البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات عبدالرؤوف النويهى الحرية أولا وأخيرا

 59  60  61  62  63 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (23)    كن أول من يقيّم

                                   (2)
                    امرؤ القيس - عبيد - عَلْقَمة

لعل أقدم الشعراء الذين يروى لهم شعر كثير ويتحدث الرواة عنهم بأخبار كثيرة فيها تطويل وتفصيل هو امرؤ القيس .

ونحن نعلم أن الرواة يتحدثون بأسماء طائفة من الشعراء زعموا أنهم عاشوا قبل أمرىء القيس وقالوا شعرا ، ولكنهم لا يروون لهؤلاء الشعراء إلا البيت أوالبيتين أو الأبيات . وهم لا يذكرون من أخبار هؤلاء الشعراء إلا الشيء القليل الذي لا يغني . وهم يعللون قلة الأخبار والأشعار التي يمكن أن تضاف إلى هؤلاء الشعراء ببعد العهد وتقادم الزمن وقلة الحفّاظ . وقد رأيت في الكتاب الماضي أن قليلا من النقد لما يضاف إلى هؤلاء الشعراء ينتهي بك إلى جحود ما يضاف إليهم من خبر أو شعر . فلندع هؤلاء الشعراء ولنقف عند أمرىء القيس وأصحابه الذين يظهر أن الرواة عرفوا عنهم ورووا لهم الشيء الكثير .

من امرؤ القيس? أما الرواة فلا يختلفون في أنه رجل من كنْدة . ولكن مَن كنْدة? لا يختلف الرواة في أنها قبيلة من قحطان ؛ وهم يختلفون بعض الإختلاف في نسبها وفي تفسير اسمها وفي أخبار سادتها . ولكنهم على كل حال يتفقون على أنها قبيلة يمانية ، وعلى أن امرأ القيس منها .

فأما اسم أمرىء القيس واسم أبيه واسم أمه فأشياء ليس من اليسير الاتفاق عليها بين الرواة ؛ فقد كان إسمه امرأ القيس ، وقد كان اسمه حندجا ، وكان اسمه قيسا . وقد كان اسم أبيه عمرا وقد كان اسم أبيه حجْرا أيضا . وكان اسم أمه فاطمة بنت ربيعة أخت مُهلْهِل وكُلَيْب ، وكان اسم أمه تَمْلك . وكان امرؤ القيس يعرف بأبي وهب ، وكان يعرف بأبي الحارث . ولم يكن له ولد ذكر . وكان يئد بناته جميعا . وكانت له إبنة يقال لها هند ؛ ولم تكن هند هذه إبنته وإنما كانت بنت أبيه . وكان يعرف بالملك الضِّلِّيل ، وكان يعرف بذي القروح .

وعليك أنت أن تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما تستطيع أن تسميه حقا أو شيئا يشبه الحق . وأي شيء أيسر من أن تأخذ ما أتفقت عليه كثرة الرواة على أنه حق لا شك فيـه? وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه حندج بن حجر ، ولقبه امرؤ القيس ، وكنيته أبو وهب ؛ وأمه فاطمة بنت ربيعة . على هذا اتفقت الكثرة . وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحا أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحا .

أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة ، أو قد أراني مكرها على الاطمئنان لآراء الكثرة ، في المجالس النيابية وما يشبهها . ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئا ؛ فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها ، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة . وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح . فالكثرة في العلم لا تغني شيئا .

وإذاً فليس من سبيل إلى أن نقبل قول الكثرة في امرىء القيس ؛ وإنما السبيل أن نوازن بينه وبين ما تزعم القلة . وليس إلى هذه الموازنة المنتجة من سبيل إذا لا حظت ما قدّمناه في الكتاب الماضي من هذه الأسباب التي كانت تحمل على الانتحال وتكلف القصص .

وإذاً فلسنا نستطيع أن نفصل بين الفريقين المختلفين ، وإنما نحن مضطرون إلى أن نقبل ما يقول أولئك وهؤلاء على أن الناس كانوا يتحدثون به دون أن نعرف وجه الحق فيه . ولعل هذا وأشباهه من الخلط في حياة أمرىء القيس أوضح دليل على ما تذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن قد وجد حقا ـــ ونحن نرجح ذلك ونكاد نوقن به ـــ

فأن الناس لم يعرفوا عنه شيئاً إلا اسمه هذا ، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم .

وهنا يحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير والأحاديث لم تشع بين الناس إلا في عصر متأخر : وفي الرواة المدوّنين والقصاصين . فأكبر الظن إذاً أنها نشات في هذا العصر ولم تورث عن العصر الجاهلي حقا . وأكبر الظن أن الذي أنشأ هذه القصة ونماها إنما هو هذا المكان الذي احتلته قبيلة كندة في الحياة الإسلامية منذ تمت للنبي السيطرة على البلاد العربية إلى أواخر القرن الأول للهجرة .

فنحن نعلم أن وفدا من كندة وفد على النبي وعلى راسه الأشعث ابن قيس . ونحن نعلم أن هذا الوفد طلب - فيما تقول السيرة - إلى النبي أن يرسل معهم مفقِّها يعلمهم الدين . نحن نعلم أن كندة ارتدّت بعد موت النبي ، وأن عامل أبي بكر حاصرها في النُّجيْر وأنزلها على حكمه وقتل منها خلقا كثيرا وأوفد منها طائفة إلى أبي بكر فيها الأشعث ابن قيس الذي تاب وأناب وأصهر إلى أبي بكر فتزوّج أخته أم فروة ؛ وخرج- فيما يزعم الرواة- إلى سوق الإبل في المدينة فاستل سيفه ومضى في إبل السوق عقرا ونحرا حتى ظن الناس به الجنون ، ولكنه دعا أهل المدينة إلى الطعام وأدّى إلى أصحاب الإبل أموالهم ؛ وكانت هذه المجزرة الفاحشة وليمه عرسه . ونحن نعلم أن هذا الرجل قد اشترك في فتح الشام وشهد مواقع المسلمين في حرب الفرس ، وحسن بلاؤه في هذا كله ، وتولّى عملا لعثمان ، وظاهر عليا على معاوية ، وأكره عليا على قبول التحكيم في صِفِّين . ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيِّدا من سادات الكوفة ، عليه وحده أعتمد زياد حين أعياه أخذ حجر بن عديّ الكندي . ونحن نعلم أن قصة حجر بن عديّ هذا وقتل معاوية إياه في نفر من أصحابه قد تركت في نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثرا قويا عميقا مثّل هذا الرجل في صورة الشهيد . ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث قد ثار بالحَجَّاج ، وخلع عبدالملك ، وعرّض دولة آل مروان للزوال ، وكان سبباً في إراقة دماء المسلمين من أهل العراق والشام ، وكان الذين قتلوا في حروبه يحصون فيبلغون عشرات الآلاف ، ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك ، ثم أعاد الكرة فتنقَّل في مدن فارس ، ثم أستياس فعاد إلى ملك الترك ، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج ، ثم قتل نفسه في طريق إلى العراق ، ثم احتُذّ رأسه وطوّف به في العراق والشام ومصر .

أفتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة في الحياة الإسلامية وتؤثر هذه الآثار في تاريخ المسلمين لا تصطنع القصص ولا تأجر القصّاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شانه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها? بلى ! ويحدّثنا الرواة أنفسهم أن عبدالرحمن بن الأشعث اتخذ القصّاص وأجرهم كما اتخذ الشعراء وأجزل صلتهم : كان له قاص يقال له عمرو بن ذرّ ؛ وكان شاعره أعشى هَمْدان .

فما يروى من أخبار كندة في الجاهلية متأثر من غير شك بعمل هؤلاء القصاص الذين كانوا يعملون لآل الأشعث . وقصة أمرىء القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبدالرحمن أبن الأشعث . فهى تمثل لنا امرأ القيس مطالبا بثأر أبيه . وهل ثأر عبدالرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقما لحجر بن عدىّ? وهي تمثل لنا امرأ القيس طامعا في الملك . وقد كان عبدالرحمن بن الأشعث يرى إنه ليس أقل من بني أمية استئهالا للملك ؛ وكان يطالب به . وهي تمثل لنا امرأ القيس متنقلا في قبائل العرب . وقد كان عبدالرحمن أبن الأشعث متنقلا في مدن فارس والعراق . وهي تمثل امرأ القيس لاجئاً إلى قيصر مستعيناً به . وقد كان عبدالرحمن ابن الأشعث لاجئاً إلى ملك الترك مستعيناً به . وهي تمثل لنا أخيراً امرأ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسديّ في القصر . وقد غدر ملك الترك بعبدالرحمن بعد أن كاد له رسل الحجاج . وهي تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات في طريقه عائداً من بلاد الروم . وقد مات عبدالرحمن في طريقه عائداً من بلاد الترك.

أليس من اليسير أن نقترض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدّث بها الرواة ليست إلا لوناً من التمثيل لحياة عبدالرحمن أستحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق واستعاروا له اسم الملك الضِّلِّيل أتّقاء لعمال بني أمية من ناحية ، وأستغلالاً لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى?

                                                 * * * * *

ستقول : وشعر امرئ القيس ما شأنه? وما تأويله? وتأويله أيسر . فأقل نظر في هذا الشعر يلزمك أن تقسمه إلى قسمين : أحدهما يتصل بهذه القصة التي قدمنا الإشارة إليها . وإذاً شأنه شأن هذه القصة انتحل لتفسيرها أو تسجيلها ، وانتحل لتمثيل هذا التنافس القوي الذي كان قائماً بين قبائل العرب وأحيائهم في الكوفة والبصرة . وأقل درس لهذا الشعر يقنعك ، وإن كنت من الذين يألفون البحث الحديث ، بأن هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي ، قيل وانتحل لهذه الأسباب التي أشرنا إليها ولأسباب أخرى فصلناها في القسم الثاني من هذا الكتاب . فهذا أحد القسمين . وأما القسم الثاني فشعر لا يتصل بهذا القصة ، وإنما يتناول فنوناً من القول مستقلة من الأهواء السياسية والحزبية . ولنا في هذا القسم رأي نسطره بعد حين .

