كان يراقبني اندهش لدرجة جعلته يلتفت عدة مرات إلى الوراء ، ليتأكد بأن ما كان يراقبه في المرآة حاصل فعلاً .........
 أغلقت محفظتي بهدوء ، بعد أن دفعت له أجرته ، ثم ، ألقيت برأسي إلى الوراء على المقعد ، كأنني أرتاح من المهمة التي فرغت للتو من إنجازها ......... دموعي ، نشفت تماماً ، أنفاسي هدأت ، وصار بإمكاني العودة إلى البيت دون أن يلحظني أحد . بالطبع عزيزتي ، هذا الانتقام الساذج ، من رأسي الصغيرة ، لن يغير بطبيعة الحال شيئاً . هو ردة فعل آنية لإخفاء الشعور بالعجز ، يمنحك شعوراً خادعاً بالقوة ، وبأنك لا زلت قادرة على الفعل  والتأثير ،  وبأنك لا زلت تمسكين زمام الأمور ......... المشكلة  للأسف ، هي أعمق من هذا وأكثر تعقيداً .
  سنعود إليها في رسالتي القادمة فانتظريني ............
 
 
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (12)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

الفصل التاسع
مذكرات 9
إلى الأمير المزعوم
 
 
  لا أنام ! الساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل .
 منذ رجعت إلى البيت وأنا في غرفتي لا أخرج منها .
  كتبت أوراقاً كثيرة عدت ومزقتها ، وبكيت كثيراً .
  ثم قررت بأن أكتب إليك ، أميري ، قاتلي :
  كم تمنيت لو أكتب إليك في يوم آخر ، غير هذا ، قبل هذا . لكنت قلت فيك شعراً ، ولست بشاعرة . لكنت قلت فيك شيئاً ، لم تسمعه مني أبداً ، لأنني لم أجد بيننا يوماً ، وقتاً ، لقول الحقائق .......... لا زلت أذكرهذا بأسف .
  منذ قليل ، سطرت فيك كلاماً جارحاً ، عدت ومزقته ، فهو انفعال وردة فعل . أكره بأن أكون تحت وطأة هذا الانفعال ، لكني أعانيه . مع هذا قررت بأن أتحدى نفسي ، وأفكر .....
  لن يكون من السهل علي ارتجال ما أريد قوله ، لذلك اخترت أن أكتبه ، لتوضيح ما يمكن أن يكون واضحاً لكنه غير معتبر .
  أحاول أن أستعيد كلامك حول الصداقة التي تجمعنا ? وحول كونك ترتاح لي ? وأن أستعيد عبارتك المشهورة التي لم تكف عن ترديدها دوماً بين المزاح والجد : " لا تحبيني ، لا تتعلقي بي ! " . فهل هذا فعلاً هو ما أردته ?
  الغريب هو أنك فعلت كل ما بوسعك لكي أحبك وأتعلق بك ، هذا طبيعي ، فهل تعرف رجلاً واحداً في هذا العالم ، يرغب بإمرأة ولا يتمنى أن تحبه وأن تتعلق به  . ألا ترى معي أن في ما تقوله تناقضا فاضحا ? وكيف يمكن أن تنشأ بيننا علاقة فيها كل هذه الحميمية ، دون أن تحبني وأحبك ? لو صدقتك أنا ، وهو ما حاولته فعلاً ، فهل ستصدق أنت نفسك ? وكيف سنسمي هذه العلاقة الغريبة برأيك ? صداقة ? أية صداقة سوف تصمد أمام كذبة كبيرة كهذه ?
عيشتني في خوف كبير ، وشككتني في أن يكون لي الحق في أن أحب ، كبقية الناس ........ وكان يشقيني أن أراك متألماً ومنزعجاً . رغبت بصدق في أن أشاركك همومك وأخفف عنك أتعابك ، لكنك وضعت حاجزاً كثيفاً بيننا . طريقتك الغريبة والملتوية لعزلي عن عالمك الخاص ،  حالت بيننا . تريد أن تتقرب مني بمشاكلي أنا ، وتخترق حصوني كلها ، ثم تخاف على ما يخصك ? رغم كل الصدق الذي جئتك به وتخاف ? بأي منطق تعيش ?
 لماذا تقربت مني ? ثم ابتعدت عني ? ثم ترددت ذهاباً وإياباً حتى أعيتني أفكاري بالسؤال عن أحوالك ? ما الذي اكتشفته بعد فوات الأوان ? عندي ? عندك ? وما الذي أخافك فعلاً مني ? أن تحبني أم أن أحبك ? وسؤال أخير لا يحتاج إلى عميق تفكير : هل تعتقد أنه يوجد ما هو أغبى ، وأعقد ، وأشد إيلاماً من هذا النفاق الذي عشنا فيه  ?
لو كنت واضحاً وصريحاً منذ البداية ، لكنا وجدنا ألف طريقة لكي نلتقي ، أو نفترق بسلام ، واحترام ....... لكن خوفك ، أو ربما ، تعاليك على الحقيقة ، أو ربما هو ترددك الذي يخفي طمع   الذئاب ، ما أفضى بنا إلى هنا . أحدثت في قلبي جرحاً لن يندمل ! آلمتني بقوة النمور ، وتخليت عني بغدر القطط .
 
