البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات د يحيى مصري

 66  67  68  69  70 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
حلب الشهباء7    كن أول من يقيّم

واشتهر في حلب، في تلك المرحلة أيضاً "مصطفى المعضم" الذي عاش مئة سنة 1829-1929م وكان موسيقياً بارعاً، أخذ عن مصطفى البشْنَك، كما كان هو أستاذاً لعمر البطش(14).
 
ومن الموسيقيين الحلبيين الذين طبقت شهرتهم الآفاق، رجال من أسرة "الشوا" نبغوا في العزف على بعض الآلات الموسيقية ولا سيما الكمان، وأولهم "عبود الشوا" الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأخوه " أنطون الشّوا المتوفى سنة 1914م، وقد لقب بأمير الكمان، واشتهر في الوطن العربي ولا سيما مصر التي أقام فيها زمناً. وكان لأنطون ثلاثة أولاد موسيقيين هم: سامي، وعبد الكريم، وفاضل، وأبرعهم "سامي" الذي لم يكن في زمانه عازف على الكمان أمهر منه. وقد نزح إلى مصر وتوفي فيها سنة 1996م عن عمر يناهز الحادية والثمانين(15).
 
ونذكر أيضاً موسيقياً آخر هو "كميل شمير" العازف المشهور على البيانو، والملحن الذي صنع كثيراً من الألحان المسرحية والأوبريتات. وقد توفي سنة 1934م ولم يتجاوز الثانية والأربعين من عمره(16)، وكان لوفاته رنة حزنٍ وأسى، وقد رثاه صديقه الشاعر عمر أبو ريشة بقصيدة طويلة عنوانها "مصرع الفنان"، وأولها:
 
نام عن كأسه وعن أحبابهْ
 
        قبل أن ينقضي نهارُ شبابهْ
 
بسماتُ الرضى على شفتيه        
 
        وشتاتُ الرؤى على أهدابه
 
وبناتُ الغروب تسكب في أُذنيه  
 
        أصداءَ عودِه وربَابهِ(17)
 
ويلاحظ أن بعض أولئك الموسيقيين والملحنين قد عمروا، أو امتد بهم الأجل إلى القرن العشرين، الذي شهد كوكبة أخرى رفعت لواء الفن، وتابعت هذه المسيرة الأصيلة وكأنها تريد أن يبقى لحلب طابعها المتألق، وعراقتها الراسخة، وهويتها المتميزة، التي دفعت عدداً من أقطاب هذا الفن في مصر إلى أن يزوروا حلب في العقدين: الأول والثاني من القرن العشرين، ويتأثروا جداً بالموسيقا الحلبية وأنغامها، وبقدودها وموشحاتها، وعلى رأسهم الشيخ سلامة حجازي، وسيد درويش. بل إن هذا التأثر امتد بقوته إلى أعلام آخرين في مصر، مثل عبده الحمولي مجدد شباب الغناء العربي، فقد كان حسن الصوت جداً، وتصرف بصناعته تصرفاً عجيباً حتى عد من أصحاب الابتداع والاختراع في هذا الفن، بعد أن تأثر بالطريقة الحلبية التي نقلها إلى مصر بعض الحلبيين من قبل، في المئة الأولى بعد الألف للهجرة، وتلقاها عنهم بعض المحترفين من المصريين، ونخص بالذكر رجلاً حلبياً اسمه "شاكر أفندي" الذي نقل إلى القاهرة عدة تواشيح مع بعض القدود حيث كان فن الألحان مجهولاً هناك في تلك الحقبة(18).

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء8    كن أول من يقيّم

ولابد من الإشارة في هذا المقام إلى أن الفن الحلبي قد تطعم بالموسيقا التركية في التطوير وإحكام الصناعة، لأن حلب أقرب البلاد العربية إلى تركيا، ولأن الأتراك قد عنوا منذ منتصف القرن التاسع عشر بالموسيقا عنايةً علميةً وطيدة الأركان، فأسسوا معهداً رسمياً للموسيقا في استنبول اسمه "دار الألحان"، ولكن ذلك لم يمنع أن يكون لحلب أسلوب خاص في التلحين والموسيقا انفردت به وحدها دون سائر الأقطار العربية(19).
 
