البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات د يحيى مصري

 65  66  67  68  69 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
البر بالأستاذ 3    كن أول من يقيّم

س3- ما سبب عدم اهتمامك بالرواية أو القصة أو الشعر، هل لهذا علاقة بميولك الأدبية الفكرية، أمْ أن هذه الأجناس لا تحقق ماسعيت نحوه وطلبته من أجل العلم؟

لم أجد في كتابة القصة أو الرواية ما يحقق لي طموحي أو يشبع رغبتي في البحث والدراسة، كما أن ميولي الأدبية والفكرية اتجهت إلى ذلك منذ صغري بتوجيه وتشجيع من أساتذتي في المرحلتين الابتدائية والإعدادية.
لكن هذا لم يمنعني من قراءة المئات من الروايات والقصص لكبار الكتاب مؤلفة ومترجمة.
وأتيح لي أيضاً أن أقرأ جملة من الروايات الشعبية من مثل ألف ليلة وليلة وسيرة عنترة والأميرة ذات الهمة وسيرة بني هلال وغيرها، إذ كان والدي رحمه الله يصحبني في ليالي الشتاء – وأنا في المرحلة الإعدادية – إلى بعض أصحابه من الجيران غير المتعلمين، فكنت أصغرهم سناً وكنت أقرأ لهم طوال السهرة في بعض تلك الروايات والسير الشعبية.
أما الشعر فقد أحببته وأكثرت من قراءته واستهواني نظمه، ولكني مقلٌّ جداً بسبب حرصي على اغتنام وقتي بخدمة تراثنا العربي، ولغتنا المقدسة، وعلومها المختلفة دراسة وتأليفاً وتحقيقاً.
وعلى سبيل المثال أذكر بضعة أبيات نظمتها وألقيتها في الحفل الذي أقيم لتكريمي في كلية الآداب بجامعة حلب بتاريخ 19/4/ 2000، وشاركت فيه فعاليات ومنتديات عدة في مدينة حلب، قلت يومئذٍ:
عظيم الشكر أزجيه إليكم** وأرفعه احتساباً واحتراما
ألستمْ  أنتم  قيدتموني ** بإحسان وجودْ قد تنامى
ولو أني قدَرتُ على جزاءٍ **إذ حققت في نفسي مراما
ولكنّي أقرّ بقَصْر باعي** فذي نُعمى مجلّلةٌ، تسامى
نداء القلب أصفى ما أناجي** فعذراً وامتناناً يا نشامى

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
البر بالأستاذ 4    كن أول من يقيّم

س4- أنت من مواليد حماة ، ماذا أعطتك هذه المدينة، وماذا لم تحققه بعد؟ وتتمنى أن يتحقق ؟

عُرفت مدينة حماة بأنها موئل العلم والعلماء، وملاذ الشعر والشعراء، وكانت حلقات العلم والتدريس كثيرة، ينهل منها المتعلمون أدباً ونحواً ولغة وصرفاً وتاريخاً.
ونشأ جيلنا على ذلك، كما نشأ جيل من قبلنا، وكان لهذه الحلقات العلمية أثرها في نفسي، وفي حبي للغوص في بحار العلم، وحب الكتب والحرص على اقتنائها منذ الصغر حتى تجمعت عندي –والحمد لله- مكتبة عامرة بآلاف الكتب من مطبوعة ومخطوطة، وهذه المكتبة هي زخري ومتعتي وزادي الذي أتمنى دائماً أن يتاح لي قراءة ما حوته من نفائس الكتب المختلفة، لإغناء رصيدي الثقافي من جهة، ولإمدادي بما أحتاج إليه من مصادر ومراجع عند كتابة بحث، أو إعداد دراسة ، أو تأليف كتاب أو تحقيقه فلا أحتاج في الأغلب إلى الاستعارة أو إلى المكتبات الوطنية والمراكز الثقافية.
من ذي ترين أن مدينة حماة قد أعطتني الكثير منذ صغري وأكملت هذه المسيرة حين أصبح عملي في كلية الآداب بجامعة حلب.
س5- في الساحة الأدبية صراعات حول الحداثة والبنية الرمزية، ماذا تقول؟ وبماذا تنصح ؟ وما رأيك بالمصطلحات اللغوية الجديدة التي يطلقها البعض في كتاباتهم ؟