 
                                                   الرسالة التاسعة     
                                                 الحقيقة " عارية "
 عزيزتي صفاء :
 سلام جميل لك بهذه الصبيحة أقضيها معك ، ومع ذكريات موجعة ، ظننت أحياناً بأنني تخلصت من تأثيرها ، إلا أنني أستنتج بأنها حفرت في أعماقي شقوقاً ، ظلت ناتئة إلى اليوم ........
 تلك الصدمة ، تلقيتها بألم شديد دفعني للانعزال مدة في البيت . ومع أن الاكتئاب كان بادياً على وجهي ، ومع أنني بقيت غالب الوقت معتكفة في غرفتي ، إلا أن أحداً لم يسألني عما بي . كانوا قد اعتادوا مني على هذا . وكنت كلما تسليت قليلاً ، وقررت التركيز على دروسي ، كان يأتي جرس الهاتف ليعيدني إلى حالتي الأولى :  كنت أنتفض لرنينه بشدة ، ويعود قلبي إلى الخفقان ، ويعاودني الاضطراب من جديد . كنت أتوقع في كل مرة بأن يتصل بي ، لكنه لم يفعل ........ 
 
  بعد حوالي أسبوع ، اتصلت بي صديقتي " زاهية " لتستعلم عن أخباري ، ولتسألني لماذا تغيبت عن اجتماع الخلية ? استنتجت منذ اللحظة الأولى أنه كان بقربها ، وأنه كان يلقنها السؤال . اعتذرت بأنني مشغولة بالتحضير للامتحانات ، ووعدت بالحضور في الأسبوع القادم ، خصوصاً وأنهم كانوا بحاجة لأوراق كانت بحوزتي ، ولدفتر المحاضر .
 وجاءت هذه الصديقة لزيارتي بعد يومين ، وكانت قد استغربت أحوالي  وأحواله هو أيضاً ، فهي تعرفه جيداً ، بسبب أنهم يسكنون في نفس الحي . ووجدتني ولأول مرة أتحدث فيها بالموضوع . كنت بحاجة لأن أبوح بسري لأحد . لم أدخل في التفاصيل ، لكنني أخبرتها فقط بأنه يوجد بيننا رابط هو أكثر من صداقة ، وأقل من علاقة دون أن يكون واضحاً ............ دهشتها كانت كبيرة ، لم تكن تتوقع أبداً شيئاً كهذا . ثم بدأت الأمور تتوضح لها بالتدريج وأخبرتني بأنهم في بيتهم يظنون بأنه مريض ، لأنه يصاب بين الحين والآخر بحالة إغماء فجائية ، يستفيق منها بعد دقائق ، دون أن يذكر ما حصل معه . 
كنت أريد أن أعرف أكثر . سألتها عن خطيبته وسبب اختفائها ، فأكدت بأن أحداً لم يرها منذ شهور طويلة ، وأنها مقيمة عند أختها المتزوجة في صيدا . طلبت إليها بأن تستفسر عن السبب ، ولم يطل بي الانتظار سوى أيام لتخبرني بأنها علمت بأنهما قد عقدا قرانهما بالسر ،  وأنها حامل منذ عدة شهور .
 لم يكن بإمكاني تخيل سيناريو أكثر سواداً من هذا . شعوري بالذنب تضاعف حيال تلك التي يجب بأن تكون غريمتي ، وأنا في الحقيقة  كنت دائماً أستلطفها وأكن لها الاحترام . تضاعف عندي الشعور بالمهانة والغضب الشديد ، وتملكتني كراهية واحتقار لنفسي عذبني طويلاً .
عادت الوساوس تنهش صدري والندم يأخذني بعيداً ، ولم أعد أجد مبرراً لفعلتي إلا تلك الرغبة الجامحة التي دفعتني دفعاً نحو هذا الوضع  المشين . كرهت نفسي ، كرهتها وتهاوت أمامي كل الصورة البراقة عن تلك البنت الرقيقة المثالية التي كنت أعرفها ............ كنت شريكة في جريمة خيانة ليس لها أي مبرر إلا الضعف والتردد . لو أن واحدة من صديقاتي حكت لي  مثل هذا الكلام فماذا اقول لها ? وكيف أحكم عليها ?
داخلي كان يفور بألف سؤال كلها ملامة . داخلي صار ملعباً للأفكار العقيمة التي تحاول أن تفسر وتبرر ما هو واضح وصريح . قصاصي كان رهيباً وموجعاً لدرجة أنني لم أعد قادرة على ترتيب الأمور في  داخلي المهزوز . اختل الميزان ، لم يعد هناك تطابق بين ما أعتقده وأقوله في الواقع ، وما أفعله بالحقيقة . شرخ كبير تسلل إلى قناعاتي التي كانت مطلقة ، حتى ذلك الحين ، وعن مدى جديتها . اهتزت ثقتي بنفسي ، ولم أعد أعرف من أنا . تبلبلت !
حالة مزرية هذه لا أعرف إذا كنت نجحت ، في وصفها لك .
سأتركك الآن لأن موعد انصرافي قد حان وأعود إليك غداً بحسب تقديري ، فإلى الغد .
 
