لم يكن أحد في استقبالي، وإن كنت أعرف مقصدي. سألت عن قصر الأستاذ أبي المسك كافور(4)، فأبدى الناس عجبهم، وإن أشاروا بعبور شوارع وأخطاط (5)وأبواب كي أصل إلى القصر المنشود.
حرصت على ركوب الحصان. حرصت على الأمر نفسه لأتباعي : ولدي محسد، وتابعي مسعود، وقلة من الخدم والعبيد، حتى لا نبدو في الأعين كالآلاف من السابلة العامة ذوي المهن الحقيرة.
أمرت، فأحسن الخدم اختيار جوادي وطهمته وكسوته، فبدا مليحا يسر الناظرين. مشاعر الاعتزاز تمور في داخلي للنظرات المتطلعة المشوبة بالإعجاب. تتقلص يداي على المقود، وأطمئن إلى الأتباع والأمتعة في جياد أخرى خلفي. لا يعرفون أبا الطيب وإن حسدوا عظمة هذا الوافد، تبين نظراته المتطلعة عن غربته.
*****
كأنما العرب خلقوا للأحقاد: سيف الدولة(6) يهبني لكافور بسوء تدبيره وقلة تمييزه.(7) خلفت في الشام أبا فراس(8) وأبا الحسين الناشئ(9) وأبا القاسم الزاهي (10)وأبا العباس النامي (11)وغيرهم عشرات ،بذلوا المداهنة والملق، والقصائد التي تخفض ولا ترفع. أحكموا المكائد والمؤامرات، فبات سيف الدولة غضبا خالصا. قررت أن أترك لهم الجمل بما حمل، فأهجر الشام إلى بلاد أخرى غيرها من بلاد العرب.
ناقشت أصحابي : أي بلاد نتجه إليها ? اختاروا العراق0 واخترت مصر 0لم يكن اختيارى وليد اللحظة ولامصادفة 0أسرفت –فى قصائدى – فى النيل من معز الدولة ،والنيل من الخليفة نفسه0أهملت الحيطة والحذر ،فرميت ناس العراق بالجبن والخوف وغلبة الشهوات0باتت الطريق إلى بغداد- من يومها- غير ممهدة امأمونة 0زاد رسل الفسطاط0تعددت زياراتهم إلى حلب ضمنوا حماية الإخشيدى ،ولوحوا بالأمل الذى كنت أتوق00000(12)
____
(4) يقول صاحب الصبح المنبى عن حيثية المتنبى ص110-111 (وكافور هذا عبد أسود خصي مثقوب الشفة السفلى بطين قبيح القدمين ثقيل البدن لا فرق بينه وبين الأمة، وقد سئل عنه بعض بني هلال فقال رأيت أمة سوداء تأمر وتنهي، وكان هذا الأسود لقوم من أهل مصر يعرفون ببني عياش يستخدمونه في مصالح السوق، وكان ابن عياش يربط في رأسه حبلا إذا أراد النوم فإذا أراد منه حاجة جذبه بالحبل لأنه لم يكن ينتبه بالصياح، وكان غلمان ابن طغج يصفعونه في الأسواق كلما رأوه فيضحك فقالوا هذا الأسود خفيف الروح، وكلموا صاحبه في بيعه فوهبه لهم، فأقاموه على وظيفة الخدمة، ومات سيده أبو بكر بن طغج وولده صغير، وتقيد الأسود بخدمته وأخذته البيعة لولد سيده، وتفرد الأسود بخدمته وخدمة والدته، فقرب من شاء وبعد من شاء فنظر الناس إليه من صغر هممهم، وخسة أنفسهم، فسابقوا إلى التقرب إليه، وسعى بعضهم ببعض حتى صار الرجل لا يأمن أهل داره على أسراره، وصار كل عبد بمصر يرى أنه خير من سيده، ثم ملك الأمر على ابن سيده وأمر ألا يكلمه أحد من مماليك أبيه، ومن كلمة أتلفه، فلما كبر ابن سيده وتبين ما هو فيه جعل يبوح بما هو في نفسه في بعض الأوقات على الشراب ففزع الأسود منه، وسقاه سما فقتله، وخلت مصر له "
(5) أخطاط: مفردها "خط"،وهى الحارة 0وكانت هذه هى التسمية إلى انشاء القاهرة0
(6)سيف الدولة الحمدانى :صاحب حلب0خاض الكثير من الحروب والمعارك ،واشتهر برعايته للعديد من الأدباء والعلماء،كالمتنبى وأبى فراس والفارابى 0وقد قدم إليه الأصبهانى كتاب الأغانى 0
(7) تتفق غالبية الروايات فى أن سبب مفارقة المتنبى سيف الدولة ورحيله إلى مصر ،هو انصات سيف الدولة لمن يوغرون صدره ضد المتنبى ،حتى كان يسرف فى قسوته عليه أحيانا0
(8)أبو فراس :ابن عم سيف الدولة 0يعد من أشهر مشاهير عصره فى الشجاعة والكرم وجودة الشعر 0وقال الصاحب بن عباد:بدىء الشعر بملك يعنى إمرأ القيس)وختم بملك(يعنى أبا فراس)0مات قتيلا فى 257هجرية0
(9)أبو الحسين الناشىء :شاعر مجيد من أهل بغداد0له قصائد كثيرة فى أهل البيت0وكان من الشعراء المقربين إلى سيف الدولة 0
(10)أبو القاسم الزاهى :من أهل بغداد 0كان من أشهر شعراء عصره 0أكثر قصائده فى مدح آل البيت ،ون كتب مدائح فى سيف الدولة والوزير المهلبى وغيرهما 0
(11) أبو العباس النامى :هو أبو العباس أحمد بن محمد الدرامى المعروف بالنامى 0من أعظم شعراء عصره0كان قريبا من سيف الدولة 0وقيل أنه كان يلى المتنبى فى المنزلة 0توفى سنة 370هجرية0
(12)هكذا بياض فى الأصل0
**********************************
ويواصل محمد جبريل الرحلة مع المتنبى ، عارضا هذه الأوراق ، ومحاولا وبقدر الإمكان أن يستلهم مفردات الماضى البعيد ،وأن يوهم القارىء بصدق أوراقه 0