أما أعلام الموسيقا في حلب، في النصف الأول من القرن العشرين، فعددهم كثير، ويحتاجون إلى بحثٍ خاص يُفرد لهم، ونكتفي منهم بذكر عمر البطش، وعلي الدرويش، وأحمد الأبري، وتوفيق الصباغ، وأحمد الفقش، ومجدي العقيلي، وأعقبهم، بل واصل العمل معهم وبعدهم حتى اليوم، سلسلة متصلة من البارعين في التلحين والتوشيح، والأدوار والقدود وفي علم النغمة والإيقاع، من أمثال عبد القادر حجار، ومحمد خيري، ومصطفى ماهر، وأحمد نهاد العزا، وهاشم قصة، وفؤاد رجائي وصبري مذلل، وصباح فخري، وعبد الرحمن جبقجي، ومحي الدين أحمد، وقدري دلال وعمر سرميني وماجد العمري وغيرهم.
 
ذلك كله، على إيجازه واختصاره، قوي الدلالة على رسوخ مدينة حلب في حلبتي الفن والأدب معاً، تذكر معهما ويذكران معها، في القديم والحديث، وعلى ألسنة الباحثين والمؤرخين، وأقلام الأدباء والشعراء. في المشرق والمغرب، وفي الوطن والمهجر. ونسوق هنا شاهداً واحداً من قصيدة رائعة ألقاها الشاعر المهجري "زكي قنصل" في حلب سنة 1986 واستمعنا إليه يؤمئذ وهو ينشدها، نشوان طرباً، ومطلعها:
 
ناجيتُ طيفكِ، في الأحلام، يا حلب     
 
        فهزني في هواكِ الزهو والطربُ
 
وفيها يقول مخاطباً أبناء حلب:
 
لم أدر لما أحاطتني بشاشتكم *** كيف اقتفتْ أثري الأزهارُ والشُّهب
 
ورنّ في أذني، لما سمعتكمُ، *** هديل "سامي" فأين العود والقصبُ؟
 
ولاح لي "عمرٌ" في كل قافية *** قطَّرْتموها رحيقاً للألى شربوا(20)
 
حلفتُ لولا هوى شاميةٍ نزلت *** هُدْبي، وتحسُدكَ الأهدابُ يا هُدُبُ
 
لقلتُ: تيهوا على الدنيا بجنّتكم *** فقد تواءمَ فيها الفنّ والأدب
 
وختم زكي قنصل قصيدته بقوله:
 
ولدتُ بالأمس في بيتي وعائلتي    
 
        واليومَ أولدُ حيث المجدُ والأدبُ

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء9    كن أول من يقيّم

أجل، إن حلب مدينة المجد والأدب قبلاً، ومدينة الفن والأدب من بعد، وسجلها حافل بالأعلام البارزين في هذا وذاك، كما أن لهذه المدينة مكانةً خاصة في شعرنا العربي، على توالي العصور، فكم تغنى بها الشعراء، وفتنوا بجمال طبيعتها، وطيب هوائها، ومجالي حسنها، هي ومتنزهاتها المحيطة بها.
 
ومن الشعراء القدامى الذين كان لحلب في شعرهم نصيبٌ واضح، "البحتري" شاعرٌ "منبج"، القريبة من حلب، وصاحبُ "علوة" الحلبية التي ذكرها في شعره كثيراً، وكانت من أشهر المغنيات في حلب. ومن ذلك قوله:
 
أقام كلُّ مُلثِ الوَدْق رجّاس     
 
        على ديارٍ بعُلْوِ "الشام" أدراسِ
 
فيها لعلوةَ مصطاف ومرتبَعٌ       
 
        من "بانَقُوسا" و"بابِلَّى" و"بطْياس"
 
منازلٌ أنكرتنا بعد معرفةٍ    
 
        وأوحشتْ من هوانا بعدَ إيناسِ
 
هل من سبيلٍ إلى الظُهران من "حلبٍ"  
 
        ونشوةٍ بين ذاك الوردِ والآسِ؟(21)
 
