آثار كن أول من يقيّم
إخوتي وأخواتي وأحبتي وأصدقائي اسعد الله مساءكم جميعاً بكل الخير :
آلمني نبأ موت محمود درويش الذي لم يسعفه قلبه الشاعر على العيش لمدة اطول ، فكان أن عبر إلى الجهة الأخرى مخلفاً وراءه عالمنا المتداعي والمتهافت من حولنا كقصر من الرمال . عافاك الله يا عبد الحفيظ ، يا من نذرتك أمك للحياة بقلب مرهف ، وإحساس متوقد .
عدت منذ أيام قليلة ولم أجد الوقت بعد إلا للحزن . طاردتني أنباء الموت المعبأ في أكياس وحقائب فتملكني منها ذلك الاحساس المدمر الذي أعاد إلى ذاكرتي صورة هذا الكابوس :
امرأة مستلقية على جانبها الأيسر ، تنثني مطوقة كالحمامة وهي تغمض عينيها باستسلام ظاهر . تغلقهما وكأنها تحاول ان تخفي بداخلهما ما يشي بتلك المرارة التي قرضت روحها . تلك المرأة كانت ميتة منذ زمن طويل لكن وجهها كان مسترخياً وكأنها غارقة في النوم . رؤية تلك المرأة صعقتني : كانت تشبهني تماماً !
على يمين المرأة الميتة في تلك الغرفة التي انخفض سقفها وضاقت جدرانها ، كان هناك فراش صغير يجلس فيه شاب في مقتبل العمر ماداً رجليه باتجاه الباب ومن خلفه كوة صغيرة ، وبقربه شمعة تفصل بينه وبين المرأة الميتة . كان يحمل بيديه أوراقاً يكتب عليها دون أن ينشغل بسواها . كان يعتمر عمامة خضراء .
الساحة التي توجد في الخارج ، كانت غبراء تحيط بها جدران قد خاب لونها . والرجل البدين المتوسط القامة الذي كان يجوب الساحة وهو يرتدي بذلة عسكرية تضيق عليه خصوصاً عند البطن، كان شيئاً من العسكر. كان يتكلم بصوت مرتفع ، وكان شارباه السوداوان يتحركان باستمرار وهو يردد كلمات جوفاء ذات رنين أجوف ، وكان لا يكف عن الإيماء بيده دالاً على معالم المكان . كانت الكلمات تتساقط في أذني فوق سابقاتها ودون أن توقظني من غفلتي قرقعة تلك الكلمات .
دفة الباب التي كانت تفصل الساحة عن جدران الغرفة الواطئة ، حيث المرأة الميتة والشاب المعتمر ، كان قد كتب عليها رموز وإشارات . ألتفت إلى دليلي العسكري الذي أخذ يستعرضها لي فخوراً ، ويشرح لي دلالاتها . كنت أقرأ : " يعيش ... يحيا ... " وأنا أنقل بصري بين الغرفة الضيقة ، والساحة الغبراء . وميض عينيه الحاد كان يقول لي بأنني متفرجة في معرض للآثار .
|