إن الصراع بين القديم والحديث ليس وليد عصرنا هذا، فهو موجود في الساحة الأدبية شئنا أم أبينا، فلابد من الاعتراف به، والاستعداد له، ولا يمكن أن نقف منه موقف المتفرجين، ولابد هنا من الإشارة إلى أن الأمة إذا لم يكن لها ماض يرتكز إليه حاضرها ومستقبلها في البناء فهي أمة فاقدة الشخصية والكيان، وسوف يأتي عليها يوم تفقِد فيه هويتها أيضاً وتنصهر في غيرها، وتفقد مقومات وجودها.
أنا لست ضد الحداثة المتزنة التي تمتاز بالتعقل والرصانة، وتنأى عن الاندفاع والتشنج، وتحترم التراث احتراماً لا يخالطه تقديس صِرف، ولا أوافق على ما يقدم به بعضهم من إطلاق مصطلحات لغوية، أو ألفاظ يزعمون أنها من "التفجير اللغوي"، لأن لغتنا العربية تختلف عن سائر لغات الأمم بقواعدها وضوابطها، فذلك فقط بأهل الاختصاص وبمجامع اللغة العربية في العالم العربي، فكما أنه لا يجوز للطبيب مثلاً أن يخترع ما يريد في علم الهندسة، ولا للمهندس أن يجدّد في عالم الموسيقا.. فكذلك لا يجوز لأيٍ كان أن يدعي المعرفة باللغة وألفاظها إذا لم يكن مؤهلاً لذلك.

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
البر بالأستاذ 5    كن أول من يقيّم

س6- عرفتُ من خلال إجاباتك لاستبيان أسئلة كتاب / الأدباء يكتبون طفولتهم / أنك كنت ومنذ الصغر ولهاً بقراءة الكتب ، ما رأيك الآن حين يقولون إن الكتاب فقد وزنه ووقاره عند طالبي العلم وحل مكانه (الإنترنت) أي الكتاب المفتوح على الشاشة العنكبوتية، هل تُقرُّ بهذا البديل ؟

أنا لا أوافق بوجود أحكام مطلقة نرسلها هكذا إرسالاً بلا أي قيد، وعلى هذا فلا يمكن أن أقول إن الكتاب فقد وزنه ووقاره مطلقاً، ولا أقول إن الشاشة العنكبوتية هي الفُضلى في جميع الأحوال، كما لا يمكنني أبداً أن أقول إن الرجل خير من المرأة، ولا إن المرأة خير من الرجل، فلكل مقامه ودوره كيفما كان هذا الدور أو ذلك المقام، ولا يسدّ أحدهما مسدّ الآخر.
أنا شخصياً أفضل الكتاب الورقي على كتاب الشبكة العالمية، لأني أجد فيه من الحميميّة والألفة ما لا أجد في ذاك، كما أنني أستطيع أن أحتويه كله بين يديّ وأتصفحه في آن واحد متنقلاً بين مقدمته وصفحاته وفهارسه، وأعرف موضوعه ومحتوياته في لحظة واحدة، وهذا لايتيسر لي في قرينه، ثم إن الكتاب الورقي أستطيع أن أحمله أينما كنت، وأتنقل به بين السرير والطاولة والأريكة بحسب الوضع الذي أجد فيه راحتي.
أما الكتاب "الإلكتروني" فتجبرني القراءة فيه على اتخاذ وضع معين من الجلوس، وإطالة النظر في صفحاته المتناثرة هنا وهناك، وهكذا ، والأمر كذلك في ممارسة الكتابة والتأليف بهذا أو ذاك، فضلاً عن أن أسلوب الكتابة يعتريه شيء من الخلل أو الترخص، وعلى كل فلكل امرئ من دهره ماتعود، وإن هناك أموراً يقوم بها هذا الكاتب أو ذاك، ولا يستطيع الآخر القيام بها، وليس هذا قاصراً على مجال قراءة الكتب، بل يشمل كل أشكال القراءة والكتابة.
ثم إننا لم نصل بعد إلى المرحلة المثلى في الاعتماد على "الشاشة العنكبوتية" ، لأنه ليس بين أيدينا أقراص مرنة لكل الكتب العربية المطبوعة، وحتى الموجود منها بين الأيدي لا يوثق به، ولا يصِحّ أن يكون مصدراً علمياً معتمداً، لأنه مجهول الهوية والنسب، وقد يُحذف منه أشياء كان من الضروري إثباتها، كما اطلعت على ذلك بنفسي مراراً.
لذلك لا يصلح في رأيي للأعمال الأكاديمية والدراسات الموثقة، وإن كان يصلح لأعمال أخرى من قراءات سريعة وألعاب مسلية وكتابات خفيفة، لا تثقل العقل ولا الفكر.
ولما يأت ذلك اليوم الذي تحل فيه "الشبكة العنكبوتية" محل الكتاب الورقي نهائياً، وسيبقى الاثنان يعملان جنباً إلى جنب كلُّ بحسب إمكاناته والحاجة إليه .