ويكثر شعراء حلب، أو الوافدون عليها أيامَ سيف الدولة وازدهار مجالسه الأدبية، ويقترن في أشعارهم ذكر حلب بسيف الدولة مرةً، ويستقل عنه أخرى. فالمتنبي أقام في حلب تسع سنوات في كنف الأمير الحمداني، وذكرها في شعره مراراً، لكن أشهر ما قاله فيها بعد مغادرته إياها، وهو بالكوفة، قصيدةٌ بعث بها إلى سيف الدولة يمدحه ويشيد ببطولاته أمام الروم، إثر دعوةٍ تلقاها من الأمير، بعد مفارقة المتنبي لكافور سنة 352ه، ومن تلك القصيدة قوله:
 
وكثيرٌ من السؤالِ اشتياقٌ *** وكثيرٌ من رده تعليلُ
 
لا أقمنا على مكانٍ، وإن طاب، ولا يمكن المكان الرحيلُ
 
كلما رحبت بنا الروض قلنا *** حلبٌ قصدُنا، وأنتِ السبيلُ
 
فيكِ مرعى جيادنا والمطايا، *** وإليها وجيفُنا والذميل(22)

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء10    كن أول من يقيّم

وعندما بنى سيف الدولة سور حلب، وقام بعمارته، قال شاعره "السري الرفاء" يذكر ذلك ويشيد به:
 
إن تَعْمُرِ السورَ، أو تُهملْ عمارتَه *** فإنه بكَ-ما عُمرت-معموُر
 
لله سورٌ على الأيام يكلؤُه *** وأنتَ لا شك، فيه، ذلك السور
 
حميته برماح الخطّ مُشْرَعةً *** وكلُّ حِصنٍ، سوى أطرافها، زُور(23)
 
وآخرُ من شعراء سيف الدولة-وهو كُشاجِمُ الرّملي-وصف في إحدى قصائده جمال الطبيعة في حلب، ومتنزهاتها، وما تركته يدُ الغيث فيها من آثار تجلت في ما صاغه بطنُ الأرض لظهرها من أنواع النبات، ولا سيما النرجس وشقائق النعمان، ونهر قويق يتهادى في مسيره (يومئذ) ويمد الأنجاد والوهاد بفيض مياهه، والسحائب تسكب أمطارها فتحيي الأرض بعد مواتها. يقول كشاجم:
 
أرتكَ يد الغيث آثارها *** وأعلنت الأرض أسرارها
 
فما تقع العينُ إلا على *** رياضٍ تُصنِف نُوّارَها
 
يفتح فيها نسيمُ الصبا *** جناها، فيهتِكُ أستارها
 
ويسفح فيها دماءَ الشقيق *** إذا ظلّ يفتضّ أبكارها
 
تُغَضّ لنرجسها أعينٌ *** وطوراً تحدّق أبصارَها
 
وما أمتعتْ جارها بلدةٌ *** كما أمتعتْ حلبٌ جارها
 
هي الخلد، تجمع ما تشتهي *** فزُرها، فطوبى لمن زارها
 
إذا ما استمدّ "قويق" السما *** بها-فأمدّته-أمطارها
 
وأقبلَ ينظم أنجادها *** بفيض المياهِ، وأغوارها
 
ودار بأكنافها دورةً، *** ينسي الأوائل تذكارها(24)

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء11    كن أول من يقيّم

 
على أن صورة حلب، بمرابعها الخضر، وطبيعتها الأخاذة، وقلعتها الشامخة، لا تتجلى في شعر أي شاعرٍ تجليها في قصائد أبي بكرٍ الصنوبري، شاعر الرياض والبساتين، والذي أغرم بالطبيعة غراماً عجيباً لا نجده عند غيره.
 
وقد أطلق على قصائده اسم "الروضيات" لكثرتها في ديوانه الذي يبدو وكأنه بستان تتمايل أغصانه بالثمر، وتهتز نباتاته بالنور والزهر.
 
وقد وصف حلب وبساتينها ومتنزهاتها ونباتاتها ومياهها وقنواتها، وأطال النظر في قلعتها ومسجدها الجامع، وأثنى على أهلها وكرم أرومتهم.
 