وخلاصـة هذا البحث القصير أن شخصية امرئ القيس- إذا فكرت- أشبه شيء بشخصية الشاعر اليوناني هوميروس . لا يشك مؤرُّخو الآداب اليونانية الآن في أنها قد وجدت حقاً ، وأثرت في الشعر القصصي حقاً ، وكان تأثيرها قوياً باقياً ، ولكنهم لا يعرفون من أمرها شيئاً يمكن الإطمئنان إليه ، وإنما ينظرون إلى هذه الأحاديث التي تروى عنه كما ينظرون إلى القصص والأساطير لا أكثر ولا أقل . فأمرؤ القيس هو الملك الضِّلِّيل حقاً : نريد أنه الملك الذي لا يعرف عنه شيء يمكن الإطمئنان إليه . هو ضُلُّ بن قُل كما يقول أصحاب المعاجم اللغوية . ومن غريب الأمر أن طائفة من الشعر تنسب إلى امرئ القيس على أنه قالها حينما كان متنقلاً في القبائل العربية يمدح بها هذه ويهجو تلك ، وتتصل بهذه الأشعار طائفة من الأخبار تبين نزول امرئ القيس في هذه القبيلة ، وإلتجاءه إلى تلك القبيلة ، وجواره عند فلان ، وإستعانته بفلان ، وأن شيئاً مثل هذا يلاحظ في حياة هوميروس ؛ فهو - فيما يزعم رواة اليونان - قد تنتقل في المدن اليونانية فلقي من بعضها الكرامة والتجلة ، ومن بعضها الإعراض والإنصراف ومؤرّخو الآداب اليونانية يفسرون في هذه الأحاديث على أنها مظهر من مظاهر التنافس بين المدن اليونانية : كلها يزعم لنفسه أنه ضيّف هوميروس أو نشّأة أو أجاره أو عطف عليه .

ونحن نذهب هذا المذهب نفسه في تفسير هذه الأخبار والأشعار التي تمس تنقُّل امرئ القيس في قبائل العرب . فهي محدَثة انتحلت حين تنافست القبائل العربية في الإسلام وحين أرادت كل قبيلة وكل حي أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن . وقد أحس القدماء بعض هذا ؛ فصاحب الأغاني يحدّثنا أن القصيدة القافية التي تضاف إلى امرئ القيس على أنه قالها يمدح بها السموءل حين لجأ إليه منحولةُ نحلها دارم بن عقال ؛ لم ينحل القصيدة وحدها وإنما نحل القصة كلها وانتحل ما يتصل بها أيضاً : نحل قصة ابن المسوءل الذي قتل بمنظر من أبيه حين أبى تسليم أسلحة امرئ القيس ، نحل قصة الأعشى الذي استجار بشريح بن السموءل وقال فيه هذا الشعر المشهور :

شريحُ لا تتركنّي بعدما عَلِقتْ      حبالـك اليـــوم بعــــد القدّ أظفاري
قد جُلت ما بين بانقيـا إلى عَدَنٍ     وطال في العجم تَرْدادي وتَسْياري
فكان أكرمهــــــــم عهدا وأوثقهــم  مجدا أبوك بعـــــــرف غير إنكــار
كالغيث مـا استمطروه جاد وابلُه  وفي الشدائد كالمستأســــد الضاري
كن كالمسوءل إذ طاف الهُمام به   في جحفل كهزيــــع الليــــل جــرّار
إذا سامـــــــه خطَّتـَيّ فقــــــال له  قل ما تشــــــاء فإنــي سامــــع حار
فقال غدرُ وثُكــــــــل أنت بينهما       فاختر وما فيهمــا حـظ لمختــار
فشطّ غير طويــــــلِ ثم قال لـــه      أُقتل أسيرك إني مانـــــع جاري
أنا له خلـــف إن كنـــت قاتلَـــــه     وإن قتلــت كــــــريما غير غوّار
وسوف يُعقبنيه إن ظفــرتَ بـــه      ربٌّ كــــــريم وبِيضُ ذاتُ أطهار
لا سِرُّهـــن لدينـــــــا ذاب هــدرا وحافظات إذا أستودعن أســـراري
فأختارَ أدراعـه كي لا يسبّ بها      ولم يكــن وعـــــده فيهـــا بختــّار

ثم كانت هذه القصة المنتحلة سبباً في إنتحال قصة أخرى هي قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية وما يتصل بها من الأشعار . منتحلة هذه القصيدة الرائية الطوية التي مطلعها :

سما لك شوقُ بعد ما كان أقصرا    وحلّتْ سليمى بطن ظبْي فعَرْعرا

منتحل هذا الشعر الذي قاله امرؤ القيس حين دخل الحمام مع قيصر والذي ننزه هذا الكتّاب عن روايته . منتحل هذا الحب الذي يقال إن امرأ القيس أضمره لابنه قيصر . منتحلة هذه الأشعار التي تضاف إلى امرئ القيس حين أحس السم وهو قافل من بلاد الروم . كل هذا منتحل لأنه يفسر هذه الأحاديث التي شاعت ، لتلك الأسباب التي قدّمناها .

وإذا لم يكن بد من إلتماس الأدلة الفنية على إنتحال هذا الشعر ، فقد نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر حتى دخل معه الحمام وفتن ابنته ورأى مظاهر الحضارة اليونانية في قسطنطينية ولم يظهر لذلك أثر ما في شعره : لم يصف القصر ولم يذكره ، لم يصف كنيسة من كنائس قسطنطينية ، لم يصف هذه الفتاة الأمبراطورية التي فتنها ، لم يصف الروميات ، لم يصف شيئاً ما يمكن أن يكون رومياً حقاً . ثم يكفي أن تقرأ هذا الشعر لتحس فيه الضعف والإضطراب والجهل بالطريق إلى قسطنطينية .

ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصوّر أن شاعراً عربياً قديماً قال هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم وقفوله منها .

وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذي يتصل بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصّاص فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس وهو الذي لا يفسر سيرته ولا يتصل بها . ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان إثنتان :

الأولى : * فــقــا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *
والثانية : * ألا أنعم صباحاً أيـهـــا الطلل البالي *

فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بين والتكلف والإسفاف يكادان يلمسان باليد . وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم ، وهي أن امرأ القيس - إن صحت أحاديث الرواة - يمنيّ وشعره قرشي اللغة ، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام . ونحن نعلم ــ كما قدّمناه ــ أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغـة الحجاز ، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز ? بل في لغة قريش خاصة ? سيقولون : نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان وكان أبوه ملكاً على بني أسد وكانت أمه من بني تغلب وكان مهلهل خاله ، فليس غريباً أن يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن . ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس . ونحن بشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منتحل .

وإذاً فنحن ندور : نثبت لغة امرئ القيس التي نشك فيها بشعر امرئ القيس الذي نشك فيه . على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيداً . فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس? وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت وأنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدّمناه .

وإذاً فكيف نظم امرؤ القيس اليمني شعره في لغة القرآن مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس? وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمنيّ . فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستيطع أن نتصوّر أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محواً تاماً ولم يظهرها أثر ما في شعره? تظن أن أنصار القديم سيجدون كثيراً من المشقة والعناء ليحلّوا هذه المشكلة . ونظن أن إضافة هذا الشعر إلى امرئ القيس مستحيلة قبل أن تحل هذه المشكلة .

على أننا نحب أن نسأل عن شيء آخر ؛ فامرؤ القيس إبن أخت مهلهل وكليب إبني ربيعة - فيما يقولون - ، وأنت تعلم أن قصة طويلة عريضة قد نسجت حول مهلهل وكليب هذين ، هي قصة البسوس وهذه الحرب التي اتصلت أربعين سنة - فيما يقول القصاص - وأفسدت ما بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب . فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب ، ولا إلى بلاء خاله مهلهل ، ولا إلى هذه المحن التي أصابت أخواله من بني تغلب ، ولا هذه المآثر التي كانت لأخواله على بنى بكر .

وإذاً فأينما وجّهت فلن تجد إلا شكاً : شكا في القصة ، شكا في اللغة ، شكا في النسب ، شكا في الرحلة ، شكا في الشعر . وهم يريدون بعد هذا أن نؤمن ونطمئن إلى كل ما يتحدث به القدماء عن امرئ القيس ! نعم نستطيع أن نؤمن وأن نطمئن لو أن الله رزقنا هذا الكسل العقلي الذي يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنبا للبحث عن الجديد . ولكن الله لم يرزقنا هذا النوع من الكسل ، فنحن نؤثر عليه تعب الشك ومشقة البحث .

وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الذي يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء وإنما هو محمول عليه حملاً ومختلق عليه اختلاقاً ، حمل بعضه العرب أنفسهم ، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دوّنوا الشعر في القرن الثاني للهجرة .

6 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين ( 24)    كن أول من يقيّم


ولننظر في المعلَّقة نفسها ، فلسنا نعرف قصيدة يظهر فيها التكلف والتعامل أكثر مما يظهران في هذه القصيدة . ولا نحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر على الكعبة أو في الدفاتر . فما نظن أن انصار القديم يحفلون بهذه القصة التي نشأت في عصر متأخر جدّاً والتي لا يثبتها شيء في حياة العرب وعنايتهم بالآداب . ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون في بعض هذه القصيدة فهم يشكون في صحة هذين البيتين :

ترى بعر الآرام في عَرَصَاتها وقِيعــــانهــا كأنــــه حـــبُّ فُلفـــل
كأنى غداة البين يوم تحمــــلَّوا لدى سَمُرَات الحىّ ناقف حنظــــل

وهم يشكون في هذه الأبيات :

وقربة أقوام جعلتُ عِصامَهــا على كاهـــــل مني ذَلُول مرحــــّل
ووادٍ كجوف العَير قفرٍ قطعتُه به الذئبُ يعوي كالخليـــــع المعيّل
فقلت له لما عــوى إن شأننـا قليــــلُ إن كنـــت لمّــــــا تمــــــوّل
كلانا إذا ما نال شيئــــاً أفاتــه ومن يحترث حَرْثي وحرثك يهزل

وهم بعد هذا يختلفون إختلافاً كثيراً في رواية القصيدة : في ألفاظها وفي ترتيبها ، ويضعون لفظاً مكان لفظ وبيتاً مكان بيت . وليس هذا الاختلاف مقصوراً على هذه القصيدة ، وإنما يتناول الشعر الجاهليّ كله . وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر . وهو إختلاف قد أعطى للمستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي ، فخّيل إليهم أنه غير منّسق ولا مؤتلف ، وأن الوحدة لا وجود لها في القصيدة ، وأن الشخصية الشعرية لا وجود لها في القصيدة أيضاً ، وأنك تستطيع أن تقدّم وتؤخر وأن تضيف إلى الشاعر شعر غيره دون أن تجد في ذلك حرجاً أو جناحاً مادمت لم تخلّ بالوزن ولا بالقافية .

وقد يكون هذا صحيحاً في الشعر الجاهلي ، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة . فأما الشعر الإسلامي الذي صحّت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد أن يبعث به أقل عبث دون أن يفسده . وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بينة ، وأن شخصية الشاعر فيه ليست أقل ظهوراً منها في أي شعر أجنبي . وإنما جاء هذا الخطأ من إتخاذ هذا الشعر الجاهلي نموذجاً للشعر العربي ، مع أن هذ الشعر الجاهلي - كما قدّمناه - لا يمثل شيئاً ولايصلح إلا نموذجاً لعبث القصّاص وتكلف الرواة .

ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن هذين البيتين قلقان في القصيدة وهما :

وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمــــوم ليبتلي
فقلت له لمّـــــــا تمطَّى بُصلبـــه وأردف أعجازاً وناء بكَلْكَل

فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذي يليهما وهو :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمّس منهما بأي شيء آخر .

فإذا فرغنا من هذا الشعر الذي لا نكاد نختلف في أنه دخيل في القصيدة ، فقد نستطيع أن نرد القصيدة إلى أجزائها الأولى . وهذه الأجزاء هي : أولاً وقوف الشاعر على الدار وما يتصل بذلك من بكاء وإعوال ، ثم ذكره أيام لهوه مع العذارى ، ثم عتابه لصاحبته وما يتصل بذلك من وصف خليلته ، ثم ذكر الليل والإستطراد منه إلى الصيد وما يتوسّل به إلى الصيد من وصف الفرس ، ثم ذكر البرق وما يتبعه من السيل .

ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى وما فيه من فحش أشبهُ بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهلياً . فالرواة يحدّثوننا أن الفرزدق خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثاراً حتى انتهى إلى غدير وإذا فيه نساء يستحممن فقال : ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جُلْجُل ، وولى منصرفاً ؛ فصاح النساء به : يا صاحب البغلة ؛ فعاد إليهن فسألنه وعزمن عليه ليحدّثنهن بحديث دارة جلجل ؛ فقص عليهّن قصة امرئ القيس وأنشدهنّ قوله :

أَلاَ ربّ يوم لك منهنّ صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل

(الأبيات)

والذين يقرءون شعر الفرزدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد ليم على هذا الفحش وعلى هذه الغلظة لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه هذه الأبيات ، فهي بشعره أشبه . وكثيراً ما كان القدماء يتحدّثون بمثل هذه الأحاديث يضيفونها إلى القدماء وهم ينتحلونها من عند أنفسهم . ومهما يكن من شيء ، فلغة هذه الأبيات كلغة القصيدة كلها عدنانية قرشية يمكن أن تصدر عن شاعر إسلامي اتخذ لغة القرآن لغة أدبية .

أما وصف امرئ القيس لخليلته ، وزيارته إياها ، وتجشّمه ما تجشم للوصول إليها ، وتخوّفها الفضيحة حين رأته ، وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها ، وما كان بينهما من لهو ، فهو أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بأي شيء آخر . فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فنّ عمر بن أبي ربيعة قد أحتكره إحتكاراً ولم ينازعه فيه أحد . ولقد يكون غريباً حقاً أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفنّ ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو ، ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بأمرئ القيس مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف . فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشىء هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة والذي كوّن شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك ?

وأنت إذا قرأت قصيدة أو قصيدتين من شعر ابن أبي ربيعة لم تكد تشك في أن هذا الفن فنه أبتكره إبتكاراً وأستغله إستغلالاً قوياً ، وعرفت العرب له هذا . وقل مثل هذا في القصص الغرامي الذي تجده في قصيدة امرئ القيس الأخرى : "
ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي" . ففي هذا القصص الفاحش فنّ ابن أبي ربيعة وروح الفرزدق .
ونحن نرجح إذاً أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف إلى امرئ القيس ، وأضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين .

بقي الوصف ، ولاسيما وصف الفرس والصيد . ولكننا نقف فيه موقف الترذّد أيضاً . واللغة هي التي تضطرنا إلى هذا الموقف . فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ في وصف الخيل والصيد والسيل والمطر . والظاهر أنه قد استحدث في ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل . ولكن أقال هذه الأشياء في هذا الشعر الذي بين أيدينا أم قالها في شعر آخر ضاع وذهب به الزمان ولم يبق منه إلا الذكرى وإلا جملُ مقتضبه أخذها الرواة فنظموها في شعر محدّث نسّقوه ولفّقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم? هذا مذهبنا الذي نرجحه . فنحن نقبل أن امرأ القيس هو أول من قيّد الأوابد ، وشبه الخيل بالعصي والعقبان وما إلى ذلك ، ولكننا نشك أعظم الشك في أن يكون قد قال هذه الأبيات التي يرويها الرواة . وأكبر الظن أن هذا الوصف الذي نجده في المعلّقة وفي اللامية الأخرى فيه شيء من ريح امرئ القيس ، ولكن من ريحه ليس غير .

هناك قصيدة ثالثة نجزم نحن بأنها منتحلة إنتحالاً . وهي القصيدة البائية التي يقال إن امرأ القيس أنشأها يخاصم بها عَلْقمة بن عَبَدَة الفحل ، وأن أم جندب زوج امرئ القيس قد غلّبت علقمة على زوجها . وأنت تجد القصيدتين في ديوان امرئ القيس وديوان علقمة . فأما قصيدة امرئ القيس فمطلعها :

خليليّ مُرّا بي على أم جندب نقضِّ لُبانات الفؤاد المعذَّب

وأما قصيدة علقمة فمطلعها :

ذهبت من الهجران في كل مذهبِ ولم يك حقــاًّ هذا التجنُّـــب

ويكفى أن نقرأ هذين البيتين لتحس فيهما رقة إسلامية ظاهرة . على أن النظر في هاتين القصيدتين سيقفك على أن هذين الشاعرين قد تواردا على معان كثيرة بل على ألفاظ كثيرة بل على أبيات كثيرة تجدها بنصها في القصيدتين معاً ، وعلى أن البيت الذي يضاف إلى علقمة وبه ربح القضية يروى لأمرئ القيس ، وهو :

فأدركهن ثانياً من عنانه يمرّ كمرّ الرائح المتحلّب

والبيت الذي خسر به امرؤ القيس القضية يروى لعلقمة وهو :

فللسوطِ أُلهوبٌ وللساق درّة وللزجر منه وقعُ أهوجَ مِتـْعَبِ

وأنت تسطيع أن تقرأ القصيدتين دون أن تجد فيهما فرقاً بين شخصية الشاعرين ، بل أنت لا تجد فيها شخصية ما ، وإنما تحس أنك تقرأ كلاماً غريباً منظوماً في جمع ما يمكن جمعه ، من وصف الفرس جملة وتفصيلاً . وأكبر الظن أن علقمة لم يفاخر امرأ القيس ، وأن أم جندب لم تحكم بينهما ، وأن القصيدتين ليستا من الجاهلية في شيء ، وإنما هما صنع عالم من علماء اللغة لسبب من تلك الأسباب التي أشرنا في الكتاب الماضي إلى أنها كانت تحمل علماء اللغة على الانتحال . وكان أبو عبيدة والأصمعي يتنافسان في العلم بالخيل ووصف العرب إياها : أيهما أقدر عليه وأحذق به . وما نظن إلا أن هاتين القصيدتين وأمثالهما أثر من آثار هذا النحو من التنافس بين العلماء من أهل الأمصار الإسلامية المختلفة .

وهنا وقفة أخرى لابد منها . ذلك أن امرأ القيس لا يذكر وحده وإنما يذكر معه من الشعراء علقمة - كما رأيت - وعَبيد بن الأبرص . فأما علقمة فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئاً إلا مفاخرته لأمرئ القيس ومدحه ملكاً من ملوك غَسَّان ببائيته التي مطلعها :

طحا بِكَ قلبٌ للحسان طروبُ بعيْد الشباب عصر حان مشيبُ

وإلا أنه كان يتردّد
على قريش ويناشدها شره ، وإلا أنه مات بعد ظهور الإسلام أي في عصر متاخر جداً بالقياس إلى امرئ القيس الذي مهما يتأخر فقد مات قبل مولد النبي ، والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس وربما عاش قبل القرن الخامس أيضاً .

وأما عبيد فقد إلتمسنا في سيرته وما يضاف إليه من الشعر ما يعيننا على إثبات شخصية امرئ القيس وشعره فكانت النتيجة محزنة جداً . ذلك أنها انتهت بنا إلى أن نقف من عبيد وشعره نفس الموقف الذي وقفناه من امرئ القيس وشعره . وليس علينا في ذلك ذنب ؛ فالرواة لا يحدّثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق . إنما عبيد عند الرواة والقصَّاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات ، كان صديقاً للجنّ والسماء معاً ، عُمّر عمرا طويلاً يصلون به إلى ثلاثة قرون ومات مِيتة منكرة : قتله النعمان بن المنذر أو المنذر بن ماء السماء في يوم بؤســه . والرواة يعرفون شيطان عبيد . واسم هذا الشيطان هبيد ، وقد حاول بعضهم أن يرسل هذا المثل "لولا هبيد ما كان عبيد" . وقد رووا لهبيد هذا شعرا وزعموا أنه أراد أن يلهم الشعر ناساً غير عبيد فلم يوفق . ولعبيد مع الجنّ أحاديث لا تخلو من لذة وعجب . ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئاً ولا يبعث الإطمئنان إلا في أنفس العامة أو أشباه العامة .

فأما شعر عبيد فليس أشدّ من شخصيته وضوحاً . فالرواة يحدّثوننا بأنه مضطرب ضائع . وابن سلاّم يحدّثنا في موضع من كتابه "طبقات الشعراء" أنه لم يبق من شعر عبيد وطرفه إلا قصائد بقدر عشر ، ولكنه يحدّثنا في موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله :

أقفر من أهله ملحوبُ فالقُطَبِيات فالذّنـــوب

ثم يقول ابن سلاّم : ولا أدرى ما بعد ذلك . ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة ويروون له شعراً آخر في هجاء امرئ القيس ومعارضته ، وفي إستعطاف حُجْر على بني أسد . ويكفي أن نقرأ هذه القصيدة التي قدّمنا مطلعها لتجزم بأنها منتحلة لا أصل لها . وحسبك أنه يثبت فيها وحدانية الله وعلمه على نحو ما يثبتهما القرآن فيقول :

والله ليس له شريكُ عَلاَّمُ ما أخفت القلوبُ

فأما شعره الآخر الذي عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظَّ له من صحة فيما نعتقد . وذلك أن فيه إسفافاً وضعفاً وسهولة في اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تضاف إلى شاعر قديم . ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة التي أوّلها :

ياذا المخوّفنا بقتـــــ ـــل أبيــه إذلالا وحينا
أزعمت أنك قد قتلــ ــت سراتنا كذبا ومينا

لتعرف أنها من عمل القصّاص ، وأن الشّعر وأشباهه إنما هو من أثر التنافس بين العصبية اليمنية والمضرية .

ولولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشعر ووضعنا لك على مواضيع التوليد فيه ؛ ولكن الرجوع إلى هذا الشعر يسير والحكم عليه أيسر . وإذاً فكل شعر امرئ القيس الذي يتصل بشعر عبيد هذا منحول أيضاً كشعر عبيد .