 
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (13)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

 
                                            الفصل العاشر
                                             مذكرات (10)
                                              أختار غداً ! .....
 بالأمس ، رأيته بالصدفة ........ كنت قد مررت إلى المركز ، لأستعيد بعض المراجع التي تلزمني في التحضير للامتحانات ، كنت قد نسيتها هناك . كأنه ليس هو ! صوته جاف ، قاس ، متوحش ........ لم أكلمه إطلاقاً ، كان يتحدث مع الآخرين .
حس بالهزيمة ، بالكراهية ، بالرغبة في الهروب ........  الساعة الآن الثانية بعد الظهر ، سأراه عند الثالثة ، لدينا اجتماع دوري سوف أحضره للمرة الأخيرة . حسمت أمري هذه المرة ولن أتراجع . يجب أن أوقف هذه المهزلة بأي ثمن . يجب أن يتوقف كل هذا العبث ولن يكون ذلك إلا على حسابي .
 لا أريد الاستسلام لهذا الشعور المدمر ، لكن كيف أقاوم ? أنا خلقت هكذا ، كومة من الانفعالات ، فكيف أغير نفسي ?
 قبل أيام اتصل بي البديل ، فرحت به كثيراً ! كانت هدنة وسعادة حقيقية بأن نلتقي على التلفون لبعض الوقت . تحدثنا مطولاً في كل الأخبار ، وضحكنا ....  كنا سعيدين كما طفلان يلعبان لعبة مسلية . فرحت به فعلاً لكن ، ما إن أغلقت سماعة الهاتف حتى عدت إلى حالتي الأصلية . أرتاح لوجودي معه ، ولا أستطيع أن أحبه كما الآخر . أشعر بالذنب نحوه أيضاً .  طلب أن يراني من جديد مع أنني لمحت له عن سبب ابتعادي عنه . كيف أوقف هذه المهزلة ? هل سأجد القوة لهذا ? هل سأستطيع ?
 تحضرني  كلمات أحبها للشاعر عبد العزيز المقالح :
" طال مخاض الأيام
  ماذا يخفي البطن المنفوخ ?
  جبلاً ? فأراً ?
  ما بين الفأر الواعد والجبل الموعود
  ما بين الأمس القاتل
  واليوم المقتول
  ماذا تختار ?
  أختارغداً ! "
 