ولم يكتف بذلك كله، بل عرج على قراها وضواحيها وسماها بأسمائها مثل: بانقوسا، وبابلى "باب الله" والحوش، والراموسة، وبركة التل، وغيرها. وله في ذلك قصائد ومقطعات كثيرة، أطولها قصيدة تقع في 104 أبيات أعجب بها ياقوت الحموي، فأوردها كلها في كتابه "معجم البلدان" مستغنياً بها عن غيرها، وقد مهّد ياقوت لها بقوله عن حلب: "وقد أكثر الشعراء من ذكرها، ووصفها، والحنين إليها، وأن أقتنع من ذلك بقصيدةٍ لأبي بكر (محمد بن الحسن بن مرار) الصنوبري، وقد أجاد فيها، ووصف متنزهاتها وقُراها القريبة منها.." ومطلعها:
 
احبسا العيس احباسها *** وسلا الدار سلاها
 
واسألا: أين ظباءُ ال- *** دار، أم أين مهاها
 
ومنها قوله:
 
بانقوساها، بها باهى المُباهي حين باهى
 
وبباصَفْرا، وبابلى رنا مثلي، وتاها
 
بين نهرٍ وقناةٍ قد تلته، وتلاها
 
ومجاري برَكٍ، يجلو همومي مجتلاها
 
*
 
حلبٌ بدرُ دُجىً، أنجمُها الزُهْرُ قُراها
 
حبذا جامعُها الجامعُ للنفس تُقاها
 
ومراقي منبرٍ، أعظمُ شيءٍ مُرتقاها
 
وذُرى مئذنةٍ طالت، ذُرى النجم ذُراها
 
أنا أحمي حلباً داراً، وأحمي مَن حَماها
 
أيُّ حُسٍن، ما حوَتْه حلبٌ، أو ما حواها
 
سَرْوها الداني كما تدنو فتاةٌ من فتاها
 
آسُها الثاني القُدودَ الهيفَ، لما أنْ ثناها
 
نخلُها، زيتونها، أوْ لا، فأرطاها، غضاها
 
*
 
فاخري، يا حلبُ المُدْنَ، يَزدْ جاهُكِ جاها
 
إنه إن تكن المُدْنُ رخاخاً، كنتِ شاها(25)

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء12    كن أول من يقيّم

وتتوالى السّنون، وتبقى لحلب مكانتها في نفوس الأدباء والشعراء، وكل منهم يُشيد بها، ويعلي من قدرها، ويقدس ترابها ويتحدث عن نهرها "قويق" أيام كان له شأن يذكر. فهذا أبو العلاء المعري يقول:
 
يا شاكيَ النُّوَب، انهض طالباً حلباً        
 
        نهوض مُضنىً، لحسْم الداء ملتمس
 
واخلع حذاءك، إن حاذَيْتَها، ورَعاً 
 
        كنعل موسى، كليم الله، في القُدس(26)
 
ويقول في قصيدة أخرى، مكبراً من شأن حلب ونهر قويق:
 
حلبٌ للوليّ جنّةُ عدْنٍ       
 
        وهي للغادرينَ نارُ سعيرِ
 
والعظيمُ العظيمُ يكبرُ في عَيْ     
 
        نَيْهِ منها قَدْرُ الصغيرِ الصغيرِ
 
"فقُويقٌ" في أعْيُن القوم بحرٌ        
 
        وحصاةٌ منه نظيرُ "ثبير"(27)
 
وقد ينزل شاعرٌ في مدينة حلب ويطوف في جنباتها، ويمتع طرفه بمحاس طبيعتها، ويجد الأنس في صحبة أهلها ومعاشرتهم، ثم يغادرها بعد مدة عائداً إلى وطنه، وكان بوده لو يطيل المكث فيها، فتعمرُ نفسه بأطيب الذكريات، ويدعو للمدينة وأهلها بالخصب والخير العميم. وهذا ما يتبين لنا من قصيدة للشاعر محمد بن سليمان التلمساني، المعروف بالشاب الظريف، ويقال له أيضاً "ابن العفيف" وهو من شعراء العصر المملوكي، توفي سنة 688ه- / 289م. ومطلع قصيدته:
 
لا غَرْوَ، إن هزّ عِطْفي نحوكَ الطربُ      
 
        قد قام حسنُكَ عن عذري بما يجبُ
 
وقد ختمها بهذه الأبيات الأربعة الجميلة، يدعو فيها لحلب بالسقيا وقد ملأ نفسه ما آنسه لدى سكانها من جُودٍ وحسبٍ ومودةّ خالصة:
 