وقد رأيت من هذه الإلمامة القصيرة بهؤلاء الشعراء الثلاثة :

(امرئ القيس وعبيد وعلقمة) أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يذكر وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة لا تثبت شيئاً ولا تنفي شيئاً بالقياس إلى العصر الجاهلي ؛ لا نستثنى من ذلك إلا قصيدتين إثنتين لعلقمة :

الأولى : * طحــا بك قلــــبُ للحسان طـــروبُ *
والثانية : * هل ما علمت وما أستودعت مكتوم *

فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة مع شيء من التحفظ في بعض أبيات القصيدة الثانية . ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي ؛ فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جداً ، وأنه مات بعد ظهور الإسلام ، ورأيت أيضاً أنه كان يأتي قريشا ويعرض عليها شعره . على أننا احتفظنا لأنفسنا بالشك في بعض أبيات القصيدة الثانية يظهر فيها التوليد ؛ وهي هذه الأبيات التي يذهب فيها الشاعر مذهب الحكمة وضرب المثل .

6 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (25)    كن أول من يقيّم

                             (2)
 
                   عمرو بن قميئة - مهلهل -جليلة

وشاعران آخران يتصل ذكرهما بذكر امرئ القيس . كان أحدهما فيما يقول الرواة - صديقاً له ، صحبه في رحلته في قسطنطينية ، ولم يعد من هذه الرحلة كما لم يعد امرؤ القيس ، وهو عمرو بن قميئة . وكان الآخر خال امرئ القيس - فيما يقول الرواة - وهو مهلهل بن ربيعة .

ولابد من وقفة قصيرة عند هذين الشاعرين فسترى بعد قليل من التفكير أن حياتهما ليست أوضح ولا أثبت من حياة امرئ القيس وعبيد ، وأن شعرهما ليس أصح ولا أصدق من شعر امرئ القيس وعبيد .

ولنلاحظ قبل كل شيء أن بين امرئ القيس وعمر بن قميئة شبهاً غريباً ؛ فقد كان امرؤ القيس يسمى الملك الضلِّيل . وفسرنا نحن هذا الاسم تفسيراً غير الذي اتفق عليه الرواة وأصحاب اللغة ، فقلنا إنه الملك المجهول الذي لا يعرف عنه شيء ، قلنا ضُلَُ بن قُلّ . وكانت العرب تسمي عمرو بن قميئة عمرا الضائع . فأما المتأخرون من الرواة بعد الإسلام فقد التمسوا لهذه التسمية تفسيراً فوجدوه في سهولة ويسر ، أليس قد رحل مع امرئ القيس في القسطنطينية ? أليس قد مات في هذه الرحلة ? فهو إذاً عمرو الضائع لأنه ضاع في غير قصد ولا توجه . أما نحن فنفسر هذا الاسم كما فسرناه اسم امرئ القيس ، ونرى أن عمرو بن قميئة ضاع كما ضاع امرؤ القيس من الذكرة ، ولم يعرف من أمره شيء إلا اسمه هذا كما لم يعرف من أمر امرئ القيس ولا من أمر عبيد إلا اسمهما ، ووضعت له قصة كما وضعت لكل من صاحبه قصة ، وحمل عليه شعر كما حمل على صاحبيه الشعر أيضاً .

قال الرواة : إن ابن قميئة عُمَّر طويلاً وعرف امرأ القيس وقد انتهت به السن إلى الهرم ، ولكن امرأ القيس أحبه واستصحبه في رحلته رغم سنه . قال ابن سلاّم : إن بني أقيِّش كانوا يدّعون بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة ، وليس هذا بشيء . وفي الحق أن هذا ليس بشيء ؛ فإن هذا الشعر لا يمكن أن يكون لعمرو بن قميئة كما لا يمكن أن يكون لامرئ القيس فهو شعر محدَث محمول .

وإذا كان عمرو بن قميئة لم يعرف امرأ القيس ، إلا بعد أن تقدّمت به السن وأدركه الهرم فيجب أن يكون قد قال الشعر قبل امرئ القيس الذي لم تتقدم به السن . والرواة يزعمون أن ابن قميئة قال الشعر في شبابه الأول . وإذاً فليس امرؤ القيس هو أول من فتح للناس باب الشعر . ولكن ما لنا نقف عند شيء كهذا والرواة يضطربون فيه اضطرابا شديداً ? فهم يزعمون أن أول من قصَّدَ القصائد مهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس . وكأن امرأ القيس إنما جاءه الشعر من قِبل أمه . ومعنى ذلك أن الشعر عدناني لا قحطاني . ومن هنا نشأت نظرية أخرى تزعم أن الشعر يماني كله ، ُبدئ بأمرئ القيس في الجاهلية وختم بأبي نُوّاس في الإسلام . فأنت ترى أنا حين نقف عند مسألة كهذه لا نتجاوز العصبية بين عدنان وقحطان . ولكن سترى أكثر من هذا بعد قليل .

قصة عمرو بن قيمئة التي يرويها الرواة ليست شيئاً قيماً ، وإنما هي حديث كغيره من الأحاديث ؛ فهم يزعمون أن أباه تُوفـّي عنه طفلاً فكفله عمه ؛ ونشأ عمرو جميلاً وضيء الطلعة فكلِفت به امرأة عمه وكتمت ذلك حتى إذا غاب زوجها لأمر من أموره أرسلت إلى الفتى ، فلما جاء دعته إلى نفسها ، فامتنع وفاءً لعمه وامتناعاً عن منكر الأمر ، وانصرف . ولكنها حنقت عليه وألقت على أثره جفنة ، حتى إذا عاد زوجها أظهرت الغضب والغيظ وقصّت على زوجها الأمر وكشفت عن الأثر ؛ فغضب الرجل على ابن أخيه . وهنا يختلف الرواة ، فمنهم من يزعم أنه همّ بقتله ، فهرب إلى الحيرة ، ومنهم من يزعم أنه أعرض عنه . ومهما يكن من شيء فقد اعتذر الشاب إلى عمه في شعر نروي لك منه طرفاً لتلمس بيدك ما فيه من سهولة ولين وتوليد :

 
خـلـيـلـى لاتستعجلا أن iiتزودا وأن  تـجـمعا شملى وتنتظرا iiغدا
فـمـا لـبـثـى يوما بسائق مغنم ولاسـرعـتى  يوما بسائقة iiالردى
وإن تـنـظرا فى اليوم أقض iiلبانه وتـسـتـوجـبا  منا على iiوتحمدا
لـعـمـرك  مـا نفس بجد رشيدة تـؤامـرنـى سوءا لأصرم iiمرثدا
وإن ظـهـرت منى قوارص iiجمة وأفـرغ مـن لؤمى مرارا وأصعدا
عـلـى  غير جرم أن أكون جنيته سـوى  قـول بـاغ كادنى iiفتجهدا
لـعـمـرى لنعم المرء تدعو iiبخلة إذا  الـمـنـادى فـى المقامة نددا
عـظـيـم رمـاد القدر لا iiمتعبس ولا  مـؤيـس مـنها إذا هو iiأوقدا
وإن  صـرحت كحل وهبت iiعرية من  الريح لم تترك من المال iiمرقدا
صبرت على وطء الموالى وخطبهم إذا ضـن ذو القربى عليهم iiوأخمدا
ولـم  يـحم حرم الحى إلا iiمحافظ كـريـم الـمحيا ماجد غير iiأجردا

6 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (26)    كن أول من يقيّم

ونظن أن النظر في هذه القصة وفي القصيدة يكفى ليقتنع القارئ بأننا أمام شيء منتحل متكلف لا حظ له من صدق . وليس خيراً من هذه القصيدة هذا الشعر الذي يقال إن عمرو بن قميئة أنشأه لمّا تقدّمت به السنّ يصف به هرمه وضعفه . ولعله قاله قبل أن يرتحل مع امرئ القيس إلى بلاد الروم . ويزعم الشعبي ، أو من روى عن الشعبي أن عبد الملك بن مروان تمثل به في علّته التي مات فيها .

وهو :
             
كـأنـى  وقد جاوزت تسعين iiحجة خـلـعـت بـها عنّي عنان iiلجامى
عـلـى الراحتين مرة وعلى iiالعصا أنـوء ثـلاثـا  بـعـدهـن iiقيامى
رمتنى بنات الدهر من حيث لا أرى فـمـا  بـالُ من يرمى وليس iiبرام
فـلـو  أن مـا أُرمَى بنبل iiرميتها ولـكـنـمـا أُرمـى بـغير iiسهام
إذا  مـا رآنـى الناس قالوا ألم أكن حـديـثـا جـديد البرى غير iiكهام
وأٌفـنـى ومـا أٌفنى من الدهر iiليلة ومـايـفـنى ما أفنيت سلك iiنظامى
وأهـلـكـنـى  تـأميل يوم iiوليلة وتـأمـيـل عـام بـعد ذاك iiوعام

نحن نستطيع بعد هـــذا أن نضيــف عمــرو بن قميئـــة إلى صاحبيــه الضائعيـن : (عبيد وامرئ القيس) ، وأن ننتقل إلى مهلهل ، لنرى ماذا يمكن أن يثبت لنا من أمره وشعره .
 
فأما أمره فنظن أنه يسير لا سبيل إلى الإختلاف فيه . فيجب أن نبلغ من السذاجة حظاً غير قليل لنسلم بما كان يتحدّث به الرواة من أمر هذه القصة الطويلة العريضة : قصة البسوس . ونظن أن الاتفاق يسير على أن هذه القصة قد طوّلت ونميت وعظم أمرها في الإسلام حين اشتدّ التنافس بين ربيعة ومضر من ناحية ، وبين بَكْر وتَغْلِب من ناحية أخرى . وليس مهلهل في حقيقة الأمر إلا بطل هذه القصة ؛ فقد عظم أمره وأرتفع شأنه بمقدار ما نميت هذه القصة وطُول فيها . ولسنا ننكر أن خصومة عنيفة كانت بين القبيلتين الشقيقتين بكر وتغلب في العصور الجاهلية القديمة ، وأن هذه الخصومة قد انتهت إلى حروب سفكت فيها الدماء وكثرت فيها القتلى ؛ ولكن أسباب هذه الخصومة ومظاهرها وأعراضها وآثارها الأدبية قد ذهبت كلها ولم يبق منها إلا ذكرى ضئيلة تناولها القصاص فأستغلّوها إستغلالاً قوياً ، ووجدت بكر وتغلب وربيعة كلها حاجتها في هذا الإستغلال . ولم لا ? ألم تكن النبوّة والخلافة ومظاهرها الشرف كلها لمضر في الإسلام ? وكيف يستطيع العرب من ربيعة أن يؤمنوا لمضر بهذه السيادة وهذا المجد دون أن يثبتوا لأنفسهم في قديم العهد على أقل تقدير مجداً وشرفاً وسيادة ? وقد فعلوا : فزعموا أنهم كانوا سادة العرب من عدنان في الجاهلية : كان منهم الملوك والسادة ، وكان منهم الذين قاوموا طغيان اللخميين في العراق والغَسّانيين في الشام ، وكان منهم الذين هزموا جيوش كسرى في يوم ذي قار . لمضر إذاً حديث العرب بعد الإسلام ، ولربيعة قديم العرب قبل الإسلام . فإذا لاحظت إلى هذا ما كان من الخصومة الفعلية بين ربيعة ومضر أيام بني أمية وما كان من الخصومة الأدبية بين جرير شاعر مضر الذي يقول :


إن  الـذى حرم المكارم iiتغلبا جـعـل  النبوة والخلافة iiفينا
هذا ابن عمى فى دمشق خليفة لـو  شـئت ساقكم إلى iiقطينا
 
وبين الأخطل الذي يقول :

أبنى  كليب إنَ عمى iiالذا قتلا الموك وفككا الأغلالا
 
نقول إذا لاحظت كل هذه الخصومات لم يصعب عليك أن تتصوّر كثرة الانتحال في القصص والشعر حول ربيعة عامّة وحول هاتين القبيلتين من ربيعة خاصة ، وهما بكر وتغلب . على أن بعض الرواة كانوا يظهرون كثيراً من الشك فيما كانت تتحدّث به بكر وتغلب من أمر هذه الحروب .