 
                                                  الرسالة العاشرة    
                                                       الطريدة
 عزيزتي صفاء :
 عدت إليك عزيزتي ، وسأحكي لك ما جرى في ذلك اليوم الأخير الذي رأيته فيه ، رغم شعوري بأنني قد خيبتك بما فيه الكفاية . أكيد ، بدون شك خيبتك ، كما خيبت نفسي أيضاً ، لكن اصبري واسمعي المزيد ، لعلك  تفسري لي ما عجزت عن تفسيره .
عندما وصلت إلى مقر الاجتماع ، ورأيته ، شعرت كأنه كان بانتظاري . حالته  كانت مزرية تماماً ، بادي القلق والوجوم ، رث الثياب والهيئة ، طويل الذقن ، كأنه لم يستحم منذ أسبوع . جربت أن أتحاشى النظر إليه ، لكي لا أبدي تأثري بمنظره الحزين .......... هي أول مرة أراه فيها على هذا الهندام  ....... كنت أراه يختلس النظر إلي من بعيد ، وكنت ألمح في عينيه ،  شيئاً من الانكسار ......... 
  في تلك الجلسة ، اختصرت الكلام قدر استطاعتي ، كي لا أقول أكثر مما ينبغي ، وكي لا تفضحني نبرة صوتي المترددة . لساني لم ينطق بالكثير ، لكن عيوني لا بد كانت تتكلم ، ........ هيهات لمن كان مثلي أن يعرف كيف يخفي عواطفه . هذا تعرفينه عني ولا داعي لأن أشرحه له لأنك تعرفين أيضاً بأن لا سلطة لي عليه .
 بعد انتهاء الاجتماع ، لملمت أوراقي ، وكنت قد حزمت أمري .  سلمتهم دفتر محاضر الخلية ، ودفاتر الحلقات التي كنت أشرف عليها ، وأعداد المجلة المتبقية عندي ، وكنت قد أعلنت خلال الاجتماع عن تعليق عضويتي لفترة لم أحددها . لم يناقشني أحد . كان ذلك متوقعاً منذ وقت طويل، وقد دار حوله بعض النقاش سابقاً وكان منتظراً . توجهت بعدها إلى الباب الخارجي أريد الانصراف . كنت قد فهمت بمجرد أن وقع نظري عليه ،  أن أية مواجهة بيننا لن تكون مجدية بعد اليوم ، فهو يبدو مقراً بذنبه ومستسلما سلفاً . ووجدته يلحق بي ويستوقفني عند الباب الخارجي ،  ليسألني عن أوراق الجامعة ، وإذا كانت لا تزال معي ?
  ـ " رميتها ! "  قلت بقسوة ، و بدون أن ألتفت .
انتظرت الجواب خلف ظهري . لا شيء ، لا جواب .
 كنت قد تخيلت هذا الموقف ، مرات كثيرة في رأسي الصغيرة ، وتخيلت ردات  فعله بكل الوجوه : توقعت أن يزعل ، أو أن يثور، أو أن يتعجب ، أو حتى أن يسألني " لماذا رميتها ? " . لكن لا  شيء ، لا ردة فعل ......... ضاعت منه امتحانات هذه السنة ، وسيتكلف الكثير من المشقة لاستبدال الأوراق المفقودة ، ومع هذا لا يبدو أن الموضوع يهمه من قريب ولا من بعيد . سيان !
 كنت أهم بالانصراف من جديد عندما سمعته يقول باستسلام :
 ـ " منشوف شو منعمل !"
انصرفت ، بدون التفات ، وبدون تعليق ، فأنا أيضاً نسيت كل هذا ، أنا أيضاً الأمر عندي سيان ،  ولم يعد يهمني شعوره أو ردة فعله حيال الموضوع . نسيت انتقامي الصغير ، ونسيت كل التفاصيل الأخرى ... رؤيتي له على هذه الهيئة أنستني حقدي كله ، بل .... يبدو أن شعوري بدأ يميل إلى الصفح والرحمة ! كدت أنسى عذابي كله لما رأيته متألماً ............  استعجلت بالهروب قبل أن تفضحني عيوني لأنني في عمقي ، صرت أتمنى لو كان باستطاعتي أن أحضن رأسه بين ضلوعي وأن أمسح بيدي عليها لعلي أخفف عنه بعض آلامه ............. ستقولين " مجنونة ! " . بلى ! هو كذلك ، عزيزتي ، لكنها الحقيقة !
 عندما صرت أهبط الدرج ، شعرت به من ورائي يتبعني ، لكنني تجاهلته ولم ألتفت . صرت أمشي في الطريق نحو البيت  دون أن أستدير خلفي ، وظل ورائي يتبعني . قطعت ساحة الكورة نحو ساحة التل ، ثم توجهت نزولاً  نحو مبنى البلدية ، وأنا لا أزال أشعر بخطواته خلف ظهري ........... صرت أحث السير أريد أن أبتعد وكأنني فعلاً ملاحقة ......... كأنني أهرب ???  قلبي صار يخفق بشدة ، فهل أنا فعلاً مطاردة ? ............. هذا الشعور الغريزي بالخوف يبدو لي اليوم غريباً ولا أجد له مبرراً إلا في كونه شعور الطريدة الذي يستيقظ فينا لمجرد توفر الشرط المنبه له ........ انفعالي كان شديداً وبالكاد كنت أحبس دموعاً تريد أن تطفر من عيوني . كان كلما اقترب بخطواته نحوي ، كلما ازدادت نبضات قلبي خفقاناً ، والخوف مني تملكاً ، حتى كاد يشلني . خطواته ، كانت تغير علي كما غزو المغول ، وفي داخلي ريح صرصر تبلبلني ، وتحيلني إلى بعثرتي الأولى .
إرادتي ، صارت موزعة بما يشبه الانشطار : رغبتان عرفتهما بالفطرة الأولى، ودون أن أضيف إليهما شيئاً من تجارب التاريخ الطويل ....... غريزتان متضادتان تتصارعان في داخلي بما يشبه ارتطام النو بالموج الهائج ...... في لحظة اقتتال الأضداد الطاحنة هذه ، يغيب العقل تماماً ، ونعود إلى خطوات وجودنا الأولى وكأننا لا زلنا حيوانا يسكن في العراء ..........  رغبتان لا زالتا تتقدان في نفسي منذ عصر ما قبل التاريخ وتؤججان  فيها حمى الإنشطار ، واحدة للحياة وأخرى للموت . ذاكرة الوجع الأولى   استيقظت ، وأعادت غرس بذور الدمار السحيق .......................
 شيء ما كان يدفعني للتمرد ، للانقضاض ، للمواجهة . كأن أقف في وسط الطريق ، دون خوف ، دون حياء ، أن أنتصب أمامه بقوة وعزم ، أن أصرخ في وجهه بكل ما أوتيت من شراسة :
" ماذا تريد مني بعد الآن ? ألا يكفيك كل ما حدث ? ابتعد عن طريقي فأنا لا أريد أن أرى لك وجهاً بعد اليوم . " أن أصب جام حقدي وغضبي كله فوق رأسه . أن أحرق كل أمل عنده في أن يراني أو أن يقترب مني بعد الآن . أن أفرغ شحنتي العصبية المدمرة كلها عليه لتصعقه كالصاعقة ، وربما بالمرة أردته قتيلاً ، فأرتاح ...........
لكن رغبة أخرى كانت توازيها ارتفاعاً كانت تدفع بي نحو الاستسلام . كنت أتمنى لو ألتفت إليه ، أن أراه أمامي صامداً كالجبل الكبير ، ملجأي ومثواي ......... أن أرتمي بين ذراعيه مرة أولى وأخيرة .... سأبكي كثيراً وأتضرع وربما أذوب من البكاء ، وأختفي كلية ، فلا يعود يبقى مني أثر ليحلم ، أو يتألم ، أو لتسكنه الهواجس ......... لا يعود بي أثر للحياة ، أو جسد مهترئ أعود به إلى البيت . في هذه اللحظة التي كنت فيها الطريدة ، كنت أتمنى بأن أختفي عن العالم !
 كنا قد أصبحنا بقرب الإطفائية وبجانب مدرستي التي تربيت فيها ... ولحظتها ، شعرت بيد الصياد تطبق بقوة على معصمي ، وتشد عليه بتوسل :
 ـ " اسمعيني  "سيرة " ، يجب أن أقول لك شيئاً ، أعطيني خمس دقائق ... "
 كان الصوت متضرعاً ، متهدجاً وعلى حافة البكاء أيضاً . أين ذهب  الصياد ? سألت نفسي . هذه نبرة آدمي قلت في روحي وأنا أنتزع يدي من يده بعنف وأقول :
 ـ " لا أريد أن أعرف شيئاً ، لم يعد هناك أي لزوم لذلك . "
 ـ " تعالي معي لعند " كميل " ، سنتكلم هناك . أعطيني عشر دقائق  
فقط ، أريدك أن تعرفي شيئاً مهماً ، عشر دقائق فقط ولن تتأخري أكثر ... "
 أعتقد بأنني أعرف كل ما سوف يقوله ! ما هم ما سوف يقوله بلحظتها ? البيت خال ، وصديقه مسافر ........  سيقول أشياء تريحني ، تمسح الدمع من عيني لحظة . مجرد أن أقبل بالذهاب معه معناه أنني أعطيه فرصة جديدة . معناه أن أقبل كل الوضع الذي أعرفه والذي سأكون فيه الضحية .  بلحظتها سوف أنسى كل شيء : كل الإهانات والحماقات وكرامتي الجريحة  وحتى المستقبل الكالح الذي سوف ينتظرني سوف أنساه ، ولن أتذكر إلا أنني أحبه وبحاجة إليه ، وأنني تعبت من كل هذا وأريد أن أرتاح من عنادي بأي ثمن ........ أية قوة في العالم ستمنعني عنه ، وتمنعه عني لو التقينا بلحظتها ? سيكون انتصار الطبيعة فينا أقوى وأبلغ من أي كلام . أية إرادة سوف تقاوم بلحظتها كل هذا الجوع الذي راكمناه ، واحدنا للآخر ، حتى صار يعوي فينا كما الذئاب الجارحة ?
ستكون بدون شك ، دقائق إلهية ! أحلق فيها بين النجوم وأرتقي السماء السابعة بومضة عين . ثم ، أهوي بعدها إلى قعر الهاوية ........... هي لحظة واحدة ، كانت كافية لإرسالي إلى الحضيض . كان يجب أن أذعن مرة واحدة وأخيرة ، لتكون السعادة ملك يدي ، لحين ...,...  ثم يكون الشقاء من نصيبي ، وللعمر كله . لو قلت : " نعم " ، وقتها لعبرت نهائياً إلى الضفة الأخرى وبلغت نقطة اللا رجوع .
 