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
البر بالأستاذ 6    كن أول من يقيّم

س7- مارأيك في الإعلام ، هل يشكل أزمة في وجه المثقف العربي ؟ هل هو معني بالشللية الثقافية السياسية ،أمْ أنه كلام لتبرير ضعف الآخرين؟
أعود إلى ماقلته سابقاً من أنني لا أؤمن بالأحكام الكلية المطلقة، فكما أن لكل عمل محاسنه ومساوئه، وإيجابياته وسلبياته، فكذلك الإعلام لا يخرج عن هذا الحكم، وذلك مرتبط بالقائمين عليه، والقائمين به، ومدى متابعة الرؤساء والمرؤوسين في أعمالها، التي يجب أن يكون رائدها الإخلاص والإتقان والموضوعية، وإن كان ذلك لا يتحقق دائماً على الوجه الأكمل.
ولا بد للشللية السياسية والثقافية أن تطلّ برأسها بين حين وآخر، وعلى العموم فإن الإعلام عامة لا يشكلّ أزمة حقيقية في وجه المثقف العربي.

س8- أستاذ محمود ، أنت صاحب فضل كبير على محبي اللغة العربية في حلب الشهباء من بينهم أنا ، ماذا تقول لنا ، وبماذا تنصح الجيل الجديد من طالبي العلم
؟

بعد سنوات طوال أمضيتها من عمري في هذه الحياة – والشكر لك – لم أر للإنسان من صفات يتحلى بها في حياته وسلوكه وفي مقدمتها الاستقامة والنزاهة والإخلاص في العمل كما جاء في الحديث النبوي " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"
ومن جهة أخرى فقد جعلت نفسي خدين الكتاب ، أصحبه في حلي وترحالي، وأقتنيه بشغف ولذة، فضلاً عن عشق لغتنا السامية، وإنني أعتبر العمل في سبيل ازدهارها ونهضتها بمختلف الوسائل رسالة مقدسة أقوم بها برضى وسرور، واضعاً جهودي في خدمة أهل العلم وطلاب المعرفة.
وكل ذلك أحب لغيري أن يتحلى به من أبناء الجيل الجديد وغير الجديد من طالبي العلم ، لأن طلب العلم لا ينتهي بنيل الشهادة، ولا يقف عند حدّ، وكلنا طالب علم أو متعلم، ويجب أن يستمر ذلك ما دام المرء على قيد الحياة، وكثيراً ما يحلو لي أن أردد على المسامع بيتاً من الشعر يستحق أن يجعله المرء شعاراً له في حياته، ويتطلع إلى تحقيقه في عالم الواقع، ذلكم هو قول أبي الفتح البُستي:
                            إذا مرّ بي يوم ولم أتّخذ يداً ** ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء1    كن أول من يقيّم