أقول، والبارقُ العلويّ مبتسم     
 
        والرّيح معتلّةٌ، والغيث منسكبُ:
 
إذا سقى حلبٌ من مُزنِ غاديةٍ     
 
        أرضاً، فخصَّتْ بأوفى قَطْرِه "حلبُ"
 
أرضٌ، إذا قلتَ: مَن سكانُ أربعها؟      
 
        أجابك الأشرفانِ: الجودُ والحسَبُ
 
قومٌ، إذا زُرتَهم أصفَوْكَ ودَّهمُ،  
 
        كأنما لك أمٌّ، منهمُ، وأبُ(28)

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء13    كن أول من يقيّم

 
وربما أرسل الشاعر التحية، من بُعدٍ، إلى حلب، مفضلاً إياها على سائر المدن، حتى دمشق، ونهرها على سائر الأنهار، حتى بردى، ودجلةَ والنيل. وكذلك يكون الشوقُ والحنين إذا استبدا بالنفس، وأخذا بمجامع الفؤاد. وهذا ما نقرؤه في قول أبي نصر الخُضري الحلبي:
 
يا حلباً، حُييت من مصرِ *** وجاد مغناكِ حيا القطرْ
 
أصبحتُ في "جلّقَ حَرّانَ من *** وجدٍ إلى مربعك النضْر
 
ما بردى عندي، ولا دجلةٌ *** ولا مجاري النيل من مصر
 
أحسنُ مرأىً من قُويقٍ إذا *** أقبلَ في المدّ وفي الجزْر
 
يا أسفا منه على جرعةٍ *** تبلّ مني غُلّة الصدر(29)
 
وفي قول أبي العباس الصفدي متشوقاً إلى حلب وهو بدمشق:
 
من مبلغ "حلبَ" السلامَ مضاعفاً *** من مغرمٍ في ذاك أعظمُ حاجهِ
 
أضحى مقيماً في دمشق، يرى بها *** عذْبَ الشراب، من الأسى، كأجاجه(30)
 
أما قلعة حلب فقد كتب عنها ووصفها عددٌ من الرحالة الجغرافيين العرب، ونكتفي من كتاباتهم بما قاله ابن جبير حين زار حلب:
 
"لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانةً أن تُرام أو تستطاع. قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة، منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبةِ اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تقديرها وتدبيرها، وأبدع-كيف شاء-تصويرها وتدويرها عتيقة في الأزل حديثة وإن لم تزل، قد طاولت الأيام والأعوام، وشيعت الخواصّ والعوامّ".
 
وقال فيها الأخوان الخالديان، وهما من شعراء سيف الدولة:
 
وقلعةٍ عانق "العَيُّوقَ" سافِلُها      
 
        وجاز منطقةَ الجوزاءِ عاليها
 
يُعدّ من أنجم الأفلاك مَرقَبُها       
 
        لو أنه كان يجري في مجاريها
 
على ذُرى شامخٍ وعرٍ، قد امتلأت 
 
        كبراً به، وهو مملوءٌ بها تيها
 
ردت مكايد أملاكٍ مكايدُها       
 
        وقصّرت بدواهيهم دواهيها(31)
 
وكان المؤرخ العلامة "محمد أمين المحبّي"-الذي عاش في القرن الحادي عشر للهجرة
 
(ق 17 م)-معجباً بمدينة حلب من جهة، وبقلعتها من جهة أخرى، ويحسن بنا في هذا المقام أن نقتطف بعض كلامه الذي تحلى بالبلاغة، وحظي من سحر البيان بنصيب وافر، وإن كانت كتابته مزينة بالصنعة البديعية، كما هو الشأن لدى أدباء عصره. قال أولاً في حلب وأهلها: "هي البلدة الطيبة الماء والهواء، التي توافقت على حُسن بنائها ولطف أبنائها الأهواء. حياها الله تحيةً تنحط بالخصب سيولها، وتجرُّ باللطف على سرحة الرياض ذيولها... ولأهلها من عهد بني حمدان-أمراء الكلام-اعتلاقٌ بالأدب وارتباط، وتفوق فيه يدعو إلى حسد واغتباط. ولشعرهم في القلوب مكانة، كأنما شيدوا بأهواء القلوب أركانه..."
 
