عن الأمير والحب وأشياء أخرى     ( من قبل 4 أعضاء ) قيّم
إلى عزيزتي لمياء أهدي هذه الترنيمة أعبر فيها عن امتناني وسعادتي لما جادت به علي ، وعلى هذا الملف المجبول باللوعة ، من إضاءة فريدة وصاعقة ، أشاعت الدفء في حنايا نفسي ، وما أضافته إليه من سحر بيانها وألق روحها الشاعرة :
حكايات العشق والقلوب تشبه نفسها في كل مكان وزمان ، لكن في كل مرة ، ما بين الدهشة والرحيل ، تبحر بنا الكلمات نحو عالم من الكشف ، عالم من السحر يتربع في حنايا النفوس لا تدركه سوى الحروف المضيئة النابضة التي تترقرق بماء الحياة ويتقطر منها فيض من الجمال .
أغمضت عيني على هذه الأقصوصة فانقشع المشهد من أمامي ، ورأيته في ثيابه البالية فارساً وأميراً يمتطي صهوة الريح على سجادة حاكتها له امرأة تسكن على تخوم الشرق البعيدة . كانت يتيمة ومنبوذة في أهلها فعاشرت الريح واستسلمت لعناقها ، وسكنت صحراء الرمال العقيمة ، وانتبذت لنفسها هناك مكاناً قصياً لتحيك من دموعها ومن خيوط قلبها سجادة بلون الدم ، سكبت فيها صوتها وحزنها وعنفوانها والولع المعشش في الحشايا كله على شكل رسوم أطبقت فيها على المعنى الوحيد الذي أدركته ثم قالت له : " خذها وارحل ، هذا كل ما عندي ، انت ابن الريح وقد نذرتك للرحيل " :
فكان شريد الزمان ومشرَّده، وعاشق الأكوان ومعَذَّبها، وكان يرسم لنفسه في كل يوم عبلة جديدة ، ويبقى عنترة بكل المقاييس . ولعله كان أعف من على الأرض ، إلا أنه كان أجمح من من سكب خياله فوق أوراق تموج "
ولما رأيته هناك منتصباً في تلك الساحة ، عرفته للحال ، بقامته الفارهة وشعره المنفوش حول رأسه كأنه رادارات ذهبت لتستطلع في كل اتجاه .
الثلج غطى الساحة ، والرسامون قل عددهم بسبب البرد وتناقص عدد السياح ، لكني عرفت من بينهم صاحب المعطف الأخضر ، كأنه من مخلفات حرب ستالبنغراد ، بذلك الحذاء العسكري الضخم الذي فتح شدقه من الأمام بفعل الزمن حتى صار يتسرب منه الماء إلى قدميه الباردتين . " عشرة أيام هزت العالم " قلت في نفسي ، قد جاء للتو من الأسطورة ولم يجد الوقت ليبدل ملابسه بعد ، لكنني عرفته من ملامحه الدقيقة التي قرأت عنها في الرواية :
ومع هذا ، لم أكن الوحيدة المخدوعة بظله الدقيق، ولا بوجهه الشاحب، فقد كانت الأزهار والأشجار والأحجار تذكر نغمه، وكانت الرياح والأمطار تعيد لحنه، ذلك لأنه كان علما بين النكرات، ولأنه كان الوحيد الذي أدرك سر الوجود، ولأنه أول من داس على هذه الأرض دون أن يؤلمها، وآخر من خانها ومزق أوصالها، وكان حبيبها الذي قتلها ببينه .
ــ هل لديك شوكولا ؟ قال لي ...
وأعطيته حبة الشوكولا الوحيدة التي عندي فتلقفها مني بفرح ، وراح يأكلها بتلذذ وكأنها آخر حبة يأكلها في حياته .
ــ البرد شديد ، سنتدفأ بسيجارة . قال .
ــ أنا لا أدخن !
ــ ولا أنا أدخن ...
يذهب ليتسول سيجارة من صديقه البولوني المرابض في مكان استراتيجي ،يكاد يتجمد من الصقيع وحده هناك بقرب الباب .
يعطيني السيجارة فآخذ منها نفساً قصيراً ، ثم يستعيدها مني ليدخنها بنهم وكأنها آخر سيجارة يدخنها في حياته .
ينظر إلي بغرابة : " أليس لديك شال تضعينه حول عنقك ؟ " يسألني . وهو ينتزع من حول رقبته شاله الرقيق الناصع البياض ليلف به رأسي ورقبتي وليعقده بنعومة فوق صدري وهو ينظر إلي بنشوة قبل أن يستعيده بعد لحظات . " لا لا أستطيع أن أعطيك إياه ، إشتر لك واحداً ، اشتريته بقرب المترو ، هناك بائع يبيع القفازات والشالات بثمن قليل ، إشتريته من هناك بنصف السعر ... " , ينتزع الشال من حول عنقي ، والدفء الذي يلفني ، ونظرته الحانية التي يستعيدها ليسرح بها إلى البعيد البعيد : " أنا متشرد ولن أكون إلا كذلك ... أنا لا أملك في هذه الدنيا سوى سجادة أمي وهي لا تصلح بيتاً ، إنها ملعب الريح وهي ستحملني معها في كل اتجاه ... "
كان صديقه البولوني ينظر إلينا من مكانه ، " هيه فيشو ! هل وقعت على زبائن ؟ " يصرخ له من بعيد . " لا ، إنما علينا أن نبدل مكاننا لنبتعد قليلاً عن المدخل ، هكذا يريد الحارس " يجيبه ، " أسرع ، هيا بنا ! " يقول .
وبالرغم من أنه لم يكتب لحكايته نهاية ، ولا لأثره عنوانا، إلا أن اسمه ظل يتردد مع الصدى وشدو الطيور، كما لا تزال روحه تنسكب مع كل قطرة ندى على شفاه الورود، فهل كان بعيني طيف إنسان أناني ؟ أم هو كان في الأزمان رحّالة وإنسان...
وبالرغم من أنه لم يكتب لحكايته نهاية ، ولا لأثره عنواناً ، إلا أنه في كل مرة يعود ، ليكتب حكاية جديدة يسكب فيها شيئاً من روحه ، وبضع قطرات من شذى النرجس ، وتغريدة بلبل يعشق أضواء الصباح . إنه الأخضر !
|