ومهما يكن من شيء فليست شخصية مهلهل بأوضح من شخصية امرئ القيس أو عبيد أو عمرو بن قميئة ؛ وإنما تركت لنا قصة البسوس منه صورة هي إلى الأساطير أقرب منها إلى أي شيء آخر . ومن هنا قال ابن سلاّم إن العرب كانت ترى أن مهلهلاً لم يتكثر ويدّعي في شعره أكثر مما يعمل . والحق أن مهلهلاً لم يتكثر ولم يدَّع شيئاً ، وإنما تكثرت تغلب في الإسلام ونحلته ما لم يقل . ولم تكتف بهذا الانتحال بل زعمت أنه أوّل من قصّد القصيد وأطال الشعر ، ثم أحسّت ما نحس الآن أو أحسه الرواة أنفسهم وهو أن في هذا الشعر اضطراباً وإختلاطاً ، فزعمت ، أو زعم الرواة ، أنه لهذه الإضطراب والإختلاط سمّي مهلهلاً ، لأنه هلهل الشعر . والهلهلة الإضطراب . ويستشهد ابن سلاّم على هذا بقول النابغة:
*أتاك بقول هَلْهَلِ النسجِ كاذبِ *
وليس من شك في أن شعر مهلهل مضطرب ، فيه هلهلة وإختلاط . ولكننا نستطيع أن نجد هذه الهلهلة نفسها في شعر امرئ القيس وعبيد وأبن قميئة وكثير غيرهم من شعراء العصر الجاهلي ؛ فقد كانوا جمعياً مهلهلا إذاً .

غير أننا لانستطيع أن نطمئن إلى أن يهلهل شعراء الجاهلية جميعاً الشعر بحيث يصبح لكل واحد منهم شخصيات شعرية مختلفة تتفاوت في القوّة والضعف وفي الشدّة واللين وفي الإغراب والسهولة . وإذاً فمن الذي هلهل الشعر ? هلهله الذين وضعوه من القصّاص والمنتحلين وأصحاب التنافس والخصومة بعد الإسلام .

ويحسن أن نظهرك على شيء من شعر مهلهل لترى كما نرى أنه لا يمكن أن يكون أقدم شعر قالته العرب :

ألـيـلـتنا بذى حُسُم iiأنيري إذا أنت إنقضيت فلا تحوري
فـإن يك بالذنائب طال iiليلي فـقد أبكى من الليل iiالقصير
فـلو نبش المقابرُ عن iiكُلَيْب لأُخـبـر  بالذنائب أيّ iiزير
ويـوم الـشعشمين لقرّ iiعيناً وكيف  لقاءُ مَنْ تحت iiالقبور
عـلى  أني تركت iiبواردات بُـجَـيْراً في دم مثل iiالعبير
هـتكت  به بيوت بنى iiعُبّاد وبعض الغشم أشفى iiللصدور
على أن ليس يوفى من كليب إذا بـرزت مـخبَّأة iiالخدور
وهّـمـام  بن مُرّةَ قد iiتركنا عـليه  القُشْعمان من النسور
يـنـوء بصدره والرمح iiفيه ويـخـلـجه  خِدبٌ iiكالبعير
فلولا  الريحُ أُسمِعُ منَ بِحُجْرٍ صليل  البيض تُقرع بالذكور
فـدى لبني شقيقة يوم iiجاءوا كأسد  الغاب لجّت في الزئير
كـأنّ  رمـاحهم أشطانُ بئر بـعـيـد بين جالَيْها iiجَرور
غـداة كـأنـنـا وبني iiأبينا بـجـنب عُنيزة رَحَيَا iiمُدير
تـظـلُّ الخيل عاكفةً iiعليهم كأنّ الخيل تُرْحض في iiغدير
    أليس يقع من نفسك موقع الدهش أن يستقيم وزن هذا الشعر وتطَّرد قافّيته وأن يلائم قواعد النحو وأساليب النظم لا يشذ في شيء ولا يظهر عليه شيء من أعراض القدم أو مما يدل على أن صاحبه هو أوّل من قصّد القصيد وطوّل الشعر ?

أليس يقع في نفسك هذا كله موقع الدهش حين تلاحظ معه سهولة اللفظ ولينة وإسفاف الشاعر فيه إلى حيث لا تشك أنه رجل من الذين لا يقدرون إلا على مبتذل اللفظ وسُوقّيه ?

ولكننا لا نريد أن نترك مهلهلاً هذا دون أن نضيف إليه امرأة أخيه جليلة التي رثت كليبا - فيما يقول الرواة - بشعر لا ندري أيستطيع شاعر أو شاعرة في هذا العصر الحديث أن يأتي بأشدّ منه سهولة ولينا وإبتذالاً ، مع أننا نقرأ للخنساء وليلى الأخيلية شعراً فيه من قوّة المتن الأََسْر ما يعطينا صورة صادقة للمرأة العربية البدوية .

قالت جليلة :

يـا إبـنة الأقوام إن شئت iiفلا تـعـجلي  باللوم حتى iiتسألي
فـإذا أنـت تـبـيـنت iiالذي يَـوجبُ  اللومَ فلومي iiوأعذُلي
إن تكن أخت امرئ ليمت على شَـفَـقٍ مـنـها عليه iiفأفعلي
جـلّ عـندي فعل جسّاسٍ iiفيا حسرتي  عما انجلى أو iiينجلي
فـعل  جسّاس على وجدي iiبه قـاصـم  ظهري ومُدْنٍ iiأجلي
يـا  قـتـيلا قوّض الدهر iiبه سـقـفَ  بيتيَّ جميعاٌ من iiعَلِ
هـدم  الـبيتَ الذي iiإستحدثته وانـثـنى في هدم بيتي الأوّل
ورمـانـي  قـتـله من iiكثبٍ رمـية المصمى به iiالمستأصَل
يـانـسـائي  دونكنّ اليوم iiقد خـصّني  الدهر برزء معضل
خـصّـنـي قتل كليب iiبلظى مـن ورائـي ولظى iiمستقبلي
لـيـس من يبكي ليوميه iiكمن إنـمـا  يـبـكي ليوم iiينجلي
 
وقد أعرضنا في كل هذه الأحاديث عن أسجاع ما نظن أن أحدا يرتاب في أنها مصنوعة متكلفة . ونعتقد أن قراءة هذا الشعر الذي رويناه تكفي لنضيف في غير مشقة مهلهلاً وامرأة أخيه إلى إبن أخته امرئ القيس .

وقد فرغنا من امرئ القيس ومن يتصل به من الشعراء ولكننا لم نفرغ من الشعراء أنفسهم فلا بدّ من وقفات أخرى قصيرة عند طائفة منهم . وستثبت لك هذه الوقفات أننا لسنا غلاة ولا مسرفين إن خشينا ألا يقتصر الشك على امرئ القيس وشعره .

7 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 000للدكتور /طه حسين (27)    كن أول من يقيّم

                                    (4)             
                         عمر بن كُلْثوم - الحارث بن حِلّزِة

ونحن حين ندع مهلهلاً وامرأة أخيه إلى هذين الشاعرين من أصحاب المعلقات لا نتجاوز ربيعة بل لا نتجاوز هذين الحيين من ربيعة وهما حيّا بكر وتغلب . فعمرو بن كلثوم تغلبي ، وهو في عرف الرواة لسان تغلب الناطق ، هو الذي سجل مفاخرها وأشاد بذكرها في شعره ، أو بعبارة أدق : في قصيدته التي تروى بين المعلقات . وقد كان - فيما يقول الرواة - بطلا من أبطال تغلب ورث القوّة والأيد وشدّة البأس وإباء الضيم عن جدّه مهلهل ؛ فقد كانت أمه ليلى بنت مهلهل .

وقد أحيط عمرو بن كلثوم في مولده ونشأته بل في مولد أمه بطائفة من أساطير لا يشك أشدّ الناس سذاجة في أنها لون من ألوان العبث والانتحال :

زعموا أن مهلهلا لما ولدت له ليلى أمر بوأدها فأخفتها أمها ، ثم نام فأتاه آت وتنبأ له بأن إبنته هذه ستلد إبناً يكون له شأن ، فلما أصبح سأل عن إبنته وُئدت فكذب وألح فأُظهرت له فأمر بإحسان غذائها . ثم تزوجت كلثوما فما زالت ترى فيما يرى النائم من يأتيها فيخبرها عن إبنها بالأعاجيب حتى ولدته ونشأته . قالوا وقد ساد عمرو بن كلثوم قومه ولما يتجاوز الخامسة عشرة .

فكل هذه الأحاديث التي تشير إليها إشارة ، تدل على أن عمرو بن كلثوم قد أحيط بطائفة من الأساطير جعلته إلى أبطال القصص أقرب منه إلى أشخاص التاريخ . ومع ذلك فقد يظهر أنه وجد حقاً ، وقد يظهر أنه على خلاف من قدّمنا ذكرهم من الشعراء . وقد أعقبَ ؛ فصاحب الأغاني يحدّثنا بأن له عقبا كان باقيا إلى أيامــه .