  لكنني لم أفعل . لا أعرف كيف أوتيت كل هذا العناد والإصرار . لا أعرف كيف فكرت بكل هذا ، ودفعة واحدة . هل أنا فكرت فعلاً ? هل أنا قررت فعلاً ? لا ، لا أعتقد ، عزيزتي ، بل أظنه الخوف هو من فكر عني ، وقرر عني . الخوف الذي لم تزعزعه الأفكار ولا النظريات ولا تغيرات الظروف . الخوف الذي دجنا به غريزتنا ، تماماً ، كما دجنا الجمال ........
أذكر بأنني انتزعت يدي من يده ، ومشيت نحو بيتنا !
لم ألتفت ورائي أبداً . صرت أبتعد عن مكان موتي ، والخطوات على دربي تتعثر ، وتتطاوح ...... القلب كسير ، والعين حبلى بالدموع ، كأنني كنت أسير في جنازتي . في ذلك اليوم ، كنت أنا الشهيد الذي لم يمت ! لم يحملوني على الأكتاف ، ولم يزغرد لي أحد ، إلا أنه في ذلك الوقت الذي كادت تغيب عنه الشمس ، جريمة ما كانت قد وقعت ، وكنت فيها القاتل ، وكنت المقتول ..........
أستمحيك عذراً ، صفاء ، إلا أنني سأذهب . سأرتاح طويلاً لكي أستعيد هدوئي ، لكنني سوف أعود . لا بد أن أعود لأكمل لك ما بدأناه ، فانتظريني . إلى اللقاء .
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (14)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

 
                                 الفصل الحادى عشر
                                      مذكرات(11)   
                                   في انتظار الموت ! 
 
