رواية "البنت التى تبلبلت " ضياء العلى . (13)     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
الفصل العاشر مذكرات (10) أختار غداً ! ..... بالأمس ، رأيته بالصدفة ........ كنت قد مررت إلى المركز ، لأستعيد بعض المراجع التي تلزمني في التحضير للامتحانات ، كنت قد نسيتها هناك . كأنه ليس هو ! صوته جاف ، قاس ، متوحش ........ لم أكلمه إطلاقاً ، كان يتحدث مع الآخرين . حس بالهزيمة ، بالكراهية ، بالرغبة في الهروب ........ الساعة الآن الثانية بعد الظهر ، سأراه عند الثالثة ، لدينا اجتماع دوري سوف أحضره للمرة الأخيرة . حسمت أمري هذه المرة ولن أتراجع . يجب أن أوقف هذه المهزلة بأي ثمن . يجب أن يتوقف كل هذا العبث ولن يكون ذلك إلا على حسابي . لا أريد الاستسلام لهذا الشعور المدمر ، لكن كيف أقاوم ? أنا خلقت هكذا ، كومة من الانفعالات ، فكيف أغير نفسي ? قبل أيام اتصل بي البديل ، فرحت به كثيراً ! كانت هدنة وسعادة حقيقية بأن نلتقي على التلفون لبعض الوقت . تحدثنا مطولاً في كل الأخبار ، وضحكنا .... كنا سعيدين كما طفلان يلعبان لعبة مسلية . فرحت به فعلاً لكن ، ما إن أغلقت سماعة الهاتف حتى عدت إلى حالتي الأصلية . أرتاح لوجودي معه ، ولا أستطيع أن أحبه كما الآخر . أشعر بالذنب نحوه أيضاً . طلب أن يراني من جديد مع أنني لمحت له عن سبب ابتعادي عنه . كيف أوقف هذه المهزلة ? هل سأجد القوة لهذا ? هل سأستطيع ? تحضرني كلمات أحبها للشاعر عبد العزيز المقالح : " طال مخاض الأيام ماذا يخفي البطن المنفوخ ? جبلاً ? فأراً ? ما بين الفأر الواعد والجبل الموعود ما بين الأمس القاتل واليوم المقتول ماذا تختار ? أختارغداً ! " الرسالة العاشرة الطريدة عزيزتي صفاء : عدت إليك عزيزتي ، وسأحكي لك ما جرى في ذلك اليوم الأخير الذي رأيته فيه ، رغم شعوري بأنني قد خيبتك بما فيه الكفاية . أكيد ، بدون شك خيبتك ، كما خيبت نفسي أيضاً ، لكن اصبري واسمعي المزيد ، لعلك تفسري لي ما عجزت عن تفسيره . عندما وصلت إلى مقر الاجتماع ، ورأيته ، شعرت كأنه كان بانتظاري . حالته كانت مزرية تماماً ، بادي القلق والوجوم ، رث الثياب والهيئة ، طويل الذقن ، كأنه لم يستحم منذ أسبوع . جربت أن أتحاشى النظر إليه ، لكي لا أبدي تأثري بمنظره الحزين .......... هي أول مرة أراه فيها على هذا الهندام ....... كنت أراه يختلس النظر إلي من بعيد ، وكنت ألمح في عينيه ، شيئاً من الانكسار ......... في تلك الجلسة ، اختصرت الكلام قدر استطاعتي ، كي لا أقول أكثر مما ينبغي ، وكي لا تفضحني نبرة صوتي المترددة . لساني لم ينطق بالكثير ، لكن عيوني لا بد كانت تتكلم ، ........ هيهات لمن كان مثلي أن يعرف كيف يخفي عواطفه . هذا تعرفينه عني ولا داعي لأن أشرحه له لأنك تعرفين أيضاً بأن لا سلطة لي عليه . بعد انتهاء الاجتماع ، لملمت أوراقي ، وكنت قد حزمت أمري . سلمتهم دفتر محاضر الخلية ، ودفاتر الحلقات التي كنت أشرف عليها ، وأعداد المجلة المتبقية عندي ، وكنت قد أعلنت خلال الاجتماع عن تعليق عضويتي لفترة لم أحددها . لم يناقشني أحد . كان ذلك متوقعاً منذ وقت طويل، وقد دار حوله بعض النقاش سابقاً وكان منتظراً . توجهت بعدها إلى الباب الخارجي أريد الانصراف . كنت قد فهمت بمجرد أن وقع نظري عليه ، أن أية مواجهة بيننا لن تكون مجدية بعد اليوم ، فهو يبدو مقراً بذنبه ومستسلما سلفاً . ووجدته يلحق بي ويستوقفني عند الباب الخارجي ، ليسألني عن أوراق الجامعة ، وإذا كانت لا تزال معي ? ـ " رميتها ! " قلت بقسوة ، و بدون أن ألتفت . انتظرت الجواب خلف ظهري . لا شيء ، لا جواب . كنت قد تخيلت هذا الموقف ، مرات كثيرة في رأسي الصغيرة ، وتخيلت ردات فعله بكل الوجوه : توقعت أن يزعل ، أو أن يثور، أو أن يتعجب ، أو حتى أن يسألني " لماذا رميتها ? " . لكن لا شيء ، لا ردة فعل ......... ضاعت منه امتحانات هذه السنة ، وسيتكلف الكثير من المشقة لاستبدال الأوراق المفقودة ، ومع هذا لا يبدو أن الموضوع يهمه من قريب ولا من بعيد . سيان ! كنت أهم بالانصراف من جديد عندما سمعته يقول باستسلام : ـ " منشوف شو منعمل !" انصرفت ، بدون التفات ، وبدون تعليق ، فأنا أيضاً نسيت كل هذا ، أنا أيضاً الأمر عندي سيان ، ولم يعد يهمني شعوره أو ردة فعله حيال الموضوع . نسيت انتقامي الصغير ، ونسيت كل التفاصيل الأخرى ... رؤيتي له على هذه الهيئة أنستني حقدي كله ، بل .... يبدو أن شعوري بدأ يميل إلى الصفح والرحمة ! كدت أنسى عذابي كله لما رأيته متألماً ............ استعجلت بالهروب قبل أن تفضحني عيوني لأنني في عمقي ، صرت أتمنى لو كان باستطاعتي أن أحضن رأسه بين ضلوعي وأن أمسح بيدي عليها لعلي أخفف عنه بعض آلامه ............. ستقولين " مجنونة ! " . بلى ! هو كذلك ، عزيزتي ، لكنها الحقيقة ! عندما صرت أهبط الدرج ، شعرت به من ورائي يتبعني ، لكنني تجاهلته ولم ألتفت . صرت أمشي في الطريق نحو البيت دون أن أستدير خلفي ، وظل ورائي يتبعني . قطعت ساحة الكورة نحو ساحة التل ، ثم توجهت نزولاً نحو مبنى البلدية ، وأنا لا أزال أشعر بخطواته خلف ظهري ........... صرت أحث السير أريد أن أبتعد وكأنني فعلاً ملاحقة ......... كأنني أهرب ??? قلبي صار يخفق بشدة ، فهل أنا فعلاً مطاردة ? ............. هذا الشعور الغريزي بالخوف يبدو لي اليوم غريباً ولا أجد له مبرراً إلا في كونه شعور الطريدة الذي يستيقظ فينا لمجرد توفر الشرط المنبه له ........ انفعالي كان شديداً وبالكاد كنت أحبس دموعاً تريد أن تطفر من عيوني . كان كلما اقترب بخطواته نحوي ، كلما ازدادت نبضات قلبي خفقاناً ، والخوف مني تملكاً ، حتى كاد يشلني . خطواته ، كانت تغير علي كما غزو المغول ، وفي داخلي ريح صرصر تبلبلني ، وتحيلني إلى بعثرتي الأولى . إرادتي ، صارت موزعة بما يشبه الانشطار : رغبتان عرفتهما بالفطرة الأولى، ودون أن أضيف إليهما شيئاً من تجارب التاريخ الطويل ....... غريزتان متضادتان تتصارعان في داخلي بما يشبه ارتطام النو بالموج الهائج ...... في لحظة اقتتال الأضداد الطاحنة هذه ، يغيب العقل تماماً ، ونعود إلى خطوات وجودنا الأولى وكأننا لا زلنا حيوانا يسكن في العراء .......... رغبتان لا زالتا تتقدان في نفسي منذ عصر ما قبل التاريخ وتؤججان فيها حمى الإنشطار ، واحدة للحياة وأخرى للموت . ذاكرة الوجع الأولى استيقظت ، وأعادت غرس بذور الدمار السحيق ....................... شيء ما كان يدفعني للتمرد ، للانقضاض ، للمواجهة . كأن أقف في وسط الطريق ، دون خوف ، دون حياء ، أن أنتصب أمامه بقوة وعزم ، أن أصرخ في وجهه بكل ما أوتيت من شراسة : " ماذا تريد مني بعد الآن ? ألا يكفيك كل ما حدث ? ابتعد عن طريقي فأنا لا أريد أن أرى لك وجهاً بعد اليوم . " أن أصب جام حقدي وغضبي كله فوق رأسه . أن أحرق كل أمل عنده في أن يراني أو أن يقترب مني بعد الآن . أن أفرغ شحنتي العصبية المدمرة كلها عليه لتصعقه كالصاعقة ، وربما بالمرة أردته قتيلاً ، فأرتاح ........... لكن رغبة أخرى كانت توازيها