وسواء أكان عمرو بن كلثوم شخصاً من أشخاص التاريخ . أم بطلاً من أبطال القصص ، فإن القصيدة التي تنسب إليه لا يمكن أن تكون جاهلية أو لا يمكن أن تكون كثرتها جاهلية . وهل نستطيع قبل كل شيء أن نطمئن إلى ما يتحدّث به الرواة من أن عمرو بن كلثوم قتل ملكاً من ملوك الحيرة هو عمرو بن هند المشهور ، وذلك حين بغى عمرو بن هند هذا وانتهى به الطغيان إلى أن طمع في أن تستخدم أمه ليلى بنت مهلهل أن تناولها طبقاً ؛ فأجابتها ليلى : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها ؛ فألحت هند ؛ فصاحت ليلى : وَا ذُلاَّه يا لَتغلب ! وكان ابنها عمرو في قبة الملك فسمع دعاءها فوثب إلى سيف معلق فضرب به الملك ، ونهضت بنو تغلب فنهبوا قبة الملك وعادوا إلى باديتهم .

غير أن النص التاريخي الذي يثبت هذه القصة لم يصل إلينا بعد . وهل من المعقول أن يقتل ملك الحيرة هذه القتلة ويقف الأمـر عند هذا الحد بين آل المنذر وبني تغلب من ناحية وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية أخرى ? أليس هذا لوناً من الأحاديث التي كان يتحدّث بها القصاص يستمدّونها من حاجة العرب إلى المفاخرة والتنافس ? بلى ! وقصيدة عمرو بن كلثوم نفسها نوع من هذا الشعر الذي ينتحل مع هذه الأحاديث . وأنت إذا قرأت هذه القصيدة رأيت أن مهلهلاً لم يكن يتكثر وحده وإنما أورث التكثر والكذب سبطه عمرو بن كلثوم ؛ فلسنا نعرف كلمة تضاف إلى الجاهليين وفيها من الإسراف والغلوّ ما في كلمة عمرو بن كلثوم هذه . على أن رأى الرواة فيها يشبه رأيهم في معلقة امرئ القيس ؛ فهم يشكون في بعضها وهم يختلفون في الأبيات الأولى منها : أقالها عمرو بن كلثوم أم قالها عمرو بن عديّ أبن أخت جَذيمة الأبرش ? فأما الذين يضيفون هذه الأبيات لعمرو بن كلثوم فيرون أن مطلع القصيدة :

* ألا هُبّي بصحنك فأصبحينا *

وأما الآخرون فيرون أن مطلعها :

* قفي قبل التفرّق يا ظعينا *

وأولئك وهؤلاء لا يختلفون في إنطاق عمرو بن عديّ بالبيتين :

صددت الكأس عنا أمَّ عمرو وكان الكأس مجراها iiاليمينا
ومـا  شَرُّ الثلاثة أم iiعمرو بصاحبك  الذي لا iiتصبحينا
وأنت حين تمضي في القصيدة ترى فيها أبياتاً مكررة تقع وسط للقصيدة وفي آخرها . ولكن هذا النحو من الإضطراب مشترك في أكثر الشعر الجاهلي ، مصدره إختلاف الروايات . فإذا قرأت القصيدة نفسها فستجد فيها لفظاً سهلا لا يخلو من جزالة ، وستجد فيها معاني حسانا وفخر لا بأس به لولا أن الشاعر يسرف فيه من حين إلى حين إسرافاً ينتهي به إلى السخف كقوله :

إذا بلغ الرضيعُ لنا فطاماً تخِرُ  له الجبابر iiساجدينا

وستجد فيها أبياتاً تمثل إباء البدوي للضيم وإعتزازه بقوتـه وبأسـه كقــوله :

ألا  لا يـجهلَنْ أحدُ iiعلينا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
قلت إن هذا البيت يمثل إباء البدوي للضيم . ولكني أسرع فأقول إنه لا يمثل سلامـة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف إلى هذا الحدّ الممل :

ألا  لا يـجهلن أحد iiعلينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فقد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات وأشتدّ هذا الجهل حتى مُلَّ . وهم يحملون على الأعشى بيتاً فيه مثل هذا النوع من التعسف .

ولكنا نشك في صحة هذا البيت الذي يضاف إلى الأعشى .

7 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (28)    كن أول من يقيّم

ومهما يكن من شيء ، فإن في قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيراً على أقل الناس حظاً من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذي نحن فيه . وما هكذا كانت تتحدّث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن . وما هكذا كانت تتحدّث ربيعة خاصة في هذا العصر الذي لم تسد فيه لغة مضر ولم تصبح فيه لغة الشعر . بل ما هكذا كان يتحدّث الأخطل التغلبي الذي عاش في العصر الأموي أي بعد ابن كلثوم بنحو قرن . واقرأ هذه الأبيات وحدّثني أتطمئن إلى جاهليتها :

قـفـي قبل التفرّق يا iiظعينا نـخـبِّـرْكِ اليقين iiوتُخبرينا
قفي نسالْك هل أحدثت صَرْمَّا لَو  شْك البين أم خُنتِ iiالأمينا
بـيـوم كريهة ضرباً iiوطعناً أقـرّ بـه مـوالـيك iiالعيونا
وإن  غـدا وإن الـيوم رهن وبـعـد  غـد بما لا iiتعلمينا
تُـريك إذا دخلتَ على iiخَلاَءٍ وقـد  أمِنت عيونَ iiالكاشحينا
ذراعـيْ  ععَيْطل أدماء iiبكرٍ هـجـان اللون لم تقرأ جنينا
وثدياً  مثل حُقَّ العاج iiرَخْصاً حـصانا  من أكف iiاللامسينا
ومَـتْنيْ  لَدْنةٍ سَمَقت iiوطالت روادفـهـا  تـنوء بما iiولينا
ومـأكَمَة  يضيق الباب iiعنها وكـشحا  قد جُننت به iiجنونا
وسـاريـتـيْ بَلَنْطٍ أو iiرُخام يـرنّ خـشاش حليهما iiرنينا
وأقرأ هذه الأبيات أيضاً :

أَلاَ  لا يـعـلم الأقوام iiأماّ تـضعضعنا  وأنا قد ونينا
ألا  لا يـجهلنْ أحد iiعلينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بأي  مشيئة عمروّ بن iiهند نـكـون لَقْيلكم فيها iiقطينا
بأي  مشيئة عمرّو بن iiهند تُطيع  بنا الوشاةَ iiوتزدرينا
تَـهَـدَّدْنا  وأوعِدْنا iiرويداً مـتـى  كنا لأمك iiمقتويتا
فـإن قناتَنا ياعمرو iiأعيت على الأعِداء قبلك أن iiتلينا
وهذه الأبيات :

ونحن التاركون لما iiتخطِنا ونحن الآخذون لما رضينا
وكـنا  الأيمنينَ إذا iiإلتْقينا وكـان الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولةً فيمن iiيليهم وصُـلْنا صولة فيمن iiيلينا
فـآبَوْا  بالنهاب iiوبالسبايا وأُبـنـا بالملوك مُصَفَّدينا
إلـيـكم يا بني بكر iiإليكم ألَّـمـا  تعرفوا منا إليقينا

وهذه الأبيات وقارن بينهما وبين الأبيات الأخيرة :

وقـد عـلـم القبائل من iiمَعَدَّ إذا قُـبَـبٌ بـأبـطحها iiبُنِينا
بـأنـا الـمطعمون إذا iiقدَرنا وأنـاّ الـمـهلكون إذا iiابتُلينا
وأنـا  الـمـانعون لما iiأردنا وأنـا  الـنازلون بحيث iiشينا
وأنـا  الـتاركون إذا iiمَخِطنا وأنـا الآخـذون إذا رضـينا
وأنـا  الـعاصمون إذا iiأُطعنا وأنـا  الـعارمون إذا عُصِينا
ونشرب إن وردنا الماء صَفْواً ويـشرب  غيرنا كَدَراً iiوطينا
وهذه الأبيات:-


إذا الـمَلْكُ سام الناس iiخَسفاً أبـيـنـا نـقـرّ الذل فينا
لنا  الدنيا ومن أمسى iiعليها ونبطش حين نبطش قادرينا
مـلآنا البر حتى ضاق iiعنا ومـاءَ الـبحر نملؤه iiسفينا
إذا بـلغ الرضيع لنا iiفِطاماً تـخـرّله  الجبابر iiساجدينا

7 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (29)    كن أول من يقيّم

أمتن من هذه القصيدة وأرصن قصيدة الحارث بن حلّزة ، وكان لسان بكر ، يقول الرواة ، ومحاميها والذائد عنها بين يدي عمرو بن هند أيضاً . زعموا أن عمرو بن هند أصلح بين القبيلتين المختصمتين بكر وتغلب وإتخذ منهما رهائن ، فتعرّضت رهائن تغلب لبعض الشر وهلكت أو هلك أكثرها ، فتجنت تغلب على بكر وطالبت بدية الهلكى ، وأبن بكر ، وكادت تستأنف الحرب بينهما ، واجتمعت أشرافهما إلى عمرو بن هند ليحكم بينهم ، وأحس الحارث ميل الملك إلى تغلب فنهض فأعتمد على قوسه وأرتجل هذه القصيدة . قالوا وكان به وضح ، وكان الملك قد أمر أن يكون بينه وبينه ستار ، فلما أخذ ينشد قصيدته أخذ الملك يعجب به ويدنيه شيئاً فشيئاً حتى أجلسه إلى جانبه وقضى لبكر .

ويكفي أن تقرأ هذه القصيدة لترى أنها ليست مرتجلة إرتجالاً وإنما هي قصيدة نظمت وفكر فيها الشاعر تفكيراً طويلاً ورتب أجزائها ترتيباً دقيقاً . وليس فيها من مظاهر الارتجال إلا شيء واحد هو هذا الإقواء الذي تجده في قوله :

فـملكنا بذلك الناس iiحتى ملك المنذر بن ماء السماء
فالقافية كلها مرفوعة إلى هذا البيت . ولكن الإقواء كان شيئاً شائعاً حتى عند الشعراء الإسلاميين الذين لم يكونوا يرتجلون في كل وقت . تقول إن قصيدة الحارث أمتن وأرصن من قصيدة ابن كلثوم . وقد نظمتا في عصر واحد ، إن صح ما يقول الرواة ، فهما مسوقتان إلى عمرو بن هند . فاقرأ هذه الأبيات للحارث وقارن بينهما في اللفظ والمعنى وبين ما قدّمنا لك من شعر عمرو :

مـلـكُ أضرعَ البريّةَ لا iiيو جـد  فـيـها لما لديه iiكِفاءُ
ما  أصابوا من تغلبيَّ iiفمطلو ل  ، عليه إذا أصيب iiالعَفاء
كتكاليف  قومنا إذ غزا iiالمن ذر هل نحن لابن هند iiرِعاء
إذ أحـلّ الـعلياء قبة iiمَيْسُو ن  فـأدنى ديارها iiالعوصاء
فـتـأوّت لـه قَراَضِبةُ iiمن كـل  حـي كـأنـهم iiألقاء
فـهداهم بالأسودين وأمر iiال لـه بَـلْغ تشقى به iiالأشقياء
إذ  تـمنونهم غرورا iiفساقت هـم  إلـيـكم أمنية iiأَشْراء
لـم يـغرّوكُمُ غرورا iiولكن رفع الآلُ شخصَهم والضَّحاء


