لزوم الجماعة كن أول من يقيّم
رأي الوراق :     
ابن تيمية رحمه الله ،الذي ذكره الأستاذ الدمنهوري، وغيره من علماء المسلمين، والذين أشاروا إلى ضرر الخروج على السلطان، وإن ضرر هذا الخروج أكبر من نفعه بكثير، كانوا يصفون أحوال العهود التي عاشوها، والتي لم تختلف كثيرا عن عهود من سبقهم من دول المسلمين، ولا من لحقهم منها من جهة أحوالها السياسية. فالحكم فيها للأقوى، ولذي العزوة والمنعة . فخروج الضعيف على القوي لانتزاع السلطان منه، أو محاولة تقويمه، عمل فيه من التهور ما فيه، وفيه من الخطأ في حسابات الربح والخسارة الشيء الكثير. وابن خلدون نفسه، وهو عالم في الاجتماع وممارس للسياسة خطير، أشار إلى أولئك المتدينين السذج، الذين كانوا يدعون إلى إحقاق الحق، وإرساء قواعد العدالة؛ مستندين في ذلك إلى تقوى وإيمان أتباعهم من عامة الناس، ثم لا يلبثون إلا قليلا حتى يتمكن السلطان من رقابهم . يقول ابن خلدون في مقدمته: " ...ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء فإن كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم* من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه..." . على أن تاريخنا حفل بذكر خليفة مسلم رفض الانصياع للأمويين مثلما الأمويون رفضوا الانصياع إلى خلافة علي بن أبي طالب(ر)، وهو عبد الله بن الزبير(ر)**، أول مولود في الإسلام، والذي لم يكن من عامة الناس ودهمائهم، فقد كان عينا من أعيانهم، وأبوه صحابي كبير ، وأمه ذات النطاقين صحابية كبيرة . دانت بلاد كثيرة لخلافة ابن الزبير منها خراسان والعراق ومصر وأجزاء من بلاد الشام معقل الأمويين مدة تسع سنين ونيف؛ ولكن عبد الملك بن مروان استطاع أن يقضي عليه ويتخلص منه عن طريق الحجاج، بعد أن قتل أخاه مصعبا، وهدم قصر الإمارة بالكوفة. عبد الله ابن الزبير إذن لم يكن مثل الذين ذكرهم ابن تيمية وابن خلدون، ولا يمكن أن يوصف بما وصفوا به. فهو لم يكن مغمورا لا حول له ولا قوة ولا عزوة مثلهم حتى يلام على ثورته على بني أمية، وليوصف بأنه لا دينا أظهر ولا دنيا أبقى . فما العمل إذن مع من هم مثل الأمويين ومثل ابن الزبير على مر التاريخ العربي الإسلامي؟ أليس الحل السليم المريح، والخالي من سفك الدماء وهضم الحقوق، هو أن تتاح للناس، عربا وغير عرب، مسلمين أو من أي دين آخر في كل زمان ومكان حرية الاختيار دون ضغط أو إكراه أو تزوير لنتائج الانتخابات؟! أما الجماعة التي يجب علينا لزومها فمن هي؟ هل هي الجماعة التي استولى زعماؤها على مقاليد الأمور بقوة السلاح، أو هي الجماعة التي تدعي حكم الناس بتفويض من الله تعالى، أو لقرابتها من النبي صلوات الله عليه، أم هي الجماعة التي ينتخبها عباد الله اتباعا للشورى التي أمر الله بها؟! وهل هي الجماعة التي زعماؤها من الأغنياء وذوي الجاه ، والفقراء ليس لهم عندها نصيب؟! أو هل هي الجماعة التي زعماؤها من ذوي اليسار والانتماء القبلي والعشائري،أو العرقي، وأن من ليست له قبيلة أو عشيرة تمنعه، فلا حظ له في إدارة أو حكم؟ لا شك في أن اتباع الشورى هو الأمثل، وهو الأولى والأفضل، بل هو الواجب المفروض. إن الجماعة التي يجب علينا لزومها هي جماعة المؤمنين الخيرين، أهل الفطر الصافية السليمة النقية، الذين لا يبطشون بصاحب رأي، ولا ينقمون على أحد شكوى أو نصح أو توجيه نقد جريء .. والذين حبهم للعدالة ولأوطانهم وشعوبهم يكاد يعدل حبهم اللهَ ورسوله. والذين يرون في حكمهم المسلمين وأصحاب الأعراق أو الديانات الأخرى من شعوبهم أمانة ثقيلة في أعناقهم ، ويخافون يوما تشرئب فيه الأعناق، وتتقلب فيه القلوب والأبصار. لقد ولي الخلافة كبار الصحابة أول الأمر، فما كان لأحد منهم مطمعا في جاه أو سلطان أو مال، وما كانوا ليرضوا أن يتولاها أحد من أبنائهم.. وما كانوا ليضيقوا بنقد ناقد، ولا بنصيحة ناصح. ولو كانت الشورى محل اهتمام المسلمين جميعهم في عهد ابن الزبير، وأن الخليفة هو المرشح الذي يحصل على أكبر تأييد من الناس، وأن على المرشحين الآخرين التزام النتائج الانتخابية، لما ضربت الكعبة المشرفة بالمنجنيق، ولما قتل من قتل من المسلمين، ولما قتل ابن الزبير وقطع رأسه** وصلب وسلخ جلده على بعض الروايات، ولمَا رجت السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق( رضي الله عنهما) الحجاج إنزال جثة ابنها من على خشبة الصلب قائلة والحزن والألم يعتصر قلبها: " أما آن لهذا الفارس أن يترجل!"، ولما اضطر عروة ابن الزبير أخو عبد الله أن يلجأ إلى قتلة أخيه يستعطفهم ليبقوا عليه حيا، ولما اضطر الكثيرون إلى النفاق للمنتصر ؛ رغبة في نوال، أو طمعا في رد تهمة. والنفاق، أعاذنا الله منه، داء شره مستطير، وضرره كبير وخطير. ويكفينا من أمر النفاق أن الله جل وعلا جعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار، هذا من جهة النفاق في العقيدة كما نفهم من علماء الدين، إلا أن النفاق في غير العقيدة أيضا رذيلة ما بعدها رذيلة. فالنفاق يمحو شخصية الإنسان السوية، ويستبدلها بشخصية ليس فيها من الإنسانية غير الشكل الظاهري، ويجعل كرامة الإنسان وشرفه في الحضيض.. يتبع.. |