 تعبت ، ........ مضت حوالي النصف ساعة ولم يحصل أي شيء ، ...... لا أشعر بأي تغيير . حتى الموت يجب أن أجهد في انتظاره ?
ضجرت ، ثم تعبت .......... سأكتب قليلاً حتى لا أضجر كثيراً ! إخوتي يتحدثون في الخارج ... أنا أحبهم ! نتعارك أحياناً لكني أحبهم . يضايقونني كثيراً لأنني أرغب بالعزلة فلا أجدها في بيتنا . يغيرون على عزلتي ، وعلى أشيائي الخاصة ، فلا تنجو منهم ثيابي ولا أدراجي ولا أقلامي ، وأحياناً لا أجد مكاناً أجلس فيه لأتفرج على التلفزيون  ........ لكنني أحبهم   وأجدهم رائعين ! كنت سأكون شيئاً حلواً مثلهم ، ربما ، لو كنت حييت ،  لكنني تعبت ! لم أعد أقوى على احتمال الألم ، وليس لي أمل بأية حياة طبيعية بعد اليوم .
 
  فكرت بالاتصال بصديقتي " أمال " لقتل الوقت . أحبها كثيراً وهي أول إنسان أشعر بصداقته فعلاً . لكني لن أفعل ! تأخر الوقت  .... أحب أمي كثيراً ، أمي امرأة شجاعة ! ........ هل تذكر يا أبي كيف  تتهكم عليها دائماً وتتهمها بالجهل والبساطة ? هي التي كانت معجبة بذكائك أيما إعجاب ، وهي من كانت تردد بتفاخر أنك : " تلمحها على الطاير !" ..... هل لمحت شجاعتها يا أبي ?  مسكين أنت فأنت لم تعد تلمح شيئاً ، حملك ثقيل وأنت مثلي لم تعد تحتمل ......... ما أشقانا  ! ما أشقى هذه الحياة التي نعيشها ! أنا حزينة يا أبي ، حزينة ولا أجرؤ على البوح بحزني لأحد ......... حزينة مثلك ولا أتكلم ، فأنا أحزن بصمت ، مثلك .......... لا أرغب بأن أسبب لكم الأذية لكنني عاجزة عن الاستمرار ....... عاجزة ، عاجزة مثلك تماماً على تغيير هذا القدر الملعون ..... ألهذا أنت حزين يا أبي ? ألهذا اخترت بأن تنتحر قليلاً في كل يوم ? ستموت بطيئاً بطيئاً ، وأنا أحسدك على صبرك هذا ! لن ينتبه إليك أحد ، ولن يعرفوا أنك قررت أن تغادر بطيئاً ! ليس لي صبرك يا أبي ......... كلنا مساكين ونداري ضعفنا ، ........ أكثر الناس مساكين ، حتى هؤلاء الذين يتحايلون على الحياة بخبث وشطارة ، حتى هؤلاء الذين يصبرون عليها  وينتظرون منها أن تنصفهم  يوماً ....... لن يحصل ، لن يحصل أبداً فهي " بنت كلب !" ...... لن يحصل وليس من عدل على الأرض ،  أكره هذا ولم أعد أحتمله ! أكره  كل ما أنا فيه وأريد أن اختفي عن هذا العالم ........
 