ثم قال في قلعة حلب، وقد أدهشه علوها الذي صافح النجوم، وخندقها الذي أحاط بها إحاطة السوار بالمعصم: "وهناك الحصن الذي عانق السماك، يكاد أهله يقتطفون نرجس الكواكب من فلك الأفلاك... وقد أحاط به الخندق إحاطة الهالة بالقمر،والسوار بالمعصم(32)".
تلك لمحات عن "حلب" لعلها تكون كافية في هذا الحيز من الصفحات. والحق أننا لم نتقصَّ كل ما قيل في هذا الموضوع-ولدينا منه الكثير-ولو أننا جمعنا كل ما قيل في حلب وقلعتها وأوابدها، وفي متنزهاتها وجمال طبيعتها، لكان بين أيدينا ديوان شعري ضخم، فضلاً عما دبجته في ذلك أقلام الكتاب من الأدباء والباحثين والمؤلفين.

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء14    كن أول من يقيّم

ولا يقتصر الأمر في تلك القصائد الشعرية، والنصوص النثرية على القدماء، ممن ذكرناهم-أو لم نذكرهم-في هذا البحث، وإنما يتعداهم إلى المعاصرين، ولا سيما الشعراء الذين خصوا حلب وقلعتها وأهلها بقصائد ومقطوعات عصماء، داخل الوطن العربي وخارجه، ونذكر منهم على سبيل المثال: محمد الهراوي، ومحمد مصطفى الماحي، وخليل مطران، وعادل الغضبان، ومحمد عبد الغني حسن (من مصر). وقيصر المعلوف، وشبلي الملاط، والأخطل الصغير (من لبنان). وهند هارون، وحنا الطباع، وخليل الهنداوي، وعبد الله يوركي حلاق (من سورية) وزكي قنصل (من المهجر).
 
ونكتفي من شعر المعاصرين بأبيات من قصيدة "الأخطل الصغير" التي ألقاها في حلب، في حفل أقيم لتكريمه في شهر تشرين الأول سنة 1935، وهي قصيدة أجمع سامعوها وقراؤها على روعتها والإعجاب بها، ويزيدها تقادم الزمان جدةً وحداثة والشاعر يخاطب نفسه في مطلعها قائلاً:
نفيتَ عنك العلا والظرفَ والأدبا
 
        - وإن خلقت لها-إن لم تزُر "حلبا"
 
ومنها هذه الأبيات:
 
شهباء، لو كانت الأحلام كأسَ طِلا      
 
        في راحة الفجر، كنتِ الزهرَ والحببا
 
أو كان لليّل أن يختار حِلْيتَه       
 
        وقد طلعتِ عليه-لا زدَرى الشُّهبا
 
لو ألّف المجدُ سِفراً عن مفاخرِه     
 
        لراح يكتب في عنوانه "حلبا"
 
لو أنصفَ العربُ الأحرارُ نهضتهم 
 
        لشيدوا لكِ، في ساحاتها، النُّصبا
 
لكن خُلقتِ لأمرٍ ليس يدركه      
 
        من يعشقُ الذلّ، أو من يَعبدُ الرُّتبا
 
ملاعبُ الصيدِ من "حمدانَ" ما نَسلُوا     
 
        إلا الأهلّةَ، والأشبالَ، والقُضبا
 
الخالعين على الأوطان بهجتَها      
 
        الرافعين على أرماحها القَصَبا
 
حُسامهم ما نَبا في وجه من ضَربوا 
 
        ومُهْرُهم ما كبَا في إثرِ مَن هربا
 
ما جرّد الدهرُ سيفاً مثل "سيفهمُ"        
 
        يُجري به الدمَ، أو يُجري به الذهبَا
 
ربُّ القوافي على الإطلاق شاعرهم       
 
        الخلدُ والمجد في آفاقهِ اصطحب
 
سيفان في قبضة "الشهباء" لا ثُلما        
 
        وقد شرَّفا العُربَ، بل قد شرَّفا الأدبا
 
وجاء في خاتمة القصيدة قوله:
 
أتُسْعِدُ الروضةُ الخضراءُ بُلبلها     
 
        حتى يفي الروضةَ "الشهباءَ" ما وجبا؟
 
تيِهاً "عروسةَ سوريا" فقد حَملتْ         
 
        لكِ القوافي، على راياتها، الغلبا(33)

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء16    كن أول من يقيّم

المصادر والمراجع
 
1-الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب: محمد أسعد طلس-دمشق 1375 ه/ 1956م.
 