                        حلب
                      في تراثنا الأدبي والعلمي
                                      العلامة محمود فاخوري
قال ياقوت الحموي :
"حلب مدينة عظيمة واسعة، كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء... وشاهدت من حلب وأعمالها ما استَدْلَلْتُ به على أن الله تعالى خصّها بالبركة، وفضلها على جميع البلاد... وأما قلعتها فبها يُضرب المثل في الحسن والحصانة... وما زال فيها على قديم الزمان وحديثه أدباء وشعراء... وقد أكثر الشعراء من ذكرها ووصفها والحنين إليها(1)"
 
ذلك مجمل ما قاله ياقوت الحموي عن حلب في كتابه "معجم البلدان" وقد زارها وأقام فيها غير مرة. وليس هو الوحيد الذي أشاد بهذه المدينة ونوه بفضلها وجمال طبيعتها وأريحية أهلها، فهناك أقوال كثيرة مماثلة، للرحالة والجغرافيين العرب: كالمقدسي، وابن جبير، والحِمْيَريّ، وابن بطوطة، وغيرهم، ممن وصف "الشهباء" التي تعد من أقدم المدن العامرة في العالم، إن لم تكن أقدمها، ولا تزال حتى اليوم زاخرةً بالحياة، مزدهرةً بالحضارة والعمران، بعد أن مرّت بأحقاب متلاحقة منذ القرن العشرين قبل الميلاد، وعرفت أمماً شتى تعاقبت عليها، كما عرفت أمجاداً تليدة انتظم بها مجد الزمان، ومجد البطولات، ومجد الثراء، فهي ثغر قام على الحدود مع الروم، وهي ملتقى الطرق التجارية الكبرى لقوافل الشرق والغرب، ثم إنها مدينة الآثار والأسوار والأبراج، وهذا كله جعلها موئل العزة، ومورد الصفاء، فبقيت فتية الإهاب، محافظة على تراثها الثمين، وكنوزها الأوابد، وجلال أبنيتها القديمة حتى كادت تكون بهذه الخصائص والمزايا المدينة الوحيدة في الشرق العربي، وحظيت بإعجاب الرحالة والباحثين الغربيين الذين زاروها، أو أقاموا فيها منذ القرن السادس عشر للميلاد حتى القرن العشرين، نذكر منهم:
 
القيصر "فريدرك" البندقي (1563م)، ودار فيو "قنصل فرنسا في حلب عام 1683م" والسائح الفرنسي "دو رازكل" والمستشرق الألماني "نولدكه" والطبيب الألماني "بيشوف" الذي أقام في حلب وأعجب بها جداً، ووضع كتاباً عنها باللغة العربية، عنوانه "تحف الأنباء في تاريخ حلب الشهباء(2)"، والشاعر الرومانسي الفرنسي "لامارتين" الذي سكن في حي الكتاب منذ قرن ونصف تقريباً ونظم قصيدة يصف فيها فتاة حلبية تدخن نرجيلتها قرب بركة ماء. ولا ننسى أيضاً الإشارة إلى أن شكسبير ذكر حلب مرتين في شعره، كما ذكرها دانتي في الكوميديا الإلهية. وربما كان آخرهم المستشرق الفرنسي "جان سوفاجيه" المتوفى سنة 1950م والذي أقام في حلب مرة، ألف خلالها كتاب "الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب" وترجمه محمد أسعد طلس إلى اللغة العربية مع شهادات كثيرة أضافها إلى الكتاب(3).