                                                 الرسالة الحادية عشرة    
                                                  طقوس الاغتسال الأخير
عزيزتي صفاء :
عندما رجعت إلى البيت من ذلك اللقاء الأخير ، كنت في حالة يرثى لها . تعمدت أن لا يراني أحد ، وتوجهت مباشرة إلى الحمام ، لأنه الملجأ الوحيد  " الآمن " في بيتنا .  أول ما فعلته ، بعد أن أحكمت إغلاق الباب على نفسي ، هو أنني نظرت إلى وجهي في المرآة .......... رأيتني مرعبة ! لم يكن شكلاً آدمياً ما رأيته ، بل شيئاً أقرب إلى التوحش والبدائية .... شيء يشبه اختلاط الأضداد في مزيج متنافر . يا إلهي ، لم كل هذا ? ما الذي أنا فاعلته بنفسي ? أأدمر ذاتي وأغير معالمها ? من أين أتيت بكل هذا العناد يا ربي !???  ولماذا أصر على الاعتقاد بأن العالم هو أنا وما أبتغيه ? ....... 
صرت أحدق بذلك المشهد الذي راعني : عيناي الحمراوان المنفوختان ، ووجهي المخضب كحقل تم حرثه حديثاً ، ولم تعد تستوي فيه أية معالم ... عيناي ، كانتا مهدودتين ، ولا قرار لهما ! ولما حاولت أن احدق فيهما ، ظلتا تراوغان وتتهربان من محاولاتي . لم تشاءا أن تنظرا إلي أبداً ، عيناي ،  كأنهما تتمنعان على النظر في وجهي ، كأنهما تخجلان من أن أرى فيهما قرارتي السحيقة .
نزعت عني ثيابي لأغسلها . قلت في نفسي : " سأشغل روحي بهذا ، لعلني أستطيع ! " . ثم رحت أكومها أمامي في الوعاء الكبير ، قطعة فقطعة ، مددتها فوق بعضها ، كأنها أشلاء ميتة ، حتى صارت بارتفاع القبر . رششت فوقها مسحوق الغسيل بكثرة ، ولما فتحت حنفية الماء فوقها ، صارت الرغوة ترتفع ، ثم تتدفق وتفيض من حول الوعاء .......... رحت أنظر بنهم شديد إلى تلك الرغوة الكثيفة اللامعة . شيء ما تحرك داخل صدري ، وتذكرت بركان الألعاب النارية الذي كنا نشعله في عيد المولد النبوي ، عندما كنا صغاراً . كان الضوء المنبعث منه  يبهرني ، والحرارة المثيرة التي كانت تتولد من ذلك الضوء ، كانت تحرك في داخلي فيضاً من الانفعالات التي طفقت تعاودني بإلحاح ، بينما كنت أحدق في تلك الرغوة التي كانت تفيض أمامي . صرت أقول في نفسي :
 
  " غريب الإنسان ، كيف يمكن لي أن أنسى همي بسرعة، هكذا بمجرد أن ألتهي بهذه الأشياء الصغيرة ? " .
 
  عبثاً اقتنعت بهذا الهراء ، لأنني وفي الوقت الذي كنت أردد فيه هذه المقولة الساذجة ، كنت أشعر بما يشبه الفيضان الآخذ بالاقتراب ......  أمواه البحر الهادرة صارت تحرث في صدري .... زبد مالح ، كما أكمة الموج المتصاعد راح يندفع بقوة وإلحاح ، نحو رقبتي  وبلعومي ، ولما لامست رغوته الكثيفة ، حلقي الناشفة ، صرت أختنق .... تقلصات وإرتجاجات تشبه التعرض للصدمة الكهربائية ، أخذت تجتاحني بعنف مخيف ، كنت أرتجف له بكليتي . هذا الاهتزاز الجائر ، كان مدمراً ! ذلك الارتجاج الجائر ، كان يتحرك داخل نفسي فيدفع بالألم الكامن من جوفي ، نحو خلايا جسمي  كلها، بما يشبه المد والجزر ، بما يشبه حركة البحر في تقدمه وارتداده  ............. خيبة بعمق المحيط كانت تتقلص  في داخلي ، ثم تنجبل بذلك الشيء الذي نسميه : القهر القاتل ، لتثير من حولها رياحا لها قوة عاتية ، رغبة مستبدة تسعى لتدمير وتفتيت كل ما عداها . شيئاً فشيئاً ، تمكن مني ذلك الشعور بالقهر ، واستحال في تفجراً ، ثم عويلاً يشبه النباح ...... بكاء وعويل ، تخالطه سوائل مقرفة صارت تخرج من حلقي بما يشبه التقيؤ .... ذلك التفجر صار يستطيل ويتواصل حتى استملك بي تماماً ، فاستسلمت له طائعة ، ووجدتني ألوذ به ، وأنا منطوية فوق ذلك الوعاء الذي كان يفور أمامي  كالبركان ، أجعر كالممسوسة ... 
 " يا الله ، يا الله ، لم كل هذا يا ربي ? لما كل هذه الخيبة ، لم كل هذا القهر ? لماذا أشعر بهذا الذل كله ? شعور من داسوا على رأسه بالجزم ? شعور من سحقوه ذلاً وعاراً ? متى أرتاح من هذا الألم  ? متى سيتوقف هذا العذاب ? ما أهون الموت !  ما أهون الموت ! ما أهون الموت ....... "
 في تلك اللحظة القصوى من الألم ، لم أعد أريد أن أوقف الانحدار نحو الهاوية . أحببت التوغل فيه حتى النهاية ، وصرت أدفعه دفعاً نحو قراره الأقصى .... كنت أريد التخلص من شحنات الألم الضاغطة فوق ضلوعي ، وذلك بتفجيرها كلها دفعة واحدة ، تماماً كما نحب أن نضغط على الضرس المؤلم ليتضاعف وجعنا لحظتها ، ثم يستكين لبرهة وكأننا نطارد بهذه الحركة تلك الشحنات الخبيثة الضاغطة على أعصابنا .
 
  بت لا أرى إلا الرغوة ، وصرت أشعر بالقرف من حالتي إلا أن هذا القرف كان شافياً ،  ذلك القرف كان محرراً ? ........
 