2-تحفة الأنباء في تاريخ حلب الشهباء: تيودور بيشوف-بيروت 1880م.
 
3-حلبيات: عبد الله يوركي حلاق-حلب 1983م
 
4-خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: محمد أمين المحي-دار صادر بيروت (د.ت).
 
5-الدرّ المنتخب في تاريخ مملكة حلب: ينسب إلى ابن الشحنة ت حلب 1404ه/ 1984م.
 
6-ديوان الخالديين: تح. سامي الدهان-دمشق 1388ه- / 1969م.
 
7-ديوان السري الرفاء: القاهرة 1355ه.
 
8-ديوان الشاب الظريف، تح شكر هادي شكر-النجف الأشرف 1387ه- 1967م.
 
9-ديوان عمر أبو ريشة: المجلد الأول-بيروت 1971م
 
10-ديوان كشاجم: بيروت، المطبعة الأنسية 1313ه-
 
11-سقط الزند: أبو العلاء المعري-بيروت 400ه/ 1980م
 
12-سيف الدولة وعصر الحمدانيين: سامي الكيالي-مصر 1959م.
 
13-العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب: ناصيف اليازجي-طبقة مصورة (د.ت).
 
14-مجلة "العمران" س 2/ع (20، 21، 22): 1967م.
 
15-وفيات الأعيان: ابن خلكان-تح. إحسان عباس-بيروت 1968م.
 
16-يتيمة الدهر: أبو منصور الثعالبي-تح. محمد محيي الدين عبد الحميد-القاهرة 1375ه- / 1956م

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء17    كن أول من يقيّم

 
(* ) أديب وباحث من سورية
 
(1) معجم البلدان: "حلب".
 
(2) طبع كتابه هذا في المطبعة الأدبية في بيروت سنة 1880م ويقع في 163 صفحة. ثم طبع ثانية في دمشق سنة 1992م بتحقيق شوقي شعث وفالح بكور.
 
(3) طبع في مطبعة الترقي بدمشق سنة 13 75 ه/ 1956م ويقع في 390 صفحة، وهو مزود في آخره بعددٍ وافر من الصور والمخططات والألواح.
 
(4) لا تمنع "بغداد" هنا من الصرف لأن المراد بها "مدينة أخرى تشبه بغداد" وليست "بغداد" نفسها.
 
(5) يتيمة الدهر للثعالبي 1 / 27-28.
 
(6) انظر تفصيل الكلام على ذلك كله في كتاب: "سيف الدولة وعصر الحمدانيين" لسامي الكيالي ولا سيما الصفحات 71-79.
 
(7) العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، لليازجي ص 356-357.
 
(8) وفيات الأعيان لابن خلكان 5 / 155.
 
(9) وفيات الأعيان 3/ 404 والجدير بالذكر أن سيف الدولة كانت له دنانير خاصة به تسمى دنانير الصلاة، وهي دنانير كبيرة الحجم كان سيف الدولة قد أمر بضربها لإهدائها في الأعياد والمناسبات المختلفة، ويزن الواحد منها عشَرة أضعاف الدينار العادي الذي يعادل 4،5 غ تقريباً.
 
(10) قاعة مشمان كانت منذ نحو قرنٍ ونصف ويدرس فيها فنّ الموسيقا: الموسيقار مشمشان. انظر تفصيل الكلام على ذلك كله في مجلة "العمران" ع (20، 21، 22) ص 280-288.
 
(11) كتاب "حلبيات" لعبد الله يوركي حلاق ص 168.
 
(12) تجد تفصيل الكلام على "رقص السماح" في كتاب "حلبيات" 176-182.
 
(13) كتاب "حلبيات" 187.
 
(14) مجلة العمران ص 284 ووردت شهرته محرفةً ثمة.
 
(15) فصل الكلام عليهم صاحب كتاب حلبيات 184-187
 
(16) كتاب حلبيات 189.
 
(17) انظر القصيدة كاملة في "ديوان عمر أبو ريشة" 1/ 421-433

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
 66  67  68  69  70