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء2    كن أول من يقيّم

على أن ازدهار حلب في العصور العربية الإسلامية إنما بدأ في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، "القرن العاشر للميلاد" حين استقل بها سيف الدولة الحمداني، وأقام إمارته فيها، فكان زين الرجال، ورافع لواء الجهاد، ومُعليَ صرح الشعر والأدب والفن في تلك المدينة الخالدة التي أعطت دنيا الفكر العربي ثروةً ثقافية وفنية عظيمة، بمن نبغ فيها من أساطين العلم والفلسفة، وعباقرة الشعر والأدب، وأوعية النحو واللغة، وبما زين رفوف مكتباتها العامة والخاصة من الأسفار القيمة، والدواوين النادرة، والمخطوطات النفيسة.
 
ومعظم الفضل في ذلك إنما يعود إلى ذلك الأمير النابه، والقائد الجريء، والشاعر الناقد، "سيف الدولة" الذي جعل "الشهباء" ملاذ العلماء، ومقصد الأدباء والشعراء، ومستقر أولي البحث والفن في عصره، فسنّ بذلك سنةً حميدةً في هذه المدينة، امتدت آثارها إلى ما بعد عصره، على امتداد القرون، واستطاع أن يجعل حلب بغداداً(4) ثانية، ومركزاً فكرياً مشعاً ينشر ضياءه في الآفاق، ويبدد حنا دس الجهل والركود.
 
ولم تصرفه الحروب المتواصلة مع الروم، وإصلاح الأسوار والحصون، عن تحقيق ما كان يواثبه من آمال في إحياء النهضة العقلية. وإيقاظ الحركة الأدبية في عاصمة إمارته. فجمع حوله كوكبة لامعة تنهض بذلك العبء، وفتح صدر مجالسه لطائفة صالحة من رجال الأدب والفكر والفن، ولصفوة مختارة من الكتاب والخطباء، ومن الفلاسفة والأطباء والندماء... كل أولئك هرعوا إليه من مختلف الأصقاع العربية والإسلامية، حتى قال الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر" "لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك-بعد الخلفاء-ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها(5)".
 
وهكذا جعل هذا الأمير الحمداني قصره-الذي بناه في "الحلبة" قُرب محلة الفيض بحلب-منتدىً أدبياً تعقد فيه المناظرات، ومجلس أنس تلقى فيه روائع الأشعار، وتسمع أجمل الأصوات والألحان، وزود قصره هذا بمكتبة ضخمة، تضم آلاف المجلدات من نوادر الأسفار والدواوين، لتكون مرجعاً له وللوافدين عليه، ولا يفتأ يغنيه بكل جديد، حتى إن أبا الفرج الأصفهاني لما ألف كتابه العظيم "الأغاني" بمجلداته الأربعة والعشرين، أهدى نسخةً منه إلى سيف الدولة، فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه لقلة المبلغ(6).
 
وبذلك كله، انقلب الركود الذي كان يَرينُ على حلب، نهضةً وازدهاراً لا مثيل لهما من قبل، واستطاع ذلك الرجل الفذ أن يجمع حوله في سنوات متقاربة نخبةً مصطفاة من نوابغ الأعلام في كل علم وفن.

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء3    كن أول من يقيّم

 
فكان فيهم الشعراء: من أمثال المتنبي، والصنوبري، والسّريّ الرفّاء، وكشاجم، والببغاء، والوأواء الدمشقي، والأخوين الخالديين، وابن نباتة السعدي، وغيرهم.
 
وفيهم علماءُ اللغة والنحو، وعلى رأسهم:ابن جني، وأبو علي الفارسي، وأبو الطيب اللغوي، وابن خالويه.
 
ومن الكتاب والمنشئين: أبو الفرج السامري، وأبو محمد الفياص، وابن البازيار، وآخرون.
 
أما الأدباء فكان في مقدمتهم: أبو بكر الخوارزمي، وأبو الفرج الأصفهاني. هذا إلى عددٍ من الفلاسفة: كالفارابي، والقضاة، كأبي الفرج سلامة بن بحر، والمنجمين والفلكيين: كأبي القاسم الرقي، والمغنين: كالهنكري...
 