   تلك الأحاسيس ، كانت قد بدأت بالتسلل إلى منطقة الوعي في رأسي التي كانت هي ، لا زالت منطوية فوق بركان الدمار ... رأسي المقطوعة فوق سماء الجحيم والمعزولة عن العالم ، إلا عن عالمها  هي ، المتزلزل في داخلها ...........  رأسي المقطوعة ، بدأت تتحرك وبدأت تعقل بمجرد أن خف عنها بخار الحموضة القاتل ، المنبعث من جيشان صدري الذبيحة .... رأسي الخبيثة بدأت توسوس لي بأن الآتي أعظم ، وبأن ما أنا فيه من عويل لن يريحني إلا إلى حين ....  هذه الفكرة المرعبة ، بدأت تحفر لها مكاناً في قعر الهاوية ، في موطن اليأس المسيطر ،  لتؤسس فيه بؤرة للخوف ، أكبر وأعمق وأكثر ديمومة ، من هذا الارتجاج الهستيري المتفجر .... شيئاً فشيئاً ، بدأت أفهم مرارة ما كان ينتظرني من عذاب ، وبدت لي تلك المسؤولية مرعبة وفوق طاقتي على الاحتمال .........
 
  عدت لا أرى إلا تلك الفقاقيع المثيرة  تمتزج بما كان يسيل من رأسي المنحنية فوقها بيأس واستسلام .......
 
  بحقد شديد ، صرت أدلق تلك الرغوة الفائضة من فوق الوعاء الكبير . وبنزق كبير صرت أعيد وأزيد من فوقها الماء .... الماء ، كان عزيزاً جداً تلك الأيام، إلا أنني بددته برعونة ! كل ما كان يخرج مني  ويسيل على وجهي  كان يدخل في دورة المياه الجارية ويختلط معها  وكنت أعود لأدلقه بشراسة في أرض المغطس . عشرات المرات كررت فيها ذلك الطقس المطهر . عشرات المرات دلقت عنها الماء العقوق حتى عاد بنظري إلى المياه لونها الطاهر الرقراق ، لون البراءة ........
 
  ثم أنهيت حمامي بماء يجلو ماء ......  ثلاث مرات غسلت رأسي ، ثلاث مرات غسلت جسمي ...... كل ما كان من حولي كان يعبق بالسخونة واحتقان عيوني كان يمنع عني الرؤية . كنت أتلمس الأشياء بأحشائي ونبضي وأنجبل معها بكياني كله .
 
  عندما خرجت إلى الغرفة ، كنت لا زلت أشعر بالبلل الكثيف وبالحاجة  إلى التنفس . لبست يومها بيجاما كحلية اللون لم ألبسها من سنين ، ونظرت إلى نفسي في المرآة ووجدت أنني أشبه ختم الحكومة .
 
  على الشرفة ، صرت ألقي بقطع الثياب التي كنت ألبسها على الحبال ، ثم أشبكها بالملاقط ...... أرقبها تتدلى وهي تنزف ماء ....  ولما ابتعدت لأنظر إليها وأنا أهم بالدخول ، تهيأ لي بأنني قد نشرت نفسي على حبل الغسيل .
 
  أصوات مواء هرة  ينبعث من معمل البلاط خلف المبنى . الحارس المراهق يستعين على الوقت ، بتعذيب قطة صغيرة ساقتها إليه الأقدار ، لتسلي ليله الضجر . شاءت هي بأن تتسلل إلى الجرن الكبير الذي يتوسط الباحة ، وشاء هو أن يحبسها فيه بأن يلقي عليها بحصوات صغيرة صائبة ، كلما حاولت الاقتراب من الحافة للخروج من الدائرة . كانت تئن وتجعر بألم ،  كلما مسها منها حجر ..... هو ، كان يستدير من حولها بخفة ومهارة ، ويصوب حصواته بمتعة وبراعة ، أذهلتني ! إلا أن ما أثار عجبي يومها ، هو صوتها المؤثر والمروع ...... كان صوتها ينطق بإشارات غريبة ، وينم عن سطوة جائرة ، تتجاوز حجمها وقوتها بكثير ، حتى خيل إلي بوقتها ، بأنه قد عاد إليها ، تحت وطأة الخوف ، خصال من ذاكرة النمر البعيدة التي لا تزال كامنة فيها  .
 تعبت من النظر إليهما ، وتعبت من وجعي ، وتعبت من انتظار أي أمل جديد يمكنه أن يغير ما أنا فيه ........ علبة الدواء المهدئ لآلام العادة الشهرية كانت في الخزانة الصغيرة التي بجانب السرير ....... أخذتها كلها ، بلعتها على دفعات  ، ثم جلست في السرير ، أنتظر الموت ............
سأتركك الآن عزيزتي ، وسأعود لأحكي لك الفصل الأخير في رسالتي القادمة فإلى اللقاء .
 

11 - أكتوبر - 2007
نون النسوة فى مسيرة الإبداع الفنى والفكرى والأدبى0
 76  77  78  79  80