وأنظر إلى هذه الأبيات يعير فيها الشاعر تغلْب بإغارات كانت عليهم لم ينتصفوا لأنفسهم من أصحابها :

أعـلـينا جُناح كِنْدة أن iiيغ نـم  غـازيهمُ ومنّا iiالجزاء
ليس منا المضِّربون ولا iiقي س  ولا جـندل ولا iiالحذّاء
أم  جنايا بني عتيق فمن iiيغ در فـإنـا من حربهم iiبرآء
أم علينا جرّى العباد كما iiني ط  يـجوز المحمّل iiالأعباء
وثـمـانون من تميم بايدي  هم رماح صدورهن iiالقضاء
تـركـوهـم مُلَحَّبين iiوآبوا بـنـهاب يُصم منها iiالحداء
أم عـلينا جرّّى حنيفة أم iiما جـمعت من مُحارب iiغبراء
أم علينا جَرَّى قُضاعة أم لي س  عـلينا فيما جنوا iiأنداء
ثم جاءوا يسترجعون فلم iiتر جـع  لهم شامة ولا iiزهراء
فأنت ترى أن بين القصيدتين فرقا عظيماً في جودة اللفظ وقوّة المتن وشدّة الأسر . على أن هذا لا يغير رأينا في القصيدتين ، فنحن نرجح أنهما منتحلتان . وكل ما في الأمر أن الذين كانوا ينتحلون كانوا كالشعراء أنفسهم يختلفون قوّة وضعفا وشدّة ولينا . فالذي انتحل قصيدة الحارث بن حِلِّزة كان من هؤلاء الرواة الأقوياء الذين يحسنون تخير اللفظ وتنسيقه ونظم القصيد في متانه وأَيْد . ولسنا نتردّد في أن نعيد ما قلناه من أن هاتين القصيدتين وما يشبههما مما يتصل بالخصومة بين بكر وتغلب إنما هو من آثار التنافس بين القبيلتين في الإسلام لا في الجاهلية .

7 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 000للدكتور /طه حسين (30)    كن أول من يقيّم

                                           (5)
 
                             طَرَفة بن العبد - المُتَلَمِّس

وشاعران آخران من ربيعة نقف عندهما وقفة قصيرة هما طرفة ابن العبد والمتلمِّس . وإنما نجمعهما لأن القصص جمعهما من قبل .

فقد زعموا أن المتلمِّس كان خال طرفة . ولم يقف جمع القصص بينهما عند هذا الحدّ بل قد جمعهما في الشيء القليل الذي نعرفه عنهما ؛ ذلك أن لطرفة والمتلمِّس أسطورة لهج بها الناس منذ القرن الأوّل للهجرة . وهم يختلفون في روايتها إختلافاً كثيراً ولكنا نتخير من هذه الروايات أيسرها وأقربها إلى الإنسان :

زعموا أن هذين الشاعرين هجوا عمرو بن هند حتى أحنقاه عليهما ، ثم وفدوا عليه فتلقاهما لقاء حسنا وكتب لهما كتابين إلى عامله بالبحرين وأوهمهما أنه كتب لهما بالجوائز والصِّلات ؛ فخرجا يقصدان إلى هذا العامل . ولكن المتلمِّس شك في كتابه فأقرأه غلاما من أهل الحِيرة فإذا فيه أمر بقتل المتلمِّس ، فألقى كتابه في النهر ، وألحّ على طرفة في أن يفعل فعله فأبى ؛ وأفترق الشاعران : مضى أحدهما إلى الشام فنجا ، ومضى الآخر إلى البحرين فلقى الموت . وكان طرفة حديث السنّ لم يتجاوز العشرين في رأي بعض الرواة ولم يتجاوز السادسة والعشرين في رأي بعضهم الآخر . وقد كثرت الأحاديث حول هذه القصة وأضيفت إليها أشياء أعرضنا عن ذكرها لظهور انتحال فيها وغضب عمرو بن هند على المتلمِّس حين هرب إلى الشام وأفلت من الموت فأقسم لا يطعم حَبَّ العراق . واتصل هجاء المتلمِّس له .

والرواة المحققون يعدون هذين الشاعرين من المقلين . بل لم يرو ابن سلاّم للملتمس شيئاً ولم يسم له قصيدة . فأما طرفة فقد قال ابن سلاّم عنه في موضع إنه هو وعَبيد من أقدم الفحول ولم يبق لهما إلا قصائد بقدر عشر . وأستقلّ ابن سلاّم هذه القصائد على الشاعرين وقال إنه قد حمل عليهما حمل كثير . وقد رأيت أنه حين أراد أن يضع عبيدا في طبقته لم يعرف له إلا بيتا واحدا . فأما طرفة فقد عرف له المطولة وروى مطلعها هكذا :

لَـخـوْلـةَ أطلالُ ببرقة iiثهمِد وقفتُ بها أبكي وأبكي إلى الغدِ

وعرف له الرائية المشهورة :

* أصحوت اليوم أم شاقتك هر *

وعرف له قصائد لم يدل عليها . وقال إنه أشعر الناس بواحدة . يريد المعلقة . وبين يدينا ديوان لطرفة يشتمل هاتين القصيدتين وقصيدة أخرى مشهورة ، وهي :

سـائلوا عنا الذي iiيعرفنا بِخَزَازَى يوم تَحلاق اللمم
ثم مقطوعات أخرى ليست بذات غَناء . وأنت إذا قرأت شعر طرفة رأيت فيه ما ترى في أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ولا سيما المضربين منهم من متانة اللفظ وغرابته أحيانا ، حتى لتقرأ الأبيات المتصلة فلا تفهم منها شيئاً دون أن تستعين بالمعاجم . ولكنك مضطر إلى أن تلاحظ أن هذا الشعر أشبه بشعر المضريين منه بشعر الرّبعيين ؛ فنحن لم نجمع شعراء ربيعة عفوا ، وإنما جمعناهم فيما تحدّثنا به إليك في هذا الكتاب إلى الآن لأن بينهم شيئاً يتفقون فيه جميعاً ، هو هذه السهولة التي تبلغ الإسفاف أحياناً ؛ لا نستثني منهم في ذلك إلا قصيدة الحارث حلّزة . فكيف شذ طرفة عن شعراء ربيعة جميعاً فقوى متنه واشتدّ أسره وآثر من الإغراب ما لم يؤثر أصحابه ودنا شعره من شعر المضريين ?

وأنظر في هذه الأبيات التي يصف بها الناقة
:

وإنى لأُمضي الهمَّ عند إحتضاره بـعوجاء  مِرْقالٍ تروح iiوتغتدي
أمـونٍ كـألواح الأران iiنصْأتُها عـلـى لاحب كأنه ظهر iiبُرْجُد
جَـمَـالـيةٍ  وَجْناء ترِدي كأنها سَـفـنّـجةُ  تَبْرِي لأزعَر iiأربَد
تُـبـاري عِتاقاً ناجياتٍ iiوأتبعت وظـيـفاً وظيفا فوق مَوْرٍ iiمعبَّد
تربعت القُفَّين في الشّوْل iiترتعي حـدائـقَ  مَـوْليّ الأسِرة iiأغيد
تَرِيع  إلى صوت المُهيب iiوتتقي بذي  خُصَلٍ روعاتِ أكلفّ iiمُلْبِد
كـأنّ  جـناحَيّ مَضْرَحيّ iiتكنَّفا حـفافيه  شكّا في العسيب iiبِسْرَد

7 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 000للدكتور /طه حسين (31)    كن أول من يقيّم

وهو يمضي على هذا النحو في وصف ناقته فيضطرنا إلى أن نفكر فيما قلناه من أن أكثر هذه الأوصاف أقرب إلى أن يكون من صنعة العلماء باللغة منه إلى أي شيء آخر . ولكن دع وصفه للناقة واقـــرأ :


ولـسـت بـحـلاّل التَِلاع iiمخافةً ولـكـن مـتى يسترفِدِ القومُ iiأرفد
فـإن تـبـغـنـي في حَلْقة تلقني وإن  تلتمسني في الحوانيت iiتصطد
مـتـى  تأتني أصبحك كأساً iiرويّةً وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد
وإن  يـلـتقِ الحي الجميعُ iiتُلاقني إلـى ذروة البيت الشريف iiالمصمَّد
نـدامـاي  بـيضُ كالنجوم iiوقَينةُ تـروح إلـيـنـا بين بُرْدٍ ومجسَدِ
رحـيبُ  قِطابُ الجيب منها iiرفيقةُ بـجَـسّ  الـندامى بضّةُ iiالمتجرّد
إذا نـحـن قلنا أسمعينا أنبرت iiلنا عـلـى رِسْـلها مطروقة لم iiتشدّد
إذا رجّعتْ في صوتها خلتَ صوتها تـجـاوُبَ أظـآرَ على رُبَع iiرَدِي
فسترى في هذه الأبيات لينا ولكن في غير ضعف ، وشدّة ولكن في غير عنف . وسترى كلاماً لا هو بالغريب الذي لا يفهم ، ولا هو بالسُّوقي المبتذل ، ولا هو بالألفاظ قد رصفت رصفا دون أن تدل على شيء . وأمض في قراءة القصيدة قستظهر لك شخصية قوية ومذهب في الحياة واضح جلي : مذهب اللهو واللذة يعمِد إليهما من لا يؤمن بشيء بعد الموت ولا يطمع من الحياة إلا فيما تتيح له من نعيم بريء من الإثم والعار على ما كان يفهمها عليه هؤلاء الناس :

وما  زال تَشْرابي الخمورَ iiولذّتي وبـيعي وإنفاقي طريفي iiومُتْلَدِي
إلـى أن تـحامتني العشيرةُ iiكلها وأُفـردت إفـرادَ الـبعير iiالمعَّبد
رأيـت بـني غَبراءَ لايُنكرونني ولا  أهـلُ هذاك الطِّرافِ iiالممدّد
ألا أيهذا الزاجري أحضر iiالوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مُخلّدي
فـإن كنتَ لا تستطيع دفع iiمنيتي فـدعني  أبادرها بما ملكت iiيدي
ولولا  ثلاثٌ هن من عيشة iiالفتى وجـدّك  لم أحفِلْ متى قام عُوّدي
فـمـنهن سبقي العاذلاتِ iiبشربة كُـمَيْتٍ  متى ما تُعْلَ بالماء iiتزبد
وكَـرِّى إذا نادى المضافُ iiمحنَّبا كِـسـيِـد  الغضا نبّهته iiالمتورَّد
وتـقـصـير يوم الدَّجْن iiمعجِبُ بـبـهـكَنةٍ  تحت الخِباء iiالمعمَّد
في هذا الشعر شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم أنها متكلفة أو منتحلة أو مستعارة . وهذه الشخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد بنية الحزن واليأس والميل إلى الإباحة في قصد واعتدال . هذه الشخصية تمثل رجلاً فكر وألتمس الخير والهدى فلم يصل إلى شيء ، وهو صادق في يأسه ، صادق في حزنه ، صادق في ميله إلى هذه اللذات التي يؤثرها . ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر ? وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذ الشعر . بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر ؛ وإنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح لا تكلف فيه ولا إنتحال ، وأن هذا الشعر لا يشبه ما قدّمناه في وصف الناقة ولا يمكن أن يتصل به ، وأن هذا الشعر من الشعر النادر الذي نعثر به من حين إلى حين في تضاعيف هذا الكلام الكثير الذي يضاف إلى الجاهليين ، فنحس حين نقرؤه أنا نقرأ شعرا حقاً فيه قوة وحياة وروح .