ارتفاعاً كانت تدفع بي نحو الاستسلام . كنت أتمنى لو ألتفت إليه ، أن أراه أمامي صامداً كالجبل الكبير ، ملجأي ومثواي ......... أن أرتمي بين ذراعيه مرة أولى وأخيرة .... سأبكي كثيراً وأتضرع وربما أذوب من البكاء ، وأختفي كلية ، فلا يعود يبقى مني أثر ليحلم ، أو يتألم ، أو لتسكنه الهواجس ......... لا يعود بي أثر للحياة ، أو جسد مهترئ أعود به إلى البيت . في هذه اللحظة التي كنت فيها الطريدة ، كنت أتمنى بأن أختفي عن العالم ! كنا قد أصبحنا بقرب الإطفائية وبجانب مدرستي التي تربيت فيها ... ولحظتها ، شعرت بيد الصياد تطبق بقوة على معصمي ، وتشد عليه بتوسل : ـ " اسمعيني "سيرة " ، يجب أن أقول لك شيئاً ، أعطيني خمس دقائق ... " كان الصوت متضرعاً ، متهدجاً وعلى حافة البكاء أيضاً . أين ذهب الصياد ? سألت نفسي . هذه نبرة آدمي قلت في روحي وأنا أنتزع يدي من يده بعنف وأقول : ـ " لا أريد أن أعرف شيئاً ، لم يعد هناك أي لزوم لذلك . " ـ " تعالي معي لعند " كميل " ، سنتكلم هناك . أعطيني عشر دقائق فقط ، أريدك أن تعرفي شيئاً مهماً ، عشر دقائق فقط ولن تتأخري أكثر ... " أعتقد بأنني أعرف كل ما سوف يقوله ! ما هم ما سوف يقوله بلحظتها ? البيت خال ، وصديقه مسافر ........ سيقول أشياء تريحني ، تمسح الدمع من عيني لحظة . مجرد أن أقبل بالذهاب معه معناه أنني أعطيه فرصة جديدة . معناه أن أقبل كل الوضع الذي أعرفه والذي سأكون فيه الضحية . بلحظتها سوف أنسى كل شيء : كل الإهانات والحماقات وكرامتي الجريحة وحتى المستقبل الكالح الذي سوف ينتظرني سوف أنساه ، ولن أتذكر إلا أنني أحبه وبحاجة إليه ، وأنني تعبت من كل هذا وأريد أن أرتاح من عنادي بأي ثمن ........ أية قوة في العالم ستمنعني عنه ، وتمنعه عني لو التقينا بلحظتها ? سيكون انتصار الطبيعة فينا أقوى وأبلغ من أي كلام . أية إرادة سوف تقاوم بلحظتها كل هذا الجوع الذي راكمناه ، واحدنا للآخر ، حتى صار يعوي فينا كما الذئاب الجارحة ? ستكون بدون شك ، دقائق إلهية ! أحلق فيها بين النجوم وأرتقي السماء السابعة بومضة عين . ثم ، أهوي بعدها إلى قعر الهاوية ........... هي لحظة واحدة ، كانت كافية لإرسالي إلى الحضيض . كان يجب أن أذعن مرة واحدة وأخيرة ، لتكون السعادة ملك يدي ، لحين ...,... ثم يكون الشقاء من نصيبي ، وللعمر كله . لو قلت : " نعم " ، وقتها لعبرت نهائياً إلى الضفة الأخرى وبلغت نقطة اللا رجوع . لكنني لم أفعل . لا أعرف كيف أوتيت كل هذا العناد والإصرار . لا أعرف كيف فكرت بكل هذا ، ودفعة واحدة . هل أنا فكرت فعلاً ? هل أنا قررت فعلاً ? لا ، لا أعتقد ، عزيزتي ، بل أظنه الخوف هو من فكر عني ، وقرر عني . الخوف الذي لم تزعزعه الأفكار ولا النظريات ولا تغيرات الظروف . الخوف الذي دجنا به غريزتنا ، تماماً ، كما دجنا الجمال ........ أذكر بأنني انتزعت يدي من يده ، ومشيت نحو بيتنا ! لم ألتفت ورائي أبداً . صرت أبتعد عن مكان موتي ، والخطوات على دربي تتعثر ، وتتطاوح ...... القلب كسير ، والعين حبلى بالدموع ، كأنني كنت أسير في جنازتي . في ذلك اليوم ، كنت أنا الشهيد الذي لم يمت ! لم يحملوني على الأكتاف ، ولم يزغرد لي أحد ، إلا أنه في ذلك الوقت الذي كادت تغيب عنه الشمس ، جريمة ما كانت قد وقعت ، وكنت فيها القاتل ، وكنت المقتول .......... أستمحيك عذراً ، صفاء ، إلا أنني سأذهب . سأرتاح طويلاً لكي أستعيد هدوئي ، لكنني سوف أعود . لا بد أن أعود لأكمل لك ما بدأناه ، فانتظريني . إلى اللقاء . |