لقد وفد هؤلاء وغيرهم على سيف الدولة من أصقاع شتى، وانتظموا في عاصمة الدولة الحمدانية، وزينوا مجالس أميرها بآرائهم الناضجة، ونتاجهم الثقافي، فكانوا دعائم الحياة العلمية والأدبية في ظل سيف الدولة الذي كان غرة تلك المجالس في إثارته لمختلف القضايا، وتوجيه الحوار والمناقشة بما يرضي العلم والأدب، يرفده في ذلك ثقافة أصيلة، وذكاء وقاد، ولباقة آسرة، وحافظة جيدة، إضافة إلى ما نشأ عليه من شاعرية وموهبة نقدية.
 
وقد تنوعت المسائل والقضايا التي كانت تطرح في تلك المجالس، ولكن قد يغلب على بعضها طابع معين يطغى على غيره. فهناك ما يسمى "بالمجالس السياسية المصحوبة بالأبهة وإظهار الهيبة حين يأتي رسول الروم مفاوضاً".
 
وهناك ما يسمى "بمجالس المناظرة والعلم" بين اللغويين والنحويين والمتكلمين، ومجالس أخرى يمكن أن ندعوها "مجالس الشعر والأدب والنقد" وإلى مثلها أشار المتنبي بقوله مخاطباً سيف الدولة:
 
ولكنْ كلُّ شيءٍ فيه طيبٌ *** لديك من الدقيق إلى الجليل
 
وميدانُ الفصاحة والقوافي *** ومُمْتَحَنُ الفوارس والخيول(7)
 
وقد يكون للغناء والطرب مكانهما في مجلس الأمير الحمداني، فيوسم عندئذ بأنه "مجلس الأنس"، والأصل فيه رغبة سيف الدولة في سماع المغنين البارعين في فنهم، وترويح النفس من مشاغل الدولة، والاستمتاع بما هو رفيع من الموسيقا والألحان.

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء4    كن أول من يقيّم

وقصة الفارابي-مخترع القانون-معروفة في مجلس سيف الدولة، رواها ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان(8) وخلاصتها أن الفارابي ورد على سيف الدولة في مجلس طرب، وهو لا يعرفه، وأخذ الفارابي يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس، في كل فن، حتى صمتوا. فصرفهم سيف الدولة، وأقبل على الفارابي يدعوه إلى الطعام، فالشراب، فالسماع... فامتنع، إلا عن السماع. وعندئذ أمر سيف الدولة بإحضار المغنين، فحضر كل ماهر في الصناعة بأنواع الآلات، فلم يحرك أحد منهم آلته الموسيقية إلا عابه الفارابي وقال له: أخطأت. ثم أخرج من وسطه عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فأضحك كل من كان في المجلس، ثم غير تركيبها وضرب بها فأبكاهم جميعاً، وأخيراً ركبها على هيئة أخرى وراح يحركها، فناموا كلهم حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج.
 
قال ابن خلكان: "ويحكى أن الآلة المسماة، القانون، من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب".
 
وبديهي أن ما حصل في ذلك المجلس لم يتم بنفس السرعة التي روى بها الخبر، وإنما احتاج ذلك إلى انقضاء بعض الوقت، كما يعلم ذلك من حضر أشباه هذه المجالس الفنية. ونحن لا يهمنا تفاصيل ذلك الخبر بمقدار ما يهمنا أصله وهيكله. وما له من دلالة على مجالس الأنس والطرب التي تضم المبدعين في هذا الباب، في رحاب قصر سيف الدولة.
 