وإذاً فأنا أرجح أن في هذه القصيدة شعراً صنعه علماء اللغة هو هذا الوصف الذي قدّمنا بعضه ، وشعرا صدر عن شاعر حقا هو هذه الأبيات وما يشبهها . ولسنا نأمن أن يكون في هذه الأبيات نفسها ما دُسّ على الشاعر دسا وأنتحل عليه إنتحالاً .

فأما صاحب القصيدة فيقول الرواة إنه طرفة . ولست أدري أهو طرفة أم غيره? بل لست أدري أجاهليّ هو أم إسلاميّ ? وكل ما أعرفه هو أنه شاعر بدوي ملحد شاكّ .

ولست أحب أن أقف عند القصيدتين الأُخريين ؛ فإن شخصية الشاعر تستخفي فيهما إستخفاء وتعود معهما إلى هذا الشعر الذي وقفت عنده غير مرة والذي يمثل مجد القبيلة وفخرها القديم . وأكبر الظن أن هاتين القصيدتين كقصيدة الحارث بن حِلِّزة وضعتا في الإسلام تخليداً لمآثر بكر بن وائل .

7 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
فى الشعر الجاهلى 00للدكتور /طه حسين (32)    كن أول من يقيّم

فلندع طرفة ولنصل إلى المتلمِّس . وأمر المتلمِّس أيسر من أمر طرفة . فشعره يعود بنا إلى شعر ربيعة الذي قدّمنا الإشارة إليه وإلى ما فيه من رقة وإسفاف وإبتذال . ومن غريب أمره أن التكلف فيه ظاهر ، ولاسيما في القافية ، فيكفى أن تقرأ سينيته التي أوّلها :

يـا آل بَكرٍ ألا لله أمّكُمُ iiطال الثَّواء وثوب العجزِ ملبوس .
لتحس تكلف القافية . على أن هذه القصيدة مضطربة الرواية فقد يوضع آخرها في أوّلها ، وقد يروى مطلعها :

كم دونَ مَيّةَ من مستعمَلٍ قَذّفٍ ومن  فلاة بها تستودع iiالعِيُسُ
وللمتلمِّس قصيدة أخرى ليست أجود ولا أمتن من هذه القصيدة ، ولعلها أدنى منها إلى الرداءة ، وهي التي مطلعها :


ألـم  تـر أن الـمـرء رهن iiمنية صريعٌ لعَافي الطيرِ أو سوف يُرْمَس
فـلا  تـقـبـلنْ ضمياً مخافةَ iiميتةٍ ومُـوتَـنْ  بـها حراٍّ وجلُدك iiأملس
ويقول فيها :

ومـا الـناس إلا ما رأوا iiوتحدّثو وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا
وربما كانت ميمية المتلمس أجود ما يضاف إليه من الشعر ، وهي التي أوّلها :

يعيِّرنى أمي رجال ولا أرى أخـا  كـرمٍ إلا بأن يتكّرما
وأكبر الظن أن كل ما يضاف إلى المتلمِّس من شعر - أو أكثره على أقل تقدير - مصنوع ، الغرض من صنعته تفسير طائفة من الأمثال وطائفة من الأخبار حفظت في نفوس الشعب عن ملوك الحيرة وسيرتهم : في هؤلاء الأخلاط من العرب وغير العرب الذين كانوا يسكنون السواد . ولا أستبعد أن يكون شخص المتلمِّس نفسه قد إخترع إختراعاً تفسيراً لهذا المثل الذي كان يضرب بصحيفة المتلمِّس والذي لم يكن الناس يعرفون من أمره شيئاً ، ففسره القصاص وأستمدوا تفسيره من هذه الأساطير الشعبية التي أشرنا إليها غير مرة .

وهناك شعراء آخرون من ربيعة كنا نستطيع أن نقف عندهم ونلم بشعرهم إلماماً وننتهي فيهم إلى مثل انتهينا إليه في أمر هؤلاء الشعراء الذين درسناهم في هذا البحث القصير . ولكنا نكتفي بما قدّمنا ؛ فقد ضربنا المثل . ويخيل إلينا أنا قد وضحنا وبينا وأزلنا الحجاب عن كل ما نريد أن نقوله في موقفنا بإزاء الشعر الجاهلي .

ونحن لم نقصد في هذا الكتاب إلى أن ندرس الشعراء ولا إلى أن نحلل شعرهم وإنما قصدنا إلى أن نبسط رأينا في طريقة درس هذا الشعر الجاهلي وهؤلاء الشعراء الجاهليين . وقد بلغنا من ذلك ما كنا نريد . فأما تتبع الشعراء شاعرا شاعرا ودرس شعرهم قصيدة قصيدة ومقطوعة مقطوعة فقد نفرغ لبعضه في غير هذا الكتاب . ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننهض به وحدنا في عام أو أعوام ، بل لابدّ من أن ينهض به معنا الذين يحبون الحق فيسعون إليه ويطلبونه .

على أنا نريد أن نختم هذا السفر بملاحظتين :

(الأولى) أن هذا الدرس الذي قدّمناه ينتهي بنا إلى نتيجة إلا تكن تاريخية صحيحة فهى فرض يحسن أن يقف عنده الباحثون ويجتهدوا في تحقيقة ، وهي أن أقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب وفيما كان يزعم الرواة إنما هو يمنيون أو ربعيون . وسواء أكانوا من أولئك أو من هؤلاء فما يروى من أخبارهم يدل على أن قبائلهم كانت تعيش في نجد والعراق والجزيرة أي في هذه البلاد التي تتصل بالفرس إتصالاً ظاهرا والتي كان يهاجر إليها العرب . من عدنان وقحطان على السواء .

إذاً فنحن نرجح أن هذه الحركات التي دفعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى إلى العراق والجزيرة ونجد ، في عصور مختلفة ولكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح ، قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية ، لما كان من اختلاط هذين الجنسين العربيين فيما بينهما ومن اتصالهم بالفرس .

ومن هذه النهضة نشأ الشعر أو قل إذا كنت تريد التحقيق ظهر الشعر وقوي وأصبح فناً أدبياً . وقد ذهب هذا الشعر ولم يبق لنا منه شيء إلا الذكرى ، ولكن لم يكد يأتي القرن السادس للمسيح حتى تجاوزت هذه النهضة أقطار العراق والجزيرة ونجد وتغلغلت في أعماق البلاد العربية نحو الحجاز فمست أهله . ومن هنا ظهر الشعر في مضر ومن إليهم من أهل البلاد العربية الشمالية . فالشعر كما ترى يمني قوي حين إتصلت القحطانية بربيعة. ولكنا لن نعرفه ولم نصل إليه إلا حين تغلغل في البلاد العربية وأخذته مضر عن ربيعة . ومن هنا نستطيع أن نقول إنا تعمدنا الوقوف ببحثنا عند هذا الحدّ الذي انتهينا إليه ؛ فلنا في شعر مضر رأى غير رأينا في شعر اليمن وربيعة ، لأننا نستطيع أن نؤرّخه ونحدّد أوليته تقريباً ، ولأننا نستطيع أن تقبل بعض قديمه دون أن تحول بيننا وبين ذلك عبقة لغوية عنيفة .

وإذاً فنحن نستطيع أن نستأنف هذا البحث في سفر آخر . وسترى أن الشعراء الجاهليين من مضر أدركوا الإسلام كلهم أو أكثرهم فليس غريباً أن يصح من شعرهم شيء كثير .

(الثانية) أن الذين يقرءون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفي نفوسهم شيء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبي الذي نردّده في كل مكان من الكتاب . وقد يشعرون ، مخطئين أو مصيبين ، بأننا نتعمد الهدم تعمدا ونقصد إليه في غير رفق ولا لين . وقد يتخوفون عواقب هذا الهدم على الأدب العربي عامة وعلى القرآن الذي يتصل به هذا الأدب خاصة .

فلهؤلاء نقول أن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس به ، لا لأن الشك مصدر اليقين ليس غير ، بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين . وخير للأدب العربي أن يزال منه في غير رفق ولا لين ما لا يستطيع الحياة ولا يصلح لها من أن يبقى مثقلا ًبهذه الأثقال التي تضر أكثرها مما تنفع ، وتعوق عن الحركة أكثر مما يمكن منها .

ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسا ؛ فنحن نخالف أشدّ الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه . نخالفهم في ذلك أشدّ الخلاف لأن أحدا لم ينكر عربية النبي فيما نعرف ، ولأن أحدا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته . وإذا لم ينكر أحد أن النبي عربىّ وإذا لم ينكر أحد أن العرب فهموا القرآن حين سمعوه ، فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الجاهلي أو هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين? وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشدّ الإحتياط في رواية القرآن وكتابته ودرسه وتفسيره حتى أصبح أصدق نص عربي قديم يمكن الإعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها . وهم لم يحفلوا برواية الشعر ولم يحتاطوا فيها ، بل انصرفوا عنها في بعض الأوقات طائعين أو كارهين ، ولم يراجعوها إلا بعد فترة من الدهر وبعد أن عبث النسيان والزمان بما كان قد حفظ من شعر العرب في غير كتابة ولا تدوين . فأيهما أشد إكبار للقرآن وإجلالاً له وتقديساً لنصوصه وإيماناً بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها ، أم ذلك الذي يستدل على عربية القرآن بشعر كان يرويه وينتحله في غير احتياط ولا تحفظ قوم منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث ?

أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئاً ولا تدل على شيء إلا ما قدّمنا من العبث والكذب والانتحال ، وأن الوجه - إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص - إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن .

18 مارس سنـــــة 1926
                                        انتهى الكتاب



7 - مايو - 2007
طه حسين 0 عميد الأدب العربى 0وكتابه (فى الشعر الجاهلى )0
 59  60  61  62  63