على أن ما يُستملح من هذه الندوات والمجالس، على اختلاف صورها، ما كان يحصل فيها أحياناً من مفاجآت طريفة لم يحسب حسابها، يثيرها قدوم رجل طارئ على المجلس. ومن ذلك أن الشعراء كانوا ينشدون بين يدي سيف الدولة في مجلسه العامر بالقوم، فتقدم أعرابي رث الهيئة، فاستأذن الحجاب في الإنشاد، فآذنوا له، فأنشد هذه الأبيات:
 
أنت عليّ، وهذه حلبُ *** قد نَفِد الزادُ، وانتهى الطلبُ
 
بهذه تفخر البلاد، وبال- *** أمير تُزهى على الورى، العرب
 
وعبدك الدهرُ قد أضرَّ بنا *** إليك، من جور عبدك، الهربُ
 
فقال سيف الدولة: أحسنت، ولله أنت... وأمر له بمئتي دينار(9).

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء5    كن أول من يقيّم

لقد كانت مجالس سيف الدولة، تلك، خيراً على الأدب العربي وعلوم العربية، بما أحيت من حركة أدبية ثقافية، وبمن استقدمت من نوابغ الرجال، ذوي العلوم المتنوعة، وبما أتاحت من فرص سانحة للشعراء، والكتاب والعلماء كي يظهروا مواهبهم الكامنة.
 
صحيح أن هذه الصحوة الأدبية والفكرية لم تعش-في ذاتها-طويلاً وصحيح أيضاً أن أساطين تلك الندوات والمجالس قد انفرط عقدهم فيما بعد، واصبح لكل وجهةٌ هو موليها... إلا أن الأهمية الكبرى لتلك البيئة السيفية كانت فيما تركته من آثار بعيدة المدى في أغراض الشعر وفنونه، وفي خصائصه وسماته، حتى بعد زوال إمارة الحمدانيين في حلب، إذ ما فتئ النوابغ يظهرون من حين إلى آخر: في الشعر والفقه، والطب، والحديث، والفلسفة.. حتى الموسيقا والفن ويكفي أن نرجع إلى كتاب "إعلام النبلاء" قرناً فقرناً، لنرى تفوق حلب على سائر مدن الشام في علمائها وأدبائها وشعرائها، وفي مدارسها التعليمية التي ترقى إلى مستوى كليات الجامعة، فضلاً عن مكتباتها العامة والخاصة، وحب أهل حلب للأدب والشعر والفن واقتناء الكتب، في كل عصر. وكأن النفوس جُبلت على الالتزام بسنة سيف الدولة، فتابعت حلب مسيرتها الثقافية والفنية، وبقيت إلى يومنا هذا مهد العلم والأدب والشعر والتاريخ، وملاذ الفن والموسيقا والغناء، حتى قال الشاعر القروي-وهو شاعرٌ مهجريّ خالط الرعيل الأول من المغتربين الحلبيين، وشهد بعض أسمارهم، وعاين بنفسه حبهم العجيب للموسيقا العربية الأصيلة، والألحان الأخاذة، ولا سيما حينما زار حلب-فقال كلمته الصادقة: "حيثما لقيت رجلاً حلبياً، فأنت إما مع فنان، وإما مع روحٍ تطرب للفن".
 
والحق أن حلب اشتهرت منذ القديم بغرام أبنائها بالموسيقا، منذ عهد سيف الدولة الحمداني، فضلاً عن الموسيقيات والمغنيات ممن غفل المؤرخون عن ذكرهن، أمثال "علوة" محبوبة البحتري، التي ذكرها كثيراً في شعره، وبقيت دارها معروفة بحلب حتى القرن الخامس للهجرة (ق11 م) أي بعد البحتري بقرنين من الزمن، إذ يقول ابن بطلان-وهو طبيب باحث من أهل بغداد-حينما مر بحلب سنة 440ه: "وفي وسط البلد دار علوة صاحبةِ البحتري".

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
حلب الشهباء6    كن أول من يقيّم

وقد أنبتت حلب عدداً كبيراً من أعلام الموسيقا والتلحين والطرب، وما من بلدٍ عربي نال من الشهرة وبعد الصيت في فن الموسيقا ما نالته هذه المدينة، ولا سيما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. وليس من فنان عربي حضر إلى مسارح حلب مغنياً أو عازفاً-قبل أن تكثر دور الخيالة، وتنتشر آلات الإذاعة والتلفزة-إلا كان يخفق فؤاده، ويحسب حساباً للقاء سكان حلب التي لا تهادن من يسمعها فناً متهافتاً أو غناءً رخيصاً، وحسبك بصالح عبد الحي، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، شواهد على ذلك، وهم من هم في الشهرة والمجد، وطول الباع في التلحين أو الغناء.
 
فمن أوائل ذوي الفن المتأخرين:" "محمد رحمون الأوسي" الذي عاش أربعة وتسعين عاماً 1771-1865م، وكان موسيقياً بارعاً، وملحناً مجيداً، وقد لحن 92 موشحاً، وتخرج على يديه نحو 750 تلميذاً، ويذكر معه أيضاً معاصره "مصطفى البشنك" الذي ولد في حلب سنة 1765م وكان نابغة في الموسيقا والأنغام، وقد لحن نحو 200 موشح، ومعظم الموشحات المعروفة عند الناس اليوم هي من تلحينه. ومما يجدر ذكره أنه جعل القاعة المعروفة ب- "قاعة بيت مشمشان" نادياً موسيقياً يقصده طلاب هذا الفن، وتقام فيه حفلات الطرب والغناء، والرقص الشرقي الأصيل(10).
 
ولم تكن هذه القاعة هي الوحيدة في تلك المدينة، وإنما كان كثير من ذوي الجاه والغنى فيها يهتمون بشؤون الطرب والأفراح، ويشيدون في بيوتهم قاعاتٍ رحبة، ويقيمون في ساحاتها سدة مرتفعة، لفرق المطربين، بعد أن شاعت الموشحات، والقدود الحلبية، والمواويل العذبة التي يشيع فيها الغزل العفيف، والمعاني الشريفة. "وكان فصل "اسق العطاش" في طليعة الفصول المطربة، التي أحلها الحلبيون مقاماً عالياً في عالم الفن والموسيقا" وقد فصل القول فيه عبد الله يوركي حلاق في كتابه "حلبيات" وعرفه بأنه "مجموعة بديعة نادرة من الأناشيد والقصائد والموشحات والتحميلات، والأدوار المتنوعة الأوزان والقوافي، والمتعددة النغمات والأصول والتقاسيم(11)".
 
هذا إلى أنواع من الرقص الأصيل البعيد عن الخلاعة والمجون، ولا سيما رقص السماح الذي يشتمل على ضروب كثيرة مختلفة من الخطوات الفنية، والموشحات الغنائية الخلابة. ومبتكره هو الشيخ عقيل المنبجي المتوفى سنة (550ه- 1155م) والمدفون في منبج(12) ومن موسيقييّ حلب الذين اشتهروا في القرن التاسع عشر "أحمد عقيل" المولود سنة 1813م "وكان ملحناً حسن الصوت، كما كان منشداً في الأذكار والتكايا التي كان عددها في ذلك الحين نحواً من أربعين تكية". وكان قد تعرف إلى موسيقيين أتراك، وأخذ من فنونهم ومزجها بالألحان العربية وقد اجتمع به بعض فناني مصر عندما حضروا إلى حلب وعملوا في مسارحها، وكانت فرصة سانحة لهم للتأثر والاقتباس حتى إن أبا خليل القباني الدمشقي أخذ عنه فن الموشحات وأصول رقص السماح. وكان من تلامذته أيضاً زوجة قنصل إيطاليا في حلب آنذاك، وقد اعترفت بأنه يقل نظيره في هذا الفن حتى في أوربة. وقد توفي سنة 1913م بعد أن بلغ المئة من عمره(13).

22 - مارس - 2008
البر بالأستاذ1
 65  66  67  68  69